الفصل الحادي والثلاثون

الفسطاط

هي مدينة عمرو بن العاص بناها سنة ٣ للهجرة بعد فتحه الإسكندرية. وسبب تسميتها الفسطاط (الخيمة) أن عمراً لما فتح حصن بابل حيث هو دير مارجرجس الآن أو دير النصارى بقرب مصر القديمة واستقر الصلح بينه وبين المقوقس نهض لفتح الإسكندرية وكانت خيامه منصوبة خارج ذلك الدير بين النيل وجبل المقطم فأمر بتفويضها والرحيل فجاءه منبئ أن في فساط الأمير يماماً معششاً تحته صغاره لا تستطيع الطيران فقال عمرو: «لقد تحرمت بجوارنا أقروا الفسطاط حتى يطير فراخها»١ فتركوا الفسطاط منصوباً حتى عادوا بعد فتح الإسكندرية فأتموا الدور حوله. ولما تمت المدينة أطلق عليها اسم الفسطاط وهي أول مدينة بناها المسلمون في القطر المصري واتخذوها عاصمة ملكهم حتى بنيت القاهرة في القرن الرابع للهجرة فنقلت الحكومة إليها (راجع كتابنا تاريخ مصر الحديث).

وكانت الفسطاط في العام الأربعين للهجرة وهو العام الذي جاءها فيه سعيد ورفيقه عبد الله قد عمرت وأقامت بها القبائل والأفخاذ في خطط وحارات بنيت لهم. وكانت الفسطاط مستطيلة الشكل على ضفة النيل الشرقية طولها ميلان في ما يقرب من مصر العتيقة الآن. وأما مكان مصر العتيقة فقد كان يومئذ مجرى النيل المبارك. وكان إذا جرى رست سفنه بباب دير النصارى حيث كنيسة المعلقة اليوم فكل ما بين الدير والنيل من اليابس وما أقيم عليه من البناء إنما حدث بعد الإسلام.

وكان جامع عمرو الباقية آثاره هناك إلى هذا اليوم مركز تلك المدينة وحوله أنشئت الخطط والأزقة والحارات. وكان أقربها إلى الجامع المذكور دار عمرو أو هما داران الدار الكبرى والدار الصغرى. وكان المسلمون أولاً ينزلون في الخيام فلما بنى عمرو دار به اهتم الناس بناء المنازل. ولم يكن قبل الفسطاط هناك إلا بعض الديور للقبط متفرقة بين النيل والمقطم. وبنوا الخطط أو الشوارع على أسماء القبائل التي تألفت منها حملة ابن العاص في ذلك الحين ومن نزح بعدهم وواجههن جميعاً أهل الراية من قريش والأنصار وخزيمة وغيرهم فبنوا لهم خطة سموها خطة أهل الراية ثم خطة مهرة وخطط لخم واللفيف والصدف من كندة وخولان فضلاً عن خطط غير العرب مثل خطة الفارسيين وهم من حضر الفتح من أهل فارس وأصلهم من بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام أسلموا في الشام٢ ناهيك عن خطط أخرى لا تحصى فضلاً عن الشوارع والأزقة والحارات.

فترى مما تقدم أن الفسطاط لم يكن يقيم فيها في أول أمرها غير المسلمين وأما المسيحيون واليهود ممن كانوا قبل الفتح فمن آثر البقاء تحت رعاية المسلمين أقام في الأديرة خارج الفسطاط وأكبرها دير النصارى (أو دير مارجرجس) وهو الحصن الذي حاصر فيه المقوقس ورجاله لما جاءهم المسلمون وكان يسمى حصن بابل أو قصر الشمع وربما أقام بعض القبط أو اليهود في الفسطاط لتجارة أو صناعة أو كتابة لأن عمراً عهد إلى القبط في بادئ الرأي كثيراً من أعمال حكومته وأبقى الدواوين تكتب بالقبطية وما زالت كذلك إلى إمارة عبد الله بن عبد الملك بن مروان فأبدلت بالعربية.

وكانت مدينة عين شمس (المطرية) شمالي الفسطاط خربة لم يبق من أبنيتها الشامخة ومعالمها الرفيعة إلا بعض الجدران الغليظة أو الأعمدة الضخمة والمسلات من بقايا الهياكل الفرعونية وهي مهجورة لا يقيم فيها أحد فإذا احتاج الناس إلى حجارة أو أعمدة يبنون بها داراً كبيرة أو جامعاً حملوها من أنقاضها.

١  ابن دقماق ج٤.
٢  ابن دقماق ج٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤