الفصل الثاني

خرج الحراني والنيلي والحقد يأكل قلبيهما، لما سمعاه من إطراء ابن مهدي صفات عمارة، وهما يعلمان ما لابن مهدي من عظيم التأثير والكلمة المسموعة عند محمد بن سبأ، وأنه إذا ظفر عمارة بمودتهما، بعد أن فاز عند أمير زبيد بعظم المكانة لم يأمنا شرّه.

وأسفا على أن طعناه، ونالا منه أمام صديقه الحضرمي، الذي سينقل إليه صورة ما دار بالمجلس كاملة وافية، إن لم يزد عليها كثيرًا من ألوان التحسين والتزويق.

بدأ الحراني الحديث قائلًا: ما العمل أبا الحسن؟! فقد زلق لساني، وتجاوزت حد الحزم في ثلب عمارة، وتمزيق عرضه؟!

إن عمارة اللئيم الداهية استطاع أن يحافظ على مذهبه السني، وأن يجتذب هؤلاء الفاطميين من ناحية، ورؤساء زبيد من ناحية أخرى. حقًّا إن أمر هذا الرجل لعجيب! إن له في التأثير في الكبراء ما يشبه السحر، حتى كأنه بقوة روحه أنسى دعاة الفاطمية التشدد في إلزامه مذهبهم، وكأنهم يرونه خلقًا عظيمًا فوق المذاهب والعقائد؟

إنه يمدح الفاطميين، ويمدح السنّيين بشعره، ولو رأى مجوسيًّا لمدحه، وإذا خاطبه الناس في هذا ولاموه قال: إن تجارة السلع علمته التجارة في الشعر، وإنه ينسج من قصائده أثوابًا مختلفة الأثمان، متنوعة الطول والقصر، يبيعها لكل من تقدم لشرائها، وإنه لم ير في حياته بزّازًا امتنع عن أن يبيع لوثني أو رافضي، ويظهر أنه بهذا الطريقة نجا بمذهبه السني.

– هو في الحق شديد الحرص عليه، وهو في الحق يمتاز علينا في هذا، فإننا أظهرنا التمسك بالمذهب الفاطمي عند أول تهديد من داعي الدعاة.

– هوّن عليك أبا الحسن، فإن قليلًا من الرياء في هذه الدنيا ليس بالأمر الجلل، وهو سلاح خلقه الله فينا نتقي به الخطر، كما خلق الدرقة في السلحفاة، والقدرة على التلون في الحرباء، ولو أن سائلًا سألني عن منفعة اللغة لأجبته بأن أعظم فوائدها: أنها لا تعبر عما في الضمير!! وهؤلاء السادة الذين تراهم، وهؤلاء العلماء، وهؤلاء الأثرياء لن يستطيعوا العيش بلا رياء.

إن الأطفال في هذا الزمان يراءون! ولست أدري أكان أكثم ين صيفي يدعو إلى الصدق، أم كان يدعو إلى الكذب حين قال: إن قول الحق لم يدع لي صديقًا.

– صدقت!! لو أن كل إنسان قال ما يجول بنفسه بشأن من يعرف من الناس، ومن لا يعرف — لفتك به الناس … تخيل أبا كاظم أنني وثبت اليوم علي ابن مهدي مضيفنا، وأخذت بتلابيبه وصحت: إنك ثقيل ورب الكعبة!! إن كبرك لا يحتمل!! إن تعاقلك وزهوك، وتكلمك من أطراف أنفك فوق طاقتي!! اغرب عن وجهي إنك سمج دنيء!!

تخيل أني فعلت هذا، ثم تخيل ماذا يكون.

وهذا الشيخ الذي تراه الآن راكبًا بغلته، وخلفه عشرة عبيد يلهثون من التعب، وهو ينظر في الناس يمينًا وشمالًا في بلاهة وعجب كأنه يريد أن يصيح فيهم: «انظروني أيها العميان، وانظروا ما أنا فيه من جاه وثروة» — ألا تحب أن تعدو خلفه، وتبصق في وجهه، وتعرفه أنه مأفون متبجح نذل؟!

– إن أمثال هذا كثير، فدعنا الآن نفكر فيما ينجينا من عمارة وويلاته.

– علمنا اليوم من ابن مهدي الأبله: أن عمارة اجتمع به في دار ابن سبأ، وفهمنا من حديث ابن مهدي الغِر: أنه جاء إليهما ليتحدثا معه في أمر جسيم، ألم يقل ابن مهدي: «إن عمارة رجل عظيم الآمال، كبير النفس، طموح بعيد المدى»؟؟

– هذا صحيح، فماذا ترى كان موضوع الحديث؟؟

– إنه فيما يغلب على ظني لم يكن حديثًا للمسامرة والتسلية، بل كان مفاوضة ذات شأن.

– في أي شأن كانت المفاوضة يا أبا الحسن؟

– لا أدري، ولكن ألا تعرف «مُفلحًا» خادم ابن سبأ الخاص به، والأثير عنده؟

– أعرفه … وهو صديق لي حميم … وهو سنّي في الباطن، وكثيرًا ما كان يرد إلى زبيد ليسألني في فقه الشافعي، و«مفلح» هذا إذا عرف شيئًا من المفاوضة، ومما دار بين هؤلاء الثلاثة من الحديث — فلن يتوانى عن إخباري به.

– هلم بنا إليه بحقك.

فيأخذ الحراني بيد صاحبه، ويخرجان من درب قذر إلى زقاق كريه الرائحة حتى يصلا إلى غربي المدينة؛ فيظهر لهما بناء شامخ كأنه الحصن، وحوله الحدائق المزهرة، والرياض الباسمة، فيشير الحراني إليه ويقول: هذا هو القصر المسمى بالمنظر، وهو قصر ابن سبأ صاحب عدن، والقائم بدعوة الفاطميين فيها، وخير لنا أن نذهب إلى الباب الخلفي؛ خوفًا من أن نلتقي بالأمير.

دخل الشيخان من الباب الخلفي، فقابلهما غلام لمفلح لا يتجاوز الخامسة عشرة، وسيم الوجه، صبيح الطلعة، امتزج فيه الدم العربي بالهندي، فأخرج هذا الامتزاج للناس صورة من الإنسانية بديعة رائعة، فسأل الحراني عن صديقه «مفلح»؛ فأجلسهما الغلام في حجرة، وذهب لدعاء سيده، وأقبل «مفلح» وكان رجلًا في الأربعين، وقور السمت، جميل الوجه، يلبس من الحرير والديباج ما لا يجد طريقه إلا حول أعطاف الملوك؛ فحيا الحراني وصاحبه في تجلّة وإكرام، وانتقل الحديث إلى جو عدن، وشدة حرارته، وما سيصيب الناس في هذه السنة من الجدب؛ لامتناع المطر، وقسوة الجفاف.

وبعد قليل قال له الحراني: أيتفضل سيدي بأن أستفسر منه في خلوة عن أمر أراه خطيرًا؟!

– نعم نعم، وكرامة.

ثم يأخذ مفلح بيده إلى حجرة أخرى، ويغلق بابها ويقول: ماذا تريد أبا كاظم؟؟ إني لا أنسى لك فضلك في شرح كثير مما التبس عليّ فهمه من مذهب الشافعي، ولم أجد من فقهاء زبيد من هو أكتم للسر، وأرعى للأمانة منك، فلو عرف ابن سبأ حقيقة مذهبي، ما أبقى رأسي بين كتفي.

– يا سيدي، لقد وضعت سرك عند شقيق روحك، نجيِّ نفسك، وكأنك والله ما نقلته إلا من ناحية صدرك اليسرى إلى ناحيته اليمنى … إننا لا نزال يا سيدي نأمل لك عزًّا كبيرًا، ولا نزال نرجو أن تتقوى السنيّة وتظهر، لنراك زعيمها المرجَّى، والملك الحاكم المسيطر في هذه البلاد.

– تلك آمال أبا كاظم.

– آمال وستحقق إن شاء الله … أجاء عمارة بن زيدان لمقابلة ابن سبأ هنا بالأمس؟؟

– نعم، وقد كان معه علي بن مهدي، فقضوا وقتًا طويلًا في حديث طويل.

– أتعتقد أنهم كانوا في مفاوضة بشأن أحوال الحكم في اليمن؟؟

فابتسم «مفلح»، وهزَّ بلطف كتف الحراني وقال: إن عمارة شاب طمَّاح، يريد أن يكون زبيبًا قبل أن يكون حِصْرِمًا.

– أسمعت بعض ما قالوا يا سيدي؟

فأطرق «مفلح» مليًّا، ثم رفع رأسه وقال مترددًا: الذي فهمته من كلمة تتناثر هنا، وأخرى تسقط هناك، وثالثة يرتفع بها الصوت قليلًا: أنهم كانوا يتحدثون في شأن زبيد.

– ماذا سمعت بالله يا مولاي؟ فإن حياتنا وآمالنا معلقة بما ينقض هؤلاء ويبرمون.

– سمعت ما يفهم منه: أن فاتكا ملك زبيد عدو للفاطمية، وأنه يجتهد في إماتة دعوتهم، وأن ابن سبأ قد يجهز عسكرًا بقيادة علي بن مهدي؛ لمحاربته والاستيلاء على المدينة، على أن يسبقه عمارة إليها للتمهيد لهذا الغزو، واجتذاب القبائل إلى ابن مهدي، وأن يُقَلَّدَ ابن مهدي حكم زبيد بعد زوال فاتك، وأن يكون عمارة شريكه ونائبه في الحكم، ثم رأيتهم يتعاهدون على الكتمان، حتى تأخذ أهل زبيد الصيحة وهم نائمون.

– يا للداهية!! ضعنا بين جنون ابن مهدي، ودهاء عمارة!

– كل شيء بقضاء وقدر يا شيخ، ولعلَّهم كانوا يتحدثون، واللوح المحفوظ يسخر ويقهقه!!

– نحن لم نر اللوح المحفوظ يا سيدي، ولكننا نرى بين الرماد وميض نار، سيكون له تأجّج وضرام، وليس لنا في رفع هذا المكروه عنا إلا الله وأنت.

ثم استأذن الشيخان في الانصراف وخرجا، فقال النيلي: أراك عابسًا جازعًا أبا كاظم، فماذا قال لك؟؟

– ماذا قال لي؟؟ إني لم أسمع كلامًا، إنما سمعت رعدًا وعزيفًا وصواعق … إنها مصيبة جارفة … هلم إلى فندقنا، فإننا لا نستطيع الكلام في الطريق.

وصلا إلى الفندق واجمين، ودخلا حجرتهما، وأغلقا بابها، وحدث الحراني النيلي بما سمعه من مفلح، فاكفهرَّ وجهه وقال: ضعنا وضاعت زبيد.

– الرأي عندي: أن أذهب الليلة مستخفيًّا إلى زبيد، حتى إذا نزلتها أخذت سمتَى قُدُمًا إلى قصر فاتك، وطلبت مقابلته وحده، حتى إذا نفضت إليه جملة الخبر عدت من ليلتي غير متوان، ولا معوق … سأرحل الآن.

ثم قام وذهب إلى سوق البزازين، فاشترى إزارا ورداء، حتى إذا لبسهما لم يكن يميّز من أعراب البادية، وودع النيلي، وذهب إلى محط القوافل ليستأجر جملًا إلى زبيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤