باب الهجر

ومن آفات الحُبِّ أيضًا الهجرُ، وهو على ضروب؛ فأولها هجر يُوجبه تحفُّظ من رقيب حاضر، وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يُوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه، ولأجْللته عن تسطيره فيه؛ فحينئذٍ ترى الحبيب مُنحرفًا عن مُحبه، مقبلًا بالحديث على غيره، مُعرضًا بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته، وترى المحب أيضًا كذلك، ولكنَّ طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم؛ فتراه حينئذٍ مُنحرفًا كمُقبِل، وساكتًا كناطق، وناظرًا إلى جهة نفسه في غيرها. والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما عَلِمَ أن الخافي غير البادي، وما جَهَر به غير نفس الخَبر. وإنه لمن المَشاهد الجالبة للفتن، والمناظر المحركة للسواكن، الباعثة للخواطر، المهيجة للضمائر، الجاذبة للفتوة. ولي أبيات في شيء من هذا أوردتها، وإن كان فيها غير هذا المعنى على ما شرطنا، منها:

يَلُومُ أَبُو العَبَّاسِ جَهْلًا بِطَبْعِهِ
كَمَا عَيَّرَ الحُوتُ النَّعَامَةَ بِالصَّدَى

ومنها:

وَكَمْ صَاحِبٍ أَكْرَمْتُهُ غَيْرَ طَائِعٍ
وَلَا مُكْرَهٍ إِلَّا لِأَمْرٍ تَعَمَّدَا
وَمَا كَانَ ذَاكَ البِرُّ إِلَّا لِغَيْرِهِ
كَمَا نَصَبُوا لِلطَّيْرِ بِالحبِّ مِصْيَدا

وأقول من قصيدة محتوية على ضروب من الحِكَم وفنون من الآداب الطبيعية:

وَسَرَّاءُ أَحْشَائِي لِمَنْ أَنَا مُؤْثِرٌ
وَسَرَّاءُ أَبْنَائِي لِمَنْ أَتَحَبَّبُ
فَقَدْ يُشْرَبُ الصَّابُ الكَرِيهُ لِعِلَّةٍ
وَيُتْرَكُ صَفوُ الشهْدِ وهو مُحَبَّبُ
وَأَعدلُ فِي إِجْهَادِ نَفْسِيَ فِي الَّذِي
أُرِيدُ وَإِنِّي فِيهِ أَشْقَى وَأَتْعَبُ
هَلِ اللُّؤْلُؤ المَكْنُون وَالدُّر كُلهُ
رَأَيْتَ بِغَيْرِ الغَوْصِ فِي البَحْرِ يُطْلَبُ
وَأَصْرِفُ نَفْسِي عَنْ وُجُوهِ طِبَاعِهَا
إِذَا فِي سِوَاهَا صَحَّ مَا أَنَا أَرْغَبُ
كَمَا نَسَخَ الله الشَّرَائِعَ قَبْلَنَا
بِمَا هُوَ أَدْنَى لِلصَّلَاحِ وَأَقْرَبُ
وَأَلْقَى سَجَايَا كُلِّ خَلْقٍ بِمِثْلِهَا
ونَعتُ سَجَايَايَ الصَّحِيحُ المُهذب
كَمَا صَارَ لَوْنُ المَاءِ لَوْنَ إِنَائِهِ
وَفِي الأَصْلِ لَوْنُ المَاءِ أَبْيَضُ مُعْجبُ

ومنها:

أَقمتُ ذَوِي وُدِّي مُقَامَ طَبَائِعِي
حَيَاتِي بِهَا وَالمَوْتُ مِنْهُنَّ يَرْهَبُ

ومنها:

وَمَا أَنَا مِمَّنْ تطَّبِيهِ بَشَاشَةٌ
وَلَا يَقْتَضِي مَا فِي ضَمِيرِي التَّجَنُّبُ
أَزِيدُ نِفَارًا عِنْدَ ذَلِكَ بَاطِنًا
وَفِي ظَاهِرِي أَهْلٌ وَسَهْلٌ وَمَرْحَبُ
فَإِنِّي رَأَيْتُ الحَرْبَ يَعْلُو اشْتِعَالُهَا
وَمَبْدَؤُهَا فِي أَوَّلِ الأَمْرِ مَلْعَب
وَلِلْحَيَّةِ الرَّقْشَاءِ وَشْيٌ وَلَوْنُهَا
عَجِيبٌ وَتَحْتَ الوَشْيِ سُمٌّ مُرَكَّب
وَإِنَّ فِرنْدَ السَّيْفِ أَعْجَبُ مَنْظَرًا
وَفِيهِ إِذَا هُزَّ الحِمَامُ المُذَرَّبُ
وَأَجْعَلُ ذُلَّ النَّفْسِ عِزَّةَ أَهْلِهَا
إِذَا هِيَ نَالَتْ مَا لهَا فِيهِ مَذهبُ
فَقَدْ يَضَعُ الإِنْسَانُ فِي التُّرْبِ وَجْهَهُ
لِيَأْتِي غَدًا وَهْوَ المَصُونُ المُقَرَّبُ
فَذُلٌّ يَسُوقُ العِزَّ أَجْوَدُ لِلْفَتَى
مِنَ العِزِّ يَتْلُوهُ مِنَ الذُّلِّ مَرْكَب
وَكَمْ مَأْكَلٍ أَرَبتْ عَوَاقِبُ غَيِّهِ
وَرُبَّ طَوًى بِالخِصْبِ آتٍ وَمُعْقِب
وَمَا ذَاقَ عِزَّ النَّفْسِ مَنْ لَا يُذِلُّهَا
وَلَا الْتَذَّ طَعْمَ الرَّوحِ مَنْ لَيْسَ يَنْصَبُ
وُرُودُكَ نَهْلَ المَاءِ مِنْ بَعْدِ ظَمْأَةٍ
أَلَذُّ مِنَ العَلِّ المَكِينِ وَأَعْذَبُ

ومنها:

وَفِي كُلِّ مَخْلُوقٍ تَرَاهُ تَفَاضُلٌ
فَرِدْ طَيِّبًا إِنْ لَمْ يُتَحْ لَكَ أَطْيَب
وَلَا تَرْضَ وِرْدَ الرِّيقِ إِلَّا ضَرُورَةً
إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الأرْضِ حَاشَاهُ مَشْرَب
وَلَا تَقْربَنْ مِلْحَ المِيَاهِ فَإِنَّهَا
شَجًى وَالصَّدى بِالحَرِّ أَوْلَى وَأَوْجَب

ومنها:

فَخُذْ مِنْ جَرَاهَا مَا تَيَسَّرَ وَاقتنِعْ
وَلَا تَكُ مَشْغُولًا بِمَنْ هُوَ يَغْلِب
فَمَا لَكَ شَرْطٌ عِنْدَهَا لَا وَلَا يَدٌ
وَلَا هِيَ إِنْ حَصَّلْتَ أمٌّ وَلَا أَب

ومنها:

وَلَا تَيْأَسَنْ مِمَّا يُنَالُ بِحِيلَةٍ
وَإِنْ بَعُدَتْ فَالأَمْرُ يَنْأَى وَيَصْعُب
وَلَا تَأْمَنِ الإِظْلَامَ فَالفَجْرُ طَالِعٌ
وَلَا تَلْتَبِسْ بِالضَّوْءِ فَالشَّمْسُ تَغْرُب

ومنها:

أَلِحَّ فَإِنَّ المَاءَ يَكْدَحُ فِي الصَّفَا
إِذَا طَالَ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَيَذْهَب
وَكَثِّرْ وَلَا تَفْشَلْ وَقَلِّلْ كَثِيرَ مَا
فَعلْتَ فَمَاءُ المُزْنِ جَمٌّ وَيَنْضُب
فَلَوْ يَتَغَذَّى المَرْءُ بِالسُّمِّ قَاتَهُ
وَقَامَ لَهُ مِنْهُ غِذَاءٌ مُجَرَّب

ثم هَجْر يُوجبه التذلُّل، وهو ألذُّ من كثير الوصال؛ ولذلك لا يكون إلا عن ثِقة كُل واحد من المتحابِّين بصاحبه، واستحكام البصيرة في صحة عَقده؛ فحينئذٍ يُظهر المحبوب هجرانًا ليرى صبر مُحبه؛ وذلك لئلا يصفوَ الدهرَ البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حلَّ، لكن مخافة أن يترقَّى الأمر إلى ما هو أجلُّ. يكون ذلك الهجر سببًا إلى غيره، أو خوفًا من آفة حادث ملل. ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة، وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود، فلما كثر ذلك قلت على سبيل المزاح شعرًا بديهيًّا ختمتُ كل بيت منه بقسم من أول قصيدة طرفة بن العبد المُعلَّقة، وهي التي قرأناها مشروحةً على أبي سعيد الفتى الجعفري، عن أبي بكر المقرئ، عن أبي جعفر النحاس — رحمهم الله — في المسجد الجامع بقرطبة، وهي:

تَذَكَّرْتُ وُدًّا لِلْحَبِيبِ كَأَنَّهُ
لِخَوْلَةَ أَطْلَالٌ بِبُرْقَة ثَهْمَدِ
وَعَهْدِي بِعَهْدٍ كَانَ لِي مِنْهُ ثَابِتٍ
يَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ
وَقَفْتُ بِهِ لَا مُوقِنًا بِرُجُوعِهِ
وَلَا آيِسًا أَبْكِي وَأَبْكِي إِلَى الغَدِ
إِلَى أَنْ أَطَالَ النَّاسُ عَذْلِي وَأَكْثَرُوا
يَقُولُونَ لَا تَهْلِكْ أَسًى وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ فُنُونَ السُّخْطِ مِمَّنْ أُحِبُّهُ
خَلَايَا سَفينٍ بِالنَّوَاصِفِ مِنْ دَد
كَأَنَّ انْقِلَابَ الهَجْرِ وَالوَصْلِ مَرْكَبٌ
يَجُورُ بِهِ المَلَّاحُ طَوْرًا وَيَهْتَدِي
فَوَقْتُ رِضًى يَتْلُوهُ وَقْتُ تَسَخُّطٍ
كَمَا قَسَمَ التُّرْبَ المُفَايِلُ بِاليَدِ
وَيَبْسِمُ نَحْوِي وهو غَضْبَانُ مُعْرِضٌ
مُظَاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ

ثم هَجْر يُوجبه العِتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعضُ الشدة، لكن فرحة الرجعة وسُرور الرضى يعدل ما مضى؛ فإن لرضى المَحبوب بعد سخطه لذةً في القلب لا تعدلها لذة، وموقفًا من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مُشاهد أو رأت عين أو قام في فكرٍ ألذُّ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبَعُد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واشٍ، واجتمع فيه مُحبَّان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما وطال ذلك قليلًا، وبدأ بعض الهجر ولم يكن ثَمَّ مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المُحب في الاعتذار والخضوع والتذلُّل والأدلة بحجته الواضحة من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطورًا يُدلي ببراءته، وطورًا يردُّ بالعفو ويستدعي المغفرة ويُقر بالذَّنب ولا ذنب له، والمحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يُسارقه اللحظَ الخفي، وربما أدامه فيه، ثم يبسم مُخفيًا لتبسمه، وذلك علامة الرضى، ثم ينجلي مجلسهما عن قَبول العذر، ويقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، ولو كان، فكيف ولا ذنب؟ وختما أمرهما بالوصل الممكن، وسُقوط العتاب، والإسعاد، وتفرقا على هذا.

هذا مكان تَتقاصر دونه الصفات، وتتلكَّن بتحديده الألسنة. ولقد وطئتُ بساط الخلفاء وشاهدتُ محاضر الملوك فما رأيتُ هيبةً تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكُّن المتغلبين على الرؤساء وتحكُّم الوزراء وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجُّحًا ولا أعظم سرورًا بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده، ووثق بميله إليه، وصحة مودته له.

وحضرت مقام المعتذرين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف مُحب هَيمان بين يدي محبوب غضبان قد غَمره السخط، وغلب عليه الجفاء. ولقد امتحنت الأمرين، وكنت في الحالة الأولى أشدَّ من الحديد، وأنفذ من السيف، لا أجيب إلى الدنية، ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلُّل، وأغتنم فُرصة الخضوع لو نجع، وأتحلَّل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفنن القول فنونًا، وأتصدى لكل ما يوجب الترضِّي.

والتجنِّي بعضُ عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحَّة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.

خبر

وأذكر في مثل هذا أني كنت مجتازًا في بعض الأيام بقرطبة في مقبرة باب عامر، في لَمَّة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد المصري بالرصافة أستاذي — رضي الله عنه — ومعنا أبو بكر عبد الرحمن بن سليمان البلوي من أهل سِبتة، وكان شاعرًا مفلقًا، وهو ينشد لنفسه في صفة متجنٍّ معهود أبياتًا له، منها:

سَرِيعٌ إِلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَإِنَّهُ
إِلَى نَقْضِ أَسْبَابِ المَوَدَّةِ يُسْرِعُ
يَطُولُ عَلَيْنَا أَنْ نُرِقِّعَ وُدَّهُ
إِذَا كَانَ فِي تَرْقِيعِهِ يَتَقَطَّعُ

فوافق إنشاد البيت الأول من هذين البيتين خطور أبي الحسين بن علي الفاسي — رحمه الله تعالى — وهو يؤم أيضًا مجلس ابن أبي يزيد، فسمعه فتبسم — رحمه الله — نحونا، وطوانا ماشيًا وهو يقول: بل إلى عقد المودة إن شاء الله؛ فهو أولى. هذا على جِد أبي الحسين — رحمه الله — وفضله وتقرُّبه وبراءته ونسكه وزهده وعلمه، فقلت في ذلك:

دَعْ عَنْكَ نَقْضَ مَوَدَّتِي مُتَعَمِّدًا
وَاعْقِدْ حِبَالَ وِصَالِنَا يَا ظَالِمُ
وَلَتَرْجِعَنَّ أَرَدْتَهُ أَوْ لَمْ تُرِد
كُرْهًا لِمَا قَالَ الفَقِيهُ العَالِمُ

ويقع فيه الهجر والعتاب. ولعمري إن فيه إذا كان قليلًا للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجنِّي، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدِّمة الصد، وإنما يُستحسن إذا لَطُف وكان أصله الإشفاق. وفي ذلك أقول:

لَعَلَّكَ بَعْدَ عَتبِكَ أَنْ تَجُودَا
بِمَا مِنْهُ عَتَبْتَ وَأَنْ تَزِيدَا
فَكَمْ يَوْمٍ رَأَيْنَا فِيهِ صَحْوًا
وَأَسْمَعَنَا بِآخِرِهِ الرُّعُودَا
وَعَادَ الصَّحْوُ بَعْدُ كَمَا عَلِمْنَا
وَأَنْتَ كَذَاكَ نَرْجُو أَنْ تَعُودَا

وكان سبب قولي هذه الأبيات عِتاب وقع في يومٍ هذه صفتُه من أيام الربيع، فقلتُها في ذلك الوقت، وكان لي في بعض الزمن صديقان، وكانا أخوين، فغابا في سفر ثم قَدِما وقد أصابني رَمَدٌ فتأخَّرا عن عيادتي، فكتبتُ إليهما — والمخاطبة للأكبر منهما — شعرًا، منه:

وَكُنْتُ أُعَدِّدُ أُيْضًا عَلَى
أَخِيكَ بِمُؤْلِمَةِ السَّامِعِ
وَلَكِنْ إِذَا الدَّجْنُ غَطَّى ذُكَاءً
فَمَا الظَّنُّ بِالقَمَرِ الطَّالِعِ؟

ثم هجر يُوجبه الوُشاة. وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سببًا للمقاطعة البتة.

ثم هجر الملل. والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دُهي به ألا يصفوَ له صديق، ولا يَصحَّ له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف، ولا تطول مُساعدته لمُحب، ولا يُعتقد منه وُدٌّ ولا بغض. وأولى الأمور بالناس ألَّا يغروه منهم، وأن يفروا عن صحبته ولقائه؛ فلن يظفروا منه بطائل؛ ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المُحبين، وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجنِّي والتظنِّي والتعرض للمقاطعة. وأما من تزيَّا باسم الحُبِّ وهو مَلُولٌ فليس منهم، وحقُّه ألا يتجرع مذاقه، ويُنفى عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم.

وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلبًا منها على أبي عامر محمد بن عامر — رحمه الله — فلو وصف لي واصف بعضَ ما علمتُه منه لما صدقتُه. وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبةً، وأقلُّهم صبرًا على المحبوب، وعلى المكروه والصد، وانقلابهم عن الودِّ على قدر تسرُّعهم إليه؛ فلا تثِق بملول، ولا تَشغل به نفسك، ولا تُعنِّها بالرجاء في وفائه، فإن دُفعت إلى محبته ضرورةً فَعُدَّه ابنَ ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلوُّنه، وقابله بما يشاكله.

ولقد كان أبو عامر المُحدَّث عنه يرى الجاريةَ فلا يَصبر عنها، ويُحيق به من الاغتمام والهم ما يكاد أن يأتيَ عليه حتى يملكها، ولو حال دون ذلك شوكُ القتاد، فإذا أيقن بتصيُّرها إليه عادت المحبة نفارًا، وذلك الأنس شُرودًا، والقلق إليها قلقًا منها، ونزاعه نحوها نزاعًا عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان. هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا من عشرات ألوف الدنانير عددًا عظيمًا. وكان — رحمه الله — مع هذا من أهل الأدب والحذق والذكاء والنبل والحلاوة والتوقُّد مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض.

وأما حسن وجهه وكمال صُورته فشيء تَقف الحدود عنه، وتَكِلُّ الأوهام عن وصف أقله، ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيَّارة ويتعمدون الخُطور على باب داره في الشارع الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقُرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة — وفي هذا الدرب كانت داره، رحمه الله، ملاصقةً لنا — لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبَّته جَوارٍ كُنَّ علَّقْن أوهامهن به، ورثَينَ له فخانَهنَّ مما أمَّلْنه منه، فصِرْنَ رهائنَ البِلَى وقتلتهنَّ الوحدة.

وأنا أعرف جاريةً منهن كانت تُسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست، ولا تجف دموعها، وكانت قد تصيرت من داره إلى البركات الخيَّال صاحب الفتيان. ولقد كان — رحمه الله — يُخبرني عن نفسه أنه يملُّ اسمَه فضلًا عن غير ذلك.

وأما إخوانه فإنه تبدَّل بهم في عُمره على قِصَره مرارًا، وكان لا يثبُتُ على زي واحد كأبي بَراقش؛ حينًا يكون في ملابس الملوك، وحينًا في ملابس الفتَّاك.

فيجب على مَن امتُحن بمخالطة مَن هذه صفته على أي وجهٍ كان ألَّا يستفرغ عامة جُهْده في محبَّته، وأن يُقيم اليأس من دوامه خَصمًا لنفسه؛ فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعه أيامًا حتى ينشط بالُه، ويبعد به عنه، ثم يُعاوده، فربما دامت المودَّة مع هذا. وفي ذلك أقول:

لَا تَرْجُوَنَّ مَلُولًا
لَيْسَ المَلُولُ بِعُدَّهْ
وُدَّ المَلُولِ فَدَعْهُ
عَارِيَة مُسْتَرَدَّهْ

ومن الهَجْر ضَربٌ يكون متولِّيه المحب، وذلك عندما يرى من جَفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه، فيرى الموت ويتجرَّع غُصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية ما يكره، فينقطع وكبده تتقطع. وفي ذلك أقول:

هَجَرْتُ مَنْ أَهْوَاهُ لَا عَنْ قِلًى
يَا عَجَبًا لِلعَاشِقِ الهَاجِرِ
لَكِنَّ عَيْنِي لَمْ تُطِقْ نَظْرَةً
إِلَى مُحَيَّا الرَّشَأ الغَادِرِ
فَالمَوْتُ أَحْلَى مَطْمَعًا مِنْ هَوًى
يُبَاحُ لِلْوَارِدِ وَالصَّادِرِ
وَفِي الفُؤَادِ النَّارُ مَذْكِيَّةٌ
فَاعجبْ لِصَبٍّ جَزِعٍ صَابِرِ
وَقَدْ أَبَاحَ الله فِي دِينِهِ
تَقِيَّةَ المَأْسُورِ لِلآسِرِ
وَقَدْ أَحَلَّ الكُفْرَ خَوْفُ الرَّدَى
حَتَّى تَرَى المُؤْمِنَ كَالكَافِرِ

خبر

ومن عجيب ما يكون فيها وشنيعه أني أعرف مَن هام قلبُه بمتناءٍ عنه نافرٍ منه، فقاسى الوجد زمنًا طويلًا، ثم سَنحت له الأيام بسانحة عجيبة من الوصل أشرف بها على بلوغ أمله، فحين لم يكن بينه وبين غاية رجائه إلا كهؤلاء عاد الهَجر والبُعد إلى أكثر ما كان قبلُ، فقلت في ذلك:

كَانَتْ إِلَى دَهْرِيَ لِي حَاجَةٌ
مَقْرُونَةٌ فِي البُعْدِ بِالمُشْتَرِي
فَسَاقَهَا بِاللُّطْفِ حَتَّى إِذَا
كَانَتْ مِنَ القُرْبِ عَلَى مَحْجر
أَبْعَدَهَا عَنِّي فَعَادَتْ كَأَنْ
لَمْ تَبْدُ لِلْعَيْنِ وَلَمْ تَظْهَرِ

وقلت:

دَنَا أَمَلِي حَتَّى مَدَدْتُ لِأَخْذِهِ
يَدًا فَانْثَنَى نَحْوَ المَجَرَّةِ رَاحِلَا
فَأَصْبَحْتُ لَا أَرْجُو وَقَدْ كُنْتُ مُوقِنًا
وَأُضْحي مَعَ الشِّعْرَى وَقَدْ كَانَ حَاصِلا
وَقَدْ كُنْتُ مَحْسُودًا فَأَصْبَحْتُ حَاسِدًا
وَقَدْ كُنْتُ مَأْمُولًا فَأَصْبَحْتُ آمِلا
كَذَا الدَّهْرُ فِي كَرَّاتِهِ وَانْتِقَالِهِ
فَلَا يَأْمَنَنَّ الدَّهْرَ مَنْ كَانَ عَاقِلا

ثم هَجْر القِلَى، وهنا ضلت الأساطير، ونفدت الحِيل، وعظم البلاء؛ وهو الذي خلَّى العقولَ ذواهلَ، فمن دُهي بهذه الداهية فليتصدَّ لمحبوب محبوبه، وليتعمَّد ما يعرف أنه يستحسنه، ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطَّفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طَمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب؛ فإن لم يقدر المرء على استصرافه؛ فليتعمَّد السُّلوان، وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، ويسعى في نيل رغبته على أي وجه أمكنه. ولقد رأيت مَن هذه صفته، وفي ذلك أقول قطعةً، أوَّلها:

دُهِيتُ بِمَنْ لَوْ أَدْفَعُ المَوْتَ دُونَهُ
لَقَالَ إِذًا يا لَيْتَنِي فِي المَقَابِرِ

ومنها:

وَلَا ذَنْبَ لِي إِذْ صِرْتُ أَحْدُو رَكَائِبِي
إِلَى الورْدِ وَالدُّنْيَا تُسِيءُ مَصَادِرِي
وَمَاذَا عَلَى الشَّمْسِ المُنِيرَةِ بِالضُّحَى
إِذَا قَصُرَتْ عَنْهَا ضِعَافُ البَصَائِرِ

وأقول:

مَا أَقْبَحَ الهَجْرَ بَعْدَ وَصْلٍ
وَأَحْسَنَ الوَصْلَ بَعْدَ هَجْرِ
كَالوَفْرِ تَحْوِيهِ بَعْدَ فَقْرٍ
وَالفَقْرِ يَأْتِيكَ بَعْدَ وَفْرِ

وأقول:

مَعْهُود أَخْلَاقك قِسْمانِ
وَالدَّهْرُ فِيكَ اليَوْمَ صِنْفان
فَإِنَّكَ النُّعْمانُ فِيما مَضَى
وَكَانَ لِلنُّعْمَانِ يَوْمَان
يَوْمُ نَعِيمٍ فِيهِ سَعْدُ الوَرَى
وَيَوْمُ بَأْسَاء وَعُدْوَانِ
فَيَوْم نُعْمَاكَ لِغَيْرِي وَيَوْ
مِي مِنْكَ ذُو بُؤْسٍ وَهجْرَانِ
أَلَيْسَ حُبِّي لَكَ مُسْتَاهِلًا
لِأَنْ تُجَازِيهِ بِإِحْسَانِ

وأقول قطعةً، منها:

يَا مَنْ جَمِيعُ الحُسْنِ مُنْتَظِمٌ
فِيهِ كَنَظْمِ الدُّرِّ فِي العِقْدِ
مَا بَالُ حَتْفِي مِنْكَ يَطْرُقُنِي
قَصْدًا وَوَجْهُكَ طَالِعُ السَّعْدِ

وأقول قصيدة، أولها:

أَسَاعَةُ تَوْدِيعِكَ أَمْ سَاعَةُ الحَشْرِ
وَلَيْلَةُ بَيْنِي مِنْكَ أَمْ لَيْلَةُ النَّشْرِ
وَهَجْرُكَ تَعْذِيبُ المُوَحِّدِ يَنْقَضِي
وَيَرْجُو التَّلَاقِي أَمْ عَذَابُ ذَوِي الكُفْرِ

ومنها:

سَقَى الله أَيَّامًا مَضَتْ وَلَيَالِيًا
تُحَاكِي لَنَا النَّيْلُوفَرَ الغَضَّ فِي النَّشْرِ
فَأَوْرَاقُهُ الأَيَّامُ حُسْنًا وَبَهْجَةً
وَأَوْسَطُهُ اللَّيْلُ المُقَصِّرُ لِلْعُمْرِ
لَهَوْنَا بِهَا فِي غَمْرَةٍ وَتَآلُفٍ
تَمُرُّ فَلَا نَدْرِي وَتَأتِي فَلَا نَدْرِي
فَأَعْقَبَنَا مِنْهُ زَمَانٌ كَأَنَّهُ
وَلَا شَكَّ حُسْنُ العقْدِ أعقب بِالغَدْرِ

ومنها:

فَلَا تَيْأَسِي يَا نَفْسُ عَلَّ زَمَانَنَا
يَعُودُ بِوَجْهٍ مُقْبِلٍ غَيْرِ مُدْبِرِ
كَمَا صَرفَ الرَّحْمَنُ مُلْكَ أُمَيَّة
إِلَيْهِمْ، وَلُوذِيَ بِالتَّجَمُّلِ وَالصَّبْرِ

وفي هذه القصيدة أمدح أبا بكر هشام بن محمد، أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى — رحمه الله — فأقول:

أَلَيْسَ يُحِيطُ الرُّوحَ فِينَا بِكُلِّ مَا
دَنَا وَتَنَاءَى وَهْوَ فِي حُجُبِ الصَّدْرِ
كَذَا الدَّهْرُ جِسْمٌ وهو فِي الدَّهْرِ رُوحُهُ
مُحِيطٌ بِمَا فِيهِ وَإِنْ شِئْتَ فَاسْتقْرِ

ومنها:

إِتَاوَتُهَا تُهْدى إِلَيْهِ وَمِنَّةٌ
تَقبُّلُهَا مِنْهُمْ يُقَاوَمُ بِالشُّكْرِ
كَذَا كُلُّ نَهْرٍ فِي البِلَادِ وَإِنْ طَمَتْ
غَزَارَتُهُ يَنْصَبُّ فِي لُجَجِ البَحْرِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤