خاتمة المطاف

على أنه برغم هذا كله، بل كان من أجل هذا كله، لم تخلُ حياة ابن رشد — مثله مثل غيره من الموهوبين المجدودين — من متاعب وآلام، حسدًا وبغيًا من جماعة لم يهبهم الله ما وهبه، ولم ينالوا من الخير ما ناله.

لقد توفي الخليفة يوسف أبو يعقوب، فَوَلِيَ بعده سنة ٥٨٠ﻫ ابنه يعقوب، الذي لُقِّبَ بالمنصور، فنال لديه فيلسوفنا ما كان له من المكان العليِّ لدى أبيه، إلا أن القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ يظهر سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه.

لقد بلغ من المنزلة والحظوة لدى الخليفة المنصور درجة ارتفعت فيها الكُلْفَةُ أو كادت، فلم يكن يلزم نفسه رعاية ما تراعيه حاشية الملوك من المَلَقِ والأدب الزائد المصنوع، وكان — كما يرويه لنا القاضي أبو مروان الباجي — متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه، أو بحث عنده في شيء من العلم، يخاطب المنصور فيقول: تسمع يا أخي! وربما قرَّبه هذا الخليفة في مجلسه على كل أصحابه.

وفي سنة ٥٩١ﻫ، أراد المنصور غزو الفونس، ملك كاستيلا وليون، فجاء إلى قرطبة واستدعى ابن رشد إلى مجلسه، فلما حضر أجلسه بجانبه، وقرَّبه إليه أكثر من المعتاد، وجاوز به مكان أقرب الناس إليه، وغمَره بعطفه الكبير حتى قال — وقد خرج من لدنه — لمُهنِّئيه من تلاميذه وأصحابه بهذا العطف، بعد أن أرْجَف الأعداءُ بأن أمير المؤمنين قد أمَر بقتله: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء؛ فإن أمير المؤمنين قد قرَّبني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله فيه، أو يصل رجائي إليه.»

على أن الأيام السُّودَ في حياة ابن رشد قد جاءته تسعى؛ فإن المراكشي يذكر أن المنصور أخذ عليه أنه في شرحه لكتاب «الحيوان» لأرسطوطاليس قال عند ذكره للزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر — يريد المنصور.» فرأى هذا في ذلك إهانة له ولأسرته المالكة، إلا أنه أسرَّها في نفسه ولم يُبْدها له، ولم يشفع له عنده، كما يذكر ابنُ أبي أُصَيْبِعة، ما اعتذر به من أنه كتب «ملك البرَّين»؛ أي أفريقية والأندلس، فغلط الكاتب لتقارب الكلمتين في الحروف.

كذلك يروي نفس المؤرخ أن جماعة من أهل قرطبة، من الذين كانوا ينازعونه الشرف والمجد، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه كما يحدث عادة بين النظراء إلا من عصم الله، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتَب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيًا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أن الزُّهَرة إحدى الآلهة.» فطاروا بهذه الكلمات فرحًا إلى المنصور، وأوهموه أنها من كلام ابن رشد لا حكاية لقول بعض القدماء.

كان من هذا وذاك أن استدعى المنصور ابن رشد في حفل ضم رجال الدين والرؤساء والأعيان بالمسجد الجامع الأعظم بقرطبة، وكانت محاكمة لا ظل للعدالة فيها للقاضي الأكبر أو لشيخ القضاة، الذي كان مثلًا أعلى في قضائه وتحري العدل التام.

ذلك بأن الحَسَدَةَ والدساسين قد أجمعوا أمرهم، وخيَّلوا للناس أن الأمر ليس إلا الاختيار بين الدين والفلسفة؛ ولهذا لم يمكن — كما يقول الأنصاري — عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، وكان بعد هذا أن أمر المنصور بلعنه وطرده ونفيه، ونفي من كان معروفًا على مذهبه، وبإحراق كتب الفلسفة كلها، اللهم إلا الطب والحساب وما يكون وسيلة من علم النجوم إلى معرفة أوقات الصلاة واتجاه القبلة، وأمر بكتابة منشور عام للبلاد كلها بفضيحة هؤلاء ومروقهم من الدين، ووجوب الاعتبار بهم وبمصيرهم.

على أن الأنصاري بعد روايته مسألة الاتهام والحكم بالنفي وسياقة المنشور، نقل عن أحد رجال الدين، الذين اتصلوا بابن رشد أيام توليه قضاء قرطبة، أنه برغم رعاية أبي الوليد رعاية تامة شعائر الدين، زلَّ زلة لا جابر لها تبعد صاحبها عن الدين.

ذلك أنه شاع أن ريحًا عاتية تجري بالشؤم ستهب يوم كذا، واشتد جزع الناس لهذا حتى اتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض، ولما سار ذكر هذه الريح في كل الجهات جمع والي قرطبة طلاب العلم والفقهاء، وفيهم القاضي ابن رشد وصديقه ابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي قلت: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله بها قوم عاد، فلم يتمالك ابن رشد نفسه أن التفت إليَّ وقال: «والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا، فكيف سبب هلاكهم؟!» فَوَجِمَ الحاضرون، وأكبروا هذه الزَّلَّة التي لا تَصْدُرُ إلا عن كافر مكذب للقرآن.

ونرى من الخير أن ننقل عن الأنصاري نفسه تلك الوثيقة الرسمية الدالة على روح ذلك العصر، أي المنشور الذي أمر الخليفةُ كاتبَه أبا عبد الله بن عياش بكتابته إلى مراكش وغيرها؛ لنرى كيف تفكر العقول إذا غلبتها الأساطير، وكيف تَنْفُثُ القلوب سُمًّا إذا ملأها الحقد والكيد. وها هو ذا:

قد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقر لهم عوامهم بتفوق عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلا — لعل الصحيح: إلى — الحي القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخَلَّدُوا في العالم صحفًا ما لها من خلاق، مُسْوَدَّةَ المعاني والأوراق، بُعدها من الشريعة بُعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقًا، ويسيرون فيها شَوَاكل وطرقًا! ذلك بأن الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون؛ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم. ألا ساء ما يزرون!

ونشأ منهم في هذه السمحة البيضا شياطين إنس يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون! يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذَرْهم وما يفترون؛ فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد عن الرجعة إلى الله والمآب؛ لأن الكتابي يجتهد في ضلال، ويَجِدُّ في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل، وقصاراهم التمويه والتخبيل.

دبت عقاربهم في الآفاق بُرْهَةً من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد أملى لهم على شدة حروبهم، وأعفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، وما أُمْلِيَ لهم إلا ليزدادوا إثمًا، وما أُمْهِلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شيء علمًا.

وما زلنا — وصل الله كرامتكم — نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلما أراد الله فضيحة عمايتهم، وكشف غوايتهم؟ وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذ صاحبها بالشمال، ظاهرها مُوَشَّحٌ بكتاب الله، وباطنها مُصَرِّحٌ بالإعراض عن الله، لبس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزَّبُون في صورة السلم، مَزَلَّة للأقدام، وهْم يَدِبُّ في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مَفْلُولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مَغْلُولة؛ فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغَيِّهِم وبُهْتَانهم.

فلما وقفنا منهم على ما هو قَذًى في جَفْن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأبغضناهم في الله كما أننا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك، وعَمِيَت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعد أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم، ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم، والإيقاظ بحدِّه من غفلتهم وسنتهم، ولكنهم وقفوا موقف الخزي والهُون، ثم طردوا من رحمة الله، ولو رُدُّوا لعادوا لما نُهوا عنه وإنهم لكاذبون.

فاحذروا — وفقكم الله — هذه الشِّرْذِمَة على الإيمان حَذَرَكُم من السموم السارية في الأبدان، ومن عثر له على كتاب من كتبهم؛ فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عثر منهم على مجد في غلوائه، عَمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فَلْيُعَاجَلْ بالتثقيف والتعريف.

وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

والله تعالى يُطَهِّر من دَنَسِ الملحدين أصْقَاعَكُم، ويكتب في صحائف الأبرار تَضَافُرَكُم على الحق واجتماعكم. إنه منعم كريم!

هذا هو المنشور الذي كتبه الحقد والحسد والهوى والتعصب، والذي كان له — وقد ذاع في طول البلاد وعرضها — أثر كبير في تنفير الخاصة والعامة من ابن رشد وصحبه الذين نُفُوا بسببه، حتى إن أبا الحسن بن قطرال يُرْوَى عنه أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه!

والشعر أيضًا كان له دوره في هذه النكبة التي جعلت ما في الصدر يظهر على اللسان، فنسمع أبا الحسن بن جُبَيرْ يقول:

لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جَدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك

ويقول:

نَفَذَ القضاء بأخذ كل مموَّه
متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة
إن البلاء مُوَكَّل بالمنطق

ويقول:

بلغت أمير المؤمنين مدى المنى
لأنك قد بلغتنا ما نؤمل
قصدت إلى الإسلام تُعلي مناره
ومقصدك الأسنى لدى الله يقبل
تداركت دين الله في أخذ فرقة
بمنطقهم كان البلاء الموكل
أثاروا على الدين الحقيقي فتنة
لها نار غي في العقايد تُشعل
أقمتهم للناس يبرأ منهم
ووجه الهدى من خزيهم يتهلل
وأوعزت للأقطار بالبحث عنهم
وعن كتبهم، والسعي في ذاك أجمل
وقد كان للسيف اشتياق إليهم
ولكن مقام الخزي للناس أقتل
وآثرت درء الحد عنهم بشبهة
لظاهر إسلام، وحكمك أعدل

وله — أي لابن جبير — في الفيلسوف المنكوب فترة قليلة غير ذلك مما يطول إيراده، كما يقول الأنصاري.

ونظن أن من السهل أن نتمثل حال هذا الشاعر وغيره من الذين ظاهروا على أبي الوليد في محنته. وقد فاء المنصور إلى نفسه ورجع في فيلسوفنا إلى جميل رأيه فيه، فعفا عنه وقرَّبه بعد قليل من هذه المحنة!

تلك هي نَكْبَةُ ابن رشد ومظاهرها، وما تقدم هو جماع ما ذكره مؤرخو المغرب والأندلس من أسبابها. فهل هي الأسباب الحقيقية التي تكفي لتفسير هذه النكبة وإيضاح عواملها؟ أو هناك سبب آخر أهم من تلك الأسباب جميعًا يجب أن يُعتبر أو يضاف إليها؟

نظن أن من الخير تحقيق هذه المسألة، وإن لم نكن بصدد رسالة عن ابن رشد من جميع نواحيه، بل بصدد بحث عن رسالته التي اضطلع بها، وحياته وما كان فيها من أحداث.

يرى المستشرق الفرنسي «مونك Munk» أن تعصب الموحدين يكفي وحده لتفسير تعصب الخليفة المنصور ضد ابن رشد، ويستشهد لما يرى بأن ابن أبي أُصَيْبعة ذكر في حياة أبي بكر بن زُهر، أن المنصور أمره بتعقب الذين يدرسون الفلسفة الإغريقية، وبمصادرة الكتب الخاصة بها وإحراقها.
وكذلك «رينان Renan» يذهب إلى هذا الرأي أو قريب منه؛ إذ يرى أن تعصب الموحدين وكراهة الفلسفة هما السبب الحقيقي لهذه النكبة التي عاناها ابن رشد، وللاضطهادات التي كان أمثاله عرضة لها، ويعلل ما يراه بأن الموحدين يتصلون مباشرة بمدرسة الغزالي، وأن مؤسس دولتهم — وهو المهدي — في أفريقية كان تلميذًا من تلاميذ حجة الإسلام، وعدو الفلسفة.

ولكن للباحث أن يتساءل عما إذا كان تعصب الموحدين كما يرى مونك، أو هذا التعصب وكراهة الفلسفة كما يرى رينان، هما وحدهما السبب الحقيقي لمحنة ابن رشد وصحبه وتلاميذه؟ نعتقد أن الجواب هو: لا.

لقد ساق مونك دليلًا لرأيه — كما قدمنا — تكليف المنصورِ الحفيد أبا بكر بن زُهْر إعدام كتب الفلسفة، وأخذ المشتغلين بها بالعقاب الشديد، ولكن فاته أن يذكر أن المؤرخ الذي أورد هذا الخبر — وهو صاحب طبقات الأطباء — أردفه بأن المنصور نفسه خص الحفيد بذلك حتى «إن كان عنده شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر ولا يقال عنه: إنه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها.» وذلك لما اتهمه بعض أعدائه بأنه يشتغل بالحكمة وعنده الكثير من كتبها، وشهد معه كثيرون بما قال، كان جزاؤه — أي الشاكي — السجنَ ورُدَّ قوله لما يعرفه المنصور — كما قال — في ابن زهر: «من مَتَانَة دينه وعقله.»

كذلك ساق نفس المؤرخ بعد ما تقدم مباشرة أن الحفيد هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب، فأتياه يومًا ومعهما كتاب في المنطق، فلما عرفه رمى به وهَمَّ بضربهما لولا أنهما فاتاه عَدْوًا، وبعد بضعة أيام حضروا معتذرين بعذر تظاهَر بقبوله، ثم أمرهم بحفظ القرآن والاشتغال بالتفسير والحديث والفقه، والمواظبة على رعاية الأمور الدينية، فلما امتثلوا وصارت تلك الأمور عادة لهم، أخرج كتاب الفقه وقال: «الآن صلحتم لأن تقرءوا هذا الكتاب وأمثاله عليَّ، وأشغلهم فيه.»

يظهر لنا إذن أن بعض من عُنوا بدراسة الفلسفة كانوا غير أهل لها، فكانوا يخرجون بسببها عن بعض ما جاء به الدين، ويكونون بذلك سببًا لإثارة العامة، ولاضطهاد الفلسفة وأهلها بصفة عامة.

هذا فرض قريب من الحق، على ما يلوح لنا، إذا لاحظنا أن القرآن حض في كثير من آياته على الدراسة العلمية الفلسفية.

نحن لا ننكر أن الفلسفة كانت في بعض العهود علمًا ممقوتًا في الأندلس لا يسلم المشتغل بها من اضطهاد، ولا أن بعض الذين عُنوا بها قُتلوا في سبيلها، أو كانت حياتهم في خطر بسببها، ذلك حق لا شبهة فيه، وقد حَفَلَت كتب التاريخ بالمثل والأدلة عليه، ولكن نرى أن من الحق أن نذهب إلى أن اضطهاد الفلاسفة بصفة عامة، وابن رشد بصفة خاصة، كان من أسبابه الهامة الخروج في شيء من آرائهم عن الدين؛ إما في الواقع، وإما لأن الجهل يخيل ذلك للعامة وللفقهاء، فيندفعون للتعصب ضدهم، ويجاريهم الولاة والخلفاء أحيانًا كسبًا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم.

وإلا يكن هذا صحيحًا، فكيف لم ير المنصور نفسه بأسًا في أن يشتغل ابن زهر بالفلسفة، التي حَرَّمَ الاشتغال بها، لثقته بدينه وعقله! وكيف أن ابن زهر هذا أبى على بعض تلاميذه أن يشتغلوا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين، واعتيادهم القيام بالشعائر الدينية كما سبق أن بيَّناه!

فإن صح ما ذكره الأنصاري من حادث الريح، يكن من الواجب أن يدخل في أسباب النقمة على ابن رشد ما كان منه في هذا الحادث؛ مما يعتبر تكذيبًا لبعض ما جاء به القرآن، حين أنكر الريح التي هلك بها قوم عاد.

وقد يدل لهذا أيضًا، أن نفس هذا الخليفة الذي نكب فيلسوفنا، وهو يعقوب المنصور، كان قد ساءه كثيرًا تشعب الآراء في الفقه، فعمل على محو مذهب مالك — رضوان الله عليه — وحمل الناس على القرآن والحديث أو السيف، كما يذكر المراكشي.

إذن فما كان من نكبة ابن رشد وتشريد أصحابه يرجع، فيما يرجع إليه من أسباب، إلى الرغبة في الحَجْرِ على العقل والتفكير في بعض الحالات، سواء أكان ذلك في الفقه أو الفلسفة؛ وذلك حتى لا يحدث في الدين من آراء الفقهاء ما ليس منه، وحتى لا يكون من ناحية الفلسفة ما قد يؤخذ منه المعارضة لبعض ما جاء به القرآن أو الدين بصفة عامة، فيثور الفقهاء وتتبعهم العامة، وذلك ما لا يرضاه ملك يحرص على جمع الكلمة والأعداء منه بمَرْصَد، وبخاصة وقد كان المنصور، كما يذكر ابن خِلِّكَان والمقرِيُّ، رجلًا يحفظ القرآن والحديث، ومجددًا للدين معليًا لسلطانه، ومتمسكًا عمليًّا به، ومشورًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القول والعمل، كما كان محبوبًا من الشعب حبًّا شديدًا.

•••

ومهما كانت الأسباب التي أدت إلى نكبة ابن رشد؛ فإنه كما يقول رينان بحق في كتابه «ابن رشد ومذهبه»، في تلك الفترة من الزمن، قد نجح الحزب الديني ضد الحزب الفلسفي؛ إذ نُفي مع أبي الوليد أربعة آخرون ذكرهم صاحب «طبقات الأطباء».

أما هو فقد كان منفاه «أليسانه»، وهو بلد قريب من قرطبة، وكان لليهود خاصة، وفي هذا غَمْزٌ له في نسبه كما يروي الأنصاري، وأنه ينتسب إلى بني إسرائيل، وأما رفقاؤه الأربعة في المحنة فقد أُمروا أن يكونوا في مواضع أُخَر.

وقاسى ابن رشد في محنته هذه كثيرًا من الشدائد، وكان آلَمُها طردَه هو وابنه من المسجد يومًا ما في قرطبة؛ مشرقه وموطن مجده، وقد همَّا بدخوله لأداء صلاة العصر، كما ذكرنا قبلُ. وهذا معناه أن نكبته ذاع أمرها، وعلم بها الناس حتى العامة، وأنها صادفت هوًى في نفوسهم، وهو الذي كان ينفق جاهه وماله في سبيل سعادتهم، كما أن تلاميذه تفرق شملهم وتباعدوا عنه.

على أن زمن المحنة لم يطل، كما أن شمسه آذنت بعد ذلك للمغيب، فقد تغيرت نفس المنصور بعد عودته إلى مراكش، ومال من جديد إلى تعلم الفلسفة، فألغى مراسيمه بتحريمها واضطهاد أهلها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنه على غير ما نُسب إليه، فعفا عنه وعن صحبه سنة ٥٩٥ﻫ، واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.

إلا أنه لم يلبث طويلًا، فمات في هذه السنة بمراكش قبل وفاة الخليفة المنصور بيسير، عن اثنين وسبعين عامًا وبضعة أشهر، ثم حُمِلَ رُفَاتُه إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر؛ حيث دفن بمقبرة أسرته.

تلك حياة ابن رشد وأحداثها ومظاهرها، ولم يبق في هذه الناحية إلا أن نسجل أن أبا الوليد مرَّ بالمحنة، أو مرت به موفور الكرامة. إنه لم يطلب العطف أو يعتذر ويلح في الاعتذار تَوَقِّيًا مما كان يتوقع من ظلم وشدائد، بل احتمل ذلك كله ساكن النفس صابرًا ما دام ذلك لا يثنيه عن غايته، وعن أداء رسالته التي وهب نفسه لها.

لقد كان من أجل هذا حَرِيًّا بحكم ابن الأبار، في كتابه «التكملة»، حين قرر — كما قدمنا — أنه لم ينشأ بالأندلس مثله كمالًا وعلمًا وفضلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤