الفصل الثالث عشر

حكومة المافيا

… وإذا كان الأمريكي الأبيض هو فتوَّة العالَم، وهو الذي يُلقي الرعب في قلوب أهالي الكاريبي، بنفس القَدْر الذي يلقي فيه الرعب في قلوب أهالي بحر الصين، والسبب أنه فتوَّة من نوع جديد، فهو لا يُلوِّح في يده بشومة تكسر الأدمغة والضلوع، ولكنه يتسلَّح بقنابل ذرية، وقنابل هيدروجينية، وقنابل نظيفة تمسح صنف البشر، ولكنها تُبقي على الجدران، وعلى أرصفة الشوارع! ولكن حكمة الله أنه في داخل أمريكا نفسها يعيش الأمريكي الأبيض كالفار المسلوخ، وصنف البورتوريكو هو بعبع الأمريكي وعفريته الأزرق، وهؤلاء العيال وارد بورتوريكو وهم ملوك أمريكا بلا مُنازع، وهم يعملون في أحقر المهن. كخدم في الفنادق، وعمال في البارات، وحرَّاس للمباني، وصياع في الميناء، ولكنهم في الشوارع أصحاب جلالة وسعادة ومقام رفيع. ويكفي ظهور بورتوريكي واحد فيلزم الجميع الأدب، حتى الزنوج يَحسَبون ألف حساب للبورتوريكي الطيب، لأن يده كالمطرقة، وسلاحه الأبيض يسبق لسانه عند المناقشة والحوار. وسيئ الحظ من يختلف مع البورتوريكيين؛ لأنهم يعيشون في أمريكا وكأنهم في عصر القبائل، وعندما تنشب المعركة يَتنادَون للقتال، وعندما يصيح أحدهم وابورتوريكاه! ستزحف جحافلهم من الحواري والأزِقَّة ومن فوق الأسطح ومن تحت الأنقاض. وفي بورتوريكو حركة وطنية ثورية تُطالِب بالاستقلال، وتعمل طلائعها تحت الأرض داخل الولايات المُتَّحِدة، تُفجِّر الطائرات في الجو، وتنسف القواعد العسكرية في الأرض، وتُثير الرعب والذُّعر في قلوب قادة البنتاجون. وبرغم المخابرات المركزية، والمخابرات الفرعية، وبرغم العقول البَشَرِية والعقول الإلكترونية، لم تستطع السُّلطة القبض على أحد أفراده، بالرغم من أن التنظيم يعمل داخل الولايات المُتَّحِدة منذ أكثر من عشر سنوات، ويعمل في حفظ الله وسلامته! وإذا كان البورتوريكو هو البعبع رقم اثنين، ويأتي الإيطالي بعد الزِّنْجي. وهؤلاء الطليان هم أول من أدخلوا الجريمة المُنظَّمة في أمريكا، وأول من أسَّسوا عصابات المافيا، وفرضوا من خلالها الذُّعر والرعب في كل الولايات، وجاء يوم على أمريكا كانت عصابات المافيا هي الحكومة الحقيقية هي التي تَتحكَّم في انتخابات الرئاسة، وهي التي تُمهِّد الطريق أمام السيناتور للوصول إلى الكونجرس، وهي التي ترسم السياسة للوزراء، وهي التي تجلب المُخدِّرات من خارج الولايات إلى داخلها، وهي التي تسيطر على كل شيء في البلاد، وتشتري الشرطة، والصحافة، والنواب. ويأتي المكسيكي بعد الطلياني، ويحتل الهندي الأحمر ذيل قائمة الأصناف التي يخافها الأمريكي الأبيض، ولكن صنف الأمريكي الأحمر نادر، وبعضهم لا يزال يحمل روح التَّحدِّي، ويستعد للثأر، ولكن أغرب شيء اكتشفتُه في أمريكا هو أن العربي اليمني هو بُعبع جميع الأمريكان في مدينة ديترويت. وهناك ستجد اليَمنِي أمامك في كل مكان؛ في المصانع، في المزارع، في الشوارع، وربما استطاعوا أن يدفعوا بمُمثِّليهم إلى منصب محافِظ الولاية، والله على منظر اليمني وهو يتمشى إفرنجي على أرصفة ديترويت في المساء بملابس اليمن التقليدية، الملابس المُزَركشة، والعمامة الملفوفة، بعناية والخنجر الذي يتوسط الحزام. وأبناء اليمن هم أنشط جالية عربية على الإطلاق. منهم العامل الذي يطفح الدم من طلوع الشمس إلى طلوع النَّجمة، والتاجر الذي يتخاطب بالتِّلِكس عَبْر البحار. وما أكثر العرب في أمريكا، ولكن ما أكثر مشاكلهم، وأعجب شيء أن العرب كما في خارج بلادهم شعوب وقبائل، ليس ليتعارفوا، ولكن ليَتقاتَلوا، أيامهم ولا يوم داحس والغبراء، وحربُهم ولا حرب البسوس، وليس أشرس ولا أتعس من الحرب الدائرة بين العرب والعرب داخل الولايات المتحدة؛ الشيوعي ضد البعثي، والبعثي ضد الناصري، والناصري اليساري ضد الناصري اليميني، والتَّقدُّمي ضد الرجعي، والرجعي ضد الوطني، وأعضاء الجماعات الإسلامية ضد الجميع! ولو نَصْف الحرب الدائرة الآن بين بعض العرب والبعض الآخر، لو نَصْفُها فقط بين صنف العرب وصنف اليهود في أمريكا، لأنجزنا أشياء عظيمة، ولَحقَّقْنا نتائج باهرة. ولكن أخطر من هؤلاء العرب المغتربين عرب آخرون من طراز مختلف، هم العرب اليائسون.

ولأنهم يائسون فقد أعطوا ظهورهم ليس للقضية، ولكن للعروبة نفسها، ودفعهم هذا الموقف ليتحوَّلُوا إلى أمريكان، وليس بالجنسية فقط، ولكن بالمفهوم والعقلية والمزاج. واحد من هؤلاء قابلْتُه في مدينة دالاس مهنته جواهرجي ومتزَوِّج من أمريكية، ويملك قصرًا فخمًا في ضواحي المدينة، ودخلُه لا بأس به ويتكلم عربية سليمة، ولكنه يُفضِّل تطعيمها عند الحديث بكلمات إنجليزية بطريقة أمريكاني، قال الأخ الجواهرجي العربي الأمريكي: قبل أن أحضر إلى أمريكا حاولتُ الاستقرار في بلد عربي، ولكني قُوبِلتُ هناك أحيانًا بالقسوة، وأحيانًا بالاحتقار! ولكني هنا — هكذا يقول الأخ إياه — أحسستُ بالانتماء لهذه الأرض لحظة وضعتُ قدمي عليها، كان الوُدُّ هو أول اللقاء وآخره كان الاحترام. واحد آخر يعمل سائقًا لتاكسي، والتاكسي تملكه زوجته الأمريكية، وهو يُحقِّق ربحًا لا بأس به، ويعيش عيشة لا بأس بها، ويكره العرب أضعاف كراهيته لليهود، وأول عبارة نطق بها عند لقائنا «لو كان صباعي عربي لقطعته» ليه؟ لأنه كان في بلد عربي فضاق به الحال وفاض به الكيل، فسب «ديك» أبو الحكومة. وهي عادة عند الأخ إياه، كلما تنرفز سبَّ «ديك» أي شيء وكل شيء، «ديك» أهلك، ديك النهار، هايدا ديك الشغلة هايدي، إنها نكتة أكثر منها موقف، ولكن بعض حكوماتنا لا تعرف المزاح، ولا تحب الهزار، ونهار أبوه أزرق، من شرطي إلى مركز شرطة إلى سجن تحت الأرض، إلى محكمة سِرِّية، إلى خيانة عظمى، إلى مصير أشبه بالموت، ولا ينقذه إلا انقلاب — أستغفر الله — أقصد ثورة، فالحمد لله كل انقلاباتنا ثورات وكل عساكرنا ثُوَّار، وكل أحاديث زعمائنا برامج للتنمية والتعمير والإنشاء!

وعندما انطلق هاربًا من بلاده بلاد العرب لجأ إلى بلاد الأمريكان، وهناك وجد الولد إياه نفسه وعثر على ذاته. فهو هنا يسب ديك الحكومة، وديك رئيس الولايات المُتَّحِدة، وديك الولايات كلها فردًا فردًا، والحاضر منهم يُعلِم الغايب، ومع ذلك فلا تحقيق ولا شرطة ولا سؤال! فكل إنسان على هذه الأرض حُر فيما يعتقد، وحُر فيما يقول، يسب ديك الحكومة، يسب ديك الناس، فليس في الأمر جريمة، ولا مُخالَفة، ولا يحزنون.

واحد آخَر من هذا النوع الْتَقيتُ به في ولاية كاليفورنيا، هاجَر إلى أمريكا؛ لأنه اضْطُهِد في بلاده فهو صاحب رأي مخالِف لرأي السُّلطة، وهو عندما كان في بلاده كان لا ينام الليل، فهو يهب مذعورًا كلما توقَّفَت أمام بيته سيارة، وينتَفِض مذعورًا كلما طَرَق الباب طارق، ويرتعش بدَنُه كلما دَقَّ جرس التليفون، وتَسلَّل الأخ إياه هاربًا، ولجأ إلى بلاد الأمريكان، والله على أمريكا وعلى حلاوتها، فهو هنا لا يخاف شيئًا إلا الحوادث، ولا يهاب أحدًا إلا اللصوص، ولكن الحكومة لا تُخِيف أحدًا، ولا جريمة على من يعمل ضدها، أو يهتف بسقوطها، ولذلك هو أمريكي جدًّا حتى النخاع، أما هؤلاء الهَمَج يقصد أهلنا. وأما هذه الخرابة يقصد بلادنا، فهو منهم ومنها بَراء!

هذه النماذج هي ظاهرة عامَّة بين العرب في أمريكا وبعض هذه النماذج لا أَمَل منه ولا أمل فيه، والنتيجة أنهم ضاعوا إلى الأبد. ولكن هناك من بينهم من يقف على أُهبة الاستعداد ليكون في صَفِّك إذا حقَّق العرب أي انتصار، أو أَنجَزوا أي نجاح، وإذا عادت الصفوف، ولكن في أيام الانحسار ستجدُهم هكذا يُنكرُون كل شيء، ويَسبُّون كل شيء، ويحتقرون الأرض وما عليها! في خلال حرب أكتوبر وعندما تَحقَّق لهؤلاء أن النصر في جانب الجيوش العربية، كان هؤلاء أول من خرج للشارع يجمع التبرُّعات، ويعقد الندوات، ويقود المظاهَرات.

وعندما عادت دولة اليهود إلى الغطرسة، عاد هؤلاء إلى الانكفاء وتَوارَوا في الظِّل، ودخلوا في البيات الشتوي، وإلى حين يستطيع العرب تحقيق نَصْر آخَر! هناك نوع آخر من العرب الْتَقيتُ به في أماكن متفرِّقة في الولايات المُتَّحِدة، عرب مُتطرِّفون ومُضحكون كذلك. بعض هؤلاء يرى أنه لا خلاص ولا أمل إلا بتحقيق الاشتراكية، وتوزيع الثروة، وتعميم الثورة ولو أدَّى الأمر إلى إغراق الأرض بالدم، ولا طريق من وجهة نظر هؤلاء إلا بضرب الشواشي العليا للبرجوازية مُتضامنة مع الفلول الانهزامية، متواكِبَة مع الاستيطان الانغلاقي من أَجْل تحقيق فائض القيمة للوصول إلى المجد الشنكحوري المتهافِت على الحنجوري! وتسأله وما الحل؟ فيجيبك لا حل إلا بأن يقفز تنظيمه على الحُكم، ويتولَّى أمور البلاد والعباد! وأين هذا التنظيم؟ وتكتشف أن التنظيم هو هذا السيد الفاضل، أقصد «الفاضل عدة ساعات»، فستكتشف أنه يهدف في النهاية إلى نتيجة أقل من النتيجة التي أسفرت عنها كامب ديفيد! فالمشكلة ليست في إسرائيل كشعب ولكنها في إسرائيل كدولة؛ لأنها — من وجهة نظر الأخ إياه — دولة الترجمة الحقيقية لشعار الاستعمار هو أرقى مراحل الرأسمالية، والكفاح ضد إسرائيل الدولة ينبغي أن يبدأ من إسرائيل، ومن الوطن العربي أيضًا، وعندما تسيطر طبقة العمال في إسرائيل وفي الوطن العربي — أيضًا — ستنتهي المشكلة حتمًا؛ لأنه إذا كان ليس بين الخَيِّرِين حساب فليس بين الإخوة العمال مشاكل! وهذا الأخ إياه وأمثاله لا وزن لهم ولا قيمة؛ لأن بعضهم عُملاء بأجر، ومُعظمُهم أطفال في مدرسة رياض الأطفال السياسية. وهؤلاء كان لهم صوت مسموع في الوطن العربي خلال حقبة الأربعينيات ولكنهم الآن تغيَّروا بعد أن اكتشفوا الحقيقة، واختفت القيادات اليهودية من حركتهم. ولكن الذين ينبغي أن نهتم بهم هم هؤلاء الملايين من المواطنين العَرب في الولايات المُتَّحِدة الأمريكية الذين لا انتماء لهم ولا اتجاه.

هؤلاء الذين الْتَوت ألسنتهم وأصبحوا يَتكلَّمون العربية بلهجة أمريكية، حتى الدِّين نفسه، أصبح في خطر؛ فَهُم يتزوَّجون من أمريكيات ويتركون لأبنائهم حرية الاختيار، هؤلاء سنخسرهم حتمًا إذا لم نَهتم بهم، ولكن ما هو الاهتمام الذي يجب أن نحطيهم به؟ هذه قصة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤