استفتاح

أمريكا هي أعظم وأضخم وأرخم إمبراطورية ظهرت في التاريخ … أما كونُها أعظم فهي اختصرت من ميزانِيَّتها بعد التَّفاهُم مع الاتحاد السوفيتي ١٦٠ مليار دولار من ميزانية الدفاع ذلك العام … أما كونُها أضخم؛ فهي بلاد بلا حدود، وهي في حجم ٥٠ دولة، وشعبها خليط من كل شعوب الأرض. أما كَونُها أرخم إمبراطورية؛ فهي بالرغم من عَظمتها وضخامتها تَدَّعي أن اللُّوبي الإسرائيلي يتحكَّم في مُقدَّراتها وفي قراراتها. وهي تغضب جدًّا إذا اشترت إمارة عَجْمان، مثلًا، صفقة سكاكين من الصين، ولكنها تُهنِّئ إسرائيل إذا أطلقَت صاروخها إلى الفضاء الخارجي. والدليل على رَخامتها — أيضًا — أن كل رؤسائها مع اليهود وهُم في السُّلطة، ومع العرب عندما يُصبِحون على المَعاش. وهي تجتاح دولة في حجم حي من أحياء نيويورك؛ مثل بَنَما بحجة أن رئيسها نورييجا يُتاجِر في المُخدِّرات، مع أن السبب الحقيقي في اجتياح بَنما هو السيطرة على قناة بَنما واحتلالها إلى الأبد. وهي هاجمَت كُوبَا ذات يوم بحجة أن كاسترو دكتاتور، ولكنها تَتعامل مع دكتاتور السَّلفادور، وتتعاطف مع دكتاتور زائير. وهي ظلَّتْ زمنًا طويلًا تذرف الدَّمع على حقوق الإنسان الضائعة في رومانيا، وفي بولندا، ولكن قَلْبها لم يخفق مَرَّة واحدة لحقوق الإنسان الضائعة في دولة إسرائيل! وهي زعيمة العالَم الديمقراطي، ولكنها انتفَضتْ غاضبة عندما سادت الديمقراطية في شيلي، وتآمَرتْ عليها وأسقَطَت الرئيس المنتخَب الليندي، وقصفَت قَصْره بالقنابل وقَتلَتْه تحت الأنقاض! وهي قائدة العالَم الحر، ولكن كل عملائها في بعض أجزاء العالَم يحكمون بالحديد والنار. وهي تتصدَّر الحملة ضد المُخدِّرات في العالَم، ومع ذلك تَبيع الصنف الممتاز في أسواق العالَم لتشتري أسلحة لجيش الكونترا الذي كان يُقاتِل الثورة في نيكاراجوا.

إن أمريكا باختصار هي أرخم إمبراطورية عرَفها تاريخ البشر، ومع ذلك فالسوق الأمريكية هي أكبر سوق تجارية في العالَم، والديمقراطية في داخلها هي أوسع ديمقراطية عرفَها أي شعب من شعوب الأرض.

وباستطاعة أي مُواطن أمريكي أو مقيم على أرض أمريكا أن يُصدِر صحيفة، أو يُؤلِّف حزبًا، أو يخترع دِينًا جديدًا أو يدير محطة إذاعة، أو يمتلك قناة تذيع ما يشاء من برامج التليفزيون. وفي أمريكا صحافة تستطيع أن تُسقِط رئيس الولايات المُتَّحِدة، وفيها أعظم أبطال الرياضة، وأغنى أغنياء العالَم، وأعظم فن سينمائي يمكن إنتاجه، وفيها فن مسرحي ليس له مثيل في أركان المَعمورة، وفيها فُرص لأي صاحب فِكر أو صاحب عِلم، وهي رائدة في مجال الفَنْدقة، وفي مجال الأطعمة المحفوظة، وهي أكثر دولة في العالَم استخدامًا للطيران الداخلي، وأغنى وأقوى شركات الطيران بها هي التي تعمل طائراتها على الخطوط الداخلية، وأَهْيَف شركاتها هي التي تعمل فيما وراء البحار. وفي أمريكا عِصابات تسرق الكُحْل من العين، وفيها مافيا تُدير المعارك الانتخابية، وتُقاوِل حضرتك لتوصيلك إلى الكونجرس أو إلى الوزارة. وفي أمريكا فَساد لم يسبق له نظير من قبل، ولن يكون له نظير في المستقبَل. وفي مَقدورك أن تَشتري عضو الكونجرس، وعُضو مجلس الإدارة، ومُحافِظ الولاية، ومدير البوليس في المدينة، وصاحِب القلم وحامِل المُسَدَّس، ولكن نهار أبوه أزرق مَن يُضْبَط في حالة رشوة، ونهار جده أسود مَن تَسوقه الصُّدَف السيئة إلى دخول السجن الأمريكي.

أمريكا باختصار ليست دولة ولكنها قارَّة، وهي ليست جزءًا من البَشَرِية، ولكنها البَشَرِية نفسها في سِحرها وفي انحطاطها، في ظُلمها وفي عدلها، في طموحها وفي اعتدالها، وفي غِناها وفي فَقْرها، في زهدها وفي طمعها. وهي على عكس الإمبراطوريات السابقة إذا سقطَت ستجد العالَم كله معها؛ لأن اقتصادها يُؤثِّر في العالَم كله. ودولارها هو العُملة الرسمية الآن للكرة الأرضية. وأي دولار نَضعه في أي بنك في العالَم تجده مُدرَجًا في كشف بالبنك المركزي الأمريكي.

إنها فتوَّة العالَم الجديد والوحيد أيضًا. وهي مثل المرحوم إبراهيم كروم فتوة مصر، استطاعت أن تُحطِّم كل الفتوات الآخرين، وأن تُزيحهم من طريقها، وأن تدوس عليهم بالأقدام. ونهار أُمه أزرق أي زعيم يقف في وجه أطماعها، أو يتحدَّى إرادتها، أو يخرج عن خَطها، وهي أحيانًا تَتدخَّل بنفسها وأحيانًا تستخدم صِبيَانها، استخدمَت إسرائيل ضد العرب، وحكومة بريتوريا ضد أفريقيا، وباكستان ضد أفغانستان. والسان سلفادور ضد نيكاراجوا، وجواتيمالا ضد كُوبَا، وتايوان ضد الصين، وكوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية!

وهي البلد الوحيدة التي تُطلِق على حكومتها اسم إدارة؛ لأنها ليست دولة ولكنها شركة، ومواطنوها ليسوا شعبًا ولكنهم مُساهمون في الشركة، وكل مُساهِم يستطيع أن يضاعف حِصَّته بشراء أسهم أكثر، ويخون الحظ بعض المُساهِمين فيفقدون الاسم تبعهم، ويتحولون إلى صُيَّاع ومتسوِّلِين. ونهار أمه أزرق مَن يقع منهم من قعر القفة؛ لأن الشركات لا قلب لها، إن المَصلحة هي سيدة الموقف، وعليك أن تُدافع عن مَصلحتك بقبضة اليد، أو بماسورة المُسَدَّس؛ ولذلك فليس هناك أي فرصة في حل عادل لأي مشكلة والأمل الوحيد هو في الوصول إلى العدل الأمريكي للمَشاكل، والعدل الأمريكي هو إلى جانب القَوِي وضد الضعيف، إنه عَدْل أشبه بقانون الغابة، وفي هكذا قانون لا أمل إطلاقًا في أن يتغلب الحمار الوحشي على الأسد، أو يطاردُ الأرنبُ الذئبَ، أو تتحدَّى الغزالةُ النمرَ، وعلى مَن يريد أن يحصل على حقه في العصر الأمريكي أن يكون له مَخالب وأنياب، وأن يكون له زئير، أما الغَلَابة والذين على باب الكريم فليس لهم أي أمل، وليس أمامهم أي مَخرج، إلا أن يرضوا بالمكتوب وأن يخضعوا للمقسوم، أو يطلبوا من أمريكا حمايتهم لقاء السمع والطاعة.

وسوء حَظِّنا نحن أبناء هذا الجيل أنَّنا عِشنَا العصر الأمريكي. ووقَعْنا تحت طائلة العدل الأمريكي. وذُقنَا بعض الخير الأمريكي من أول الشيراتون إلى فراخ كنتاكي. والخيبة التي هي بالويبة أن العمر امتد بنا حتى شهدنا البروسترويكا تَبَع العم جورباتشوف. لقد كانت الإمبراطورية السوفيتية خيال مآتة، ولكنها كانت صمام أمن، وكانت جدارًا آيلًا للسقوط يستخدمه الغَلَابة ساترًا ضد الطغيان الأمريكي، وكانت سلاحًا صَدئًا ولكنه رغم الصدأ كان يَذود عن الخائفين والمُرتعشين، ثم جاءت البروسترويكا لتُلقي بخيال المآتة على الأرض، ولتهدم الجدار الخامس وتكسر السلاح الرديء، وخَلَت الساحة للفتوة الأمريكي ولصِبيانِه العابثين.

ولكن … رُبَّ ضارة نافعة. وحسب القانون الإلهي. كل شيء هالك إلا وجه ربك، وحسب قول الشاعر: لكل شيء إذا ما تم نقصان. وكما المثل الشائع: ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع. وسَيَجْري القانون على إمبراطورية أمريكا كما جرى من قبل على كل الإمبراطوريات، وسيحدث في الحياة كما يحدث في المسرح، عندما تصل الأحداث إلى الذروة يبدأ الانهيار، وأعتقِد أننا على أبواب مرحلة بداية النهاية. وكل ما نرجوه هو ألا تتحقق مَقولة: ما تفرحش في اللي راح إلا لما تشوف اللي جاي.

وندعو الله أن يجعل العصر القادم أفضل من العصر الأمريكي، وأن تظفر البرية بعصر جديد، يأخذ فيه كل ذي حق حقه، ويتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات، وليكن العصر القادم هو عصر البشر وليس عصر الإمبراطوريات، ولا يمكن الوصول إلى هذا العصر، إلا بقيام دولة الكُرة الأرضية فلا حدود ولا جوازات ولا ميزانيات، وإنما خير الأرض لكل أهلها.

هل يحلم العبد لله؟

أعتقد أن هذا هو الذي سيكون خلال المائة عام القادمة. وعندما يأتي الوقت، سيكون الدِّين لله، والأرض للجميع.

ويا رحيم، يا رحمن، نَجِّنا من العصر الأمريكي.

محمود السعدني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤