الفصل المائة

صدق اللهجة

ثم وجهت خولة خطابها إلى عمرو قائلة «أرجو من الأمير أن يطلق للساني الحرية لأقول كل ما يجول في خاطري».

قال «قولي ما بدا لك».

قالت «أما سبب مخالفتي والدي في رأيه وتحزبي للإمام علي رحمه الله فهو لأني صادقة مخلصة في فكري وقولي وهو المنحرف المتقلب. وما كنت لأصف والدي بهذا العيب لو لم يضطرني إلى ذلك

قال عمرو «وما معنى هذا؟»

قالت «يعلم مولاي الأمير أن والدي ربي في نعم الإمام عليّ وأنا في حجره مع اعتقادنا أنه ابن عم الرسول () وأنه عل الحق في أعماله».

فأراد والدها أن يقطع حديثها فاعترضه عمرو وألزمه السكوت فقالت «فلما كانت واقعة صفين كان والدي في جملة من خالفه في أمر التحكيم من الخوارج. فهو الذي انحرف عنه. أما أنا فظللت على رأيي ولا أزال عليه إلى اليوم».

فقال عمرو وهو معجب بجسارتها «ولكن علياً شارك الجهال في قتل الخليفة عثمان فقتلوه ظلماً ونحن إنما قمنا نطالب بدمه».

قالت «أما مقتل الخليفة عثمان فأرجو من مولاي الأمير أن لا يلجئني إلى الخوض في شأنه لأني ربما اضطررت إلى ما أتجنب ذكره».

قال «وما الذي يخيفك بعد ما أبديته من الجرأة؟»

قالت «يخيفني غضب الأمير لأمر هو داخل فيه».

قال «قولي كل ما يبدو لك ولا تخافي».

قالت «أما مقتل الخليفة عثمان رحمه الله فلا أظن مولاي عمراً إلا من جملة الراضين به».

فبغت عمرو وقال «وكيف تقولين ذلك يا خولة».

قالت «ألم يكن مولاي في جملة المحاصرين لعثمان؟ ألم يقل له قد ركبت يا عثمان أموراً ركبناها معك تب يا عثمان وارجع إلى الله١ فأسمعك هو كلاماً جارحاً. ثم لما قال لك إني تائب قلت له رأيناك تتوب ثم تعود».

قال «وهل يؤخذ من ذلك أني كنت أريد قتله؟»

قالت «كلا ولكنه يدل على أنك كنت ناقماً عليه».

قال «إنما كنت ناقماً ليرجع عن أعماله ويبقى على خلافته».

قالت «لو كان هذا هو قصدك فقط لما فرحت بقتله؟»

فانذهل عمرو من سعة اطلاعها على خفايا الأمور ولكنه لم يستطع إلا استفهامها فقال «وكيف تقولين أني فرحت وما دليلك على ذلك؟»

قالت «دليلي قريب إذا أمنني الأمير قلته».

قال «قولي».

قال «ألم تكن في فلسطين يوم قتل عثمان؟ فكنت إذا لقيت الراعي حرضته على قتله؟ ألم تحرض علياً وطلحة والزبير عليه؟ فلما جاءك رجل أخبرك بمقتل عثمان ألم تقل أنا عبد الله إذا حككت قرحة تكأتها؟»٢ فلما سمع عمرو قولها استغرب جرأتها وغضب لتصريحها بأمور كان يود كتمانها ولكنه سبق فأمنها وكان داهية يحول معاني الكلام كيف شاء فقال لها «لقد أعجبني دفاعك يا خولة ولكننا لسنا في معرض الدفاع عن علي أو عثمان ولا يهمنا انحرافك أو انحراف والدك وإنما نحن في اطلاعك على خبر المؤامرة على قتلي ثم سكوتك إلى آخر ساعة ووالدك بين يدي كل يوم فكأنك اشتركت مع المؤامر» قال ذلك وهو يحسب نفسه قد غلبها وسد عليها أبواب الدفاع. وكان أشد الناس خوفاً عليها عبد الله وقد خيل له أنها لم تعد تستطيع دفاعاً بعد إقرارها السابق.

أما هي فهمت بالكلام فإذا قطام تقول «إني لأعجب من حلم الأمير وما الذي يرجوه من دفاعها عن ذنب اعترفت به صريحاً».

فلم تعبأ خولة بقول قطام ولكنها أجابت عمراً قائلة «إني لا أنكر عليك عظم هذا الذنب بالنظر إلى ما كنت ترجون من قيامي بأمر الخوارج وموافقة والدي على تأييد أمركم والتصديق على دعواكم ودعوى معاوية وإنكم على الحق. وقد قدمت لمولاي بأني فعلت ذلك وأنا على دعوة الإمام علي فذنبي من هذا القبيل لا يعد شيئاً بالنظر إلى ما تستوجبه هذه المرأة (وأشارت إلى قطام) التي إنما جاءت بهذه الوشاية غيرة عليك وضناً بحياتك فاتهمتني بالخيانة لأني على زعمها كنت عالمة بخبر المؤامرة ولم أخبرك بها فما الذي منعها هي عن إخبارك بذلك يوم أرسلت عبدها عبد السوء للوشاية بأصحاب عين شمس. فإذا كانت هذه المرأة صادقة في دعواها ألم تكن هي أولى مني بإطلاع الأمير على ذلك الأمر؟ اسألها وانتظر في جوابها».

١  ابن الاثير ج٣.
٢  ابن الاثير ج٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤