الفصل الأول

الكود هو القانون

منذ ما يقرب من عقدين — في ربيع عام ١٩٨٩ — ماتت الشيوعية في أوروبا؛ إذ تهاوت كخيمة اقتلع عامودها. لم تكن النهاية بسبب حرب أو ثورة، بل كانت النهاية بسبب الإجهاد. ولد نظام سياسي جديد مكانها في أوروبا الوسطى والشرقية، وكانت تلك بداية مجتمع سياسي جديد.

بالنسبة إلى مؤيدي النظام الدستوري (مثلي) كانت تلك أوقاتًا زاخرة بالأحداث. كنت قد تخرجت في كلية الحقوق عام ١٩٨٩، وفي عام ١٩٩١ بدأتُ التدريس في جامعة شيكاجو. في ذلك الوقت كان في شيكاجو مركز مخصص لدراسة الديمقراطيات الناشئة في أوروبا الوسطى والشرقية، وكنت عضوًا في هذا المركز. وعلى مدار السنوات الخمس التالية أمضيت ساعات على متن الطائرات وأصباحًا أشرب فيها القهوة الرديئة أكثر مما أتذكر.

امتلأتْ أوروبا الوسطى والشرقية بالأمريكيين الذين ما فتِئوا يعلِّمون الشيوعيين السابقين السبل التي ينبغي أن يكون عليها الحكم. كانت النصائح بلا سقف، وكانت سمجة، بل باع بعض هؤلاء الزائرين نسخًا مترجمة من الدساتير للجمهوريات الدستورية الناشئة، فيما كان للبقية منهم فِكَر غير مختمرة لا حصر لها حول سبل حكم الأمم الوليدة؛ فقد جاء هؤلاء الأمريكيون من أمة بدا أن النظام الدستوري نجح فيها، لكنهم لم يعرفوا سببًا لذلك.

لم تكن مهمة المركز هي تقديم المشورة على أي حال؛ فلم نكن نعلم الكثير لإرشاد الآخرين. بل كان هدفنا هو متابعة وجمع البيانات المتعلقة بعمليات الانتقال وكيفية سيرها. أردنا فهم التغيير لا توجيهه.

ما رأيناه كان مذهلًا، إن أمكن فهمه من الأساس. امتلأت تلك اللحظات الأولى بعد انهيار الشيوعية بمشاعر مناهضة للحكومة؛ فورة من الغضب تجاه الدولة وتجاه الضوابط التنظيمية التي تضطلع بها الدولة. «اتركونا وشأننا» كذا كان لسان حال الناس. دعوا السوق والمنظمات غير الحكومية مجتمعًا جديدًا يحل محل الحكومة. بعد أجيال من الشيوعية، كانت ردة الفعل هذه متوقعة تمامًا. كانت الحكومة هي الديكتاتور. فأي تَوافقٍ يمكن أن تقيمه مع أداة قمعك؟

لقد بدا للكثيرين أن نمطًا ما من الليبرتارية (مذهب سياسي فلسفي من أولوياته الحفاظ على الحرية الفردية وتقليص القيود المفروضة على الفرد من قبل الدولة قدر المستطاع) هو الذي يدعم جزءًا كبيرًا من ردة الفعل هذه. فإذا انتصر السوق، وأُقصيت الحكومة بعيدًا، فإن الحرية والرخاء سينموان لا محالة، وستجري الأمور على نحو صحيح من تلقاء نفسها؛ فلم تكن هناك حاجة — ولا مكان — للتنظيم الشامل من قبل الدولة.

لكن الأمور لم تجرِ على نحو صحيح من تلقاء نفسها؛ فلم تنتعش الأسواق، وكانت الحكومات مكبَّلة — والحكومات المكبَّلة ليست عادةً إكسيرًا للحرية — ولم تختفِ السلطة؛ فقد انتقلت من الدولة إلى المافيا التي عادة ما كانت من صنع الدولة. لم تختفِ كذلك الحاجة إلى الوظائف التقليدية للدولة — مثلما هو الحال في الشرطة والمحاكم والمدارس والرعاية الصحية — كما لم يتطور القطاع الخاص بحيث يلبي هذه الحاجات. بدلًا من ذلك كله، لم يتم تلبية الحاجات: تبخر الأمن، وحلَّت فوضى حديثة ثقيلة الحركة محل الشيوعية الباهتة التي سادت عبر الأجيال الثلاثة السابقة؛ سطعت أضواء النيون في إعلانات نايكي، وتم الاحتيال على المتقاعدين بالاستيلاء على مدخراتهم طوال العمر من خلال صفقات غير شريفة لشراء الأسهم، وكان يتم قتل المصرفيين في وضح النهار في شوارع موسكو. حلَّ نظامٌ للتحكم محل نظام آخر، ولم ينطبق على أي من النظامين الوصف الغربي لمفهوم «الحرية».

•••

منذ ما يقرب من عقد — في منتصف تسعينيات القرن العشرين — وفي الوقت الذي بدأت فيه نشوة ما بعد الشيوعية في الخمود، بدأ يبزغ في الغرب «مجتمع جديد» آخر، رآه عديدون مجتمعًا يتساوى في الإثارة مع المجتمعات الجديدة الموعودة في أوروبا ما بعد الشيوعية. كان ذلك هو الإنترنت أو، كما سأوضح بعد قليل، «الفضاء الإلكتروني». أولًا في الجامعات ومراكز البحوث، ثم في المجتمع بصورة عامة، صار الفضاء الافتراضي هدفًا جديدًا للمثالية الليبرتارية. «هنا» سنتحرر من الدولة، وإذا لم نجد المجتمع الليبرتاري المثالي في موسكو أو تبليسي، فسنجده هنا.

لم يكن الدافع إلى التغيير مخططًا أيضًا؛ فمثلما ولد الفضاء الإلكتروني من رحم أحد مشروعات وزارة الدفاع البحثية،1 فقد نشأ أيضًا من خلال عملية إزاحة غير مخططة لمعمارية تحكم معينة. فشبكة الهواتف غير المجانية ذات الاستخدام الواحد حلَّت محلها شبكة بيانات الرزم المحولة المجانية ذات الاستخدامات المتعددة. من ثم فقدْ تكامَل مع معماريات النشر القديمة ذات العلاقة «من الرأس إلى الأطراف» (مثل: التليفزيون والراديو والصحف والكتب) عالمٌ يمكن لكل من فيه أن يكون ناشرًا؛ حيث يستطيع الناس التواصل والتصادق على نحو لم يأتوه من قبل قط. بدا الفضاء منبئًا بنوع من الاجتماع ما كان الفضاء الواقعي ليسمح به قط؛ حرية دون فوضى، وتحكم دون حكومة، وإجماع دون سلطة. وذلك ما جاء في كلمات بيان يحدد إطار هذا العالم المثالي: «نحن نرفض: الملوك والرؤساء والتصويت، ونحن نؤمن: بالإجماع شبه الكامل، وبكود تنفيذي.»2
ومثلما هو الحال في أوروبا ما بعد الشيوعية، ربطت هذه الفِكَر الأولى عن الحرية في الفضاء الإلكتروني الحرية باختفاء الدولة. وكما أعلن جون باري بارلو، الشاعر الغنائي السابق لفريق «جريتفول ديد» والمؤسس المشارك لمؤسسة الحدود الإلكترونية في «إعلان استقلال الفضاء الإلكتروني»:

يا حكومات العالم الصناعي، يا عمالقة بالين من لحم وفولاذ، آتي إليكم من الفضاء الإلكتروني، الموطن الجديد للعقل. باسم المستقبل أسألكم يا من تنتمون للماضي أن تدعونا وشأننا؛ لا حللتم أهلًا ولا نزلتم سهلًا؛ ولا سلطان لكم حيث نجتمع.

لكن هنا قيل إن الارتباط بين الحرية وغياب الدولة أكثر قوة منه في أوروبا ما بعد الشيوعية. فدعوى الفضاء الإلكتروني لم تقتصر فقط على مطالبة الحكومة بعدم تنظيم الفضاء الإلكتروني، بل بأن الحكومة «لم تكن تستطيع» تنظيم الفضاء الإلكتروني من الأساس. كان الفضاء الإلكتروني يتسم بطبيعته بالحرية الشديدة؛ فالحكومات تستطيع تهديده ولكنها لا تستطيع التحكم في السلوك فيه، كما يمكن تمرير القوانين ولكن لا يكون لها أثر في واقع الحال. لم يكن هناك خيار حول نوع الحكومة المطلوبة؛ فلا توجد حكومة تقدر على أن تمتلك زمام الأمور. إن الفضاء الإلكتروني مجتمع من نوع خاص للغاية. سيكون هناك وضع للحدود، وتحديد للاتجاهات، لكن ذلك سيتشكل تدريجيًّا من أسفل إلى أعلى. سيكون مجتمع الفضاء الإلكتروني مجتمعًا ذاتي التنظيم بصورة كاملة، فلا أثر للحكَّام فيه ولا وجود لأفَّاقي السياسة.

قمتُ بالتدريس في وسط أوروبا خلال فترات الصيف في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وشهدتُ من خلال طلابي التحول في المواقف تجاه الشيوعية كما أوضحت سابقًا؛ لذا فقد شعرت وكأن الزمن يعيد نفسه في ربيع عام ١٩٩٥ — أثناء تدريس قانون الفضاء الإلكتروني — عندما شاهدتُ في طلابي نفس فِكَر ما بعد الشيوعية عن الحرية ودور الحكومات. حتى جامعة ييل — التي لا يُعرف عنها كثيرًا ميولها الليبرالية — بدا الطلاب فيها منتشين جراء ما أطلق عليه جيمس بويل لاحقًا «صرخات الانتصار العلنية لليبرالية المتطرفة»؛3 حيث لا تستطيع الحكومات الاستمرار دون ثروات الإنترنت في الوقت الذي لا تستطيع فيه الحكومات السيطرة على الحياة التي تجري هناك. تصير حكومات العالم الحقيقي مثيرة للشفقة كنماذج لآخر الأنظمة الشيوعية. كان الواقع تجسيدًا لأفول الدولة التي وعد بها ماركس، وقد أُلقي بها خارج الوجود من خلال تريليونات البِتات التي تنتقل بسرعات فائقة عبر أثير الفضاء الإلكتروني.
وفي المقابل، لم يكن واضحًا على الإطلاق وسط كل هذا الصخب السبب وراء عدم القدرة على تنظيم الفضاء الإلكتروني. ماذا جعله على هذا النحو؟ إن الكلمة ذاتها توحي بالسيطرة لا الحرية. فأصل الكلمة يتجاوز رواية كتبها ويليام جيبسون («نيورومَنسر»، نُشرت عام ١٩٨٤) إلى عالم «علم التحكم الآلي»؛ وهو علم دراسة التحكم عن بُعد من خلال الأجهزة؛4 لذا كانت الحيرة مضاعفة حين ترى الاحتفاء بالحرية الكاملة تحت لافتة تطمح — على الأقل بالنسبة إلى هؤلاء الذين يعرفون أصل الكلمة — إلى تحقيق السيطرة الكاملة.

كما ذكرت، أنا دستوري؛ فأنا أُدرِّس وأكتب عن القانون الدستوري، كما أومن أن هذه الفِكَر الأولى عن الحكومة والفضاء الإلكتروني كانت فِكَرًا غير منضبطة تمامًا مثلما كانت الفِكَر الأولى عن الحكومة في مرحلة ما بعد الشيوعية. إن الحرية في الفضاء الإلكتروني لن تأتي من خلال غياب الدولة، بل ستأتي الحرية هناك، كما هي في أي مكان، من خلال دولة ذات طبيعة خاصة. إننا نبني عالمًا تزدهر فيه الحرية لا من خلال التخلص من أي شكل من أشكال السيطرة الواعية من المجتمع، ولكن من خلال بنائها في موضع يوجد فيه نوع ما من السيطرة الذاتية الواعية. إننا نبني الحرية، كما فعل أسلافنا، بتأسيس مجتمعنا على «دستور» محدد.

لستُ أعني بكلمة «دستور» نصًّا قانونيًّا. على خلاف كثير من أبناء جلدتي في شرق أوروبا في أوائل تسعينيات القرن العشرين، لا أحاول أن أُسوِّق وثيقة كتبها أسلافنا في عام ١٧٨٧. بالأحرى، أتحدث — كما يدرك البريطانيون عندما يتحدثون عن «دستورهم» — عن إطار عام، لا نص قانوني فحسب، بل أسلوب حياة يضع إطارًا، ويحدد السلطات الاجتماعية والقانونية بغرض حماية القيم الأساسية. (سألني أحد الطلاب: «هل هو «دستور» بمعنى كونه أداة ضمن عدة أدوات أخرى، وسيلة إنارة كاشفة تجنبنا التخبط في الظلام، أو بعبارة أخرى … أشبه بمنارة نهتدي بها دومًا؟» وأنا أعني بالدستور منارة؛ مرشدًا نهتدي به لترسيخ القيم الأساسية.)

والدساتير بهذا المعنى يتم بناؤها لا اكتشافها. فالمؤسسات تُبنى ولا تظهر هكذا بطريقة سحرية. وكما تعلَّم أسلافنا من خلال الفوضى التي تلت الثورة (تذكَّر: كان دستورنا الأول — الوثائق الكونفدرالية — فشلًا ذريعًا لم يثمر عن شيء)، نكاد نبدأ أيضًا في إدراك أن الفضاء الإلكتروني — هذا المبنى، أو حجر الأساس — ليس عملًا من أعمال يد خفية. فلا يوجد في واقع الأمر سببًا للاعتقاد بأن أساس الحرية في الفضاء الإلكتروني سيظهر هكذا من العدم، بل في الواقع، خفُتت حدة تلك الفوضى مثلما كان الحال في أمريكا بنهاية ثمانينيات القرن الثامن عشر وفي الكتلة الشرقية الأوروبية السابقة في نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرين. من هنا، ومثلما تعلَّم أسلافنا — وكما رأى الروسيون أنفسهم — لدينا من الأسباب الموضوعية للاعتقاد بأن ترك الفضاء الإلكتروني دون أي تدخل لن يحقق وعد الحرية. فبدون تدخل سيصبح الفضاء الإلكتروني وسيلة مثالية للسيطرة.

السيطرة. لكن السيطرة لا تعني سيطرة الحكومة بالضرورة ولا سيطرة لأغراض شريرة فاشية. يتمثل الطرح المحوري لهذا الكتاب في أن اليد الخفية للفضاء الإلكتروني تضع إطارًا عامًّا مناقضًا تمامًا من إطار الفضاء الإلكتروني عند ميلاده؛ فاليد الخفية — التي تحركها الحكومة والتجارة — تضع إطارًا عامًّا يسمح بالسيطرة الكاملة، كما يجعل عملية التنظيم الفعَّالة للغاية ممكنة. لن تكون المعركة في هذا العالم معركة الحكومة، بل ستهدف المعركة إلى ضمان بقاء الحريات الأساسية في هذه البيئة تحت السيطرة الكاملة. وكما أشار سيفا فايديناثان:
بينما كان واضحًا، بل كان من السهولة بمكانٍ الإعلان عن بزوغ نجم «مجتمع شبكي» يستطيع فيه الأفراد إعادة تنظيم علاقاتهم، وتمكين أنفسهم، وتقويض الأساليب التقليدية للسيطرة الاجتماعية والثقافية، يبدو الآن جليًّا أن عمليات الاتصال الرقمية عبر الشبكات لا تخدم هذه الأغراض التحررية بالضرورة.5

يدور هذا الكتاب حول التحول من فضاء إلكتروني فوضوي إلى فضاء إلكتروني خاضع للسيطرة. عندما نرى المسار الذي يسلكه الفضاء الإلكتروني حاليًّا — وهو تطور أناقشه لاحقًا في الجزء الأول — نرى أن كثيرًا من «الحرية» التي كانت موجودة في الفضاء الإلكتروني عند نشأته لن تكون هناك في مستقبله. كما لن تستمر القيم التي كانت تعتبر أساسية. وعبر المسار الذي اخترناه سنعيد الفضاء الإلكتروني سيرته الأولى. جزء من هذه العودة ستسعد الكثيرين منا، لكن جزءًا آخر منها — كما أرى — ستجعلنا جميعًا نادمين.

على أي حال، سواء كنت تحتفي للتحولات التي سأشرحها لاحقًا أو تأسف لها، من الأهمية القصوى بمكان استيعاب كيف تحدث هذه التحولات، وما هي العوامل التي ساعدت على توفير «الحرية» في الفضاء الإلكتروني، وماذا سيتغير عند توفير الحرية مرة أخرى إلى الفضاء الإلكتروني؟ هذا الدرس سيفضي إلى درس آخر حول مصدر التنظيم في الفضاء الإلكتروني.

هذا الفهم هو الهدف الأساسي للجزء الثاني. يتطلب الفضاء الإلكتروني فهمًا جديدًا للطريقة التي يعمل بها التنظيم، فهو يجبرنا على النظر بصورة أعمق من نظرة المحامي التقليدية؛ أي أعمق من القوانين أو حتى القواعد المستقرة. فهو يتطلب تفسيرًا أوسع لمعنى «التنظيم»، بل والأهم من ذلك الاعتراف بوجود منظم مهيمن جديد.

هذا المنظِّم هو الشيء المبهم المذكور في عنوان هذا الكتاب: الكود. ففي الفضاء الواقعي، نعرف كيف تقوم القوانين بعملية التنظيم من خلال الدساتير والتشريعات ومجموعات القوانين. أما في الفضاء الإلكتروني، فيجب أن نفهم كيف يقوم «كود» مختلف بعملية التنظيم، كيف تقوم البرمجيات والأجهزة (أي «كود» الفضاء الإلكتروني) التي تشكل معًا ماهية الفضاء الإلكتروني بتنظيم الفضاء الإلكتروني كما هو. وكما قال ويليام ميتشل: هذا الكود هو «قانون» الفضاء الإلكتروني،6 أو بعبارة جول ريدنبرج: «قانون عالم المعلوماتية»،7 أو ربما بعبارة أفضل: «الكود هو القانون.»

يشعر المحامون والمنظِّرون القانونيون بالضيق عندما أردد هذا الشعار؛ فهناك، كما يصرُّون، فروق بين الآثار التنظيمية التي تنشأ عن تطبيق الكود والآثار التنظيمية التي تنشأ عن تطبيق القانون، وربما يتمثل أهم هذه الفروق في «المنظور الداخلي» الذي يصاحب كل نوع من التنظيم. نحن نفهم المنظور الداخلي لعملية التنظيم القانوني؛ حيث تعتبر القيود التي يفرضها القانون — على سبيل المثال على مدى حرية إحدى الشركات في تلويث البيئة — هي نتاج عملية تنظيم واعية تعكس قيم المجتمع الذي يفرض مثل هذا التنظيم. في المقابل، يصعُب تمييز هذا المنظور في حالة الكود. قد يكون ذلك المنظور متوافرًا وربما لا، ومما لا شك فيه أن هذا ليس سوى فرق واحد ضمن فروق كثيرة بين «الكود» و«القانون».

لا أنكر وجود مثل هذه الفروق، لكنني أؤكد أننا سنتعلم شيئًا مفيدًا إذا ما تجاهلنا هذه الفروق لبرهة. من المعروف أن القاضي هولمز جعل تركيز المُشرِّع على «الرجل السيئ»؛8 حيث قدَّم نظرية تشريعية وضعت «الرجل السيئ» في القلب منها. لم يكن القاضي هولمز يقصد من وراء ذلك أن كل إنسان هو بطبيعته «رجل سيئ»، لكن كان المقصود هو أفضل السبل لإقامة نُظم ضابطة.

وهذا هو ما أقصده تمامًا هنا. سنتعلم شيئًا ما إذا ما فكرنا في نظرية تنظيم قائمة على فكرة «الرجل الطفيلي»؛ أي تلك التي تركز على الكود المنظِّم. بعبارة أخرى، سنتعلم شيئًا مهمًّا إذا ما تخيَّلنا أن الهدف من عملية التنظيم هو تعظيم الإمكانات، وتأملنا السبل المتاحة للمنظِّم التي تمكنه من السيطرة على هذه الآلة.

سيكون الكود أداة مركزية في هذا التحليل؛ حيث سيمثل التهديد الأعظم للمُثل الليبرالية والليبرتارية على حد سواء، فضلًا عن كونه أعظم وعودهما المُبشِّرة. نحن قادرون على أن نبني أو نضع إطارًا عامًّا — أو كودًا — للفضاء الإلكتروني بغرض حماية القيم التي نؤمن أنها قيم أساسية؛ أو ربما في المقابل نبني أو نضع إطارًا عامًّا — أو كودًا — للفضاء الإلكتروني تجعل هذه القيم تختفي. لا يوجد حل وسط. لا يوجد خيار لا يتضمن نوعًا ما من البناء. لا يتم اكتشاف الكود أبدًا، بل إنه يصنع دائمًا، ولا يصنعه أحد سوانا. وكما يقول مارك ستيفك: «تدعم نسخ مختلفة من [الفضاء الإلكتروني] نسخًا مختلفة من الأحلام. ونحن نختار بحكمة أو بدون حكمة»،9 أو، مرة أخرى، الكود «يحدد مَن مِن الأشخاص يستطيع الحصول على أي من البيانات الرقمية … كم من عمليات البرمجة تنظِّم التفاعلات بين البشر … كل ذلك يعتمد على الاختيار»،10 أو، بصورة أكثر دقة، سيتم بناء كود للعالم الإلكتروني يحدد الحريات والقيود فيه. لا مجال للشك في ذلك، لكن يظل السؤال: من سيضع الكود؟ وأي القيم سيمثلها؟ هذا هو الخيار الوحيد الذي تبقى لنا.
لا أدعو في طرحي هذا إلى نوع من السيطرة من أعلى إلى أسفل، ولا أزعم بأي حال من الأحوال أن على المنظِّمين أن يحتلوا مايكروسوفت؛ فالدستور يضع تصورًا لبيئة ما، وكما قال القاضي هولمز: «يستحضر الدستور إلى الوجود كيانًا [لم يكن ممكنًا] تصوره.»11 من هنا، لا يعني الحديث عن الدستور الحديث عن خطة مائة يوم، بل الهدف تحديد القيم التي يجب على فضاء ما أن يضمنها، ولا يعني الحديث عن الدستور أيضًا وصف طبيعة «حكومة»، ولا هو أيضًا الاختيار (كما لو أن المرء لا بد أن يستقر على خيار وحيد فقط لا غير) بين سيطرة من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل. في الحديث عن الدستور في الفضاء الإلكتروني نسأل ببساطة الأسئلة التالية: ما القيم التي يجب حمايتها هناك؟ وما القيم التي يجب بناؤها في الفضاء؟ ولدعم أي شكل من أشكال الحياة؟

إن «القيم» محل النظر هنا هي قيم من نوعين: قيم موضوعية، وقيم شكلية. وفق التقاليد الدستورية الأمريكية، انصب اهتمامنا الأكبر على النوع الثاني بالأساس؛ فقد ركز أسلافنا الذين صاغوا دستور عام ١٧٨٧ (والذي تم اعتماده دون وثيقة حقوق) على شكل الحكومة؛ حيث كان هدفهم ضمان عدم امتلاك حكومة محددة (الحكومة الفيدرالية) سلطات مفرطة؛ لذا قاموا بوضع الضوابط في الدستور على سلطات الحكومة الفيدرالية، كما وضعوا حدودًا لسلطاتها على الولايات.

أما معارضو ذلك الدستور فقد أصروا على وجود المزيد من الضوابط، وعلى ضرورة فرض قيود موضوعية وشكلية على سلطات الحكومة، ومن هنا ولدت وثيقة الحقوق. وبعد التصديق عليها في عام ١٧٩١، بشَّرت وثيقة الحقوق بأن الحكومة الفيدرالية لن تتمكن من قمع حريات وحقوق بعينها؛ وهي: حرية التعبير، والحق في الخصوصية، والحق في المحاكمة العادلة، كما ضمنت الوثيقة الالتزام بهذه القيم الموضوعية بغض النظر عن أهواء الحكومات المعتادة أو العادية. ترسخت هذه القيم — الموضوعية والشكلية على حد سواء — في بنية دستورنا. يمكن تغيير هذه القيم، لكن فقط من خلال عملية شديدة الصعوبة وعالية التكلفة.

نواجه الأسئلة نفسها في وضع دستور للفضاء الإلكتروني، لكننا تناولنا الأمر من الجهة المعاكسة.12 فنحن نناضل بالفعل مع الجانب الموضوعي في وضع الدستور: هل يَعدُ الفضاء الإلكتروني بتحقيق الخصوصية أم يوفر الإتاحة؟ وهل سيؤدي إلى شيوع ثقافة حرية أم ثقافة حق مرور؟ هل سيحتفظ الفضاء الإلكتروني بمساحة لحرية التعبير؟ هذه هي الخيارات ذات القيمة الموضوعية، وهي موضوع معظم ما في هذا الكتاب.

في المقابل، ليست الأمور الشكلية أقل أهمية، على الرغم من أننا لم نبدأ بعد باستيعاب كيف نَحد من السلطات التنظيمية التعسفية أو ننظِّمها، وما هي «الضوابط والتوازنات» الممكنة في هذا الفضاء، وكيف يمكن الفصل بين السلطات، وكيف يمكن ضمان أن منظِّمًا واحدًا — أو حكومة واحدة — لن يستحوذ على سلطات مفرطة، وكيف نضمن أن الحكومة تتمتع بسلطات كافية.

لا يزال منظِّرو الفضاء الإلكتروني يتداولون هذه الأسئلة منذ ميلاده.13 وبصفة عامة، لا نزال في بداية تفهُّم الأمر. وبينما نفهم تدريجيًّا كيف تؤثر أطر عامة مختلفة داخل الفضاء الإلكتروني علينا — كيف تؤثر أطره العامة، بمعنًى سأقوم بتحديده لاحقًا، على «تنظيم» ذواتنا — نبدأ في التساؤل تدريجيًّا حول كيفية تحديد هذه الأطر. قام ببناء الجيل الأول من هذه الأطر قطاع غير تجاري يتمثل في الباحثين وقراصنة الإنترنت الذين يركزون على بناء شبكات. أما الجيل الثاني فقد قام ببنائه القطاع التجاري، وأما الجيل الثالث — الذي لا يزال في طور التشكُّل — فقد يكون نتاج الحكومة. أي المنظِّمين نفضلهم؟ وأي المنظِّمين يجب السيطرة عليهم؟ كيف يمارس المجتمع السيطرة على كيانات تسعى إلى السيطرة عليه؟

في الجزء الثالث، أطرح هذه الأسئلة مرة أخرى بصورة أكثر واقعية؛ حيث أتناول ثلاثة مجالات محل جدل — وهي: الملكية الفكرية، والخصوصية، وحرية التعبير — كما أقوم بتحديد القيم التي سيغيرها الفضاء الإلكتروني في إطار كل مجال. هذه القيم هي في واقع الحال نتاج عملية التفاعل بين القانون والتكنولوجيا. وكثيرًا ما تسير الطريقة التي يتم بها هذا التفاعل على نحو غير منطقي. أهدف من خلال هذا الجزء إلى وضع خارطة لهذا التفاعل، بحيث أرسم طريقًا قد يمكِّننا — عن طريق الاستعانة بالأدوات المذكورة في الجزء الثاني — من الحفاظ على القيم المهمة بالنسبة إلينا كلٌّ في سياقها.

في الجزء الرابع، يتسع مجال الأسئلة فيشمل البعد الدولي. يوجد الفضاء الإلكتروني في كل مكان، بما يعني أن من يسكنون الفضاء الإلكتروني يأتون من كل حدب وصوب. كيف ستتعايش سيادة كل جهة مع «السيادة» المزعومة للفضاء الإلكتروني؟ أرسم مسارًا في هذا الجزء للإجابة عن هذا السؤال، وهي إجابة تبدو لي حتمية تعضد من الاستنتاج الختامي في الجزء الأول.

أما الجزء الأخير — الجزء الخامس — فهو الأكثر تشاؤمًا. يتمثل الدرس الأساسي لهذا الكتاب في أن الفضاء الإلكتروني يتطلب اتخاذ قرارات؛ بعضها خاص، وبعضها يجب أن يكون كذلك؛ منها: قرار مؤلف بإنفاذ حقوق التأليف والنشر الخاصة به، وسبل حماية المواطن لخصوصيته. وفي المقابل، هناك من هذه القرارات ما يتضمن قيمًا جماعية. وأنتهي بالسؤال عما إذا كنا نحن — أقصد الأمريكيين — نرقى إلى مستوى التحديات التي تأتي نتيجة هذه القرارات. هل نستطيع الاستجابة بعقلانية، وهو ما يعني: (١) هل نستطيع الاستجابة دون عاطفة مفرطة أو غير منضبطة؟ و(٢) هل لدينا من المؤسسات القادرة على استيعاب هذه التحديات والاستجابة إليها؟

إن حدسي يخبرني أننا لا نستطيع — على الأقل في الوقت الحالي — الاستجابة بعقلانية إلى هذه التحديات. إننا نمر بمرحلة في تاريخنا نحتاج فيها إلى اتخاذ قرارات جوهرية حول القيم، ولكننا لا يجب أن نثق في أي مؤسسة تابعة للحكومة لاتخاذ مثل هذه القرارات. لا يستطيع القضاء القيام بذلك؛ لأننا من منطلق الثقافة القانونية لا نرغب حقًّا في أن يكون القضاء فيصلًا في الاختيار بين الأمور الخلافية المتعلقة بالقيم. كما يجب ألا يقوم الكونجرس بذلك؛ لأننا من منطلق الثقافة السياسية نتشكك أيَّما شك (عن حق) في منتجات هذه الحكومة. هناك الكثير في تاريخنا وتقاليدنا ما يدعو إلى الفخر. لكن الحكومة الحالية حكومة فاشلة. لا يجب بأي حال من الأحوال أن نُودع ثقتنا فيها كي تتولى هي أمر شيء مهم، على الرغم من أن كل شيء في حقيقته مهم.

إن التغيير ممكن، ولا أشك أن الثورات لا تزال ممكنة في مستقبلنا، لكنني أخشى أنه من السهولة بمكان بالنسبة للحكومة، أو خاصة بالنسبة إلى أصحاب المصالح من ذوي النفوذ، أن تقتلع هذه الثورات اقتلاعًا، وأن حدوث أي تغيير حقيقي من شأنه أن يهدد هذه الكيانات. قامت حكومتنا بالفعل بتجريم المبدأ الأساسي لهذه الحركة؛ فتحوَّل معنى «قرصان» إلى معنًى يخالف كثيرًا معناه الأصلي. ومن خلال التطرف في تنظيم حقوق التأليف والنشر، صارت الحكومة تجرِّم الإبداع الأصلي الذي يمكن لهذه الشبكة أن تتمخض عنه. وليس ذلك سوى بداية.

يمكن أن تكون الأمور مختلفة، وهي مختلفة بالفعل في أماكن أخرى، لكنني لا أستطيع أن أرى كيف يمكن أن تكون مختلفة بالنسبة إلينا في الوقت الحالي. لا شك أن هذا اعتراف بقصور خيالي، وآمُل أن أكون مخطئًا. آمُل أن أشاهد بينما نتعلم مجددًا — مثلما يتعلم مواطنو الجمهوريات الشيوعية السابقة — كيف نتملَّص من هذه الفِكَر المكبِّلة حول الاحتمالات الواعدة للحوكمة. في المقابل، لا يوجد خلال العقد الأخير — خاصة في السنوات الخمس السابقة — ما يقنعني بأن تشككي في الحوكمة كان في غير محله. بل في الواقع، لم تَزد الأحداث تشاؤمي إلا رسوخًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤