باب الرقيب

ومن آفات الحُبِّ الرقيبُ، وإنه لحُمَّى باطنة، وبرسامٌ مُلحٌّ، وفكرٌ مُكِبٌّ. والرقباء أقسام، فأولهم مُثْقِل بالجلوس غير متعمِّد في مكانٍ اجتمع فيه المرء مع محبوبه، وعزما على إظهار شيءٍ من سرهما والبوح بوَجْدهما والانفراد بالحديث. ولقد يعرض للمُحب من القلق بهذه الصفة ما لا يعرض له مما هو أشد منها. وهذا وإن كان يزول سريعًا، فهو عائق حالَ دون المُراد، وقطع متوفر الرجاء.

خبر

ولقد شاهدت يومًا مُحبين في مكانٍ قد ظنَّا أنهما انفردا فيه، وتأهَّبا للشكوى، فاستحليا ما هما فيه من الخلوة، ولم يكن الموضع حمًى، فلم يلبثا أن طلع عليهما من كانا يَستثقلانِه، فرَأى فَعَدل إليَّ وأطال الجلوس معي، فلو رأيتَ الفتى المحب وقد تمازج الأسفُ البادي على وجهه مع الغضب لرأيت عجبًا. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

يُطِيلُ جُلُوسًا وَهْوَ أَثْقَلُ جَالِسٍ
ويُبْدِي حَدِيثًا لَسْتُ أَرْضَى فُنُونَهُ
شَمَام ورَضْوَى وَاللُّكَام وَيَذْبُل
ولُبْنَان والصمَّان وَالحرب دُونَه

ثم رقيب قد أحس من أمرهما بطَرف، وتوجَّس من مذهبهما شيئًا، فهو يريد أن يستبين حقيقة ذلك، فيُدمن الجلوس، ويطيل القعود، ويتخفى بالحركات، ويرمُق الوُجوه، ويحصِّل الأنفاس. وهذا أعدى من الحرب. وإني لأعرف مَن هَمَّ أن يُباطش رقيبًا هذه صفتُه. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

مُوَاصِلٌ لَا يُغَبُّ قَصْدًا
أَعْظِمْ بِهَذَا الوِصَالِ غَمًّا
صَارَ وَصِرْنَا لِفَرْطِ مَا لَا
يَزُولُ كَالإِسْمِ وَالمُسَمَّى

ثم رقيب على المحبوب، فذلك لا حيلةَ فيه إلا بترضية، وإذا أُرضِي فذلك غاية اللذة، وهذا الرقيب هو الذي ذكرتْه الشعراء في أشعارها. ولقد شاهدتُ من تلطَّف في استرضاء رقيبٍ حتى صار الرقيبُ عليه رقيبًا له، ومتغافلًا في وقت التغافل، ودافعًا عنه، وساعيًا له. ففي ذلك أقول:

وَرُبَّ رَقِيبٍ أَرْقَبُوهُ فَلَمْ يَزَل
عَلَى سَيِّدِي عَمْدًا لِيُبْعِدَنِي عَنْهُ
فَمَا زَالَتِ الأَلْطَافُ تَحْكُمُ أَمْرَه
إِلَى أَنْ غَدَا خَوْفِي لَهُ آمنًا مِنْهُ
وَكَانَ حُسَامًا سُلَّ حَتَّى يَهُدني
فَعَادَ مُحِبًّا مَا لِنِعْمَتِهِ كُنْهُ

وأقول قطعةً، منها:

صَارَ حَيَاةً وَكَانَ سَهْمَ رَدًى
وَكَانَ سُمًّا فَصَارَ دِرْيَاقا

وإني لأعرف مَن رقَّب على بعض مَن كان يُشفق عليه رقيبًا وَثِق به عند نفسه، فكان أعظمَ الآفة عليه، وأصلَ البلاء فيه.

وأما إذا لم يكن في الرقيب حيلة، ولا وُجد إلى ترضِّيه سبيل؛ فلا طمع إلا بالإشارة بالعين همسًا وبالحاجب أحيانًا، والتعريض اللطيف بالقول، وفي ذلك مُتعة وبلاغ إلى حين يقنع به المُشتاق. وفي ذلك أقول شعرًا، أوَّله:

عَلَى سَيِّدِي مِنِّي رَقِيبٌ مُحَافِظٌ
وَفِيٌّ لِمَنْ وَالَاهُ لَيْسَ بِنَاكِثِ

ومنه:

وَيَقْطَعُ أَسْبَابَ اللُّبَانَةِ فِي الهَوَى
وَيَفْعَلُ فِيهَا فِعْلَ بَعْضِ الحَوَارِثِ
كَأَنَّ لَهُ فِي قَلْبِهِ رِيبَةً تُرَى
وَفِي كُلِّ عَيْنٍ مُخْبِرٌ بِالأَحَادِثِ

ومنه:

عَلَى كُلِّ مَنْ حَوْلِي رَقِيبَانِ رُتِّبَا
وَقَدْ خَصَّنِي ذُو العَرْشِ مِنْهُمْ بِثَالِثِ

وأشنع ما يكون الرقيب إذا كان ممن امتُحن بالعشق قديمًا، ودُهي به، وطالت مدته فيه ثم عُري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغبًا في صيانة مَن رُقِّب عليه، فتبارك الله أي رقبة تأتي منه؟! وأي بلاء مصبوب يحلُّ على أهل الهوى من جهته؟! وفي ذلك أقول:

رَقِيبٌ طَالَمَا عَرَفَ الغَرَامَا
وَقَاسَى الوَجْدَ وَامْتَنَعَ المَنَامَا
وَلَاقَى فِي الهَوَى أَلَمًا أَلِيمًا
وَكَادَ الحُبُّ يُورِدُهُ الحِمَامَا
وَأَتْقَنَ حِيلَةَ الصَّبِّ المُعَنَّى
وَلَمْ يَضَعِ الإِشَارَةَ وَالكَلَامَا
وَأَعْقَبَهُ التَّسَلِّي بَعْدَ هَذَا
وَصَارَ يَرَى الهَوَى عَارًا وَذَامَا
وَصَيَّر دُونَ مَنْ أَهْوَى رَقِيبًا
لِيُبْعِدَ عَنْهُ صَبًّا مُسْتَهَامَا
فَأَيُّ بَلِيَّةٍ صُبت عَلَيْنَا
وَأَيُّ مُصِيبَةٍ حَلَّتْ لِمَاما؟

ومن طريف معاني الرقباء أني أعرف محبَّين مذهبُهما واحد في حُب محبوب واحد بعينه، فلعهدي بهما كُل واحد منهما رقيب على صاحبه. وفي ذلك أقول:

صَبَّانِ هَيْمَانَانِ فِي وَاحِدٍ
كِلَاهُمَا عَنْ خِدْنِهِ مُنْحَرِف
كَالكَلْبِ فِي الآرِي لَا يَعْتَلِف
وَلَا يُخَلِّي الغَيْرَ أَنْ يَعْتَلِف

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤