الفصل الثالث

غادة الكوفة

وكان في ضاحية الكوفة على شاطئ البحيرة حديقة من نخيل حولها سور من جذوع النخل يحيط بالحديقة إلا من جهة البحيرة. وفي وسط الحديقة بيتٌ مبني من اللبن يدلُّ شكلهُ على أن سكانهُ من أهل اليسار وقد يخيل لك إذا دخلت الحديقة أنهُ مسكن بعض الأمراء ذوي الخدم والحشم لما ترى بين نخيله من آثار المعالف والأوتاد والسلاسل والقيود. وترى جذوع بعض النخيل قد تأكَّلت من شد الأفراس إليها على توالي الأيام أو من تعهد الأفراس تقشيرها بأسنانها وهي مشدودة إليها.

وكان الوقت ليلاً في أوائل السنة الأربعين للهجرة في زمن الخريف١ وقد نضج الثمر على نخلهِ وليس من يقطفهُ فتساقط بعضهُ على الأرض وليس من يلتقطهُ. وكان القمر بدراً وقد أطلَّ من وراء الآكام فأرسل أظلال النخيل مستطيلة متقاطعة. والجو هادئ والسكوت سائدٌ لبعد المكان عن المدينة وضوضائها فلا تسمع غير نقيق الضفادع على شاطئ تلك البحيرة يتخللهُ صرير الصراصير وقرقرة القر. وربما هبَّ النسيم فأسمعك حفيف سعف النخل هنيهة ثم انقطع. ولقد تعجب لوحشة ذلك المكان مع ماتراهُ فيهِ من آثار الأنس ودلائل الأبهة.

ولو دخلت المنزل لرأيتهُ عبارة عن دار وثلاث غرف مستطرقة بعضها إلى بعض مفروشة أرضها بحصر من سعف النخل فوقها جلود الماعز إلاَّ غرفة في أرضها طنقسة جميلة عليها وسائد من الخز. وفي بعض جوانب الغرفة مصباح ضعيف النور. وعلى إحدى تلك الوسائد فتاة في مقتبل العمر أشرق وجهها بماءِ الشباب. وقد حلت شعرها الأسود فأرسلتهُ على كتفيها فحجب بعض جبينها وغطى عذاريها فحجب قرطيها وسالفيها ولكنهُ زاد عينيها كحلاً وإشراقاً. ترى تلك العينين الدعجاوين البراقتين قد غشيهما الدمع وأخذ ينحدر على وجنتين محمرتين بينهما أنف دقيق مستقيم تحتهُ فم صغير. فإذا زاد انسكاب الدمع استلقتهُ بأطراف جدائلها أو بأحد كميها. وكانت لابسة جلباباً أسود حداداً على فقيديها. ولم يزدها ذلك الحداد إلاّ جمالاً وفتنة. وكأَن تلك الغادة استأْنست بوحدتها فأطلقت لنفسها عنان البكاءِ حيث لا رقيب ولا عدو فأخذت تلطم خديها وتندب فقيدين عزيزين قتلا في يوم واحد.

تلك هي قطام بنت شحنة بن عدي٢ من قبيلة تيم الرقاب. تلك هي فتاة الكوفة الفتانة التي ذاع صيتها في الآفاق وسمع بجمالها القاصي والداني حتى أصبحت فتنة الكوفيين ومضرب أمثالهم. وقد شخصت إليها الأبصار وحامت حولها القلوب فباتت معجبة بجمالها لا تعرف هماً ولم تذق غماً حتى بليت بقتل والدها وأخيها معاً.
قتل والدها وأخوها في واقعة النهروان٣ وكانا من جملة الخوارج الذين نقموا على علي لقبولهِ بالتحكيم فانضموا إلى من نقض بيعتهُ وحاربوا في جملة من حاربهُ.

وكانت قطام ثابتة الجأش شديدة الانتقام ذات حيلة ودهاء ما انفكت منذ قتل والدها وأخوها وهي تندبهما وتلتمس الانتقام لهما ولكنها لم تكن تستطيع المجاهرة بذلك والكوفة مقرُّ الإمام علي ومجتمع أنصارهِ وشيعتهِ. فأقامت في منزلها في ضاحية الكُوفة وحيدة ليس معها سوى عبد كهل ربي في أهلها منذ صباه. فلما بليت بمصيبتها هجرها سائر الخدم والأعوان إلاَّ هذا. وكانت ترتاح إلى بث شكواها لهُ وهو يخفف عنها ويعدها بنيل المرام.

وكانت قد انفذتهُ في أصيل ذلك اليوم يستقدم لها عجوزاً من مولّدات الكوفة كانت قد ربيت بين ذراعيها منذ نعومة أظفارها وهي تحنُّ إليها حنين الوالدة. فطال غيابهُ وسدل الليل بقائهُ ولم يعد. فانشغل خاطرها وشغلت عن أحزانها بالهواجس لانفرادها في ذلك المكان. ولكنها كانت إذا سكتت هنيهة تذكرت والدها وأخاها ومن كان يقيم في تلك الدار من الخدم والعبيد فتعود إلى البكاء والنحيب.

١  التقويم العام.
٢  الخميس ج٣.
٣  ابن الاثير ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤