عمله في التوفيق بين الحكمة والشريعة

تمهيد

الإحساس بالحاجة إلى التوفيق بين الفلسفة أو الحكمة والشريعة عاطفة طبيعية يحس بها كل من عُني بالبحث في هاتين الناحيتين. ومحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حد ما واجبًا لازم الأداء، وأمرًا ينساق إليه الفيلسوف المتدين صاحب العقيدة التي لها قداستها في رأيه؛ وذلك لأكثر من عامل واحد:
  • أولًا: ليحقق الانسجام بين ما وصل إليه بعقله وبين معتقده الموروث عن الآباء والأجداد، العامر به قلبه، والذي يراه فوق كل شك، وإن عزَّ عليه أحيانًا أن يفهم بعض ما جاء به، أو بعض ما يستلزمه.
  • وثانيًا: ليتجنب غضب الفقهاء الذين يرون كل تفكير عقلي حُرٍّ ضربة موجهة للدين الذي لم يأت عن طريق العقل، بل عن طريق الوحي الإلهي، وليكون كذلك بمأمن من غضب الشعب وتعصبه؛ الشعب الذي يشعر بميل طبيعي للثورة على الممتازين بأي نوع من أنواع التمييز، وبخاصة إن دُفع لذلك التعصب من رجال الدين الذين يرون لأنفسهم فضلًا في العقل والتفكير، ويزعمون أنهم قادرون على فهم ما تحسبه العامة أسرارًا وأمورًا فوق طاقة الإنسان إدراكها.

وإذا كانت محاولة التوفيق بين الوحي والعقل مما لا يجد منه بُدًّا كلُّ من يشتغل بالفلسفة بصفة عامة؛ فهي كذلك بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام للأسباب المتقدمة، ولأسباب أخرى سنشير بعد قليل بإيجاز إلى أهمِّها وأحقِّها بالذكر والتقدير.

من أجل ذلك نرى اليونان عرفوا ما يجب أن يكون من علاقة بين الفلسفة والتقاليد أو الأساطير الدينية، كما نجد للمسائل الدينية حظًّا لدى كل المدارس الفلسفية ورجالها، وبالأخصِّ سقراط وأفلاطون والرواقيين وفلاسفة الإسكندرية، فإنهم جميعًا يُحَرِّمُون تَقْوِيضَ الدين الذي يعرفون له جدواه الأخلاقية والاجتماعية. ومن الطبيعي أن نرى هذا الاتجاه يزيد ويقوى عند «فيلون Philon» اليهودي وعند بعض آباء الكنيسة المسيحية.

أما بالنسبة للمسلمين؛ فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتوجب الإصلاح بين المتخاصمين، والتوفيق بين المتناقرين، والذي درس تاريخ الإسلام، ولا سيما الناحية العلمية تقول: إن من كان هذا حاله يرى أن روح التوفيق بصفة عامة كانت طابعًا للمسلمين في كل النواحي النظرية تقريبًا، فكلما وجدت مذاهب مختلفة أو متعارضة، كانت توجد مذاهب تحاول التوفيق بينها باتخاذها موقفًا وسطًا، تؤلف به بين أطرافها. والتاريخ، قديمه وحديثه، شاهد صدق يؤيد هذا الذي نقول.

نجد هذه الظاهرة في علم الكلام تتمثل في مذهب الأشعري، الذي هو وسط بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنصوص، ومذهب المعتزلة الذي أعطى للعقل الحرية في فهم نصوص القرآن وتأويلها بما يتفق والعقل.

بل نرى المعتزلة أنفسهم يقررون أن العقل والوحي من الله فلا يتناقضان، وأن الأنبياء لم يكشفوا شيئًا لا يقدر العقل على الوصول إليه؛ ولهذا يجب أن يكون ما يجيء به الوحي معقولًا، وإلا وجب تأويله عقليًّا.

وفي التشريع، نجد مذهب مالك يعتمد على الحديث، والمذهب الحنفي يعتمد على الرأي والقياس العقلي، ونرى المذهب الشافعي وسطًا أو جامعًا بين هذين الطرفين المتعارضين.

فإذا كانت نزعة التوفيق من النزعات الغالبة على مفكري الإسلام بصفة عامة في جميع نواحي التفكير، فأولى ثم أولى للفلاسفة أن يعملوا على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، والفلسفة التي عمادها النظر الصحيح والمنطق السليم.

على أنه كانت هناك عوامل أخرى تجعل لِزامًا عليهم أن يحاولوا — ما استطاعوا — الوصول للتوفيق بينهما؛ وهذه العوامل ترجع في رأينا إلى ثلاثة:
  • (١)

    بُعْد الشُّقَّة بين الدين وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل؛ كمسألة الألوهية، وتحديد صفات الله وخصائصه، وخلق العالم، وقدمه وحدوثه، والصلة بينه وبين الله، والنفس وخلودها.

  • (٢)

    مهاجمة كثير من رجال الدين للبحوث العقلية الحرة التي لا تتقيد في نتائجها بأية عقيدة مقررة سابقًا، ويضاف إلى هذا تعصب الشعب والأمراء أحيانًا ضد المفكرين الأحرار مدفوعين بدوافع مختلفة لا تتصل بالدين في الحقيقة في أكثر الأحيان.

  • (٣)

    وأخيرًا، الرغبة في أن يكونوا بنَجْوَةٍ من هذا التعصب وآثاره؛ ليستطيعوا العمل في هدوء؛ ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الشريعة والدين.

من أجل ذلك كله، نجد فلاسفة الإسلام جميعًا — كغيرهم من المتكلمين والمفكرين — حاولوا هذا التوفيق، سواء منهم من تقدَّم به الزمن ومن تأخر؛ مع اختلاف في المناهج التي اصطنعوها، والجهود التي خصصوها لبلوغ الغاية المَرْجُوَّة منهم جميعًا، ومع تفاوت في مَبْلَغِ ما قُدِّرَ لهم من نجاح.

جال في هذا الشوط أبو إسحاق الكندي؛ ولذا يؤكد عنه ظهير الدين البيهقي أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات».

وجال فيه كذلك الحسين بن الفضل الراغب؛ فقد جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وكان يقول: «بين العقل والشرع تظاهر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.»

والفارابي وابن سينا جَرَيَا في هذا الشوط أيضًا خطوات واسعة، لما رسخ عندهما من أن الحقيقة واحدة، وإن عُبِّر عنها بطرق وأساليب مختلفة؛ فلم يهملا العقل أو الوحي، بل جذبا كلًّا منهما إلى الآخر.

أما فيلسوف قرطبة، فقد كان مضطرًّا — لمحو الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة» أو إضعافه على الأقل — إلى محاولة للتوفيق لها أسسها ودعاماتها؛ محاولة يضع فيها الحدود الواضحة للصلة بين الدين أو الشريعة والحكمة، حتى لا يقوم بينهما بَعْثُ عداء أو نزاع.

لقد خصص لهذه الغاية رسالته «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، وعرض أيضًا لها في كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة»، فضلًا عن تناولها في مناسبات مختلفة وعديدة في كتابه «تهافت التهافت»، وقد وضع لهذه الغاية طريقًا تؤدي في رأيه إليها، ومبادئ وأصولًا تقوم عليها، وهي:
  • (١)

    الاستدلال بالقرآن على وجوب النظر العقلي والانتفاع بما في تراث الإغريق من خير.

  • (٢)

    بيان أن الناس مختلفون في العقول والاستعدادات؛ ولذلك انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن لكلٍّ أهله.

  • (٣)

    وضع قواعد عامة لتأويل ما يجب تأويله من نصوص الشرع؛ لبيان متى يكون التأويل، ولمن يكون، ولمن يصرح به.

  • (٤)

    بيان الطريقة المثلى للاستدلال لعقائد الدين، ولما اختُلف فيه من المسائل بين المتكلمين والفلاسفة.

  • (٥)

    بيان الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وبيان الحاجة إلى الشريعة.

وفيما يلي تفصيل هذا الإجمال كما يسمح به المقام.١

الشريعة توجب الفلسفة

ساق ابن رشد، في كتابه «فصل المقال»، دليلًا لهذا قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، موهمًا أن الاعتبار هنا هو استنباط المجهول من المعلوم. وذلك هو القياس. وهذا فيما نرى استدلال مُجْتَلَبٌ؛ لأن المراد بالاعتبار في هذا الموضع الاتِّعَاظُ لا القياس؛ الاعتبار بما حصل لليهود حين أعلنوا النبي والمسلمين بالعداء، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم، لكن الله قذف في قلوبهم الرعب حتى استسلموا للرسول وحكَم بإجلائهم إلى الشام.

على أن هذه الآية وإن لم تصلح للاستدلال لما يرى؛ فهناك آيات أخرى تشهد له بما يريد، هناك قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ وقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا؛ فضلًا عن قول الرسول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها.»

وإذا كان النظر الفلسفي واجبًا، فمن الخير أن نستعين بالرُّوَّاد الذين كشفوا الطريق، وأناروا لمن أتى بعدهم من الباحثين والمتفلسفين السبيل. وإذن فلنقرأ — كما يقول — كتب من تقدمنا من أولئك الرواد والفلاسفة القدامى، فما وجدنا من حق «قبلناه منهم، وسُرِرْنَا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهناهم عليه، وحذرنا منه، وعذرناهم.» وحقَّ لنا أن نعذُرَهم؛ فالطريق وَعرٌ شائك مظلم، والخطوات الأولى هي التي تُكَلِّفُ ما تُكلِّف من عناء ونَصَبٍ، فيُعْذَرُ فيها من تعثَّر.

ومنع المستعد للتفلسف، بفطرته المُوَاتِيَة وخلقه الكامل، جريمة — في رأيه — في الدين؛ لأنه صدٌّ عن الباب الذي نصل منه إلى معرفة الله حق معرفته، وذلك جهلٌ أيُّ جهل، كما يذكر في «فصل المقال».

وليس يمنع من النظر في تراث الإغريق أن ضلَّ بالنظر فيه قوم لم يكونوا أهلًا لمعرفته، كما ليس لنا أن نمنع العطشان من ورود الماء العذب البارد؛ لأن غيره شرب منه فمات؛ فإن هذا الضرر أمر عرض، ومثل هذا يكون في الفقه؛ فقد يعرض أن تكون دراسة الفقه سببًا لضرر يعرض من قِبَلِها؛ كم من فقيه — كما يذكر — كان تبحُّرُه في الفقه ومعرفة المخارج من المحرمات والشبهات «سببًا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء هكذا نجدهم، وصناعتهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية.»

ومتى كان هذا القياس العقلي والنظر الفلسفي مما يحث عليه الشرع ويوجبه، كان لا بد من أَخْذِ العُدَّة لعلاج ما يظهر من تعارض واختلاف بين النص ونظر العقل. هذه العدة تقوم على أنه من المقطوع به — كما يؤكد فيلسوفنا — أن كل ما أدَّى إليه البرهان الصحيح لا يمكن أن يخالف ما أتى به الشرع؛ فإن الحق لا يضاد الحق، بل يشهد له.

وإذن؛ فإن وُجد هذا التعارض والاختلاف، كان لا بد من تأويل النص تأويلًا يتفق وما نعرف من قواعد اللغة، وذلك مثلًا بإخراجه عن دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية. بهذا لا يصطدم العقل والشرع، ولا تترك واحدًا منهما لأجل الآخر، بل نجعل لكل منهما اعتباره، ونوفق بينهما بما لا تأباه اللغة وأصولها، فتزول عقبة يظنها البعض كَأْدَاء — وهي تعارض نص الوحي ونظر العقل — كانت تقف في سبيل هذا الجمع والتوفيق.

انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن

ولِمَ هذه الظاهرة؛ وهي وجود آيات وأحاديث لا بد من صرفها عن ظاهرها وتأويلها لنتعرَّف المعاني الخفية المرادة منها؟ سبب هذه الظاهرة، أو بعبارة أخرى سبب انقسام الشرع إلى ظاهر وباطن لكل منهما أهله،٢ هو أن الناس مختلفون في الفِطَر والعقول.

إنهم لهذا تختلف حالاتهم في فهم النصوص وإدراك ما يراد بها، كما تختلف وسائلهم في التصديق بما يجب التصديق به من أمور هذا العالم الحاضر والعالم الآخر، ومن وجود الله وما يتصل به من سائر ما جاء به الدين من معتقدات.

ومن أجل ذلك، يُقسِّم فيلسوف قرطبة الناس إلى ثلاث طوائف: الخطابيون، وهم الكثرة الغالبة السهلةُ الاقتناع التي تصدق بالأدلة الخطابية؛ وأهل الجَدَل — ومنهم المتكلمون — الذين ارتفعوا حقًّا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لمرتبة أهل البرهان الحقيقي؛ والبرهانيون بطبائعهم المواتية وبالحكمة التي راضوا عقولهم عليها، وأخذوا أنفسهم بها.

ولما كان الله خلق الناس على هذا التفاوت الملحوظ في الفِطَر والعقول، وكان من الحكمة أن يكون هذا التفاوت لدواعٍ نُقِرُّ بها جميعًا، وكان من الواجب أن يجد كلٌّ في الدين المَشرَب الذي يناسبه، لما كان الأمر كذلك، كان لا بد أن تختلف التعاليم الدينية التي يؤخذ بها كل فريق؛ فللجمهور وأمثاله من الجدليين الإيمان بظواهر النصوص الدينية وما ضرب الله ورسوله لهم من رموز وأمثال، ما داموا لا يقدرون على الوصول إلى التآويل الصحيحة، وللعلماء أهلِ البرهانِ الإيمانُ بما خفي من المعاني التي ضُرِبَت لها تلك الرموز والأمثال لتقربها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.

ولكي لا يكون ضرر من هذا التقسيم الذي أُريد به الخير، يجب أن نحافظ على أن يكون كل ضرب من هذه التعاليم لطائفته الخاصة لا يعدوها إلى غيرها، وألا يختلط أحدهما بالآخر؛ ولذلك يقول الرسول: «إنَّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نُنْزِلَ الناس منازلهم، ونخاطبهم على قدر عقولهم.» لأن جعل الناس جميعًا ضربًا واحدًا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.٣

وقد كان فيلسوفنا عمليًّا فيما رأى؛ فهو يتبع ما يقرر من مبادئ؛ ولهذا نراه في كلامه على إثبات العلم لله — على النحو الذي يراه الفلاسفة — يُحرِّم أن يُتكلم مع الجمهور على هذا النحو، وإلا كان ذلك — كما يذكر في تهافت التهافت — بمنزلة إعطائهم طعامًا هو سمٌّ لهم، وإن كان غذاء لآخرين.

التأويل وقانونه

ولم يدع ابن رشد الأمر فوضى؛ فيؤول كلٌّ ما يريد من النصوص، ويثبت التآويل في أي كتاب يريد، ويصرح بها لمن يشاء، بل جعل لكل ذلك قانونًا يعلم منه ما يجوز تأويله وما لا يجوز، وما جاز تأويله فلمن؟ هذا التأويل، الذي جعل — في رأيه — كل شيء في موضعه، ختم به كتابه: «الكشف عن مناهج الأدلة»، فليرجع إليه مَن يريد البسطة في هذه المسألة.

إنما نذكر أنه أراد بهذا القانون أن يضع حدًّا للتآويل التي كثرت وذاعت وتناولها الجميع حتى حدثت عنها اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ووُجد بسببها في الإسلام فرق متباينة يكفِّر بعضها بعضًا. وهذا كله جهل بمقصد الشرع وتعدٍّ عليه كما يقول.

ومن أجل ذلك، أي لكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وننفي العداوة بين الحكمة والتربية، يجب بصفة عامة — كما يرى — ألا يُصَرَّحَ بالتآويل، وبخاصة ما يحتاج منها إلى برهان لغير أهلها، وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق، كما يجب ألا نثبت شيئًا منها في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة ومن إليهم من الجدليين. إننا إن فعلنا غير هذا أثمنَا، وكنا سببًا في إضلال كثير من الناس.

ونظرة فيلسوف قرطبة هذه نظرة عملية صادقة؛ فإن تمثيل نعيم الجنة للعامة بأنه مادي من جنة فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مُصفَّى، وفيها مع هذا كله من كل الثمرات — هذا التمثيل يدفع للخير ويحث على الفضيلة، وإنه خير لهم من تشكيكهم في هذا الجزاء المادي المُحَس، ومن محاولة تفهيمهم أن ما جاء به القرآن والحديث دالًّا على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأن هذا الثواب الذي وُعد به الفضلاء الأخيار لن يكون إلا معنويًّا للنفوس وحدها التي ليس لها إلى التنعم بتلك اللذات المادية من سبيل.

من السهل بعد هذا أن نفهم أن فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية — من القرآن والحديث — نصوصًا متشابهات، لا بالنسبة للعلماء الذين يعلمون مع الله تأويلها، ولا بالنسبة للجمهور الذي لا يُطْلَبُ منه إلا أن يؤمن بما يفهم من ظواهرها دون البحث عن تأويلها وبيان معانيها الخفية. أما أهل الجدل والمتكلمون، فهم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض هذه النصوص. إنهم وقد ارتفعوا عن العامة، ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبه لا يقدرون على حلها، ولكنهم تعلقوا بها، فحاولوا عبثًا تأويلها، فضلوا في أنفسهم، وأضلوا من اتبعهم؛ لهذا ذمهم الله بأن في قلوبهم زيغًا ومرضًا، فهم يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله، وما هم ببالغيه؛ إذ لا يعلم هذا التأويل إلا الله والراسخون في العلم، وهم ليسوا منهم في شيء.

وقد بلغ اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير هذا الذي ذهب إليه، من جَعْلِ تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل مبلغًا كبيرًا؛ لهذا نراه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن من النصوص ما يجب على أهل البرهان تأويلُه، وحملهم إياها على ظواهرها كفر، كما يجب على العامة حملها على هذه الظواهر، وتأويلهم لها كفر. ومن هذه النصوص قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، ونحوه من الأحاديث التي توهم أن الله جِسْمٌ تجوز عليه النقلة من مكان إلى آخر.

بل إنه، إرادة تثبيت مذهبه، يصوغ مما تقدم مبدأ عامًّا، فيقول في فصل المقال: «إن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر؛ لأنه يؤدي إليه.» وغني عن البيان أن من كان فرضه التأويل؛ لأنه من ذوي البرهان، وحَمَل النصَّ على ظاهره، كان كافرًا إن كان هذا في أصول الدين، أو مبتدعًا إن كان في الفروع.

كما أنه يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من مبادئ وقواعد تتعلق بالتأويل، وتحريم أن يذاع لغير أهله؛ ولهذا لام الغزالي — وسائر المتكلمين من أشاعرة ومعتزلة — لإثباتهم التآويل في مؤلفاتهم، فذاعت لذلك بين العامة ومن ليس أهلًا لها.

إن حجة الغزالي في رأيه «أخطأ على الشريعة والحكمة» بإثباته تآويل النصوص التي يجب تأويلها في غير كتب البرهان، فذاعت بين الجمهور، وكان من هذا أن عاب قوم الأولى وآخرون الثانية. وإن المتكلمين، وبخاصة المعتزلة، بتآويلهم التي صرَّحوا بها لمن ليس من أهلها «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع.» كما يذكر في «فصل المقال».

ولم ينس ابن رشد حين لام هؤلاء وأولئك على ما فعلوا، أنه وقع في مثل صنيعهم؛ لذلك تراه يعتذر عما فعل بأن الجمهور عرف من هؤلاء الذين يلومهم هذه التآويل، فكان لا بد له من أن يتكلم فيها لبيان الحق من جهة، ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أخرى، كما يفعل الطبيب الحاذق لشفاء المريض إذا تعدى الجاهل المتطبب وسقاه السم على أنه غذاء.

وما أجمل اعتذاره الذي يسوقه في هذه العبارات من كتابه «فصل المقال»:

فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الجنس من النظر، أعني التكلم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استجزنا أن نكتب في ذلك حرفًا، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر؛ لأن شأن هذه المسائل أن تُذْكَرَ في كتب البرهان.

وهذا الاعتذار الحق، الذي له أسبابه ومبرراته، يشبه اعتذار سلفه ابن طفيل — في مثل حالته — عن مخالفة طريق السلف الصالح في الضنِّ بالحكمة على غير أهلها، بأنه حاول إصلاح الذي أفسده سابقوه الذين صرحوا بآراء مفسدة، وتآويل ضالة تلقفها غير أهلها فعمَّ لذلك ضررُها.

الاستدلال لعقائد الدين

ولكي يكون ابن رشد منطقيًّا وإيجابيًّا، أي لكي يكون عمليًّا يراعي ما وضع من قواعد وأصول لوضع العلاقة بين الحكمة والشريعة على أسس تضمن السلام بينهما، نجده — بعد أن نقد طرائق رجال علم الكلام لعقائد الدين — يبين الطريقة المثلى — في رأيه — للاستدلال على ما يجب الاستدلال عليه من هذه العقائد.

تناول تلك العقائد والمسائل وطبق عليها، في بيانها وإثباتها، ما سبق أن قرره من ضرورة ملاحظة اختلاف العقول والاستعدادات وما يستتبعه من اختلاف التعاليم. وهو في كل ذلك يعتمد على القرآن وحده، ويفسره وفق منحى خاص له تفسيرًا يختلف باختلاف من يَتَوَجَّه إليهم الخطاب.
  • (١)

    وقد بدأ في هذه الناحية — التي احتفل لها لما لها من خطر — بتأكيد أن الطرق التي ارتضتها الشريعة لإثبات تلك العقائد ليست هي طرق الأشاعرة والمعتزلة من المتكلمين، بل هي الطرق التي جاءت في القرآن وحده «قال الكتاب العزيز — كما يقول في «فصل المقال» — إذا تُؤُمِّل وُجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس.» العامة، والمتكلمين أهل الجدل، والخاصة أولي العلم والبرهان.

    هذه الطرق سَعِدَ بها الناس دهرًا طويلًا، وتسعد كذلك بها الإنسانية إن اتبعتها، ودليل ذلك الصدر الأول من المسلمين ومن سار على هديهم من الذين لم يُؤَوِّلُوا القرآن إلا إذا كان التأويل ظاهرًا واضحًا بنفسه للجميع، واكتفوا باقتناع القلب وبرد اليقين. ولما أخذ المسلمون في التأويل في العصور الأخرى تفرقوا فِرَقًا مختلفة، ومهدوا بأنفسهم لحالة من الشك والقلق لا تكون معها سعادة أو راحة واطمئنان.

    ولا عجب في ضرورة القناعة بطرق القرآن وعدم تجاوزها! إنها أتم الطرق إقناعًا، وأبعثها على التصديق، وهي بنفسها مقبولة من الجميع، وفيها بعد هذا أو ذاك تنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذه الخواص لا توجد، كما يقول: «لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة» جميعًا.

    لا عجب في ذلك، بل العجب كما يرى هو في صنيع الأشاعرة — أو فرقة منهم على الأصح — الذين خطوا طرقًا خاصة لمعرفة الله، وكفَّروا من لم يعرف وجوده بها، مع أنها لا تصلح للناس جميعًا، ولا تصل بمن يصطنعها إلى ما يريد!

  • (٢)

    وبعد هذا التعميم يجب التفصيل.

    ففي مسألة وجود الله، يرى ابن رشد أن الطريقة التي ترضاها الشريعة ونبَّه عليها القرآن، ودعا بها الناس كافة — عامتهم وخاصتهم — إلى الإقرار بوجود إله، تنحصر فيما سماه دليل العناية، ودليل الاختراع. ولا علينا إن أطلنا في عرضها قليلًا كما فعل؛ فلعل في ذلك خيرًا للذين غمرتهم موجة الإلحاد، أو أصابهم شيء من رذاذها أو رشاشها. هذه الموجة التي لفَّت العالم منذ سنين، ولا نزال نشهد من آثارها السيئة ما يتمثل في فريق يزين أو يتظرف أو يتعالم باصطناع الإلحاد.

    يريد بذلك أن من نظر أدنَى نظَرٍ في هذا الوجود، عرف يقينًا أن كل شيء من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وحيوان ونبات، وغير ذلك كله من الموجودات المختلفة، كل ذلك خُلق مُوافقًا لوجود الإنسان وحياته سعيدًا. وفي هذا دليل — أي دليل! — على أن هذا العالم لم يكن عن صدفة أو اتفاق، بل هو صنع إله حكيم يُعنى بما خلق؛ فهو قاصد لذلك مريد.

    وإذن؛ فهذا الدليل قائم على أصلين سهل إدراكهما بالحس وأدنى نظر؛ وهما: موافقة كل الموجودات للإنسان وحياته وسعادته، وأن هذا لا يكون إلا عن فاعل مريد؛ إذ ليس يمكن أن تكون هذه الموافقة العجيبة بالاتفاق كما يقول في «كشف الأدلة».

    وإذا كان دليل العناية يقوم — كما رأينا — على هذين الأصلين اللذين يدركهما الحس والفكر في أدنى درجاته، فدليل الاختراع يقوم على أصلين كذلك؛ هما: أن هذه الموجودات مخترعة لم توجد من نفسها، وأن المخترَع لا بد له من مخترِع، والنتيجة الضرورية لهذين الأصلين أن لهذا العالم على اختلاف أنواعه وضروبه وألوانه فاعلًا مخترِعًا له.

    وفي القرآن آيات تدل على عناية الله بالإنسان، وعلى أنه سبحانه خالق كل موجود، من ذلك قوله في سورة النبأ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا، وقوله في سورة الفرقان: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وقوله في سورة عبس: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ، ومن ذلك أيضًا قوله في سورة الغاشية: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.
    وأخيرًا، من ذلك قوله في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
    ونستطيع نحن أن نضم إلى ما ذكر فيلسوفُنا قولَه تعالى في سورة النازعات: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ.

    وهكذا، كما يذكر فيلسوف قرطبة، نجد في القرآن وحده ما يدل بالحس وأدنى النظر على خلق الله للعالم واختراعه له، وعلى عنايته بالإنسان، فخلق ما خلق ليكون موافقًا لوجوده وحياته، وذلك كله يدل من ناحية العناية والاختراع على حدوث العالم ووجود الله خالقه. يدرك هذا العامة والخاصة جميعًا.

    وفي هذا يقول في «الكشف»:

    فقد بان من هذه الأدلة على وجود الصانع أنها منحصرة في هذين الجنسين: دليل العناية، ودليل الاختراع، وتبين أن هاتين الطريقتين هما بأعيانهما طريقة الخواص — وأعني بالخواص العلماء — وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل … فهذه الطريقة هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرسل ونزلت بها الكتب.

    وفي مسألة أن الله واحدٌ أو الوحدانية، يكتفي بالاستدلال بقوله تعالى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، وقوله: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ، وقوله: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، ويرى أن هذه الآيات الثلاث تدل بشهادة الفطرة السليمة والطبع المستقيم على نفي الألوهية عمن سواه، وعلى أنه واحد لا شريك له، وعليه فيكون الدليل الذي يؤخذ منها هو الدليل الذي يقره الطبع والشرع لمعرفة الوحدانية لله تعالى.

    وهكذا، استرسل فيلسوف الأندلس في بيان الطريقة الطبيعية والشرعية التي يراها ناجعة في إثبات ما يجب لله من صفات الكمال، وفي نفي ما يجب نفيه عنه من صفات النقص، ناقدًا في ذلك كله طرق المتكلمين التي لا تفيد العامة أو الخاصة، مما يقصر المقام عن متابعته فيه.

  • (٣)

    بقي بعد ما تقدم كله أن يُبين لنا رأيه في الاستدلال لأمهات المسائل التي اختلف فيها المتكلمون والفلاسفة، وهي ثلاث: علم الله، وقدم العالم، وكيفية الجزاء في الدار الأخرى.

    والكلام في هذه المسائل — ونحوها مما يتصل بها — من الناحية الموضوعية، مكانه القسم الخاص بعمل ابن رشد في الرد على الغزالي وكتابه «تهافت الفلاسفة»، وإذن نكتفي هنا فيها بكلمات موجزة من ناحية ما يتصل بالتوفيق بين الحكمة والشريعة فحسب.

    ففي صفة العلم يرى أن الله خلق العالم لغاية خاصة؛ ولهذا جعله على ترتيب يحقق تلك الغاية، فيجب أن يكون عالِمًا به وبأحواله كلها؛ بدليل قوله: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ! وهذا ما يجب أن يعتقد، وهذا طريقه من القرآن، يقتنع ويوقن به العامة والخاصة والمتكلم وأولو العلم والبرهان، ولهؤلاء وحدهم أن يبحثوا — فلسفيًّا — الفرق بين علم الله وعلم الإنسان، وأن الله لا يصح أن يوصف علمه بأنه كُلِيٌّ أو جزئي، وإن كان وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.

    وفي مسألة قِدَمِ العالم أو حدوثه، لا يرى أنها مشكلة يكفر بسببها جماعة ويؤمن آخرون، بل إن الخلاف فيها بين المتكلمين والفلاسفة لفظي لا حقيقي؛ فهو خلاف في غير موضع للخلاف.

    القرآن صرح في آيات عديدات بأن العالم مخلوق مصنوع، وهو بما فيه من نظام عجيب، وتركيب محكم، وموافقة تامة لما خُلِقَ له يحمل الدلائل القاطعة على أنه مُحدَث؛ إذ ليس يمكن — كما ذكرنا من قبل — أن تكون هذه الموافقة وذلك النظام والترتيب عن صدفة واتفاق، بل لا بد أن يكون ذلك كله «من قاصد قصَدَه، ومريد أراده، وهو الله عز وجلَّ.»

    وما أبلَغَ ما يذكره ابن رشد في بيان مبلغ الترتيب والموافقة في لفظ «مِهَاد» في الآية: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا! إنه يقول: وذلك أن المهاد يجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع، وزائدًا إلى هذا معنى الوَثَارَة واللين؛ فما أعجب هذا الإعجاز، وأفضل هذه السعادة، وأغرب هذا الجمع! وذلك بأنه قد جمع في لفظ «مهاد» جميع ما في الأرض من موافقتها لكون الإنسان عليها، وذلك شيء قد تبين على التمام للعلماء في ترتيب من الكلام طويل، وقَدْرٍ من الزمان غير يسير، والله يختص برحمته من يشاء.

    إلا أن العالم بعد هذا كله، فيه — كما يقول فيلسوف قرطبة — شبه من الله الموجود بحق، وهو أنه لا أول لوجوده مع احتياجه لله في هذا الوجود؛ فهو لهذا قديم من جهة الزمن ما دام هو معلولًا عن الله تعالى. وإذن فمن قال بقدمه لاحظ هذا المعنى؛ فكان غير كافر بوصفه بالقِدَم مع الإقرار بأنه مخلوق لله تعالى.

    وأخيرًا، فيما يختص بالبعث للحساب: أهو بالروح فقط أو بالجسد أيضًا، والجزاء: أهو معنوي أو مادي؟ يقرر في «كشف الأدلة» و«تهافت التهافت» أن الشرائع جميعًا، ومنها شريعة الإسلام، متفقة على أن للنفوس بعد الموت أحوالًا من السعادة والشقاء، وإن اختلفت في تمثيل هذه الأحوال للناس، وفي بيان حقائقها.

    وشريعتنا — كما يقول — مثلت هذه الحالات من النعيم والعذاب، أو السعادة والشقاء، بمُثُل مادية جسمانية؛ لتكون أكثر تحريكًا لنفوس الجمهور، ودفعًا لها إلى العمل الطيب. والنصوص التي تناولت وصف هذا الجزاء من الممكن أن تُؤَوَّل لناس دون ناس.

    إذنْ فرضُ كلِّ امرئ في هذه المسألة هو الاعتراف بأصل البعث والجزاء الثابت بكل أنواع الأدلة؛ وفيما يختص بالكيفية والصفة يجب أن يعتقد بما أداه إليه نظره واجتهاده.

    ولكي يؤكد لنا ابن رشد أن العقل أو الفلسفة لا تجافي الدين في هذه المسألة، نراه يذكر في «تهافت التهافت» أن الفلاسفة القدماء — ويريد بهم الإغريق — يرون أنه لا يصح أن يُتعرض بقول مثبت أو مبطل لمبادئ الشريعة وأصولها العامة التي لا بد منها لسعادة الإنسان. ومن هذه المبادئ البعث وكيف يكون.

الوحي والمعجزات

الآن وصلنا إلى أهم مسألة أو مشكلة يتعرض لها من يحاول التوفيق بين الدين والعقل، نعني مسألة الوحي والنبوة؛ فهي مشكلة يجب حلها، وعقبة يجب اجتيازها للوصول إلى ما يراد من تآخي الشريعة التي تقوم على الوحي والمعجزات، والفلسفة التي لا تعترف بغير العقل والنظر المنطقي.

لا بد إذن من أن يقول ابن رشد في هذه المشكلة كلمة، ومن أن يبين صراحة رأيه الخاص في الوحي، وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفي الحاجة إلى الشريعة بجانب العقل.

ونعتقد أن الأمر خطير، وأن اللحظة حاسمة بالنسبة إلى فيلسوف قرطبة الأرسطوطاليسي العقل؛ الفيلسوف الذي نعرف اعتداده بالنظر إلى درجة أن يجيز أن يخالف في نتائجه الإجماع في الأمور النظرية، وأن يقطع بوجوب تأويل ما يخالف نتائج النظر المنطقي الصحيح من ظواهر النصوص.

نعم! الأمر جد خطير، واللحظة حاسمة، ولكن فيلسوفنا أخذ يسوس المشكلة سياسة لَبِقَةً حكيمة، ويعالج الأمر بتسامح وبُعْدِ نظر، حتى نجح أو صار قريبًا من النجاح الذي أراد.

ها هو ذا، ونحن نعلم كم أشاد بالنظر العقلي، وكم أشار به، نراه يصرح بأن هناك أمورًا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلا مناص من الرجوع فيها إلى الوحي. ولا عجب؛ فقد جاء الوحي — كما يقول — متممًا لعلوم العقل؛ لأن «كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قِبَل الوحي».

وهذه الأمور التي يعجز العقل عن إدراكها سيجيء عما قريب بيانُها وذكْرُ مثلٍ لها، ولكنا نذكر الآن أنها — كما يقول في كتابه «تهافت التهافت» — أمور من «الضروري علمها لحياة الإنسان ووجوده» وسعادته. وقد كرر هذه الحقيقة وأكدها في موضع آخر، حين رأى أن الفلسفة تُعْنَى بفحص ما يجيء به الشرع؛ فإن أَدْرَكَتْه كان ذلك أتمَّ في المعرفة، وإلا «نادت بقصور العقل الإنساني، وأن ذلك مما يدركه الشرع وحده».

هذه الأمور التي يُحتاج فيها إلى الشريعة، ولا يكفي العقل في معرفتها، تتلخص — كما يرى ابن رشد — في معرفة الله معرفة تامة بالقدر الممكن في هذه الحياة، وفي السعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وما بعدها، وفي وسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.

ذلك بأن الفلاسفة يرون أن الإنسان لا تقوم حياته وسعادته إلا بالفضائل النظرية والخُلُقية. وهذه تعتمد معرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة وَفْقَ الملل المختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات ونحو ذلك مما لا يُعْرَف إلا من الشرع الموحى به، كما يذكر في «تهافت التهافت»، أو على الأقل — كما يذكر في «كشف الأدلة» — هذه الأمور «لا تُعرف كلها أو معظمها إلا بوحي، أو يكون معرفتها بوحي أفضل».

ولا عجب في هذا؛ فإن «الفلسفة — كما يذكر في التهافت — تَنْحُو نحو تعريف بعض الناس سعادتهم، وهم من عندهم استعداد لتعلُّمها، أما الشرائع فتقصد تعليم الجمهور عامة.» ولذلك كان العلم الذي يأتي به الوحي رحمة لجميع الناس.

وهذا الرأي الذي ذهب إليه ابن رشد في الوحي، وأنه ضروري، وتحديد الصلة بينه وبين العقل بِجَعْلِه لكل منهما مكانًا عليًّا على ما يؤخذ من نصوص الكشف والتهافت. هذا الرأي قد يُظَنُّ متعارضًا وما جاء في كتابه الآخر «فصل المقال» خاصًّا بعلو النظر العقلي، وأن العقل قادر على الوصول لكل ما تجيء به الشريعة من حقائق وتعاليم، وأن قُصَارَى الوحي أن يبين للجمهور — في صور ورموز — الحقائق التي يكشفها عقل الفيلسوف خالصة مما يكسوها في الوحي من تلك الرموز والأمثال، وأنه من أجل ذلك قد «انقسم الشرع إلى ظاهر: هو تلك الأمثال المضروبة لتلك الحقائق والمعاني الخفية، وباطن: وهو هذه الحقائق والمعاني التي لا يصل إليها إلا ذوو البرهان.» كما يقول في «فصل المقال».

قد يُظَنُّ التعارض بين ما ذهب إليه هنا وما ذهب إليه هناك كما قلنا؛ ولهذا أساء بعض مؤرخي الفلسفة الإسلامية فَهْمَ موقفه، فبعضهم معتمدًا على نصوص الكشف والتهافت وحدهما جعله «غير عقلي Antirationalirte»، وبعضهم معتمدًا على نصوص فصل المقال وحده جَعَلَه عقليًّا، بإطلاقٍ، لا يتردد في تأويل ما لا يتفق والعقل من نصوص الدين.
هكذا اختلف مؤرخو الفلسفة الإسلامية في بيان نزعة ابن رشد، ولعل الصواب أن نقول للأستاذ «جوتييه Ganthier» المستشرق الفرنسي المعروف: إن فيلسوف قرطبة ليس من الحق أن يوصف بأنه عقلي أو غير عقلي دائمًا وبإطلاقٍ.

إن الحق — فيما نرى — هو أن يحكم عليه بأنه غير عقلي إذا ما تعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وأنه عقلي إذا تعلق الأمر بأولي النظر العقلي والفلسفة؛ ذلك بأنه — فيما يذهب إليه — بالتعبير عن الحقيقة الواحدة بلغتين «مرة بالرموز والأمثال ليفهمها الجمهور، وأخرى بذكرها مجردة كما هي لذوي البرهان» يتم التفاهم بين الشريعة والحكمة، ولا تصطدم إحداهما بالأخرى، ما دام لكل منهما نفوذ خاص، وصنف معين من الناس تتجه لخيره وسعادته.

١  هذا النقل وما سبقه عن تتمة صوان الحكمة للبيهقي.
٢  فللظاهر العامة وأمثالهم، وللباطن ذوو البرهان القادرون على النظر والاستدلال المنطقي.
٣  الكشف عن مناهج الأدلة، نشر ميلير، ص٧٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤