الفصل الثالث

نهر البرعم

ولقد قُدِّر للعبد لله أن يشهد بقايا أسوأ جريمة ارتكبها جنس البِيض من البشر ضد جنس آخَر، كل جريمته أنه من لون مختلف ولم يَبْقَ من شعب الهنود العظيم في قارَّة أمريكا المُتَّسعة الأرجاء إلا سكان هندوراس، وبوليفيا، وكولومبيا، والمكسيك. أما الذين بَقوا منهم في الولايات المُتَّحِدة، فقد ذابوا في المجتمَع الأمريكي، يرتدون الجينز ويُدخِّنون البَايِب، ويرقصون على أنْغام الرُّوك أندرول. ولكن الحكومة الأمريكية لأنها بلا تاريخ ولأنها عديمة الأصل والفصل، فقد حرصت على إقامة مُستعمَرة هِندية لزوم فرجة السُّيَّاح، وداخل المستعمرة يقوم بعض الهنود الحمر بتمثيلية كاملة عن حياة الهنود الحمر قبل مجيء البِيض من وراء البحار. فالزعيم يجلس في الخيمة، على رأسه تاج الرِّيش، وفي يده غليونه وحريمه بين يديه، وفي أنحاء قرية الهنود عَشرات من الشَّغِّيلَة. بعضهم يدبغ الجلود، وبعضهم يطهي الطعام وبعضهم يقوم بترويض الخيل. صورة كاذبة عن مجتمع الهنود في سالف الزمان. فلم يكن الهنود الحمر من هذا الطراز من البشر يتكئون على المَساند، ويَقضون وقتهم مع الحريم. فقَبْل مجيء البِيض من وراء البحار، كان لدى الهنود الحمر مِهنتان رئيسيتان ومُقدَّستان أيضًا. العمل، والقتال. كان الهندي في أيام السلام يعمل بلا كلل، يصطاد في الغابة، يصنع فراشًا ولباسًا من جلود الحيوانات، ويصنع سلاحًا من عظامها وقُرونها، وكان يزرع الأرض بالحبوب والدُّخان. وفي وقت الحرب كان يَتحوَّل إلى مُقاتل شرس، وكان المحارِبون من طراز خاص، يستهين بالموت ولا يتردد في النِّزال مهما كان حجم العدو أو قُوَّته. وبالرغم من الهزائم التي نزلت بهم وقصمت ظهورهم، إلا أنهم لم يتوقَّفوا عن المقاوَمة في أية لحظة، ولم يَجبُنوا في أي وقت. وفي تاريخ الهنود الحمر يَلمع عشرات من القادة العظام الذين حارَبوا حتى آخِر نقطة دم منهم؛ «السحابة الحمراء»، و«الحصان المجنون»، والزعيم «تاتانكا يوتانكا» ومعناها الثور الجالس، وكان «الذَّيل المُرَقَّط» هو زعيم قبائل التيتون، وكان «الغراب الصغير» هو زعيم قبائل الآرا باهو، وكان «الذئب الوحيد» هو زعيم قبائل الكيوا، وكانت قبائل الكومانش يقودها الزعيم «كوانا باركر»، أما الزعيم «كولورادو» فقد كان يقود قبائل الأباتشي، ثم ظهر من بعده الزعيم «جيرونيمو» وهو الزعيم الذي اهتمت به استوديوهات هوليود وأنتجَت عنه أكثر من عشرة أفلام. أما قبائل أيل بوت التي كانت تسكن الأريزونا فقد كان يقودها الزعيم «أوراي» وهو من بين الخَونة القلائل في تاريخ الهنود فقد حارَب البِيض فترة، ثم انضم إلى جانبهم ضد أبناء جنسه واشتغل مع أفراد قبيلته كجنود مرتزقة في الجيش الأمريكي ضد القبائل الأخرى. ولقد حارب جميع الهنود بشجاعة، وكالأشجار … ماتت الغالبية العظمى منهم واقفين. أما الذين خُدِعوا بوعود البِيض، فقد لَقوا نهاية مُحزِنة ومُؤلِمة. وفي تاريخ الهنود الحمر قصة مشهورة، بطلُها آخِر زعماء الهنود الحمر الذين قادُوا المقاوَمة ضد البِيض وهو الزعيم جيرونيمو.

فقد حارَب البِيضَ ثم وقَّع المعاهَدات معهم، ثم حاربهم مرة أخرى ثم اضطر إلى الاستسلام لهم بعد أن أقنعوه بأنه سيعيش حرًّا في موطنه الأصلي كمواطن أمريكي، ولكنه بعد أن وضع السلاح وسرَّح جيشه، ألقوا القبض عليه وأخذُوه عنوة مع قبيلته إلى فلوريدا، حيث الرطوبة والحرارة والجو الخانق، وحيث كانت تعيش هناك بقية قبائل الأباتشي والكومانش. وعندما احتجَّ على نقض العهود. سجنوه ومات مصابًا بالسُّل وهو مُقيَّد في الأغلال.

ولقد قُدِّر للهنود الحمر أن يبرهنوا على شجاعتهم وعلى شدة مراسهم في القتال في معركة نهر البرعم. ولم تكن معركة بالمعنى الصحيح ولكنها كانت مذبحة لجيش الولايات المُتَّحِدة بقيادة الجنرال الأمريكي الطفل كاستر الذي كان يلقب بجزار الهنود، وكان كاستر قد رُقِّي إلى رتبة جنرال وهو في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، ولذلك أطلق عليه جنرالات الجيش القدامى الجنرال الطفل، فقد كانوا يكرهونه لرعونته واندفاعه وعدم مبالاته بالأخطار. ولكن حكومة الولايات المُتَّحِدة كان لها رأي آخر في طفلها المدلل، كانت تنظر إليه باعتباره الجزار المناسب لذبح صنف الهنود وإبادتهم، وكان هو عند حُسن ظنِّها، وأثبت في معاركه ضد الهنود أنه الرجل المناسب لهذه المهمة، ولذلك لقبه الهنود بالجزار، وفي الوقت نفسه كانوا يَحملون له كثيرًا من الإعجاب لشجاعته، وبعض القادة الهنود كان يشعر نحوه بكثير من الاحترام، لاستهانته بالموت ولجَلَده على القتال، كانت معركة نهر البرعم هي واحدة من أعظم المعارك وأشرسها التي دارت بين البِيض والهنود الحمر. ففي نقطة يَنحني فيها النهر ويرسم قوسًا التقى الجيشان ذات صباح، جيش البِيض المكوَّن من عشرين ألف رجل بقيادة الجنرال كاستر، وجيش الهنود الحمر الذي يضم مُحاربين أشداء من قبائل السو، والبرولا، والمنكنوا، وأسان أرك، والشايان، وتحت قيادة الزعيم الهندي «الثور الجالس» بدأت المعركة بمناوَشات بين الفريقين استمرت عدة ساعات ثم لجأ البِيض إلى استخدام المدفعية الثقيلة، وعندما حل المساء لجأ الزعيم «الثور الجالس» إلى حيلة خدع بها الجنرال كاستر، فقد أوعز إلى جنوده بالفرار من أرض المعركة في صورة شراذم مذعورة، وأن يسلك المنسحبون كل الطرق وأن يذهبوا في كل الاتجاهات، وانطلت الحيلة على الجنرال كاستر. فقد تصوَّر أن الهنود أصيبوا بضربة قاصمة، وأنهم تحوَّلوا إلى فلول، وبات ليلته على أمل أن يطاردهم في الصباح ليقضى عليهم جميعًا مرة واحدة وإلى الأبد. ولم يكد نور الصباح يضيء حتى كان جيش الهنود يحيط بمعسكر كاستر من كل الجهات. وعندما أدرك كاستر الموقف بوضوح، كان الوقت متأخِّرًا. لقد أفلح الجنرال الهندي «الثور الجالس» في إبطال مفعول المدفعية الثقيلة، لأن المسافة بين الجيشين لم تعد أكثر من عدة أمتار ولم يَعُد أمام كاستر إلا أن يقاتل بالبنادق والسلاح الأبيض أو يلجأ إلى الفرار مُعرِّضًا جيشه لخسائر رهيبة، ولكن كاستر الأحمق المغرور قرر أن يخوض المعركة ومهما كان الثمن. وعلى ضفاف نهر البرعم الذي تحوَّل إلى نهر من دماء البشر، دارت المعركة بين كاستر والثور الجالس، وانتهت نهاية أجبرت أمريكا على تنكيس أعلامها، وصار يوم المعركة يوم حداد عام في كل الولايات. لقد أُبِيد الجيش الأمريكي الذي شاء له حظه النحس دخول هذه المعركة. وبلغ عدد القتلى أكثر من ثمانية عشر ألف جندي، أما المئات الذين نَجَوا من القتل فقد وقَفوا يَتضرَّعون للهنود الحمر أن يأخذوهم أسرى، وأبْدَوا استعدادهم للعمل عند الهنود الحمر كخدم، ولكن «الثور الجالس» رفض أن يأخذ أسيرًا واحدًا منهم وأمر بقتلهم جميعًا، وفتَّش الهنود الحمر بين جُثث القتلى حتى عَثَروا على جثة الجنرال كاستر وقد أُصِيب بسهم في قلبه، وعندما تقدَّم أحد المحاربين الهنود لينزع فروة رأس الجنرال جريًا على عادتهم، نهاه الثور الجالس بشدة، وأمر بأن يدفن بما يليق به كقائد احترامًا لشجاعته وتكريمًا لذكراه كمقاتل لم يجبن أبدًا عن خوض الحرب!

وثارت ثائرة البِيض في العاصمة الأمريكية وجرَّدُوا حملة للثأر وتمكَّنَت هذه الحملة من إبادة عدة ألوف من الهنود المسالِمين الذين لم يشتركوا في المعارك. والأغرب أن معظمهم كانوا من النساء والأطفال. وحينما احترم الهنود الحمر عدوهم الأكبر كاستر فلم يَسلُخوا فروة رأسه احترامًا لشجاعته. نجد العكس تمامًا في سلوك البِيض، فلم يحدث أبدًا أن احترموا أي شيء أو أي أحد. وقد صرخ الزعيم جرينومو عندما عاد إلى قريته بعد إحدى المَعارك واكتشف أن البِيض أغاروا على قريته وهو مشغول بالمعركة وأنهم أحرقوا منزله عن آخِره وقتلوا زوجته وأطفاله. وقف الرجل يصرخ على أطلال منزله «لقد حاربتُ طويلًا وكثيرًا ولكني لم أقتل في حياتي امرأة أو طفلًا أو شيخًا عجوزًا أو مقاتلًا بلا سلاح. إن هؤلاء البِيض لَيسُوا بَشرًا ولكنهم شياطين على هيئة بني آدميين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤