إثارة لا رثاء

شهيد النهضة

لا تحتاج هذه القصيدة إلى ذكر ما دعاني إلى نظمها فهو معلوم من كل عربي وأنا واحد من هؤلاء.

مَاتَ الْحُسَيْنُ فرُوعَ الإسلامُ
فعلى العروبةِ والحسينِ سلامُ
قُلْ للسياسة جاهرِي لا تستحي
مات «الصريح» فما عليكِ ملام
مات الحسين فيا أعاربُ كبِّروا
إن العميد عن الشئون ينام
نَمْ آمنًا يا ابن الثمانين الذي
لم يعرُهُ في الحالتين سآم
أأبا العروبة، والتراث مقسَّم
شمسُ السياسة ما لهن زمام
ما «للوثائق» قيمة في عرفها
إن النكيثة عندها لذمام
أو ما رأيتَ عهودَهم منقوضة
فالكذب حلٌّ والوفاءُ حرام

•••

يا هوله نبأ آثار شجوننا
ريع العراقُ له وضجَّ الشام
وارتجتِ الأردن من فرط الأسى
وبكى الحجاز وأنَّتِ الأهرام
نبكي علينا لا عليك فإنما
ماتت بموت «المنقذ» الأحلام
قد فرَّقت أيدي المطامع وحدةً
أوجدتها وتخاذلَ الأقوام
أضحيَّةَ استقلالنا لا تقنطي
من رحمة، فسيعلم الظلام
كنتِ الشجا في حلق سُوَّاس الورى
ذهب الشجا فتسهَّل الإبرام
أأسيرَ قبرس لا تُرَعَ لك أُسوةٌ
فأسير «سنتيلين» ليس يلام
أَيُعَابُ سيفٌ إن تثلَّم حدُّه
يومَ القراع وما جناه الهام؟
هوِّن عليك، فما عليه غضاضة
إن لم يمت بعرينه الضرغام
ما هان قطُّ ولن يهونَ اسمٌ تقدْ
دِسه نصارى الشرق والإسلام
ما هان من ضحَّى بعزة عرشه
إنْ جرحوه فجرحه يلتام
سعدًا لقبرسَ قد تخلَّدَ ذكرها
باسم الحسينِ تَرُدُّه الأيام
لله عهدك كم تذكَّرْنا به
مجدَ العروبة، والزمان غلام
يا عاهلَ العرب الذي تاريخُهُ
في صفحتَيْهِ عدالة ووئام
فرَّجْتَ كربتنا ومتَّ بكربةٍ
عمياء يعلم هولها العلَّام

•••

يا ساكن «الأقصى» يشرِّده عن
البيتِ الحرام من الخطوب جسام
سبحان من أسرى إليه بعبده
فسرتْ إليه بابنِهِ الآنام

•••

يا باعث المجد القديم ودون نهضته
الرشيد وخالد وهشام
يا فيصلَ الإسلام في تاريخنا
مهلًا فيذكر حدَّك اللوَّام
«وبرغم أنفي إن أراك موسدًا
يدَ هالك والشامتون قيام»
«بِي لا بغَيْرِي تربةٌ مجفوةٌ
لك في ثرَاهَا رمة وعظام»
يا أيُّهَا التاريخ هذا خالد
يطوى فتنشر مجده الأقلام
قل للَّذِي لم يدْرِ أقدار الورى
هذا زعيمُ الأمَّة المِقْدَام

•••

يا قَبْرَ مُنْقِذِنَا، وإن قلَّ الوفا
صبرًا فتخفق فوقك الأعلام
١٩٣١

دَمَعةُ الأَرْز

عزم المجاهد الأكبر أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، على إحياء ذكرى الملك حسين بن علي الذي دفن في المسجد الأقصى، فدعا شعراء الأقطار العربية فكنت من المدعوين فأعددت هذه القصيدة التي كان لها أثر في النفوس.

وقد وثقت هذه القصيدة عروة المعرفة بيني وبين المفتي الأكبر لما لها من علاقة بالقضية الصهيونية التي كنا نقاومها قبل الحرب العظمى ونسميها «الخطر الأصفر».

ثم ازدادت هذه المعرفة نموًّا فيما بعد، حين فرَّ سماحته إلى لبنان قبل هذه الحرب، وأقام على مقربةٍ من جونيه، فكان بيني وبينه مداولة حول القضية التي تهم كل عربي.

وما زلت أحفظ بين أوراقي رسالة من سماحته حول الموضوع.

فإذا رأيت أيها القارئ العزيز في قصيدتي تأثرًا فلا تتعجب، فقد تشرفت بتقبيل راحة الحسين، في ذلك العام، فذكرت قول الفرزدق في أحد جدوده: يغضي حياءً ويغضي من مهابته.

ولست أنسى — ما عشت — دمعة فرَّت من عيني عندما روى لي حكاية خادمه الذي حاول أن يودِّعه في العقبة، ساعة مشى إلى قبرص، فزجره قائلًا له: لا تودعني، يا ولدي، لئلا يقال: إنه كان في وداعي واحد من العرب.

ليُغْمَدْ «ذو الفقار» فقد حَمَاها
وأقصتهُ «السياسة» عن حِمَاها
«فيا شبه الجزيرة» أيْنَ مولا
كِ «ابنُ البيت» أسمى العرب جاها
«ويا أُمَّ القُرَى» ماذا قريت
«الضيوفَ» وأيْنَ من فيهِ يُبَاهى
«أكعبةُ» أين أعلى الناس كعبًا
إذا ما عدَّت الدنيا علاها
«ويا بطحاء» أَيْنَ «أبو علي»
أَبو الهيجاء إن دارت رحاها
أسائلها وقد عيَّت جوابًا
فويحٌ لابنةٍ عقَّتْ أَبَاهَا

•••

فتى «عدنانَ» نم نومًا هنيئًا
فأُمَّتكَ استفاقَتْ من كراها
وإن نامتْ على ضيمٍ قليلًا
فذاكَ رمادُهَا يُخفي لظاها
وإن الثأرَ عند العرب دِينٌ
ومن يكفرْ به جحد الإلها
فما جئناكَ من لبنانَ حتى
نردِّدَ كالنساءِ عليك آها
لقد جئنا وفي الأحشا سعيرٌ
يُذِيبُ الأرض إن يلمس حَصَاهَا
أَتَيْنَا كَيْ نهيبَ بكُلِّ ساهٍ
عَنِ الأرض التي بِدَمٍ شراها
ولا عجب إن الأحلام طاشَتْ
فإِنَّا أُمَّة قتلوا فتاها
نزيل القدس سرَّ وقرَّ عينًا
«فَأُولى القبلتين» علت ذراها
فإن عزَّتْ «بجدك» حين أَسرى
فقد شرفت بدفنك في ثراها
وإن تَكُ «ثالث الحرمين» دينًا
ففي وطنيتي غدت ابتداها
وهذي «الصخرة» الغراءُ أَزهت
بقربكَ واكتستْ شرفًا تناهى
لأنَّكَ صخرة بُنِيَتْ عليها
قضيَّة أُمةٍ أَهوى بناها
فقبرك صارَ منذ اليوم «حجًّا»
نُعفِّر فوق تربته الجباها
تطوفُ به القبائل محرماتٍ
«فَمَرْوَتُهَا» هُنَا وهنا «صَفَاها»
وكم ميت به تحيا شعوبٌ
وكم «حيٍّ» يموت به رجاها

•••

أأمَّةٍ يَعربٍ مرحى فهذي
فلسطين تقدِّسُ من هواها
وحطَّم تاجهُ عطفًا عليها
وأزرى بالأريكةِ وازدراها
فقام «المسجدُ الأقصى» بعطفٍ
يَضُمُّ يدًا عليه همى سخاها

•••

فقيد الأُمَّتَيْنِ عليكَ منا
المراحمُ هاطلات من سماها
أقِمْ بجوار عيسى مطمئِنًّا
فقد أنقذتَ أمَّةً افتداها
أمير المؤمنين أهبْ بقوم
رفعتَ لهم مقامًا لا يُضَاهى
وخاطبْ من ضريحك من توانَوا
وقل لهُم: إلى الهدفِ اتجاها
بنيت لكم بناءً مشمخرًا
ألا اتحدوا قلوبًا لا شِفاها
وذودوا عن مواطنكم ليوثًا
تخيف القومَ إن قربوا شَراها
فدفني ها هنا قدرٌ لكيما
أُوثِّقَ أُمةً فُكَّتْ عراها
فلن تغترَّ إن شامت بروقًا
فكم خدعت عيونًا سيمياها
عهود «القوم» منقصةٌ وغشٌّ
فيا بئسَ العهودُ ولا رعاها
فأمسِ هنا على عيسى تعدَّوْا
وقاموا اليومَ يَهْتَضِمُونَ طَاهَا

•••

«أمنقذ يعرب» لبَّيْك، أبشر
فأمَّتنا تظلُّ على وفاها
صليب «مسيحها» سيحول سيفًا
وسيف «نبيِّها» يجلو دجاها
إذا «الزيتون» هسَّ بأرض يَسَّى
أصاخ «الأرزُ» سمعًا وانتباها
وهبَّ «النخلُ» يجرد من ذراه
رماحًا تُرعِدُ الباغي شباها
فقبرك يا حسينُ لسانُ صدق
يعلِّم أمة فقدت هداها
ومن جعل الفصاحة في قريش
أصارَ اليومَ قبرك منتهاها
ومثلك خالدٌ ببنيه يُعلي
منارتنا فلا يخبو ضياها
سريت مع السياسة ذا وفاء
وعند الصبح لم تحمد سراها
فتلك «البندقيَّةُ» من تُرَاهُ
سيطلقُها إذا داع دعاها؟

•••

هنا حولَ الضريح — غدًا — ترانا
ليوثًا للوغى عقدت لواها
سنطلقها — غدًا — طلقات ثأرٍ
هنا فترجعُ الدنيا صداها
ونمشيها خطًى كُتِبَتْ علينا
ومن كُتِبَتْ عليهِ خطًى مشاها
١٩٣١

صاحب النبي

أنا ممن يثقون بالأدب الجبراني، وقد ناضلت دونه، ولهذا رثيت صاحبه.

قِيثارةَ الروحِ إن الموت أشجاني
فشنِّفي بنشيد الخلد آذاني
وأسمعيني نشيدًا كان يطربني
كأنَّه النَّايُ من إِنشادِ «جبران»
ترنَّمي أيها الأرواح وابتهجي
فتاك كسَّرَ قيد العالم الفاني
إن قال في الأرض جزءًا من قصائدِهِ
فسوف ينجزها في العالم الثاني
مات الذي هبط الوحيُ الحديث على
يراعهِ فأرانا «وردة الهاني»
مات الذي مثَّلت للكون ريشته
مشاهدَ الكون شتَّى ذات ألوان
مات الذي يتمشَّى في «مواكبه»
حب الطبيعة — عفوًا — مشي ولهان
بدت «عرائسُهُ بينَ المروج» لها
نحيبُ مسترحم أو نوح حيران
وقام يخلق «أرواحًا تمردها»
على النواميس أخزى كل شيطان
أرى البرية في «مجنونِهِ» عبرًا
قد حار فيها ذوو عقل وأذهان
وكان في «السابق» السبَّاق رائده
نصر الحقيقة في حكم وبرهان
«فرمله» درر، أصدافها «زبد»
وفي «العواصف» عرف الندِّ والبان
جبران جبَّار هذا الجيل آيته
«نبيُّهُ» «ويسوعٌ ابن إنسان»
كم في «ابتسامته من دمعة» خفيت
تطهِّرُ الكفر من رجسٍ وأدران
مستهزئ بقيودٍ ليس يقبلها
عقل، ويسخر منها سخر فنان
وليس يشبه عندي غير عاصفة
مرت كطيفٍ على أجفان وسنان
جبران كنَّارةٌ أنغامها اتَّسعت
فأطربت كلَّ ذِي سمعٍ ووجدان
وكان آخر ما غنَّته «آلهة الأ
رض» التي حملت عبَّاد أوثان
جبران أسمعتنا اللحن الغريب فقم
تعلَمْ بأنَّا أناسٌ «غير طرشان»
أرى «رسومَك» وهي العين خالدة
بها يفاخر هذا المشرق الداني
ما كسَّر الدهر يا جبران «أجنحة»
حتى بدا لك في الدنيا جناحان
يا وردة الشرق ما هذا الذبول أَجِبْ
فالورد يبسم للدنيا بنيسان
ويا أنيس الليالي، عشتَ في حزن
ومت جدَّ كئيبٍ نضوَ أحزان
قلَّدت يسوعَ في التعليم متبعًا
تناصر القلب، وثابًا على الجاني
وما خيالك في عرفي سوى لغة
بها يفوه الحيارى بين مجَّان
يا إِرميا قمْ ورحِّب بالزميل على
«مزمار داودَ» «والشعر السليماني»
أحياكمُ بعدَ آلاف السنين لنا
في أُمَّةٍ شأنها تأليهُ رنان
أحبَّ لبنان حبًّا لا يماثله
حبٌّ وماتَ غريب الدار والشان
لا تندبوه فإن النوحَ يزعجه
هنِّئْتَ يا صاحبي نَمْ نومةَ الهاني
نَمْ عن همومك فالآثار خالدة
ما خُلِّدَ الأرزُ في أطواد لبنان

البطرك الحوبك

عرفت هذا البطرك حق المعرفة، وقد كان تارة يغضب علي وحينًا يرضى، ولي معه وفيه قصص طويلة سأدونها في كتابي «قصصي وأخباري».

إن الذي شاد «لبنانًا» قد انهدما
فانعوا إلى المشرقين السيد العلما
يا ناعي «الحيِّ» للأموات عزِّ به
الدنيا وأجمل وآسِ الدين وابكهما
تعزَّ يا دين، يا دنيا اجملي جزعًا
هيهات في الشرق بطريق يضمُّكما
تفارقا، فعصا موسى قد انكسرت
والتاج أهوى وثلَّ العرش وانحطما
فإن منينا «بطوفان» فلا عجب
ما بعد اليأس حي يحبس الديما
فانعوا إلى «الملَّتَيْنِ» اليوم خير أب
برٍّ حكيم جسور مخلص لهما
وانعوا إلى شعب لبنان زعيمهم
ألصادق القول أما يكذب الزعما
وانعوا إلى «الأرز» مولاه وحاميه
من عاش في ظلِّه بالله معتصما
إلى الطوائف انعوا رأس طائفة
فذًّا ولا طائفيًّا يمقت القسما
ففي الكنيسة كان البطريرك تقى
وفي النوادي حكيم يفحم الفهما
راع مصل لباريه وسبحته
كأنها العقد فيه نظَّم الأمَمَا
ما كان يبغي سوى توحيد أمَّتِهِ
كذا الرعاة وإلَّا فالرعاة لما
كان الرعاة لكي يحموا خرافهم
ولم يكونوا لكيما يأكلوا الغنما
مات ابن تسعين والتسعون إن وطئت
بيتًا من الصمِّ هار البيت وانْثَلَمَا
تسعون عامًا تقضَّت في الجهاد وما
شكا نوائبها كثرًا وما سئِمَا
فادعوا الشباب إلى «شيخ الجبال» عسى
من جسمه هامدًا أن يغنموا همما
إن يهتضم فسياسيٌّ جراءته
تنعى على القوم هضم الحقِّ والظلما
وفي عقيدته والحقُّ مطلبه
قد كان أرسخ من لبنانه قدما

•••

يا واحد الجيل بل يا جيل مفخرة
دينًا ودنيا خلاك الذمُّ حين طمى
إن كان في الناس أحرار فأنت أبو
الأحرار في كلِّ طور، يافعًا هرما
يا آية العرب يوحي خلقه سورًا
عنَّا بأنَّا الأُلَى لا نخفر الذِّمَمَا
أنشأت «عائلة» شرقيَّة خُلُقًا
ضادية أدبًا بل منطقًا وفما
فصنت للشرق من عاداته غررًا
يا عنصرًا لم يذب في الغرب ملتئما
نشأت صبًّا بالاستقلال من صغر
ومتَّ حرًّا يرى استقلاله حرما
وعشتَ ما عشتَ فينا راعيًا بطلًا
حقَّيهِ صان ولم يسمح بمسِّهما
— فمجد لبنان قد أعطيت — أجمعه
يا ليته بك هذا المجد ما اختتما

•••

إن لم أمدحك حيًّا يا عظيم فمن
كره التزلُّف للسادات والعظما
فحين أصبحت لا تؤتى لمنفعة
دانيتُ قصرَكَ أبكي الطهر والشمما
ورحت ألثم كفًّا ما انتضت قضبًا
للذود لكن صليب الحقِّ والقلما
فيا له مأتمًا في الشرق ما شهد
التاريخ أعظم منه مجمعًا فخمًا
أخرجت فاستولت الرهبى فما نسبوا
والأسد ترهب موتي، فاتقوا الأجما
ولحت تحملك الأحبار خاشعة
يا من تحملت عنَّا الهمَّ والألما
فما تطاولت الأبصار بل خشعت
تكاد تقذف من فوَّهَاتها الحِمَمَا
كأنَّ نعشك والآنام مغضية
«تابوت ذا العهد» لم نضرب له خيما

•••

يا شائب الرأس شيَّبت الزمان وما
شابت أمانيك، فارقد بالسلام كما
يا أمَّة أدرجت ذا اليوم في كفن
وصي بقاياك حتَّى تحرس العلما

الملك فيصل

أعجبني من الملك فيصل ألمه المكتوم، ولا سيما حين سمعته يردد بتألُّم ممض الأبيات الأولى من: لا افتخار إلا لمن لا يضام، حتى إذا بلغ هذا البيت:

واحتمالُ الأذَى ورؤيةُ جانِيهِ
غذاءٌ تضوى به الأجسامُ

شدَّ على كل كلمة ليدرك سامعه فعل هذا البيت فيه. فقلت في رثائه هذه الأبيات إرضاء لعاطفتي وتقديرًا للعربي العظيم.

سألتُ الأُفقَ عنهُ فقال: أودى
فتًى ضاقتْ عليهِ الأرضُ جِدَّا
وسائلت النجومَ فقلنَ: كنَّا
نراهُ، وقد جفا عنا وصدَّا
وسائلتُ العروبةَ، أيْنَ حامي
ذمارِكِ، سيِّدُ العربِ المفدَّى
فصاحتْ لَوْعَةً: وا فيصلا!
فقلتُ لها اقصري نوحًا وعدَّا
فما ماتَ الذي في كل جسمٍ
تقمَّص روحهُ روحًا أشدَّا
فيا ويحَ «القضيَّة» كيف تبكي
ويُخرج بيتُهَا الفيَّاض أُسْدَا
فهذا البيتُ أوجدها قديمًا
وألبسَهَا جديدَ المجد بردا
فيا بيت الشهادةِ والضحايا
سلمتَ لنا على الأيام زندا
يهنِّدُ فيصلًا فيشبُّ نارًا
تُضيء، ويحصد الأعناق حصدَا

•••

أبا غازي ألفتَ الفتح حتَّى
اقتحمت الجوَّ مغوارًا أشدَّا
وجاورتَ الصواعقَ في الأعالي
لكي تنقضَّ في الآذان رعدًا
أيطلبُ منك ذو طبٍّ هدوا
فيا قلبَ العروبةِ كيف تهْدَا؟

•••

شقيقَ علي وعبدِ الله، بشرًا
أخا زيدٍ إذا الدهر استبدَّا
هجمتم كالقضاء ولا مردَّ
وكم صاولتمُ أخذًا وردَّا
مربعُ أُمَّةٍ راسٍ، سمَّاه
الحسين، فكان هذا الحصن فردا
يجير البيت أفرادًا وهذا
أجارَ العربَ والمجدَ استردا

•••

ركبت من السياسة شرَّ بحر
تداور يَمَّهُ جزرًا ومدَّا
أخا الخمسينَ، إن التاج عبءٌ
متاعبه تهدُّ الجسمَ هدَّا
فحسبك ما بنيتَ فقرَّ عَيْنًا
فقد شيَّدت ملكًا لن يُهَدَّا

•••

أراكَ تجلُّ عن نوح القوافي
فمجدك يُنْشِدُ الأشعارَ نشدا
ومن يرثِ البطولة فهو فانٍ
أليسَ النعش للأبطال مَهْدَا
أنندب «فاتحًا» عشق العوالي
وخلف «غازيًا» إن صال أَرْدَى

اللوعة الخرساء

لا تحتاج هذه القصيدة إلى تعريف، فهي في ثلاثة هم أعزُّ الناس عندي: أبي وأمي وأمِّ أولادي.

قومي انظري الأطيار كيف تألَّبَتْ زمرًا زمر
في هيكل الوادي الرهيب تُقيمُ تسبحةَ السحر
خلع الأميرُ على بنات الأرض أثواب الزهر
فالكون في عرس الصباح وحماك محزون مباح
قومي فقد جاء الربيع
كيفَ التقاعدُ، أيُّهَا الأمُّ المولَّهة الحنون
أختاه، طالَ النومُ، والأولادُ ضجُّوا صاخبين
قُومِي إِلَى حاجاتهم فبِبَعْضِ عطفِكِ يَقْنَعُون
شُلَّت يمينك يا قدر اطهو الحصي ولا «عمر»
والنَّاس حولي كالربيع
يَا واحَتي، والوهج موصولٌ بأسباب السماء
يا قَرْيَتِي، أغشاك أن ينسدَّ في وَجْهِي الفضاء
يا مَنْزِلِي، بِكِ سلوتِي، إن يجف إخوانُ الصفاء
من للسفينِ بلا شِرَاعٍ — والبيتِ — والمصباح ضاع
والعامِ إن مات الربيع
ماذا دهى أختَ الصباح وكيف تاهتْ في الظَّلَام
كيفَ امَّحى قوسُ السحاب وذاب في قَلْبِ الجهام
في ذمَّة الأرياح طرته وفي عُنُقِ الغمام
يا عشُّ، رفقًا بالفراخِ فالمقبلونَ على الصراخ
هجروا الخميلة في الربيع
إن يرجِعُوا صفتِ الحياة وجدَّ دهري وابتسم
واخضرَّتِ الأرض الموات وأعشبَ الصخر الأصم
هيهات، ذاك العهد كان وراحَ والفُلْك ارتطم
الشمس في سمتِ الأصيل وأنا المحيَّر في السبيل
وأظنُّ أنِّي في الربيع
ذكراكِ كالحمَّى تُعَاوِدُنِي ومثل العاصفه
مثل البراعم ليس تُوقِظها الرُّعُود القَاصِفَه
وتحسُّ هينمة الربيع فتَسْتَفِيق العاطفه
إن المحبَّة لا تموت وهي الفصيحة في السكوت،
فكأنَّها زهر الربيع
كم رنَّ في أُذُنِي فأرعد مهجتي وقع الخطى
مُتدافِعًا فوق البلاط كأنَّهُ مشي القطا
كم عنَّ لي رفُّ الصبايا الراجعاتِ من «الوطا»
فظننتها بين النساء أوَّاهُ من خدع المساء
وما اذكارات الربيع
كيف التفتُّ فلا أرى عن جانبيَّ سوى كهوف
تبدي الحديث مكبَّرًا وتظلُّ عن شأني وقوف
ذهب «المعزِّي» في السرى وبقيت وحدي كالعريف
في مهمهٍ مدَّ البصر يحتارُ فيهِ من عبر
وتضلُّ أطيار الربيع
يا من غدوتَ أبًا وأُمًّا هذهِ سنن الحياة
من كان يحمل كلَّ همِّك مات بل أمسى رفات
وبقيتَ وحدَكَ لا تهمَّ بلفظةٍ ذهب الثقاة
فاصبر على عَبَثِ الصغار واندب «ثلاثتك» الكبار
من آثروا سفر الربيع
لا أستعير من الدجى ثوبًا ولو مات الزمان
سيَّان في نظري خطى متنطِّس أو بهلوان
صور تمثِّلها الحياة ليستبدَّ بها الكيان
ما لي أخاف من العدم وهو البريء من الألم
وعلامَ أنتظر الربيع
١٩٣٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤