ملحق

في الفصل السابع، أشرتُ باختصار إلى الكيفية التي تقيد بها أنماطُ التنظيم الأربعة التي بينتُها السلوكَ، كلٌ بصورة مختلفة. أريد أن أتوسع في تناولي لها في هذا الملحق. آمل في أن أقدِّم طريقة تفاعل هذه الأنماط — القانون، والسوق، والأعراف الاجتماعية، والمعمار — أثناء تنفيذ عملية التنظيم بصورة أكثر ثراءً. يعتبر هذا الفهم مفيد، لكنه غير ضروري في طرح هذا الكتاب. من هنا أُفرد هذه المساحة للمهتمين ومن لديهم وقت فائض. في كتاب آخر، أطلقتُ على هذا التناول اسم «مدرسة شيكاجو الجديدة».1

القانون هو أمر يدعمه تهديد بتوقيع عقوبة. ينص القانون على ألا يرتكب المرء جريمة القتل، ويهدد بتوقيع عقوبة قاسية إذا لم يذعن المرء إلى هذا الأمر. ينص القانون على عدم الاتجار في الكوكايين، ويهدد بتوقيع عقوبات في غاية الصرامة في حالة عدم الانصياع. في كلتا الحالتين، تعتبر صورة القانون بسيطة ومباشرة: لا تفعل هذا، وإلا.

بداهة يتعدى القانون كونه مجرد مجموعة من الأوامر والتهديدات؛2 فلا ينص القانون على الالتزام بسلوكيات محددة وحسب، بل يعبِّر عن قيم المجتمع أيضًا (عندما يخصص يومًا، على سبيل المثال، للاحتفال بمولد مارتن لوثر كنج الابن)،3 وينشئ أو ينظِّم الهياكل التنظيمية الحكومية (عندما ينص الدستور، على سبيل المثال، في المادة الأولى على وجود مجلس نواب منفصل عن مجلس الشيوخ)، ويرسِّخ حقوقًا للأفراد يستطيعون الاحتماء بها ضد بطش حكوماتهم (وثيقة الحقوق). كل هذه أمثلة على القانون، وبالتركيز على نوع واحد من القوانين، لا أقصد أن أقلل من قيمة الأنواع الأخرى. يفرض هذا الجانب تحديدًا من القانون قيدًا محددًا على الأفراد داخل الولاية القضائية لواضع القانون، أو جهة السيادة. يتمثل هذا القيد — بصورة موضوعية — في العقاب.
تقيِّد الأعراف الاجتماعية السلوك بصورة مختلفة. أقصد بالأعراف الاجتماعية تلك القيود الموضوعة لا من خلال الأفعال المنظمة أو المركزية للدولة، بل من خلال العقوبات الصغيرة الكثيرة — والشديدة في بعض الأحيان — التي يفرضها أعضاء جماعة معينة بعضهم على بعض. لا أتحدث هنا عن أنماط متكررة من السلوك؛ فربما يقود معظم الناس سياراتهم إلى العمل بين السابعة والثامنة صباحًا، لكن لا يعتبر هذا عرفًا اجتماعيًّا بالمعنى الذي أقصده. يتحكم العرف الاجتماعي في السلوك الاجتماعي، بحيث يجعل الانحراف عن هذا السلوكِ الأشخاصَ غير الملتزمين غير أسوياء اجتماعيًّا.4

تمتلئ الحياة بهذه الأعراف، بل وتتألف منها، ويتحدد شكلها بواسطتها. بعض هذه الأعراف قيِّمة، وكثير منها غير ذلك. من الأعراف الاجتماعية (عرف حميد في واقع الحال) أن تشكر الآخرين على خدمات قدموها. يعتبر عدم توجيه الشكر «فظاظة»، وأن تكون فظًّا يفتح عليك أبوابًا لا حصر لها من العقوبات الاجتماعية؛ من الإقصاء الاجتماعي إلى النقد. من الأعراف الاجتماعية أيضًا: التحدث إلى جارك في المقعد الملاصق لك في الطائرة بحذر، أو أن تبقى إلى يمين الطريق عندما تقود ببطء. تُثني الأعراف الاجتماعية الرجال عن ارتداء الملابس النسائية، وتشجعنا جميعًا على الاستحمام بانتظام. تمتلئ الحياة العادية بإملاءات كهذه حول طرق التصرف. تشكِّل هذه الأوامر بالنسبة إلى الشخص العادي المنخرط اجتماعيًّا قيودًا على السلوك الفردي.

تعتبر الأعراف الاجتماعية، مثل القانون، قيودًا فعَّالة، لكن ما يجعل الأعراف الاجتماعية مختلفة عن القانون هو الآلية ومصدر تشريع العقوبات. تفرض الجماعاتُ الاجتماعية، لا الدولة، الأعرافَ. في المقابل، تشبه الأعرافُ الاجتماعيةُ القانونَ، على الأقل من الناحية الموضوعية، في أن قيودهما تُفرَضان بعد حدوث المخالفة.

تختلف قيود السوق عن القيود الأخرى. يفرض السلوك قيودًا من خلال السعر. يشير السعر إلى النقطة التي ينتقل عندها مورد ما من شخص إلى آخر؛ فإذا أردت أن تشتري قهوة من ستاربكس، يجب أن تعطي الموظف أربعة دولارات. يسير القيد (الدولارات الأربعة) جنبًا إلى جنب مع الفائدة التي ترغب في الحصول عليها (القهوة). ربما تتفاوض، بالطبع، لدفع مقابل الفائدة لاحقًا («سأدفع بسرور يوم الثلاثاء ثمن شطيرة الهمبرجر التي سآكلها اليوم»)، لكن لا يزال الالتزام الذي قطعته على نفسك بالدفع يقع عند حصولك على الفائدة. بقدر ما تظل موجودًا في السوق، يستمر هذا التوازي بين القيد والفائدة. لا يظهر قيد السوق، على خلاف القانون والأعراف الاجتماعية، بعد حصولك على الفائدة التي تسعى إليها، بل يظهر آنيًّا مع طلبك إياها.

لا يعني هذا أن معاملات السوق لا يمكن ترجمتها إلى معاملات قانونية أو معاملات أعراف اجتماعية. على العكس تمامًا، لا توجد معاملات السوق إلا في سياق القانون والأعراف الاجتماعية. يجب أن تدفع مقابل القهوة. إذا لم تفعل، يطبَّق قانون السرقة. لا يوجد في السوق ما يشترط أن تعطي إكرامية للنادل، لكن إذا لم تفعل، تظهر الأعراف الاجتماعية لتحد من بُخلك. توجد قيود السوق في الأساس؛ نظرًا لوجود خلفية قانونية وعُرفية مفصلة تحدد ما هو قابل للشراء وما هو قابل للبيع، فضلًا عن قواعد الملكية والعقود التي تحدد الأشياء التي يمكن شراؤها وبيعها، لكن في ضوء هذه القوانين والأعراف لا يزال السوق يقيِّد السلوك بصور مختلفة.

لا يعتبر النمط الأخير من أنماط التنظيم عَرَضيًّا، ولا هو — في كامل نطاقه — معتمدًا كل الاعتماد على الأنماط الأخرى. ينظم قيد المعمار طبيعة الحياة، أو سمات محددة منها فقط، من حولنا. يطلق مصممو المعمار على هذا القيد البيئة المنشأة. أما هؤلاء ممن لا يطلقون المسميات على الأشياء؛ فيرونه على أنه العالم من حولهم.

ببساطة، تعتبر بعض قيود المعمار قيودًا صنعناها نحن (ومن هنا يأتي معنى البناء أو المعمار)، وبعضها ليس من صنعنا. تُغلِق الأبواب الحجرات. عندما تُغلَق الأبواب، يبقى المرء خارجًا. لا يعمل قيد المعمار بنفس طريقة القانون أو الأعراف الاجتماعية؛ إذ لا يستطيع المرء تجاهل القيد وتحمل النتائج لاحقًا. إذا كان القيد الذي تفرضه الأبواب قيدًا تستطيع التغلب عليه — عن طريق كسره أو فض مغاليق القفل — فلا تزال الأبواب تمثل قيدًا، وإن كان غير كامل.

في المقابل، هناك قيود معمار كاملة. بخلاف شخصيات «ستار تريك»، لا نستطيع الانتقال في سرعات دورانية هائلة. نستطيع الانتقال بسرعة، وهو ما تمكننا التكنولوجيا منه حاليًّا أسرع مما كنا ننتقل في السابق. على الرغم من ذلك، هناك سبب وجيه (أو هكذا يرى الفيزيائيون) في أن ثمة حدًّا لسرعة الانتقال، مثلما رأيتُ مكتوبًا على قميص أحد الطلاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: «١٨٦٢٨٢ ميلًا في الثانية. ليست هذه فكرة جيدة فحسب، بل هذا هو القانون.»

سواءٌ أكانت القيود مطلقة أم لا، من صناعة البشر أم لا، سندرج جميع هذه القيود في فئة واحدة؛ فئة قيود المعمار، أو كود الفضاء الواقعي. يوحِّد هذه الفئة معًا عامل القيد. لا يفرض أي فرد أو جماعة هذا القيد، أو على الأقل ليس بصورة مباشرة. لا شك في أن الأفراد مسئولون في النهاية عن كثير من خواص قيد المعمار، على أن القيد يتولى الأمور بنفسه دون تدخل من أحد عند تنفيذ اشتراطات القيد. تحتاج القوانين إلى الشرطة، ومحققين، ومحاكم حتى يكون لها أثر، أما القفل فلا يحتاج إلى أي من ذلك. تشترط الأعراف الاجتماعية أن ينتبه الأفراد إلى السلوك غير الملتزم، والتصرف حياله كما يجب، لكن لا تشترط الجاذبية ذلك. تعتبر قيود المعمار مُنفَّذة ذاتيًّا، وذلك على عكس قيود القانون والأعراف الاجتماعية والسوق.

لخاصية المعمار هذه — التنفيذ الذاتي — أهمية كبيرة للغاية في فهم دوره في التنظيم، وهي تزداد أهمية خاصةً مع صور التنظيم غير الملائمة أو غير العادلة. على سبيل المثال، بقدر ما نستطيع تحقيق نتائج من خلال القيود الآلية لكود الفضاء الواقعي، فلسنا بحاجة إلى الاعتماد على الوكالة، أو الولاء، أو الثقة المستمرة في الأفراد لتنفيذ الاشتراطات الموضوعة. إذا كان بالإمكان جعل الآلة تنفذ الاشتراطات، فسنصبح أكثر ثقةً في أن صور التنظيم غير الملائمة لن تنفَّذ.

يعتبر إطلاق الصواريخ النووية مثالًا جيدًا على ذلك. في بدايات تصميمها، كان يطلق الصواريخَ النوويةَ أفرادُ طاقم موجود في محيط منصات إطلاق الصواريخ. كانت الأوامر تصدر إلى أفراد هذا الطاقم لإطلاق الصواريخ، وكان من المتوقع أن يقوموا بذلك. كانت القوانين، بالطبع، تدعم أوامر إطلاق الصواريخ، وكان عدم الإذعان إليها يُعرِّض أفراد الطاقم إلى محاكمة عسكرية.5
لكن عند اختبار النظام، وجد الجيش أن تنفيذ أوامر الإطلاق على هذا النحو لا يمكن الوثوق فيها بصورة متزايدة. كان قرار الإطلاق يخضع إلى السلطة التقديرية لفرد واحد، وكان على هذا الفرد اتخاذ قرار بما إذا كان يجب تنفيذ أمر الإطلاق أم لا. من الواضح أن هذا النظام أقل موثوقية من نظام تتصل فيه جميع الصواريخ بزر واحد على مكتب الرئيس. لكن ربما نجد قيمة في هذه المراجعة الثانية للقرار، في أن تنفيذ الأمر عبر عامل بشري مُتمثِّل في فرد يضمن التثبت من قرار الإطلاق.6

هذا أثر مهم للطبيعة الآلية للقيود التي يفرضها المعمار. تتحكم سلطة التقدير البشرية في قيود القانون والأعراف الاجتماعية والسوق. لا تنفَّذ اشتراطات هذه القيود إلا عندما يقرر شخص أو جماعة ما فعل ذلك، لكن آثار قيود المعمار تظهر بمجرد تفعيلها إلى أن يقوم شخص بإيقافها.

تعتبر الوكالة البشرية إذن فرقًا يميِّز بين أنماط التنظيم الأربعة، كما يعتبر توقيت القيد — أي الوقت الذي يتم فيه فرضه — فرقًا ثانيًا يميِّز بين الأنماط الأربعة.

يجب أن أفرِّق هنا بين منظورين مختلفين: منظور شخص يراقب تنفيذ فرض القيد (المنظور الموضوعي)، ومنظور شخص يتعرض لآثار القيد (المنظور الذاتي). لا يزال تناولي لأنماط التنظيم الأربعة حتى الآن مقتصرًا على المنظور الموضوعي. تختلف الأنماط الأربعة اختلافًا عظيمًا فيما بينها من المنظور الموضوعي، فيما لا تختلف على الإطلاق من المنظور الذاتي.

من المنظور الموضوعي، يتمثَّل الاختلاف بين القيود في اشتراط بعض القيودِ الدفعَ مقدمًا، بينما ثمة قيود تجعل المستفيدين يحصلون على الفائدة أولًا، ثم يدفعون مقابلها لاحقًا. يشترط قيدا المعمار والسوق الدفع أولًا، فيما يحصل المستفيدون على الفائدة أولًا مع قيدي القانون والأعراف الاجتماعية. على سبيل المثال، انظر إلى القيود التي تمنع دخولك إلى المنزل المكيَّف لجارك الذي ترك المنزل في عطلة نهاية الأسبوع. يقيِّد القانون من سلوك المواطنين، فإذا اقتحموا منازل الغير، فإنهم بذلك يتعدون على ملكيتهم. بالمثل، تُقيِّد الأعراف الاجتماعية سلوك الأفراد؛ إذ ليس من شيم الجيران أن يقتحموا بعضهم منازل بعض. في المقابل، يُفرَض هذان القيدان على الأفراد بعد اقتحام المنزل، ومن ثم يُدفَع الثمن لاحقًا.7 يتمثل قيد المعمار في قفل الباب الذي يمنع الدخول عند محاولة الاقتحام. يقيِّد السوق ملكية الأفراد لأجهزة التكييف بالطريقة نفسها؛ حيث يُشترط دفع المال أولًا قبل الحصول على جهاز تكييف. من منظور موضوعي، يتمثل ما يميِّز هاتين الفئتين من القيود في توقيت فرضهما؛ أي الوقت الذي يتم فيه توقيع العقوبة.

لكن من المنظور الذاتي، قد تختفي جميع هذه الاختلافات. ذاتيًّا، قد يشعر المرء بقيد الأعراف الاجتماعية قبل مخالفتها بوقت طويل. قد يشعر المرء بالقيد المفروض على اقتحام منزل جاره عند لحظة تفكيره في ذلك. قد يشعر المرء بوطأة القيد إذن موضوعيًّا «بعد وقوع الحدث»، لكنه يشعر به ذاتيًّا «قبل وقوعه».

لا يقتصر الأمر على الأعراف الاجتماعية فقط. فكِّر في الطفل والنار. تعتبر النار كودًا من أكواد الفضاء الواقعي. تُحَس الآثار المترتبة على القيد المفروض بمجرد مخالفته. يتعلَّم الطفل هذا في المرة الأولى التي يضع يده قرب اللهب. لاحقًا، يدرك الطفل النار كقيد قبل وضع يده في النار. بمجرد تعرض يده للحرق مرة واحدة، يتعلَّم الطفل ألا يضع يده قرب اللهب مرة أخرى.8

يمكن أن نصف هذا التغيير بأنه عملية تطوير لقيد ذاتي على سلوك الطفل. وبالمثل، يمكن أن نرى كيف يمكن تطبيق الفكرة نفسها على القيود الأخرى. فكِّر في البورصة. بالنسبة إلى من لا يتعاملون بها كثيرًا، قد تتمثل قيود السوق الوحيدة في القيد الموضوعي للسعر المطلوب عند القيام بعملية شراء. في المقابل، بالنسبة إلى من يتعاملون مع السوق بصورة مستمرة — هؤلاء ممن لديهم فيما يبدو إحساس بحركة السوق — تختلف قيود السوق كثيرًا. يعرف هؤلاء قيود السوق كطبيعة ثانية ترشد أفعالهم أو تقيدها. فكِّر في سمسار الأسهم في قاعة تداول الأسهم. حتى يصير المرء سمسارًا عظيمًا في البورصة يجب أن يعرف السوق «كظهر كفيه»؛ أي أن تكون طبيعة ثانية له. باستخدام المصطلحات التي أشرنا إليها، يجعل هذا السمسار الذي يعرف السوق كظهر كفيه من السوق جزءًا من هويته بصورة ذاتية.

يشتمل كل نمط من الأنماط التنظيمية إذن على جانب ذاتي، وآخر موضوعي. القوانين قيود موضوعية تنفذ بعد وقوع الحدث، لكن بالنسبة إلى معظمنا، فإن توجيه القانون لنا بطريقة معينة يجعل منه قيدًا ذاتيًّا (ليس التهديد الموضوعي بالحبس هو الذي يقيدني ويمنعني من التهرب الضريبي، بل أنا هو من جعل قيود القانون فيما يتعلق بالضرائب ذاتية. أقر بهذا بكل أمانة، يا دائرة ضرائب الدخل). كقيد ذاتي، يقيدنا القانون قبل أن نقدم على فعل أي شيء.

بالنسبة إلى مَن هم ناضجون تمامًا، أو مندمجون تمامًا في المجتمع، تعتبر جميع القيود الموضوعية ذاتية قبل قيامهم بأي أفعال. يشعر هؤلاء بقيود الفضاء الواقعي للكود، والقانون، والأعراف الاجتماعية، والسوق قبل أن يقدموا على أي شيء. على الجانب الآخر، بالنسبة إلى من هم غير ناضجين على الإطلاق، أو من يشعرون بغربة كاملة، لا تمثل سوى حفنة قليلة من القيود الموضوعية قيودًا ذاتية على أفعالهم. يتهور هؤلاء في أفعالهم ولا يعلمون شيئًا عن القيد إلا عند اصطدامهم به. إنهم يسرقون الخبز ثم يعرفون عندها عقوبات القانون. يذهبون إلى حفلات الزفاف في ملابس قصيرة غير رسمية وعندها فقط يرون ازدراء أصدقائهم لهم. ينفقون أموالهم كلها على ملذاتهم وفقط عندها يرون قيد الندرة في السوق. هذان النوعان من البشر يمثلان طرفي النقيض، فيما يقع معظمنا في مكان ما في المنتصف.

كلما كان القيد أكثر ذاتية، إذن، كان أكثر فعالية في تنظيم السلوك. يتطلب الأمر مزيدًا من الجهد لجعل القيد ذاتيًّا. يجب أن يقرر المرء أن يجعل القيد جزءًا من هويته. وبقدر ما يصبح العرف الاجتماعي ذاتيًّا، فإنه يقيد السلوك الذي ينظمه في وقت الإقدام عليه.

يشير هذا إلى تفرقة أخيرة بين القانون والأعراف الاجتماعية، من جانب، وكود الفضاء الواقعي، من جهة أخرى. يصبح القانون والأعراف الاجتماعية أكثر فعالية كلما صارا أكثر ذاتية، على أنهما يحتاجان إلى أقل قدر من الذاتية حتى يصيرا فعَّالين. يجب أن يعرف الشخص الخاضع للقيد بوجود القيد من الأساس؛ فلن يكون القانون الذي يعاقب الناس في سرية على مخالفات لا يعرفون بوجودها قانونًا فعَّالًا في تنظيم السلوك الذي عاقب عليه.9

لكن لا ينسحب الأمر نفسه على المعمار كقيد. قد يقيِّد المعمار السلوك دون أن يكون ذاتيًّا. يقيِّد القفل سلوك اللص سواء علم اللص أم لا أن قفلًا يحول دون دخوله. تَحول المسافة بين مكانين إجراء حوار بين مَن هم في هذين المكانين، سواء أكان مَن في هذين المكانين يعرفون طبيعة هذا القيد أم لا. هذه النقطة نتيجة ملازمة لنقطة الوكالة؛ فمثلما لا يوجد ضرورة في أن يفرض القيد من خلال وكيل ما، لا ضرورة أيضًا في أن يعرف الشخص الذي يتعرض للقيد بوجود هذا القيد.

تؤدي قيود المعمار، إذن، وظيفتها سواء علم من يخضع لها بوجودها أم لا، بينما لا يؤدي القانون والأعراف الاجتماعية وظيفتهما إلا إذا علم من يخضع لهما بوجودهما. إذا تبنى الشخصُ القانونَ والأعراف الاجتماعية في نفسه بحيث يصيران جزءًا لا يتجزأ من سلوكه، فسيقيد القانون والأعراف الاجتماعية سلوكه، سواء أكانت تكاليف الالتزام تتخطى فوائد عدم الانصياع أم لا. يصير القانون والأعراف الاجتماعية مثل الكود في طريقة تنظيمهما كلما صارا جزءًا لا يتجزأ من سلوك الأفراد، على أن هذه العملية تحتاج إلى بذل الجهد.

على الرغم من أنني استعنت بلغة تشبه لغة المصممين المعماريين، فإنها ليست مماثلة لها؛ فقد قمتُ بسرقة لغتهم وليِّ طرائق تعبيرهم. لستُ عالمًا متخصصًا في العمارة، لكنني استعرت من العمارة استبصاراتها فيما يتعلق بالعلاقة بين البيئة المُنشأة والممارسات التي تنشأ عن هذه البيئة.10 لا أَعتبر أنا ولا المعماريون هذه العلاقة نهائية؛ فالبناء س لا يحدد السلوك ص، بل تتغير التأثيرات باستمرار، وعندما تتغير فإنها تغيِّر من السلوك الذي يتأثر بها.
مثل مايكل سوركين أعتقد أن «المعاني تكمن في الأشكال، وأن أعراف الحياة الاجتماعية قد تساعد في تحققها.» يشير كتابه «الكود المحلي: دستور مدينة تقع على دائرة عرض ٤٢ شمالًا» إلى كل سمة في النموذج الذي أتناوله، بما في ذلك اللبس بين القانون والمعمار (بناء الأكواد) وبين الدستور الذي يمكنه كلاهما. يرى سوركين أنه أيًّا ما كان مصدر محتوى هذه الأكواد، فإن «الآثار المترتبة عليها تُبنى»،11 وهذه هي الخاصية التي يجب التركيز عليها.

يتمثل طرحي في أننا لو قارنا الوسائل التنظيمية المختلفة — إذا فهمنا كيف تعمل الأنماط التنظيمية المختلفة وكيف تخضع إلى القانون — فسنرى كيف تُبنى الحرية، لا من خلال القيود التي نفرضها على القانون، بل من خلال الهياكل التي تحفظ مساحة للاختيار الفردي، مهما كان ذلك الخيار مقَيَّدًا.

إننا على وشك الدخول إلى عصر تبلغ فيه سلطتنا في التعامل مع الهياكل المنظِّمة ذروتها، ومن الضرورة بمكانٍ، إذن، أن ندرك ما يمكننا أن نفعله بهذه السلطة، بل والأهم من ذلك ما لا نفعله بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤