الفصل العاشر

زحف شاور بجيشه إلى القاهرة، ومعه ابناه: «طي»، و«شجاع»، وكان الجيش لُهامًا خضمًّا، خطب فيه شاور خطبة ضافية مثيرة، ودعاه إلى إنقاذ الخلافة الفاطمية من أيدي الأرمن الغاصبين، وبعد فترة طويلة أشرف على أرباض القاهرة.

علمت سيدة القصور بتحرك جيش شاور من قوص، ونقل إليها أصحاب الأخبار مقدار قوته، وعدد رجاله، فلم تحرك ساكنًا؛ لأنها رأت أن في اختلاف اللصوص نجاة القافلة، ورأت في شاور أنه — على الرغم من جفوته، ويبس أخلاقه، وشرهه في حب المال — لا يزال عربيًّا. وعرضت الأمر على عمارة — وكان محبًّا لرزيك، صديقًا لشاور — فروّى في الحكم، وغم عليه وجه الصواب. فقالت له سيدة القصور: إني لا أوثر أحدهما على صاحبه، فكلاهما غاصب للدولة معتد على سلطتها، وأرى أن في معاضدة أحدهما زوالًا للخلافة، وأن الأمر لا يخلو من إحدى اثنتين: إما أن ينتصر من ساعدناه بجيوشنا، وإما أن ينهزم، فإن انتصر فلن يصل إلى النصر إلا بعد أن تكون جيوش القصر قد ضعفت، وقل عددها، وحينئذ نراه بعد أيام قد انقلب علينا واستلب عرشنا؛ لما يعلم من عجزنا عن مقاومته، وإما أن ينهزم وينتصر خصمه، وتلك الكارثة العظمى؛ لأن الخصم المنتصر لا يكتفي بهزيمة عدوه، بل يدفعه الانتقام إلى استلاب ملك مناصريه.

لا يا عمارة … يجب أن نقف من هذين الخصمين وقفة المشاهد، ولا نميل بجانب إلى واحد منهما، وأن نقول كما يقول العرب: الكلاب على البقر!! فاقتنع عمارة، وما هي إلا أيام حتى دخل شاور القاهرة، وفرّ رزيك إلى إطفيح، وتمكن منه شاور وقتله، ثم أعمل سيفه في آل رزيك، واستولى على أموالهم، ودخل على سيدة القصور فقابلته بخير ما يقابل به الفاتح العظيم، ونثرت فوقه ألقاب الشرف والبطولة، ودعت عمارة إلى مدحه، وولّاه الخليفة العاضد شئون الوزارة، واجتمع حفل عظيم بقاعة الذهب عند توليته أنشد فيه عمارة قصيدة رائعة.

استمر شاور في الوزارة، وكان جشعًا خبيثًا سفاكًا للدماء، فأغضب العامة والخاصة، وطالما نصحت له «باسمة» — التي أصبحت ولها أكبر مكانة في قصره — بالرفق، وصرف الناس عن التعلق بالخلافة بما يبذل من مال، وما ينشر من عدل، ولكنه لم يلق لها سمعًا؛ لأنه كان بطبعه جافًّا شريرًا سيئ التدبير، وكان أخوه «نجم» مسيطرًا عليه، فزاد حكمه فسادًا على فساد.

ضجّ أهل القاهرة من ظلم شاور وعسفه، فاجتمعت جموعهم، وتلاقت حشودهم عند باب زويلة، وكان زعيم الجمع ورئيسه الشيخ عبد الحكم الغفاري المدرس بجامع الحاكم، وكان جهير الصوت، قوي التأثير، فأخذ يرسل فيهم صوته بمخازي شاور، وإرهاقه الأمة بأنواع العسف والقوة الجائرة؛ حتى هاج كوامن أحقادهم، ثم دعاهم إلى السير إلى القصر الكبير، فساروا كالبحر المائج، وكان صياحهم: يا شاور ظلمت!! … يا شاور طغيت!! … الله الله فينا! … بالخليفة نستنجد!! وكانت النساء تطل من النوافذ يحيين الجموع بالأغاريد والدعاء، ولما قربوا من القصر أمرت سيدة القصور عمارة أن يخرج إليهم، ويهدئهم، ويكلمهم كلامًا عائمًا، ويعدهم ويمنيهم، وقد تم كل هذا، وأظهر عمارة براعة في اجتذاب الجموع إليه، وفي تسكين غيظهم من غير أن تند منه كلمة تغضب صاحب الحكم، أو تغضب الثائرين، وما زال بهم حتى تفرقوا مطمئنين مغتبطين.

وبعد يومين عقدت سيدة القصور مجلسًا بالقصر، حضره الأستاذون، ومؤتمن الخلافة، وضرغام بن عامر اللخميّ صاحب الباب، ورئيس الجنود البرقية، وتداول من بالمجلس فيما صارت إليه الأمور في عهد شاور من الفساد والعفن، ورأوا أنه لا بد من استئصال شأفته، وتطهير البلاد من شره.

وكان ضرغام فارس عصره، شجاعًا جميل الطلعة، أديبًا شاعرًا، فوقف وقال: يا سيدتي إن لدي من الجنود البرقية عشرة آلاف، وهي تكفي لمحو هذا الطاغية، ومحو عصابته، فقالت سيدة القصور: أني لا أقنع إلا برأس شاور.

خرج ضرغام وقضى أيامًا في إعداد جيشه في الخفاء، حتى إذا تمت أهبته، وثب فجاءة على شاور، فجمع شاور جيشه، ولكنه لم يستطع الوقوف أمام ضرغام، بعد أن ناصره أهل القاهرة، وجمع له الشيخ عبد الحكم جموعًا من أحياء العطوف، وبرجوان، والفرحية، والريحانية، فهُزم شاور، وقتل ضرغام ابنه طيا، وفرّ شاور بجيشه إلى الشام للاستنجاد بنور الدين محمود بن زنكي.

وعاد ضرغام إلى القاهرة فائزًا تدق أمامه الطبول، وترفع له الرايات، ووصل إلى القصر، وقابلته الأميرة مرحِّبة مهنئة، وولاه الخليفة الوزارة.

وكان ابن دخان في ذلك الوقت في داره، فالتفت إلى باسمة وقالت: لقد أكثرت من نصح شاور يا باسمة، ولكنه لم يسمع!!

– ما دام حيًّا فلن أفقد أملًا … إنه صِلٌّ مخادع يعرف متى يدخل جحره، ومتى يخرج منه، ويجب علينا أيضًا أن ندخل جحرنا الآن حتى تزول هذه العاصفة.

– أتظنين أن لشاور عودة؟؟

– إنه لما حزبه الأمر، وضايقه جيش ضرغام، دعاني فنصحت له بما يعمل، وقد استجاب لنصحي في هذه المرة.

– حسنًا … هلم ندخل جحرنا الآن لنعيش سعيدين متعانقين، فقد شغلتك المؤامرات عني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤