باب الوفاء

ومن حميد الغرائز وكريم الشِّيم وفاضل الأخلاق في الحُبِّ وغيرِه الوفاءُ، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طِيب الأصل، وشَرف العُنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات. وفي ذلك أقول قطعةً، منها:

أَفْعَالُ كُلِّ امْرِئٍ تُنْبِي بِعُنْصُرِهِ
وَالعَيْنُ تُغْنِيكَ عَنْ أَنْ تَطْلُبَ الأَثَرَا

ومنها:

وَهَلْ تَرَى قَطُّ دِفْلى أَنْبَتَتْ عِنَبًا
أَوْ تَذْخرُ النَّحْل فِي أَوْكَارِهَا الصَّبِرَا

وأول مراتب الوفاء أن يفيَ الإنسان لمن يفي له. وهذا فرض لازم، وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خَلاقَ له ولا خير عنده. ولولا أن رسالتنا هذه لم نقصد بها الكلام في أخلاق الإنسان وصفاته المطبوعة والتطبُّع بها، وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبُّع بعدم الطبع، لزدتُ في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكنا إنما قصدنا التكلُّم فيما رغبته من أمر الحب فقط. وهذا أمر كان يطول جدًّا؛ إذ الكلام فيه يتفنن كثيرًا.

خبر

ومن أرفع ما شاهدته من الوفاء في هذا المعنى وأهوله شأنًا قصَّة رأيتها عِيانًا، وهو أني أعرف مَن رَضِي بقطيعة محبوبه وأعزِّ الناس عليه، ومن كان الموت عنده أحلى من هجر ساعة في جَنب طيِّه لسرٍّ أودعه، والتزم محبوبه يمينًا غليظةً ألَّا يكلمه أبدًا، ولا يكون بينهما خبرٌ أو يفضح إليه ذلك السر. على أن صاحب ذلك السرِّ كان غائبًا، فأبى من ذلك، وتمادى هو على كتمانه، والثاني على هجرانه إلى أن فرَّقت بينهما الأيام.

ثم مرتبة ثانية، وهو الوفاء لمن غَدر، وهي للمُحب دون المحبوب، وليس للمحبوب ها هنا طريق ولا يلزمه ذلك، وهي خُطة لا يُطيقها إلا جَلْد قويٌّ واسع الصدر، حرُّ النفس، عظيم الحِلْم، جليل الصبر، حَصِيف العقل، ماجد الخُلُق، سالم النية. ومن قابل الغدر بمثله فليس بمُستأهل للملامة، ولكن الحال التي قدمنا تفوقها جدًّا وتفوتها بُعدًا. وغاية الوفاء في هذه الحال تركُ مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيئ المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جرِّ حَبل الصحبة ما أمكن، ورُجيت الألفة، وطُمع في الرجعة، ولاحت للعودة أدنى مخيلة، وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة.

فإذا وقع اليأس واستحكم الغيظ حينئذٍ والسلامة من غرك، والأمن من ضرك، والنجاة من أذاك، وأن يكون ذكر ما سلف مانعًا من شفاء الغيظ فيما وقع، فرَعْي الأذمة حق وَكِيد على أهل العقول، والحنين إلى ما مضى، وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته أثبت الدلائل على صحة الوفاء. وهذه الصفة حسنة جدًّا، وواجب استعمالها في كل وجهٍ من وجوه معاملات الناس فيما بينهم على أي حالٍ كانت.

خبر

ولعهدي برجل من صَفوة إخواني قد علق بجاريةٍ فتأكد الود بينهما، ثم غدرت بعهده، ونقَضت وُدَّه، وشاع خبرهما، فوجد لذلك وجدًا شديدًا.

خبر

وكان لي مرةً صديق، ففسدت نيَّتُه بعد وَكِيد مودة لا يُكفر بمثلها، وكان علم كل واحد منا سرَّ صاحبه، وسقطت المئونة، فلما تغير عليَّ أفشى كل ما اطَّلع لي عليه مما كنت اطلعت منه على أضعافه، ثم اتَّصل به أن قوله فيَّ قد بلغني؛ فجزع لذلك وخشي أن أُقارضه على قبيح فعلته، وبلغني ذلك فكتبتُ إليه شعرًا أؤنسه فيه وأعلمه أني لا أقارضه.

خبر

ومما يدخل في هذا الدرج، وإن كان ليس منه ولا هذا الفصل المتقدم من جنس الرسالة والباب، ولكنه شبيه له على ما قد ذكرنا وشرطنا، وذلك أن محمد بن وليد بن مكسير الكاتب كان مُتصلًا بي ومُنقطعًا إليَّ أيام وزارة أبي — رحمة الله عليه — فلما وقع بقُرطبة ما وقع وتغيرت أحوالٌ خرج إلى بعض النواحي فاتَّصل بصاحبها، فعرض جاهُه وحدثت له وَجاهة وحالٌ حسنة، فحللتُ أنا تلك الناحية في بعض رحلتي فلم يُوَفِّني حقي، بل ثَقُل عليه مكاني وأساء معاملتي وصُحْبتي، وكلَّفته في خلال ذلك حاجةً لم يقُم فيها ولا قعَد، واشتغل عنها بما ليس في مثله شُغل، فكتبتُ إليه شعرًا أعاتبه فيه، فجاوبني مستعتبًا على ذلك، فما كلَّفته حاجةً بعدها. ومما لي في هذا المعنى، وليس من جنس الباب ولكنه يشبهه، أبيات قلتها، منها:

وَلَيْسَ يُحْمَدُ كِتْمَانٌ لِمُكْتَتِمٍ
لَكِنَّ كَتْمَكَ مَا أَفْشَاهُ مُفْشِيهِ
كَالجُودِ بِالوَفْرِ أَسْنَى مَا يَكُونُ إِذَا
قَلَّ الوُجُودُ لَهُ أَوْ ضَنَّ مُعْطِيهِ

ثم مَرتبة ثالثة؛ وهي الوفاء مع اليأس الباتِّ، وبعد حلول المنايا وفجاءات المنون. وإن الوفاء في هذه الحالة لأجلُّ وأحسن منه في الحياة، ومع رجاء اللقاء.

خبر

ولقد حدَّثتني امرأة أثق بها أنها رأت في دار محمد بن أحمد بن وهب، المعروف بابن الركيزة، من وَلد بدر الداخل مع الإمام عبد الرحمن بن معاوية — رضي الله عنه — جاريةً رائعةً جميلةً كان لها مولًى فجاءته المنيَّة، فبيعت في تركته، فأبت أن ترضى بالرجال بعده، وما جامَعها رجل إلى أن لقيت الله عز وجل، وكانت تُحسنُ الغناء فأنكرت علمَها به، ورضيت بالخدمة والخروج عن جملة المتخذات للنَّسل واللذة والحال الحسنة وفاءً منها لمن دثر ووارته الأرض والْتأمت عليه الصفائح. ولقد رامها سيدُها المذكورُ أن يضمَّها إلى فراشه مع سائر جواريه ويُخرجها مما هي فيه فأبتْ، فضربها غير مرةٍ وأوقع بها الأدب، فصبرت على ذلك كله، فأقامت على امتناعها. وإن هذا من الوفاء غريب جدًّا.

واعلم أن الوفاء على المحب أوجب منه على المحبوب، وشرطه له ألزم؛ لأن المحب هو البادي باللُّصوق والتعرُّض لعقد الأذمة، والقاصد لتأكيد المودة، والمستدعي صحة العشرة، والأول في عدد طلاب الأصفياء، والسابق في ابتغاء اللذة باكتساب الخلة، والمقيد نفسه بزمام المحبة قد عقلها بأوثق عقال، وخطمها بأشد خطام، فمن قسره على هذا كله إن لم يُرد إتمامه؟ ومن أجبره على استجلاب المِقة إن لم يَنْوِ ختمها بالوفاء لمن أراده عليها؟ والمحبوب إنما هو مجلوب إليه، ومقصود نحوه، ومُخيَّر في القبول أو الترك، فإن قبل فغاية الرجاء، وإن أبى فغير مستحقٍّ للذم. وليس التعرُّض للوصل والإلحاح فيه والتأني لكل ما يُستجلب به من الموافقة وتصفية الحضرة والمغيب من الوفاء في شيء؛ فحظ نفسه أراد الطالب، وفي سُروره سَعى، وله احتطب، والحب يدعوه ويَحْدوه على ذلك شاء أو أبَى، وإنما يُحمد الوفاء ممن يقدر على تركه.

وللوفاء شُروط على المحبين لازمة؛ فأولها أن يحفظ عهدَ محبوبه ويرعى غيبته، وتستوي علانيته وسريرته، ويطوي شره وينشر خيره، ويغطي على عيوبه، ويحسن أفعاله، ويتغافل عما يقع منه على سبيل الهفوة، ويرضى بما حمله، ولا يكثر عليه بما ينفر منه، وألا يكون طُلعةً ثئُوبًا ولا مَلَّةً طَروقًا. وعلى المحبوب إن ساواه في المحبَّة مثلُ ذلك، وإن كان دونه فيها فليس للمحب أن يكلفه الصعود إلى مرتبته، ولا له الاستشاطة عليه بأن يسومه الاستواء معه في درجته، وبحسبه منه حينئذٍ كتمان خبره، وألا يقابله بما يكره ولا يُخيفه به، وإن كانت الثالثة؛ وهي السلامة مما يلقى بالجملة، فَلْيَقنع بما وجد، وليأخذ من الأمر ما استدف، ولا يطلب شرطًا ولا يقترح حقًّا، وإنما له ما سنح بجده أو ما حان بكده. واعلم أنه لا يستبين قُبح الفعل لأهله؛ ولذلك يتضاعف قُبحه عند من ليس من ذويه، ولا أقول قولي هذا مُمتدحًا، ولكن آخذًا بأدب الله عز وجل: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

لقد مَنحني الله عز وجل من الوفاء لكُل من يَمُتُّ إليَّ بلقية واحدة، ووهبني من المحافظة لمن يتذمَّم مني ولو بمُحادثته ساعة حظًّا، أنا له شاكر وحامد، ومنه مُستمد ومستزيد. وما شيء أثقل عليَّ من الغدر، ولعمري ما سمحت نفسي قط في الفِكرة في إضرار مَن بيني وبينه أقل ذمام، وإن عظمت جريرته، وكثرت إليَّ ذنوبه. ولقد دهمني من هذا غيرُ قليل، فما جزيت على السُّوأَى إلا بالحُسنى، والحمد لله على ذلك كثيرًا. وبالوفاء أفتخر في كلمة طويلة ذكرت فيها ما مضَّنَا من النكبات، ودهمنا من الحل والترحال والتحول في الآفاق، أوَّلها:

وَلَّى فَوَلَّى جَمِيلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ
وَصَرَّحَ الدَّمْعُ مَا تُخْفِيهِ أَضْلُعُهُ
جِسْمٌ مَلُولٌ وَقَلْبٌ آلِفٌ فَإِذَا
حَلَّ الفِرَاقُ عَلَيْهِ فَهْوَ مُوجِعُهُ
لَمْ تَسْتَقرَّ بِهِ دَارٌ وَلَا وَطَنٌ
وَلَا تَدَفَّأَ مِنْهُ قَطُّ مَضْجعُهُ
كَأَنَّمَا صِيغَ مِنْ رَهْوِ السَّحَابِ فَمَا
تَزَالُ رِيحٌ إِلَى الآفَاقِ تَدْفَعُهُ
كَأَنَّمَا هُوَ تَوْحِيدٌ تَضِيقُ بِهِ
نَفْسُ الكَفُورِ فَتَأْبَى حِينَ تُودعُهُ
أُوْ كَوْكَبٌ قَاطِعٌ فِي الأُفْقِ مُنْتَقِلٌ
فَالسَّيْرُ يُغْرِبُهُ حِينًا وَيُطْلِعُهُ
أَظُنُّهُ لَوْ جزته أَوْ تُسَاعِدُهُ
أَلْقَتْ عَلَيْهِ انْهِمَالَ الدَّمْعِ يَتْبَعُهُ

وبالوفاء أيضًا أفتخر في قصيدة لي طويلة أوردتها، وإن كان أكثرها ليس من جنس الكتاب، فكان سبب قولي لها أن قومًا من مُخالفيَّ شرقوا بي فأساءوا العتب في وجهي، وقذفوني بأني أعضدُ الباطل بحُجتي، عجزًا منهم عن مُقاومة ما أوردته من نَصر الحق وأهله، وحسدًا لي، فقلت وخاطبت بقصيدتي بعض إخواني، وكان ذا فهم، منها:

وَخُذْنِي عَصَا مُوسَى وَهَاتِ جَمِيعَهُمْ
وَلَو أَنَّهُمْ حَيَّاتُ ضَالٍ نَضَانِضُ

ومنها:

يُرِيغُونَ فِي عيني عَجَائِب جَمَّة
وَقَدْ يَتَمَنَّى اللَّيْثُ وَاللَّيْثُ رَابِضُ

ومنها:

وَيَرْجُونَ مَا لَا يَبْلُغُونَ كَمِثْلِ مَا
يُرَجِّي مُحَالًا فِي الإِمَامِ الرَّوَافِضُ

ومنها:

وَلَوْ جَلَدِي فِي كُلِّ قَلْبٍ وَمُهْجَةٍ
لَمَا أَثَّرَتْ فِيهَا العُيُونُ المَرَائِضُ
أَبَتْ عَنْ دَنِيءِ الوَصْفِ ضَرْبَةُ لَازِبٍ
كَمَا أَبَتِ الفِعْلَ الحُرُوفُ الخَوَافِضُ

ومنها:

وَرَأْيِي لَهُ فِي كُلِّ مَا غَابَ مَسْلَكٌ
كَمَا تَسْلُكُ الجِسْمَ العُرُوقُ النَّوَابِضُ
يَبِينُ مَدَبُّ النَّمْلِ فِي غَيْرِ مُشْكَلٍ
ويُسترُ عَنْهُمْ لِلْفُيُولِ المَرَابِضُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤