ولاية

سافر المعتمد إلى شلب متمتعًا برضاء أبيه، وقلبه يكاد يسابق جواده، وشلب هذه مدينة إلى الجنوب من باجة ذات بسائط فسيحة ومروج خضر، وبها جبل منيف بديع المناظر، به كثير من المياه وأشجار التفاح العجيب.

وسكان المدينة عرب من اليمن، وهم مطبوعون على قول الشعر، حتى إن العامي منهم ليقول الشعر في كل ما يقترح عليه. نزل المعتمد بقصر الشراحيب، وأرسل إلى جواريه وخدامه وحاشيته بموافاته إليها، وأقبل عليه عظماء المدينة يتملقونه، وعلماؤها يصانعونه، وشعراؤها يستجدونه، ووفد عليه ابن عمار صديقه وشاعره ووزيره، الذي كان المعتمد لا يصبر على فراقه، فاتسقت الأمور للأمير، وقضى في هذه الولاية سنوات سعيدة.

وكان يقضي النهار في تصريف شئون الدولة، وإصدار الأوامر في حزم وسداد ورفق وتؤدة، ويقضي الليل في قرض الشعر، أو مجالسة الحسان، وفي ليلة وإلى جانبه ابن عمار وحوله جواريه، وبينهن «سحر» تغمز له بعين، و«وداد» تقدم له الكأس في دلال ورشاقة، والمغنية «فتنة» تغني من شعره قوله:

أشرب الكأس في وداد «ودادك»
وتأنس بذكرها في انفرادك
قمر غاب عن جفونك مرآ
ه وسكناه في سواد فؤادك

إذا سيف رئيس الخدم يدخل ويقول: إن أبا القاسم بن عمر الهوزني بالباب، فصاح المعتمد مستبشرًا: يدخل … إنه لصديق كريم رفيع الحسب.

دخل أبو القاسم فبادره المعتمد قائلًا: لِمَ أبطأت علينا وقد بعثت إليك برسولي إلى إشبيلية مرتين؟ فأجاب أبو القاسم إن الذي عاقني عن الإسراع إلى الحضرة قدوم أبي من المشرق منذ شهر، بعد أن طالت غيبته، فأحببت أن أكون بجانب الشيخ آنس به ويأنس بي، وأبل من نفسي شوقًا كان يتأجج لرؤيته. فقال المعتمد: لقد سمعت أنه كان شديد الخوف من بطش أبي به، وأنه لذلك اتخذ الذهاب إلى الحج ذريعة للابتعاد عنه، فأقام زمنًا طويلًا بمكة ومصر، والآن عاد إلى أشبيلية، فهل اطمأنت نفسه وذهبت مخاوفه؟؟ حرَق أبو القاسم أسنانه، وكتم غيظًا دفينًا في نفسه وقال: لا يا مولاي، هذه أكذوبة يذيعها أعداؤه … إن الخوف لم يكن مرَّة من شيم أبي، وقد اشتهر بأنه جريء في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم … إنه غاب تلك المدة الطويلة؛ لأنه كان يتلقى صحيح البخاري، ليصل روايته بسند رجاله حتى يأخذه عنه أهل الأندلس.

كان أبو القاسم هذا في نحو الثلاثين، قويَّ البنيان فارهًا، يدل ضيق عينيه على المكر والخديعة، وتدل رقة شفتيه على القسوة والصرامة، ويدل صيد في رأسه على اعتزاز بالنفس، وعلى عزيمة لا تترك ثأرًا ولا تصفح عن ذنب. قال المعتمد: وكيف تركت المعتضد؟؟

– في أوج عزه … فقد دان غرب الجزيرة كله، وأصبح له الملوك خولًا وأتباعًا، فملأ مديحه كل فم، وجوده كل كف.

فصاح المعتمد: غني يا فتنة بما قلته في أبي:

يا ملكًا قد أصبحت كفه
ساخرة بالعارض الهاطل
قد أفحمتني مِنّة مثلها
يضيق القول على القائل
وإن أكن قصرت في وصفها
فحسنها عن وصفها شاغلي

واستمر اللهو والضحك والمجون ساعات.

ثم التفت المعتمد وقال: أين ابن عمار؟ … يا سيف … اذهب فانظر في أي مكان من القصر هو. فذهب سيف وقال: بحثت في كل الحجرات يا مولاي فلم أجده، وسألت حراس الباب فقالوا: إنهم لم يشهدوه خارجًا. فبدا الاختبال على وجه المعتمد وكأنما فقد نفس الحياة، فقام وقال: هات شمعة يا سيف لأبحث عنه معك.

ثم سارا في أنحاء القصر، والمعتمد زائغ البصر ينظر في كل مكان، حتى إذا بلغا، بعد بحث طويل، أحد دهاليز القصر، رأى المعتمد حصيرًا مطويًّا فقال: ابسط يا سيف هذا الحصير. فقال سيف: أيظن الأمير أن مثل الوزير يلتف بحصير؟! فبسط المعتمد الحصير بنفسه، فإذا ابن عمار فيه وهو عريان وقد غلبه السكر وذهبت بلبه الخمر، فلما أحس البرد أفاق وقام وهو يستر نفسه بفضلة من الحصير، وقد أفحمه البكاء، ففاضت عينا المعتمد، وأمر طائفة من الخدم بحمله إلى سريره، ثم ذهب إليه بعد أن هدأت نفسه، وقال: ما هذا يا ابن عمار؟! وما هذه الفعلة؟! أأصابك جنون؟!

– هو جنون أو شبه جنون يا مولاي، إنني كلما أخذت مني الخمر في حضرتك، وأحسست بالنعيم يحيط بي، والنعم التي طوقتني بها، والمنزلة الرفيعة التي بلَّغتني إياها، والشغف بي الذي لا تستطيع كتمانه — أسمع هاتفًا في أذني يقول: يا ابن عمار لا تغتر، إنه سيقتلك ولو بعد حين. فأستعيذ من الشيطان، فيعيد الهاتف الكرّة ثانية وثالثة، وقد حصل ذلك يا مولاي في هذه الليلة، فدعاني السكر إلى التجرِّد من ثياب الإمارة، والنوم إلى الفجر، حتى إذا ظهر أول بصيص منه، ارتديت ما اعتدته من الثياب قبل الاتصال بك، وخرجت مستخفيًا حتى آتي البحر، فأركبه وأقصد برّ العدوة. فضحك المعتمد وقال: هذه آثار الخمر يا أبا بكر، وكيف أقتلك؟! أرأيت أحدًا يقتل نفسه؟! وهل أنت عندي إلا كنفسي؟؟

وفي الصباح، ورد صاعد خادم المعتضد ومعه أمران: الأول: أن ينفي ابن عمار إلى سرقسطة، والثاني: أن يعود المعتمد إلى إشبيلية.

حزن المعتمد أشد الحزن، وودع صاحبه وخليله ابن عمار، والبكاء يغلب عينيه، ثم أمر بالرحيل إلى إشبيلية.

وبعد أن اجتاز حدود المدينة وبعدت عنه مشاهدها، أخذ يقول:

ألا حيِّ أوطاني بشلبٍ أبا بكرٍ
وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري؟
وسلِّم على قصر الشراجيب عن فتى
له أبدًا شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد وبيض نواعم
فناهيك من غيل، وناهيك من خدر
فكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
نضت بردُها عن غصن بان منعَّم
نضير، كما انشق الكمام عن الزهر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤