الفصل الثالث

امتطى الحرّاني جملًا شديد الأسر، موثق الخلق، مارس الصحراء ومارسته، وتحدته بوعورتها، وبُعد شقتها، فتحداها بصبره وشدة جلده، حتى لقد أصبح الضرب في الفيافي جزءًا من حياته، لا يكاد يجد له ألمًا، أو يشكو منه عنتًا! سار الحراني وقد لفه الظلام برداء حالك السواد، طرز بثواقب النجوم، سار في صحراء لا يسمع بها إلا عواء ذئب برّح به السغب، وشفّه الظمأ، ولا يرى فيها إلا تهاويل من الخيال، دميمة الوجوه، فاغرة الأفواه، تتراقص أمامها كأنها تستهويه إلى موت محقق، وكان الحراني متجهم الوجه، منقبض الصدر، مضطرب الفكر، يخشى أن يكون بغض أسرة زيدان قد جاوز به حد الحزم، ودفع به إلى ما لا يجمل بالحذر الحريص، وكلما صور الحوادث التي زلقت بها رجله، وزجه فيها حقده، رأى أنها لم تكن من الإحكام ودقة التدبير بحيث يرضى عنها دهاؤه، أو يستسيغها ذوقه الفني في نصب الأشراك، وابتداع الجرائم، وقد كان في متناول ذكائه من ضروب الحيلة وأساليب المكر ما كان أدق صنعًا، وأبعد عن العقول إدراكًا، وأخفى على الباحث المنقب، ماذا فعل؟ وماذا قدّر؟ وماذا دبّر؟ مكيدة مكشوفة مهتوكة الستر، كأنها عبث أطفال، لقد نال من عمارة، وانتقصه أمام الحضرمي، وهو له أصدق صديق، وأوفى خليل، فإذا أصاب آل زيدان من فاتك أذى أو ضرر كان من الهين السهل أن تتجه العيون إلى الحراني، وأن تشير إليه بالأكف الأصابع، ثم ماذا فعل بعد هذا؟! ذهب مع النيلي إلى «مفلح»، ومن هذا المفلح؟! بائس تركه مبضع الجرائحي وسطًا حائرًا بين الرجال والنساء، فلا شهامة الرجل نال، ولا بدهاء المرأة ظفر، ثم إن الذي يفرط في سر سيده — وهو سر دولة — أجدر بأن يهب ما في صدره مسئولًا أو غير مسئول، وأن يبعثر ما في نفسه في الأسواق على أن هذا الغرّ الأحمق مفتون بشيء اسمه السنية عدو خفي للفاطمية.

وبنو زيدان أقوى قبائل اليمن، وأشدها تمسكًا بالمذهب السني، فليس في مجال الوهم ببعيد أن يبعث إليهم هذا الجاهل رسولًا، يخبرهم بما كان من زيارتي، وزيارة النيلي لداره، ثم إن ما بيني وبين علي بن زيدان من الثأر القديم كفيل بأن يحمله على الاعتقاد بأن لي في هذه المكيدة يدًا، وأني كنت أول ساع بعمارة عند فاتك، وأول مؤلب عليه، حقًّا إنها دسيسة لم تحكم أطرافها، ولم تستر فخاخها، ولكن ماذا أعمل الآن، وقد انطلق السهم الطائش!؟

ألا سحقًا لعلي بن زيدان، لقد كان ما أوقعه بأبي منذ سنين من شديد العقاب والخزي الدائم سببًا لهذا الحقد الذي يملأ صدري على أسرة زيدان، وكل من يتصل بها. وماذا كان فعل أبي في شبابه؟ أحب فتاة من حيهم وأحبته، فأبوا أن يزوجوه إياها كبرًا وصلفًا؛ لأنهم يرون الناس جميعًا دونهم، ولأنهم لا يصاهرون إلا من كان من قبيلتهم، كأنهم يخشون على هذه السلالة الطاهرة أن تدنس بغير نسبهم، وكان يجدر بأبي — سامحه الله — أن يقابل كبرهم بمثله، وأن يخضع تلك النزوة الطائشة التي يسمونها الحب لسلطان الكرامة والاعتزاز بقومه وقبيلته، ولكنه لم يفعل، واختطف الفتاة من خبائها في ليلة سوداء، فأحس به القوم فأدركوهما، وقتلوا الفتاة، وهموا بقتل أبي، ولكن شريرًا لئيمًا منهم أشار بأن يستبقوه لحياة هي شر من الموت، أشار بأن يبقى حيًّا، وأن يوصم وصمة اللصوص؛ فاستطابوا الرأي، وأوقدوا النار، ووسموه فوق جبهته، وفوق خديه بعلامات يوسم بها السراق وقطاع الطريق، ثم تركوه بالصحراء يئن من الألم، ويئن من الخزي والعار. ووالله ما جلست بعد هذا اليوم مجلسًا، ولا سرت في طريق إلا وكأني أرى جميع الأصابع تشير إلي: هذا ابن السارق الموصوم! لا … لا … لا بد من الانتقام من آل زيدان، كيفما كانت قوتهم، وكيفما كان عديدهم، وسأتخذ من ضعفي قوة للكيد لهم والوثوب عليهم؛ إن البعوضة لا تنال باليد، ولكنها تطنُّ وتلسع، فإذا حاول مَنْ لسعته قتلها لطم خديه، وهذا عمارة صيد سهل، سريع الوقوع في الشرك، فإن ما جبل عليه من الصراحة والطموح والتهور في طلب ما يريد كفيل بأن يوقعه في أهون الدسائس حبكًا.

كان الحراني يناجي نفسه وهو حزين مطرق، تتناهبه الأفكار، ويؤلمه طائف الذكريات، ويقبضه الخوف من الإقدام فيبسطه الحقد وشهوة الانتقام، وهو بين هذا وذلك يتسمع أحيانًا لصوت ضئيل خافت يهتف به ضميره، أو ما بقي له من ضمير، فيقول: ما هذا الذي أنت فيه أبا كاظم؟! وما هذه العربدة التي ستعود عليك نكالًا ووبالًا؟! أنت تقف أمام أسرة زيدان! وأنت تكيد لها! وأنت تنصب لها الحبائل! لقد جاوزت طورك، وقذفت بنفسك بين براثن الأسود! وألقيت بيدك إلى التهلكة! إن عبدًا من عبيد آل زيدان وحده عسِيّ بأن يقضي عليك وعلى أولادك وأهلك، من غير أن يترك لفعلته أثرًا، إن أباك مات منذ حين، ودفن معه عاره، ونسي الناس تلك العلامات البشعة الدميمة التي كانت تشوه وجهه، وطُوي ذلك السجل المشئوم، سجل الذل والخزي والشنار. مالك تنبش الماضي؟ وكلما نبشته ملأت جيفته الجو خبثًا. أنت تعادي آل زيدان!

هذا إذا عادت النمال الجبال، وصاولت الكلاب السحاب!

عد إلى صوابك أبا كاظم، ثم عد من حيث أتيت، واغسل تلك السخائم التي سوّدت صدرك بماء من التسامح والغفران، واقتل تلك الحيات التي أكلت قلبك، وأقضّت مضجعك بسلاح من الصفح الجميل، فإن الحاقد ينال من نفسه فوق ما ينال من عدوه، وهو أشبه بالنحلة تلسع وتموت، والسهم يقتل ويتحطم، لم لا تعود إلى علمك ودروسك أبا كاظم، وإلى الضحك من ذقون الناس، فتنال من عقولهم وأموالهم، وتعيش بين أهلك هانئًا سعيدًا؟ دع الدسائس، ودع النمائم، فإن من يكثر من إيقاد النار يوشك أن يحرق كفيه. إن حديث أبيك مضى وانقضى ذكره، ولا يعرف الجيل الجديد عن الحرّاني إلا أنه شيخ المتأدبين، وزين المحافل. إن في الحياة أمورًا كثيرة علاجها النسيان، والجرح إذا أكثرت من حكّه التهب ونغل، الْوِ زمام بعيرك أبا كاظم، وعد إلى زبيد، وتجنب فيها مواطن الشبهات حتى تهدأ الفتنة، وتسكن هذه الثائرة، ما لك وللنيليّ! ومالك ولابن مهدي! ومالك ولفاتك! … كل هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عنك شر بني زيدان. أنت تدعي الحزم، وهذا هو موطن الحزم. أتسمع؟ … ولكن الحراني كان في ثورة من الغل غظت على عقله، فصاح: لا أسمع، ولن أسمع، ولن أترك عمارة، ولن أترك آل زيدان، سأنتقم لأبي، وسأذهب إلى فاتك، وسأكشف إليه سر المؤامرة، ولن يصدّني عما اعتزمت عليه صادّ مما يسميه الناس عقلًا أو حزمًا.

ثم رفع الحراني رأسه كما يرفع الغائص رأسه من الماء بعد طول المكث فيه، وكأنه كان في عراك عنيف بينه وبين نفسه، خرج منه ظافرًا منصورًا، فبدد الظنون، وقضى على الشكوك، ثم رمى بعينيه أمامه؛ فرأى في ضوء النجوم شبحًا يظهر ويختفي، مرة تبتلعه الوهاد، وأخرى تلفظه الآكام، فحدد النظر، واستحث بعيره، فإذا راكب يُجدُّ السير! فخاف الحراني أن يكون الرجل من عبيد عمارة، سبقه ليفتك به في الصحراء قبل أن يلقي بنميمته، وظن الرجل حينما رأى الحراني وراءه أنه من رجال ابن مهدي أسرع خلفه من عدن ليقضي عليه قبل أن يبلغ رسالته إلى فاتك. وبعد قليل التقيا على رأس أكمة، وكلاهما خائف ومخوف، فبدأ الحراني في خوف وتلعثم: السلام عليكم، لقد كنت أظن أن الصحراء لم تحمل في هذه الليلة إلا جنينًا، فإذا هي تحمل توأمين.

– إن الصحراء كالليالي تلد كل عجيبة.

رأى الحراني في صوت صاحبه رجفة، وفي لمحاته ما يشعر بالذعر، فقوى قلبه قليلًا، واطمأنت نفسه، وقال: ولكنها أحيانًا كالهرة تقتل بنيها.

– إنها لا تقتل من أبنائها إلا الجبناء الرعاديد، وإن من كان قلبه أمضى من سيفه، وسيفه أثبت من قلبه، لن يموت إلا ميتة الأبطال.

وكأن الرجل لمح في الحراني ما يدل على الضعف، فتابع الحديث بقوله: ولقد يكون من أسباب التسلية والقضاء على السآمة في الصحراء أن يصادق المرء فيها وحشًا يداعبه بسيفه، أو لصًا فاتكًا يلقنه برمحه درسًا في الأمانة وصون الحقوق.

– ليس بالصحراء لصوص، ولو كان بها الليلة لص لتاب إلى الله على يد رحلي، بعد أن يراه أفرغ من فؤاد الجبان.

– إن الساري في مثل هذه الليلة يحمل ما يحرص عليه في صدره لا في رحله، ولعل في صدرك من الأسرار ما هو أغلى من الذهب النضار.

– من أين لنا أن نصل إلى الأسرار يا ابن أخي، وإن من ضاق صدره بهموم الحياة أجدر بألا يزيده ضيقًا بحفظ الأسرار. من أين الرجل؟ وإلى أين؟

– من عدن إلى الحديدة، اتّجر في الإبل بين البلدين. وإلى أين أنت؟

– إلى صنعاء. اتّجر في الثياب بين البلدين.

– أخشى يا صاحبي أن تكون من ثياب الرياء التي تشف عما تحتها، ولكن ما لنا ولهذا! عم مساء. ثم ألهب بعيره بالسوط، فعدا به ينهب الأرض نهبًا.

تنفس الحراني وأطال التنفس، وكادت تعود إليه وساوسه، لولا أن زجرها بالترنم بشعر البطولة، والاعتماد على النفس، والتشفي بأخذ الثأر، وما زال يطوي الصحراء وتطويه أيامًا، حتى بلغ زبيد في مساء ليلة، فسار قدمًا إلى قصر فاتك، فالتف عليه الحراس، وسألوه عن شأنه؟ فقال: إنه قادم من مكة برسالة من أميرها: قاسم بن هاشم إلى الأمير فاتك، وبعد قليل استؤذن له، فتقدم من الأمير، وقبَّل يده، ثم أخذته الرعدة، وهاله ما هو مقدم عليه من أمر خطير، فأخذ يتمتم بكلمات متقطعة يفهم منها الإخلاص للأمير، والنصح له، والاستهانة بالموت في خدمته؛ فهدَّأ الأمير من نفسه حتى أفرخ روعه وثبت جأشه، ثم قال فاتك: كيف حال أمير مكة؟ فعاد الذعر إلى الحراني، وطفق يفرك أصابعه في اضطراب عصبي عنيف، ثم قال: لم أجئ من مكة يا سيدي، وإنما جئت من عدن.

– لم تجئ من مكة؟! هذه أول أكذوبة للمخلص لنا، المستهين بالموت في خدمتنا.

– إنما دعاني إلى الكذب يا سيدي خوف أعدائي، فقد يكون بقصرك عيون لهم.

– إن قصري أطهر مما تظن، وخدمي أعفّ وأشرف مما تصفهم به. أخشى يا رجل أن تكون من هؤلاء الدساسين، الذين يلبسون مسوح الزهاد، ويتقدمون بالنصح إلى الأمراء ليجعلوا منهم آلة للبطش بأعدائهم. إن بابي هذا يطرقه كل يوم كثير من أمثال هؤلاء، حتى لقد التبس عليّ الحق بالباطل، وكدت أغفل عن شئون الناس بالنظر في شئون هؤلاء الخادعين، والتحقق من أكاذيبهم، فإن كنت فقيرًا أعطيناك، وإن كنت مستجيرًا بنا أجرناك، وإن كانت لك ظلامة كشفناها، قل الحق يا رجل صريحًا، ولا تنل من أحد في حضرتي.

– إنني لم أجئ يا سيدي لأطلب مالًا، ولا لأبتغي على نصيحتي للأمير أجرًا، ولكني علمت بمؤامرة دنيئة تدبر لإسقاط الأمير عن عرشه وعرش آبائه، فأسرعت إليه من عدن أطوي الليل بالنهار، وللأمير بعد ذلك ما يشاء، إما أن يصدّق ما أقوله، فيتخذ الأهبة، ويُعدَّ العدة؛ ليدفع الشر بالشر، وإما ألا يصدقه فيعرف بعد طول الندم أنني كنت صادقًا مخلصًا.

– وما تلك المؤامرة؟!

– المؤامرة: أن يفجأك علي بن مهدي، ومعه عمارة بن زيدان بجيش جرار، فيستوليا على زبيد، ويقتلا أميرها، ويبيدا أهله ونصراءه، ثم يجلس ابن مهدي على عرش المدينة، ويجعل عمارة وزيره ومشيره. هذه هي المؤامرة فصدقها أو كذبها، اللهم إني قد بلغت ونصحت!!

– صدّقتها، وقد جاءني قبلك رسول من قبل «مفلح» خادم ابن سبأ يبلغني أمر هذه المؤامرة على النحو الذي شرحته.

– إذًا هو ذلك الرجل الذي صادفته في طريقي. مفلح أرسله؟ هذا المفلح غربال أسرار!

– إنه رجل يكتم إيمانه بالمذهب السني، ويحارب الفاطمية في الخفاء بكل ما يستطيع. آه! عمارة في المؤامرة …؟! ويل له مني، وويل لقومه بني زيدان، ثم دعا خادمه، وأمره بإحضار صرة بها مائتا دينار، فأعطاها الحراني، وشكر له حسن بلائه.

خرج الحراني يتعثر خائفًا من عواقب الشر الذي زجّ بنفسه فيه، وهو يرجو ألا يراه من يعرفه، ولكنه وهو في أحد دهاليز القصر، رأى إسماعيل بن محمد جليس فاتك مقبلًا — وكان من أصدقاء عمارة وخلصائه — فعرفه إسماعيل، ودهِش لما رأى من تغير زيه، فقال: خير ما جاء بك إلى القصر أبا كاظم؟ ولم هذا الزي الغريب؟! فبُهت الحراني، وتلعثم وجف ريقه، وقال: جئت في نصيحة للأمير، وأرجو أن يبقى الأمر بيننا سرًّا.

– إذا جئت في نصيحة فأدعو الله أن تكون خالصة لوجهه! أما السر في زبيد فكالسر في صدر المرأة، تفشيه لكل من تقابله بعد أن توصيه بكتمانه! عم مساءً أبا كاظم، فإني لا أرى في زِيِّك وأسارير وجهك ما يبشر بخير.

انصرف الحراني وهو يلعن إسماعيل بن محمد، ويلعن المصادفة التي أوقعته في طريقه، ويلعن نفسه على ما اندفع إليه من أمر لا يستطيع الخروج منه سالمًا.

ودخل إسماعيل على فاتك، فرآه يهدر كالبعير الصائل، وقد استأثر به الغضب، فحينما رآه صاح بصوت خشن أجش: أرأيت كيف انتهت بنا الدسائس والمؤامرات؟! أرأيت كيف يعمل هؤلاء الفاطميون أعمالهم في ظلام من الخبث والرياء، ثم يفجأون بها الوادعين الآمنين؟! أعلمت أن ابن مهدي ذلك الرافضي السفاح، سيدهم زبيد على حين غرة منا ليذل رقاب أهلها، ويثلَّ عرشنا وعرش آبائنا؟ أعلمت أن عمارة بن زيدان ذلك اللئيم النذل، الذي أغدقنا عليه، وآويناه حتى أصبح من المقربين في القصر، ومن كبار رجال المال والجاه، هو الذي يمالئه ويغريه، ويرشده إلى مواطن الضعف ليكون وزيره في زبيد!! ويل للخائن المخاتل، دخل القصر فقيرًا مملقًا، لا يتشفَّع إلا بأبيات واهنة من الشعر، فما زال يخدعنا بمدائحه، ويستهوينا بعذب كلامه وسحر حديثه، حتى رفعناه بعد ذلة، ويل لعمارة … ويل لعمارة …

– هدِّئ من غضبك يا سيدي، فقد يكون ما وصل إليك نميمة أفَّاك أثيم، وعمارة رجل …

– لا يا إسماعيل، إن الخبر وصل إليَّ من مصدرين، إن شككت في أحدهما فلن أشك في الآخر، جاءني به رسول من «مفلح»، ثم نقله إليَّ الآن أعرابي لا أعرفه، وكانت الرسالة واحدة لا تكاد تختلف.

– إن الأعرابي الذي يذكره مولاي عالم من زبيد غيَّر زيَّه، ولعل له مأربًا في الكيد لعمارة.

– له مأرب أو ليس له مأرب، إن رسالة «مفلح» تكفيني، ثم نادى خادمه، وأمره أن يدعو إليه الوالي، وقائد جيشه، فلما حضرا أمر القائد بجمع الجيش، واستكمال العُدة، والأخذ في تحصين مواضع المخافة من المدينة، ثم أمر الوالي بمصادرة جميع أموال عمارة، وما له من ناطق وصامت، والقبض عليه وقتله أينما كان، وحيثما وجد.

مرّ إسماعيل بن محمد في صباح هذه الليلة بسوق البزازين، فرأى علي بن زيدان يمشي ووراءه عبيده وخدمه، فدهش لرؤيته، وتقدم للسلام عليه، ثم اجتذبه إلى ناحية، وقال: لقد نقل بعض الجواسيس إلى الأمير فاتك أمس نبأ مؤامرة تدبر لاغتصاب ملكه وقتله، وأن لابن أخيك عمارة يدًا طويلة في هذه المؤامرة، فأمر بمصادرة أمواله، وأهدر دمه، وقد حاولت أن أسكت غضب الأمير، فلم أستطع.

– إنها دسيسة على ابن أخي، إن عمارة أشرف وأنبل من أن يدنس بهذه الأقذار. نحن نقتل في الضياء، ولا نقتل في الظلام، ومن هذا الجاسوس الذي نقل هذه الفرية؟

– رجل من زبيد يسمى أبا كاظم الحراني.

– الحراني! الحراني! لعله ابن ذلك الحراني لص الأعراض الذي وسمنا وجهه بميسم العار منذ أكثر من عشرين عاما؟!

– أظنه قضى كل هذه المدة في انتظار الفرصة، حتى إذا لاحت اقتنصها ليشفي صدره بهلاك ابن أخيك، أيعرف عمارة هذه الحادثة؟

– لا، لقد أمرت عبيدي الذين اشتركوا فيها يومئذ، أن يبقوا الأمر سرًّا دفينًا، فإن مثل هذه الفضائح يجب ألا تذاع، هل لهذا الحراني ولد؟

– له ولد في الخامسة والعشرين من عمره، يتجر في الغنم، ولم تسأل عن هذا؟

– لا لسبب، غير أني كنت أظن أن من ذاق حلاوة الأبوة يتردد في إيذاء الناس في أبنائهم.

– وعلام عوَّلت؟

– عولت على السفر إلى مرطان في الغد، ويفعل الله ما يريد.

ولما انصرف إسماعيل، عاد ابن زيدان مع عبيده إلى الفندق الذي نزل به، ثم اختلى بعبده مرداس، وكان أسود فاحم اللون، طويلًا ممعنًا في الطول، قوي العضل، كبير الرأس، أفطس الأنف، يخالط بياض عينيه حمرة قاتمة، فقال له سيده: يا مرداس، سنسافر غدًا؛ فمر العبيد بإعداد الرواحل، أما أنت فستبقى هنا، ولن تعود إلى مرطان حتى تقتل رجلين: الشيخ الحراني، وابنه، وابحث عنهما، واستدرجهما من حيث لا يشعران إلى مكان لا يراك فيه أحد، ثم اقتلهما فإذا قتلتهما فأنت حر، أفهمت؟ اذهب.

وفي صباح الغد يسافر ابن زيدان، ويبقى مرداس بزبيد، يسأل ويبحث حتى يعثر بابن الحراني، فيدخل عليه بحيلة محكمة، يستهويه بها، حتى إذا خرجا إلى ظاهر المدينة وانفرد به في مكان موحش، قتله واختفى.

ويبقى الحراني منتظرًا عودة ابنه فلا يعود، ثم يعثر بعض المارة بجثته في الصحراء، ويصل الخبر إلى أبيه، فيعصف به الحزن، ويتملكه الجزع، ويرى والدموع تتساقط من عينيه أن ما أصابه في ابنه إنما هو جواب رسالته لفاتك، وانتقام سريع من آل زيدان على إيقاعه بابنهم عمارة، وأنهم لن يسكتوا عنه، وأن ذراعهم ستمتد إليه بعد أن امتدت إلى ابنه، وأنه يجب أن يفرّ بنفسه وأهله بعيدًا عن اليمن؛ فيجمع بقية ما لديه من مال، ويركب مع أهله سفينة من زبيد إلى جدة، ليأخذ منها سفينة أخرى إلى مدينة القلزم (السويس)، فقد رأى أن مصر خير مكان ينجيه من آل زيدان، ورأى أن يختفي بها رابضًا حتى تحين له فرصة الوثوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤