الفصل الثاني

مباني الهند

دراسةُ فن بناء الهند ذات مصاعب عظيمة، فتجد بعض الأدوار من جهة عاطلة عن المباني فتكون الأمثلة التي هي على جانب كبير من الأهمية، في بعض الأحيان، واحدةً تقريبًا، وترى مباني أحد الأدوار من جهة أخرى تختلف بحسب البقاع اختلافًا لا تجد معه، في الغالب، قرابة ظاهرة بينها، فالحق أنك لا تبصر في مباني الهند تلك الوحدة التي عُزيت إليها، كما أنك لا تبصر مثل هذه الوحدة في أديانها ولغاتها وفنونها، والحق أن الهند مؤلفة من بلدان متباينة بيئاتٍ وسكانًا أكثر مما يشاهد بين بقاع أوروبا المختلفة.

يمكن عالم الآثار الذي يدرس مباني الغرب، كمباني فرنسا مثلًا، أن يتبين، في الغالب، نشوءها بين قرن وآخر وأن يلاحظ التطورات المتتابعة التي جاوزتها بين شكل وآخر، وليست الأدوار التي لم ينتهِ إلينا شيء منها طويلة أبدًا، ويمكن وصل حلقاتها بالمخطوطات التي وصلت إلينا عند الضرورة، فبالمباني وبالكتب يسهل بعث ماضي الغرب.

والأمر غير ذلك في الهند حيث أباد الزمان والإنسان شهود أدوار حضارتها الغابرة الطويلة إبادة لا رجعة معها، وحيث لا تجد إلى زمن قريب أثرًا خطِّيًّا جديرًا بأن يسمى تاريخًا.

وإن عالم الآثار الذي يطوف في الهند، وهو يعرف أن ماضيها حافل بالحضارات الكثيرة القوية، ليُبهت مما يراه ومما لا يراه فيها، فلا تجد في الهند حجرًا أثريًّا من بقايا أقدم حضاراتها، وإن شئت فقل من حضارتها التي ظهرت قبل الميلاد بخمسة عشر قرنًا فأشادت بذكرها كتب الأدب، ولا تجد من الحضارة التي قامت بعد تلك بنضج دام ألف سنة سوى بقايا لا تكفي لإيضاح تاريخها وإن كفت لإثبات عظمتها، والمباني، حين بدت في الهند بغتة قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون، مثلت بدرجة من الكمال لم تُجاوَز قط مع تعاقب القرون.

ولا يكتشف الباحث في أية ناحية من الهند الأدوار الأولى التمهيدية التي تدل عليها بقايا الحضارات الأخرى على الدوام تقريبًا، ففي بعض بقاع الهند يرى الباحث ظهور المباني فجأة وتجمعها في قرنين أو ثلاثة قرون ثم يرى تواريها بغتة، أي إنه لا يجد قبلها وبعدها غير الليل الدامس، أجل، إنه يكتشف في بقاع أخرى من الهند مؤثرات يونانية وفارسية بادية، بَيْدَ أن هذه المؤثرات لا تعدو بعض البقاع، وقد توارت بغتة أيضًا، وحقًّا أنه يشاهد، من فوره، في إحدى البوادي الهندية أبوابًا هائلة مغطاة بنقوش عجيبة، غير أنه إذا ما جاب جميع بلاد الهند الواسعة لا يكاد يرى من نوعها غير اثنين أو ثلاثة من أدوار حضارة دامت أكثر من عشرين قرنًا، وهو إذا ما عدل عن اكتشاف الماضي القديم المظلم من تحت الأعفار فاقتصر على دراسة مباني دورٍ أحدث من تلك الأدوار معروفٍ تاريخيًّا كالدور الإسلامي لم يسلم من المصاعب أيضًا، فمن العبث أن يفترض أنه يتألف من هذه المباني سلسلةٌ متجانسة بزعم أنها شيدت من قبل شعوب تدين بديانة واحدة وتتكلم بلغة واحدة، فما تجده من الفروق بين المباني التي أقامها أتباع النبي في دور واحد وبقاع مختلفة من الهند هي من الوضوح والاتساع ما يجعلك تسأل معه: هل هذه المباني من آثار قرون واحدة وشعوب واحدة؟

وتاريخ ماضي الهند وحده يمكنه أن يُلقِيَ بعض النور على الشذوذ الظاهر الذي تسفر عنه دراسة أطلالها، وبالوثائق التاريخية يمكننا أن نتبين الحوادث التي لا تُفَسَّر بغيرها إذا فُسِّرت هذه الوثائق تفسيرًا صالحًا مع نقصها، فبالتاريخ وحده ندرك مباني الهند، ومباني الهند وحدها هي التي تُكمِل هذا التاريخ، وبفضل هذه المباني خرجت أدوارٌ من عالم النسيان بعد أن سكتت عنها الكتب والعنعنات.

(١) تقسيم مباني الهند

إذا استثنيت بعض المغاور التي ليس لها قيمة فنية وجدت اقدم مباني الهند لم تنشأ إلا بعد القرن الثالث قبل الميلاد، ولدينا أدلة صحيحة، مع ذلك، على أن الهندوس كانوا ذوي طراز بناءٍ قبل هذا التاريخ فأقاموا فيه مدنًا وشادوا فيه قصورًا، فنحن نعلم من الوصف الذي ورد في ديوانَي المهابهارتا والراماينا ومن المباني التي انتهت إلينا ومن شُرَف بهارت الكثيرة النقوش مثلًا، أن تلك المباني بلغت من الكمال درجة لم تنلها إلا بمجاوزة ماضٍ فني طويل، ونحن نفترض، على العموم، أنها زالت لأنها كانت مصنوعة من الخشب والآجر وإن صُنعت أسسها من الحجر، كما تدل عليه محافظة أهل نيبال، المتمسكين بقديم العادات، على عادة إقامة مبانيهم من الخشب والآجر إلى يومنا هذا، وكما لاحظه ميغاستين قبل الميلاد بثلاثة قرون، وكما يشهد به معبد بُدَّهة غَيَا الكبير المصنوعُ بعضُه من الآجر في ذلك الدور على الأقل، فكان البناء الوحيد الذي انتهى إلينا، فالآجر والخشب إذ كانا أسهل استعمالًا من الحجر في البناء كان لنا أن نرى تفضيل الهندوس لهما على الحجر.

fig102
شكل ٢-١: مدورا. منظر معابد أخذ من حوض السدر الذهبي.

ولم تبدأ الهند، على ما يُحتمل، تعرف المباني الحجرية التي وصل إلينا بعضها إلا في عهد أشوكا أي في القرن الثالث قبل الميلاد، ومن المحتمل أن صنعها بنَّاءوها منقولة عن المباني الخشبية القديمة، فعلى هذا الرأي كثير من العلماء، وقد وجدتُ ما يؤيده فيما شاهدته بنيبال من اقتباس بنائيها، بضبط، في المعابد الحجرية أعمدة المعابد الخشبية المنقوشة.

fig103
شكل ٢-٢: مدورا. دقائق نقوش في معبد من معابد الزون الكبير.

وتبدو الآثار البُدَّهِيَّة القديمة، كالأعمدة التذكارية والقباب والشُّرَف المنقوشة، من كمال الصنع ما نسج به على منوالها عدة قرون في البقاع الهندية المختلفة: أمَراوَتي وأجنتا وسانجي، إلخ، وظُنَّ قبل تعيين الزمن الذي شيدت فيه هذه المباني، أن من الممكن إثبات تطورها الفني بالمعابد الأولى المصنوعة تحت الأرض، بَيْدَ أن تلك المنقوشات العجيبة معاصرة لهذه المعابد الأولى التي نُحِتت تحت الأرض لتكون ملاجئ أو صوامع للرهبان المعتكفين، وما مَثَل من يريد أن يستنبط أصول فن عمارة دور من آثار ابتدائية كتلك إلا كمثل من يستنبط أصول مباني المدن الحديثة من أكواخ الرعاة في الجبال، والمعابد المنحوتة تحت الأرض حينما اتفق لها بعض الأهمية صارت تُصنع وفق الآثار المعمارية المعدودة من الطراز الأول.

وإذا عَدَوْتَ المعابد المنحوتة في الصخر لم يَبْقَ لديك من تلك الأدوار الابتدائية سوى عدد قليل من النقوش والأعمدة التي تفلَّتَت من التخريب بمعجزة، ومن حسن الحظ أن فكر البُدَّهِيون في نحت معابدهم الأولى في الجبال وإنقاذها بذلك من يد الزمن، ولو لم يخرِّب الإنسان فيها بعض الشيء لظلت كما كانت حين صُنعت، وليس عدد هذه المعابد قليلًا إذا ما قِيس بالآثار التي أقيمت فوق الأرض كالأعمدة التي صُنع كل واحد منها من حجر واحد فنَقَش عليها أشوكا مراسيمه وكالشُّرَف المنقوشة القليلة في الوقت الحاضر والمحيطة بالمزارات المخروطة الشكل.

ولم يَبْقَ شيء من القصور والمعابد الكبيرة التي صُنِعَت قبل الميلاد فوق الأرض، ووجد فاهيان الذي زار الهند في القرن الرابع من الميلاد أطلالًا لقصور أشوكا، ووجد فاهيان هذا ما كانت عليه تلك القصور من الروعة فقال إن الناس ليعجزون عن صنع مثلها.

وغابت المعابد البُدَّهِيَّة المصنوعة تحت الأرض غيابًا تدريجيًّا بين القرن الخامس والقرن الثامن من الميلاد، واستُبدلت بها معابد مصنوعة فوق الأرض لمختلف الديانات، وهذه المعابد إذ أنشأ أكثرها أتباع الْجَيْنِيَّة أُطلقت كلمة الطراز الْجَيْنِيِّ على الطراز الذي أقيمت به، ولا أوافق على هذه التسمية ما رأيت معابد برهمية وَجَيْنِيَّة شِيدت على هذا الطراز في دور واحد كما بدا لي من المقايسة بين المعابد البرهمية والمعابد الْجَيْنِيَّة في كهجورا.

وسنرى في غضون هذا الفصل أن فنَّ عمارة الهند قد اخلتف اختلافًا كبيرًا بين بقعة وأخرى وبين دور وآخر، وما كان الاختلاف الذي نبصره في فن العمارة الأوربي بتعاقب القرون بأعظم من ذلك.

وعلى الباحث في المباني الهندوسية أن ينظر إلى جزئيَّاتها عند الفصل في أمرها، لا إلى خرائطها البسيطة، ومما لا ريب فيه أن معابد العصر البُدَّهِي كانت تؤلَّف من رِدَاهٍ واسعة منحوتة في الجبال ومن مزارات مخروطة الشكل محاطةٍ بأعمدة، وأن معابد العصر البرهمي تؤلَّف في شمال الهند من رَدْهَة أو عدة رِدَاهٍ قائمة الزوايا مزينة بأروقة فوقها هرمٌ ذو وجوه مستديرة الخطوط، وأنها تؤلَّف في جنوب الهند من أطر واسعة قائمة الزوايا تُدخَل من أبواب هرمية ذوات وجوه مستقيمة الخطوط والأضلاع وذوات طبقات كبيرة، ووصفٌ عامٌّ كهذا لا يغني القارئ، مع ذلك، عن النظر إلى الصور التي نشرناها في هذا الكتاب فيمكنه أن يتبين بها طرزها.

وهنا نذكر أن مهندسي الهندوس لم يشيروا بصنع القباب المتوجهة إلى مركز واحد في جميع معابد الهند التي أُنشئت قبل العصر الإسلامي، وبعد هذا العصر في الغالب، فصانوا المعابد القديمة من الخراب بذلك، فقبابٌ كتلك التي تُصنع في الغرب بمواد قليلة فتغشى مساحات كبيرة تحمل في ثناياها بذور زوالها «فلا تنام أبدًا» كما يقول الهندوس، فالحق أن البقاء لا يُكتب لمبانٍ تُشاد بحسب طرقنا الأوربية في بلد كثير الزلازل والعوارض الجوية كما يدل عليه أمر المباني التي أنشأها الإنجليز، والحق أن مباني الهند لو أقيمت وفق قواعدنا ما انتهى إلينا منها سوى الغبار.

اتخذ الهندوس، دعمًا لجسر أو سترًا لبناء، القبابَ ذوات المداميك الأفقية التي ينضَّد بعضها فوق بعض تنضيدًا ينتأ به عاليها مما سَفُل، فإذا كانت المساحة التي يراد غَمْوُها١ واسعةً أضيف إلى الأعمدة التي تمسك حجارة الدائرة صَفُّ أعمدة أُخر قريبٌ من مركز هذه الدائرة، ولم يستعمل الهندوس القباب والأقواس المتوجهة إلى مركز واحد في معابدهم إلا نادرًا، حتى بعد أن نشر المسلمون هذا النوع من البناء، ولا يفترض أنهم جهلوا ذلك الطراز قبل المغازي الإسلامية ما رأينا الإغريق الذين لهم صلات سابقة بهم كانوا يُعلِّمونهم إياه، لا ريب، عند افتراض جهلهم له كما جهله المصريون في القرون القديمة.
fig104
شكل ٢-٣: مدورا. دقائق أعمدة رواق في الزون الكبير «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى السقف نحو خمسة أمتار ويبلغ ارتفاع تماثيل الحيوانات الحجرية الغريبة نحو مترين.»

وما يتخذ لحضارات الهند ومعتقداتها الدينية من التقسيمات العامة يمكن أن يتخذ مثله لمبانيها، والواقع أن هنالك فروقًا عظيمة بين فن العمارة في العصر البُدَّهِي وبينه في عصر النهضة البرهمية والعصر الإسلامي، ولكن تقسيمًا كهذا ناقص نقصًا تامًّا، فما بين العروق من الفروق يؤدي إلى فروق بين المباني أشد من التي يؤدي إليها اختلاف العقائد، فبهذا نكتشف السر في اختلاف فن العمارة في شمال الهند عن اختلافه في جنوبها مع اعتناق تَيْنِكَ الجهتين لديانة واحدة في أكثر من ألف سنة.

fig105
شكل ٢-٤: مدورا. دقائق عمود في ردهة الزون الكبير المعروفة ببوتهو مونتابام.

والتقسيم الذي يلوح لنا صلاحه هو الذي يستند إلى البقاع التي أقيمت فيها المباني، وهذا هو التقسيم الذي رضينا به، وهذا هو التقسيم الذي يرى به القارئ، الناظر إلى صور هذا الكتاب، أنه ما يُقرَّب به بين متشابه المباني وما يساعد على الوصف الشامل، ونحن لم ندرس في مختلف المطالب مختلف المباني القائمة في البقعة الواحدة، كدهلي مثلًا، إلا عندما تكون هذه المباني قد أُنشئت في أدوار شديدة التباين فلا يمتُّ بعضها إلى بعض بوجه شبه.

وأقل نظرة إلى صور هذا الكتاب تدل على أن كمال مباني الهند ليس بحسب أزمنة إنشائها، بل تدل على أن أقدمها أتمُّها، ويتجلى بلوغ فن البناء ذروته في معابد جبل آبو ومعابد كهجورا التي ترجع إلى القرن العاشر من الميلاد، فعلى ما في هذه المعابد من نقص في فن التماثيل بلغت جُزئيَّاتها من الكمال مبلغًا لم تقدر القرون معه على إضافة شيء إليها.

ولا يطمعنَّ الباحث أن يجد في الهند مثل ما يجده في الغرب من تطور فن العمارة التدريجي، ففن العمارة في الهند، كآداب الهند، قد وصل إلى درجة من الرقي بسرعة، والهند لم تجاوز هذه الدرجة بعد أن وصل فنُّها إليها.

ويدل الجدول الآتي على عناصر التقسيم الجديد الذي هدتنا إليه مباحثنا، ونخصص، بعد أن نسرده، بضعة مطالب للبحث في تاريخ فن عمارة كل دور وكل بقعة بحثًا موجزًا، ونحن إذ كنَّا لا نستطيع، لضيق المكان، أن نصف بالتفصيل أي بناء، نحيل القارئ الذي يهمه هذا الموضوع إلى الكتاب الكبير الذي لم يكن هذا الفصل غير خلاصة خاطفة له،٢ فمن ذلك الكتاب اخترنا صور هذا السِّفْر الكبيرة تابعةً للتصنيف الذي نعرضه، فهي تكفي ليتبيَّن بها القارئ أهمية آثار الهند.
تقسيم مباني الهند العام
  • (١)
    فن عمارة الهند البُدَّهِيُّ «بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الثامن بعد الميلاد.»
    • مباني الهند الأولى «أعمدة تذكارية، معابد وأديار منحوتة في الصخر.»

      أمثلة: أعمدة الله آباد ودهلي التذكارية، مباني بهاجا وكارلي وأجنتا، إلخ.

    • مبانٍ بُدَّهِية أُنشئت فوق الأرض.

      أمثلة: مباني بهارت وسانجي وسارناتهه وَبُدَّهَة غيا، إلخ.

    • مبانٍ يونانية هندوسية في شمال الهند الغربي.

      أمثلة: مباني ببشاور وكشمير، إلخ.

  • (٢)
    فن بناء البرهمية الجديدة في شمال الهند ووسطها «بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
    • فن العمارة في شمال الهند الشرقي.

      أمثلة: مباني ساحل أوريسة «بهو ونيشَوَر، جكن ناتهه، إلخ.»

    • فن العمارة في راجبوتانا وبنديل كهند.

      أمثلة: مباني كهجورا وغواليار وجتُّور وجبل آبو وأوديبور وناغدها، إلخ.

    • فن العمارة في كجرات.

      أمثلة: مباني أحمد آباد، إلخ.

    • فن عمارة الهند الوسطى.

      أمثلة: مباني إليفنتا وإيلورا وأمبرناتهه، إلخ.

  • (٣)
    فن عمارة الهند الجنوبية «بين القرن السادس والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
    • معابد جنوب الهند المصنوعة تحت الأرض.

      أمثلة: مباني مهابلي بور وبادامي، إلخ.

    • فن عمارة المعابد في جنوب الهند.

      أمثلة: مباني شلمبرم وتانجور وتريبتي وكانجي ورم وبيجانغر ومدورا وسري رنكهم، إلخ.

  • (٤)
    فن العمارة الهندوسي الإسلامي «بين القرن الثاني عشر والقرن الثامن عشر من الميلاد.»
    • فن العمارة الإسلامي قبل العصر المغولي.

      أمثلة: مباني دهلي القديمة ومباني أجمير وبيجابور وغول كوندا، إلخ.

    • فن العمارة في العصر المغولي.

      أمثلة: مباني أغرا ودهلي وفتح بور ولاهور، إلخ.

    • فن العمارة التي توحي بالمؤثرات الإسلامية في مختلف بقاع الهند التي يختص الهندوس بأكثر مبانيها.

      أمثلة: المباني الإسلامية في غواليار ومهوبا ومدورا، إلخ.

  • (٥)

    فن العمارة الهندوسي التبتي «بين القرن الثاني من الميلاد والزمن الحاضر.»

    أمثلة: مباني شم بُهوناتهه وبُدَّهة ناتهه وبهات غاؤن وبتن وكهات ماندو، إلخ.

  • (٦)

    فن العمارة الهندوسي الحديث.

    أمثلة: مباني بنارس وأمرتسَر، إلخ.

(٢) فن عمارة الهند في العصر البُدَّهِي «بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الثامن بعد الميلاد»

لا يرجع أقدم مباني الهند إلى ما قبل زمن راق من العصر البُدَّهِي، أجل، وُجدت في البنغال معابد مصنوعة تحت الأرض في القرن الخامس قبل الميلاد، بَيْدَ أن هذه المعابد ليست إلا حفائرَ تُثبت مهارة الهندوس في نحت الحجر، ولا تكشف عما كان عليه فن عمارتهم، فالهندوس لم تبد آثارهم المعمارية إلا في عهد الملك أشوكا الذي كان قبل الميلاد بنحو ٢٥٠ سنة.

ويمكن تصنيف جميع آثار الهند في العصر البُدَّهِي كما يأتي:

الأعمدة التذكارية

ترجع هذه الأعمدة التذكارية إلى عهد الملك أشوكا الذي أمر بأن تنقش عليها مراسيمه، ويمكن عدها من أهم المصادر لتاريخ الهند، وتجد أشهرها في الله آباد ودهلي، وتبصرها مستورة بكتابات خاصة بالتعاليم الدينية وذكريات الملوك، إلخ، ويعلو تيجانها أفيال أو أسود تذكرنا بأعمدة برسيبوليس، ويُفترض أن هذه الأعمدة كانت منصوبة، على العموم، أمام القباب البُدَّهِيَّة أو ما إليها، وتشاهد، أحيانًا، أمام المعابد الواقعة تحت الأرض، ولا سيما في كارلي.

المعابد والأديار المنحوتة في الصخر

إن أقدم مباني الهند وأغناها ما نحت في منحدرات الجبال من المعابد والأديار.

وإذا استثنيت بعض الرِّدَاه المنحوتة تحت الأرض في بهار، فترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد ولا تبدو غير حفائر بسيطة، وجدتَ تاريخ أقدم تلك المعابد والأديار لا يزيد عن القرن الثاني قبل الميلاد، وداوم القوم على صنع معابد وأديار من ذلك الطراز إلى القرن الثامن بعد الميلاد فيكون مجموع الزمن الذي استمروا على إنشائها فيه نحو ألف سنة، وهم لم يكفوا عن صنعها إلا بعد تواري البُدَّهِيَّة عن الهند، فالحق أن تسعة أعشار تلك المعابد والأديار بُدَّهِية، وأن عشرها فقط برهمي أو جَيْنِيٌّ.

وتقسم تلك المباني المنحوتة في الصخر إلى معابد وأديار، فنعد من هذه المعابد ثلاثين ونعد من هذه الأديار ألفًا.

ولم يعْدُ بعضُ هذه المباني حفائر قليلة الزينة، بَيْدَ أنك ترى في أكثرها وأقدمها غنًى في النقوش والتخاريم لم يتفق لأمة أحسنُ منه.

وفي هذا الكتاب نشرنا صور ما هو مهم من تلك المعابد ولا سيما أشهر ما يشاهد في بهاجا وكارلي وإيلورا وبادامي وأجنتا، إلخ، والآن أقول بضع كلمات عما هو موجود منها في أجنتا ليتمثل القارئ صنعها والعملَ الهائل الذي تُعرب عنه، على أن أذكر في مطلب آخر شيئًا عما في إيلورا.

نُحتت معابد أجنتا بعيدة تسعين كيلو مترًا من أورنغ آباد، وذلك على جوانب جبل وعر فوق فَجٍّ غامر يجري منه سيل فائر، ولا تبلغ تلك المعابد إلا بجوب أكداس من الصخور، ويدل منظر تلك الأماكن الوَهْرَة الوَعْرَة أن الرهبان الذين كانوا يهاجرون إليها كانوا يتمسكون بالعزلة تمسكًا لا يوصل معه إليها بأية وسيلة ممكنة، كما يستدل عليه من حال الأوربيين القليلين الذين يرون زيارة أجنتا، مع قرب بَمْبِي، فيقتضي تحقيق رغباتهم برحابة.

ويثبت تفاوت أعمار تلك المعابد أن كثيرًا من الآدميين قد عاشوا تحت قبابها الدجن قرونًا طويلة، ولن يتبين الإنسان العمل الذي تطلَّبه نحت تلك المعابد في جوف الجبل إلا إذا تخيل القرون التي تم فيها.

ومن المحتمل أن يكون أقدم تلك الآثار قد أنشئ بأجنتا قبل ظهور المسيح ﺑ ١٥٠ سنة، وأحدثها قد تم بعد الميلاد بسبعة قرون، وما بين تلك الآثار من الفروق يقوم على فيض الزخارف أكثر مما على القيمة الفنية، ففي أجنتا، كما في بقية بلاد الهند، لا تستند قيمة المباني إلى قاعدة التطور التدريجي.

ويتصف أحدث معابد أجنتا باشتمالها على صورة بُدَّهة، على الخصوص، اشتمالًا مكررًا بما لا حد له، وتحتوي هياكل هذه المعابد على نقوش يبدو بُدَّهة بالغًا بها درجة السعادة الإلهية.

ويتقدم معابد أجنتا وأديارها المنحوتة تحت الأرض شُرَفٌ حجرية قائمة على أعمدة منحوتة مثلها في الصخر.

وفي أجنتا عدة أديار تابعة للمعابد، ويتألف كل واحد منها من حجرات حول ردهةٍ، وتشتمل كل واحدة من هذه الحجرات على سرير من حجر، ولا تنفصل هذه الحجرات عن المعبد في الغالب، بل تُتَّخذ الردهة التي تحيط بها هذه الحجرات، وهي واسعة أحيانًا، معبدًا مشتملًا على مقاصير جانبية خاصة بعبادة بعض الأولياء كما في الكنائس الكاثوليكية، ولم تفتأ الأديار الأخيرة تتسع، فوجب دعم سقف المعبد الواقعة حوله بأعمدة إضافية، وإن كان هذا السقف مؤلَّفًا من الجزء الأعلى مما هو منحوت في الجبل، وتحتوي أجنتا على رِدَاهٍ منحوتة تحت الأرض يبلغ جانبها ٢٨ مترًا ويحملها ٢٤ عمودًا ضخمًا لا يزيد ارتفاعه على أربعة أمتار.

ويرى في صدر كل واحدة من تلك الرِّدَاه العظيمة المنحوتة في الصخر، على العموم تمثال كبير لبدهة تحيط به تماثيل أخرى، وتستر الأعمدة والسقوف نقوش وزخارف ملونة، وتستر الحيطان تصاوير ممثلة لحياة بُدَّهة، وهذه التصاوير، مع رداءتها، مفيدة إلى الغاية، فهي وحدها كل ما انتهى إلينا من التصوير في الهند الغابرة، ومن المحتمل أن تكون قد صنعت في القرن الخامس من الميلاد، ومما يشمل النظر الوجوه فيها، فملامح هذه الوجوه وقَسَمَاتها وزِيها وزينتها مما يدل على عِرق يختلف عن العِرْق الذي يُرى مثاله في المباني الأولى القائمة في بهاجا وكارلي وبهارت وسانجي، إلخ.

fig106
شكل ٢-٥: مدورا. داخل قصر تيرومل نايك «القرن السابع عشر من الميلاد» أقيم هذا البناء الذي هو من أهم قصور الهند في القرن السابع عشر أيام الراجه الهندوسي تيرومل، فلو جرد من التماثيل التي تزين مختلف أجزائه لعُدَّ أثرًا إسلاميًّا خالصًا، فيمكن عدُّه مثالًا على التأثير العظيم الذي اتفق للمسلمين في جميع بقاع الهند، ومنها التي لم تخضع لسلطانهم.

ولا شيء يفوق تلك المعابد المنحوتة تحت الأرض غير معابد إيلورا، فمن أروع المناظر منظر تلك الرِّدَاه الواسعة ذات الأعمدة الضخمة والتي يتيه النظر وسط ظلامها فلا يُرى فيها تمثال بُدَّهة العظيم، الذي يلوح العلوج حارسين له، إلا على نور المشاعل.

القباب

يذكرنا شكل القباب، على العموم، بمزاراتنا الأوربية القديمة، فهي ذات شكل نصف كُري على العموم، كما في سانجي، وقد يكون بُرجيًّا كما في سارناتهه، ويحيط بها سياج حجري ذو نقوش، وتدخل من أبواب ضخمة.

ونتنور أمر تلك القباب من وصف قبة سانجي الكبيرة، فهذه القبة من أقدم مباني الهند وأجملها، وأنشئت هذه القبة نفسها في أيام الملك أشوكا، أي في زمن أقدم من ٢٥٠ سنة قبل ظهور المسيح، وأنشئ سياجها الحجري وأبوابها في أوائل القرن الأول من الميلاد، ولا تحتوي الهند على غير قليل من المباني التي أقيمت في ذلك العصر إذا استثنيت المعابد التي نُحتت في الصخر، وإذا كانت مباني سانجي قد تفلتت من التخريب فذلك لوقوعها في بقعة منيعة، وإذا أدنيت إلى ذلك الأثر ما شيد في ذلك العصر من المباني، كمباني بهارت مثلًا، فعلمت أن هذه ليست دون تلك زينةً أيقنت أن فن العمارة في كبريات العواصم الهندية كان قد بلغ درجة رفيعةً من العظمة لا ريب.

أقيمت قبة سانجي في زمن أنشئ فيه ما يماثلها من المباني التي شيدت للدلالة على مكان مقدس أو لتخليد حادثة دينية.

وشكل قبة سانجي نصف كُريٍّ تقريبًا، وظَهْرُ هذه القبة مُسطَّح، ويبلغ قطر قاعدتها ٣٤ مترًا، ويبلغ ارتفاعها نحو ١٧ مترًا، كما كان يعلو كل ما يماثلها، هيكل متآزي السطوح لإمساك ثلاثة ألواح حجرية منقوشة يزيد عرض كل واحد منها عن الذي فوقه، وهذا إلى أن شكل الهيكل ذلك كان شائعًا فتجده فوق رسوم القباب والنقوش البارزة وفي المعابد المنحوتة تحت الأرض.

وقبة سانجي أنشئت من الآجُرِّ كغيرها من المباني المماثلة لها، وأهم أقسام هذه القبة هو السياج الحجري الكبير الذي يحيط به، ولا سيما الأبواب الأربعة الرائعة التي يُدخَل منها فنشرنا صور أبرز أجزائها.

ذلك السياج الحجري يُحْدِق بتلك القبة، ويتألف من أساطين عمودية مثمنة الزوايا ذوات ثغرات أُدخلت إليها أعمدة حجرية أفقية إتمامًا لها.

ويشتمل ذلك السياج على نقوش كثيرة، ولكن دقائق عمل المتفننين تجلَّت، كما يظهر، في تلك الأبواب الكبيرة التي تكلمنا عنها آنفًا، فترى جميع وجوه هذه الأبواب مغطاة بضروب النقوش البارزة، والباب الشمالي هو أهم هذه الأبواب، فيبلغ ارتفاعه نحو عشرة أمتار ويبلغ عرضه ستة أمتار.

والنقوش البارزة التي تستر تلك الأبواب الضخمة تشير، على العموم، إلى مناظر حياة بُدَّهة حينما كان أميرًا وإلى معايشه قبل ذلك، ولم يُصوَّر هذا المصلح الكبير فيها بحسب الأوضاع المتفق عليها فانحصرت فيما بعد في رسمه واقفًا أو متربعًا.

ويعلو هذا الباب الشمالي خطَّافٌ، والخطاف رمز بُدَّهة، وتجد عن يسار ذلك الباب وفي قاعدة العمود صورة لأثر قدم بُدَّهة.

ومع أن نقوش الأبواب الأخرى وزخارفها دون نقوش ذلك الباب وزخارفه فيضًا فهي جديرة بالذكر، كما يبدو ذلك من صورنا الفوتوغرافية، فالحيوانات التي تعلو أعمدة أحدها تستوقف النظر كثيرًا.

ويشير منظر صور الأشخاص المنقوشة في سانجي وزينة رءوسهم ووجوههم المستديرة والمسطحة، كما يظهر، إلى عِرق من آسيا الوسطى لم يَبْقَ إلى أيامنا، وإن مثل دورًا مهمًّا في ذلك العصر؛ لما نراه بارزًا أيضًا في مباني بهارت وبُدَّهة غَيَا، إلخ.

المعابد البُدَّهِيَّة الكبيرة القائمة فوق الأرض

المعابد البُدَّهِيَّة الكبيرة القائمة فوق الأرض نادرة جدًّا، ولم ينشأ هذا عن أنه لم يُصنع منها سوى عدد قليل، بل نشأ عن اندثار معظمها بسبب صنعها من مواد لا تقاوم جو الهند كالآجر على الخصوص، والمعبد البُدَّهِي الوحيد الذي لم تصبه يد التخريب، لترميمه المتصل، هو معبد بُدَّهة غَيَا الذي أُنشئ قبل الميلاد بقرن في المكان الذي تقول الأساطير إن بُدَّهة بلغ فيه مرتبة الحكمة العليا.

fig107
شكل ٢-٦: ترى جنابلي. منظر المدينة وقلعتها.

وأقدس أماكن الدنيا عند البُدَّهِيين، البالغ عددهم خمسمائة مليون من الآدميين، أي عند أكثر شعوب آسيا، هي الأمكنة الثلاثة: مدينة كابلا وستو حيث وُلد بُدَّهة، ومدينة بنارس حيث دعا بُدَّهة الناس إلى مذهبه، ومدينة بُدَّهة غَيَا حيث بلغ بُدَّهة مرتبة الحكمة العليا، ولا نعلم، بالضبط، مكان أولى هذه المدن الثلاث، ولا تزال المدينتان الأخريان منها باقيتين، وهما من أكثر بلاد العالم التي يزورها الناس.

وكان تاريخ معبد بُدَّهة غَيَا موضع جدال كثير بين علماء الآثار، ولم يكن تاريخ إنشائه الأول محل أخذ وردٍّ بين أحد، ما اعترف الباحثون، على العموم، بأن وصف «الحاج الصيني» هيوين سانغ له يطابق حاله الحاضرة، وإنما يدور النقاش حول دلالة أوائل القرن الرابع عشر الذي ورد ذكره في مخطوط على تجديد ذلك المعبد أو على ترميمه، ثم أزالت مباحث كننغهم وراجندرا لالاميترا كل شك في أن ما تم في القرن الرابع عشر ليس إلا ترميمًا قام به عُمَّال من الأهالي غير مُبَدِّلين شيئًا في أشكاله الأصلية.

وشكل معبد بُدَّهة غَيَا هرمي وقاعدته مربعة، وطبقاته تسعٌ، ويقوم على مكعب ارتفاعه نحو ثمانية أمتار وجانبه خمسة عشر مترًا، ويبلغ مجموع ارتفاعه اثنين وخمسين مترًا، وتجد في داخله ثلاثة محاريب صغيرة منضودة، ويقدر ارتفاع الأسفل منها بنحو سبعة أمتار وجانبه بأكثر من ستة أمتار، ويشتمل على تاج من حجر بركاني أسود كان يعلوه تمثال ذهبي لبدهة.

وإنني أذكر أن شكل ذلك المعبد الهرمي أمرٌ شاذ في شمال الهند، وإنما يذكرنا بمعابد جنوبها، وأقدم المعابد التي أقيمت على هذا الطراز إذ أُنشئت بعد معبد بُدَّهة غَيَا باثني عشر قرنًا حق لنا أن نرى من الإمكان اتخاذ صانعيها هذا المعبد نموذجًا لهم.

وأسفرت الأحافير الحديثة التي تمت حول بُدَّهة غَيَا عن إخراج عدد كبير من النقوش والأعمدة والتماثيل النذرية القديمة في الغالب فوُضعت هذه الآثار، اليوم، في الحدائق المحيطة بذلك المعبد، وتشير إحدى صورنا الفوتوغرافية إلى أهمها.

ورممت الحكومة الإنجليزية معبد بُدَّهة غَيَا حديثًا، ولا أرى الثناء على فاعل هذا الترميم، فقد غيَّر شكل بعض الجزئيات بصورة محسوسة كما بدا لي من المقايسة بين حال ذلك المعبد الحاضرة وصورته الفوتوغرافية قبل الترميم، وكسا ذلك المعبد لونًا أصفر كَدِرًا فاكتسب به منظرًا كريهًا، مع أنه أنفق على ترميمه المحزن نحو مائتي ألف فرنك.

fig108
شكل ٢-٧: شرى رنغم. دقائق نقوش معبد في الزون الكبير «القرن السابع عشر من الميلاد»، «ربما كان زون شري رنغم الكبير أوسع زون في العالم، وهو يتألف من سبعة أطر تبلغ جهة أكبرها ٩٠٠ متر، ويشتمل على ١٥ برجًا يبغ ارتفاع أحدها ٥٢ مترًا.»

المباني الإغريقية الهندوسية في شمال الهند الغربي

لم تحل الحواجز المنيعة التي تفصل الهند، كما يلوح، عن بقية العالم دون غزو مختلف الأمم لها منذ القديم، والفاتحون من آريين ومغول وفرس وأفغان قد دخلوا الهند من خلال جبال هِمَالْيَة، ولا سيما معبر أفغانستان، فعمروها، وإذا بدأتَ بالفرس الذين غزوها بقيادة دارا قبل الميلاد بخمسة قرون ثم بالإغريق الذين أوغلوا فيها سنة ٣٣٠ قبل المسيح بقيادة الإسكندر فانتهيتَ إلى العرب فإلى المغول الذين فتحوها بأسرها وجدتها ذات صلات بأمم كثيرة، وأبصرتها خاضعةً لكثير من المؤثرات الأجنبية.

جاز لنا، إذن، أن نتوقع انعكاسًا لتلك المؤثرات في فن عمارة الهند، وانعكاسٌ كهذا كان ضعيفًا، مع ذلك، إذا عَدَوْت المؤثراتِ الإسلامية، فالحق أن الهند ظلَّت، إلى حين خضوعها لسلطان الإسلام، تمتصُّ فاتحيها من غير أن يُؤثِّروا فيها، ومَثَلُ الهند في ذلك كمثل بلاد الفراعنة مصرَ التي غزتها عشرون أمة، كاليونان والرومان، فحافظت على كيانها القديم وعلى دينها وفنِّ عمارتها ولغتها، فما كان لغير التمدن الإسلامي أن يُحَوِّل ديانتها ولسانها وفنونها.

وكان للإسلام أثر بالغ كذلك الأثر في الهند، وذلك من غير أن يزيل ما لقيه فيها، خلافًا لما اتفق له في مصر، ففي الهند اختلطت المؤثرات الإسلامية بالمؤثرات الهندوسية فأضحى نصف فن عمارة الهند، كلغتها، إسلاميًّا وأضحى نصفه الآخر هندوسيًّا.

وإذا عَدَوْتَ الإسلام وجدت المؤثرات الأجنبية في الهند ضعيفةً إلى الغاية، ووجدت تلاشي هذه المؤثرات في العوامل المحلية، فالفن الذي أُدخل إلى الهند، مهما كان نوعه، لم يلبث أن تحوَّل على أيدي عمال من الهندوس فاكتسب مظهرًا خاصًّا ذا طابع هندي، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الفن قد دخل الهند منذ ألفي سنة وأن يكون قد دخلها في أيامنا.

ويتجلى أقدم المؤثرات الفنية الأجنبية في ضفاف السِّنْد، فأُولَى علائق الهند بالفرس ثم باليونان صدرت عن هذه البقعة، وقد رأينا أن ما رواه هيرودتس يُثبِت أن الممالك التي قامت على ضفاف نهر السِّنْد كانت تعطي الجزية قبل الميلاد بأربعمائة سنة، ثم أيَّدت الكتابات المسمارية هذه الرواية.

وما نراه من أطلال المباني التي لا يرجع أقدمها إلى ما قبل الميلاد كثيرًا يكشف عن التأثير الفارسي في بعض أقسام من فن العمارة، ويبدو هذا التأثير، على الخصوص، في الأعمدة ذوات التيجان التي هي على شكل الجرس فتعلوها حيوانات مضطجعةٌ ظِهريًّا، وتجد نموذج ذلك في قصر بني أخميد ببرسيبوليس، فأعمدة كهذا النموذج تبصرها في كثير من معابد الهند القديمة، ولا سيما في ناسك وسانجي، إلخ، وفي المناطق القريبة من بيشاور، وتشاهد في بهارت أقدمها، أي ما يرجع إلى ما هو أقدم من ٢٥٠ سنة قبل الميلاد.

ثم حلت المؤثِّرات الإغريقية محل المؤثرات الفارسية، بَيْدَ أنك لا تجد الأثر الإغريقي إلا في أودية كابل وكشمير، ويظهر هذا الأثر، على الخصوص، في التماثيل والأعمدة، فالأعمدة في كشمير مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف بالدوري، والأعمدة في تَكشيلا مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف باليونِيِّ، والأعمدة في وادي كابل مصنوعة على الطراز الإغريقي المعروف بالقورنتي، وهذا إلى أنك تبصر في هذه الأعمدة طابع المعتقدات الهندوسية، فترى، على الخصوص، تمثال بُدَّهة بين أوراق الأقنثا.٣

ولم تجاوز المؤثرات الإغريقية قسم شمال الهند الغربي الضيق الذي أشرنا إليه فيما تقدم، ومن العبث أن حاول بعض الباحثين أن يكتشفها في نقوش مختلف المعابد البارزة والمحفورة، فأنت إذا بعدت من المناطق المجاورة لنهر السِّنْد وجدت تلك المؤثرات غارقة في الفن الهندوسي فلا تقدر على تبينها، وإنني بعد أن درست أهم معابد الهند بدقة لم أبصر في نقوشها وعمارتها ما يدل على أن الهندوس اقتبسوا من الفن الإغريقي شيئًا يستحق الذكر فيما خلا تلك البقاع الضيقة.

وتلك المؤثرات الفارسية الأولى التي توارت، من فورِها، عن الهند عادت إليها مؤخرًا مع المغازي الإسلامية بأعمق مما في الماضي، والفن الذي أدخله المسلمون إلى الهند هو من أصل فارسي تطور تطورًا عميقًا بفعل الحضارة التي جاء بها العرب إلى بلاد فارس حينما هدموا عرش الأكاسرة من بني ساسان في القرن السابع، ويرتبط الفن الجديد الذي أدخله المسلمون إلى الهند، فكان نصفه عربيًّا ونصفه الآخر فارسيًّا، في أقدم طرز الفرس من عدة وجوه، فخذ الخزف المطلي بالميناء مثلًا تره يرجع إلى ما قبل الميلاد.

(٣) فن البناء في العصر البرهمي الجديد «بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر من الميلاد»

تُقَسَّم، أول وهلة، مباني العصر الذي ندرسه الآن فيبدأ حوالي القرن السادس من الميلاد، أي في الزمن الذي كان نجم البُدَّهِيَّة يأفل فيه عن الهند بسرعة، إلى صنفين، ويشتمل الصنف الأول على جميع المباني القائمة في مختلف بقاع الهند الشمالية والوسطى، وتختلف مباني هذا الصنف الأول اختلافًا جديرًا بالذكر باختلاف الأمكنة والأزمنة التي نشأت فيها مع ما تجده بينها من قرابة ظاهرة، ويشتمل الصنف الثاني على مباني جنوب الهند، وتبلغ مباني هذا الصنف الثاني من التشابه ما يحتاج معه تمييز بعضها من بعض إلى عين بصيرة، ونحن، حين نضطر إلى تقسيم دراسة مباني الصنف الأول إلى عدة مطالب، نستطيع أن نلخص مباني الصنف الثاني في مطلب واحد.

fig109
شكل ٢-٨: شري رنغم «الزون الكبير» أعمدة في داخل المعبد.

فن البناء في ولاية أوريسة

تُعَدُّ المباني القائمة على سواحل أوريسة من أقدم مباني الهند وأجدرها بالذكر، وأنشئت هذه المباني بين القرنين الخامس والثالث عشر من الميلاد، وما في أوريسة من المعابد المصنوعة تحت الأرض فأقدم من تلك المباني ما وجدت بينها معابد يرجع تاريخ إنشائها إلى ثلاثة قرون قبل الميلاد، وإن كانت هذه المعابد لا تمت بصلة إلى طراز المعابد التي نتكلم عنها الآن.

وأقيمت معابد ولاية أوريسة على نمط واحد من حيث خطوطها الأساسية، وذلك مع انقضاء سبعة قرون أو ثمانية قرون بين إنشاء مبانيها الأولى ومبانيها الأخيرة، وهي تختلف عن معابد جنوب الهند، فلا ترى فيها أبراجًا ذات طبقات منضدة ولا رِدَاهًا تحملها أعمدة، وعلى ما كان يعرف من أمر الأعمدة، التي أسفرت الأحافير في أوريسة عن اكتشاف عدد منها صُنع قبل إنشاء معابدها بطويل زمن، فإن القوم لم يستعملوا الأعمدة في شيد هذه المعابد إلا نادرًا.

وشكل معابد أوريسة الخارجي هرميٌّ، بَيْدَ أن جوانب هذه الأهرام ذات خطوط مستديرة بدلًا من أن تكون ذات خطوط مستقيمة كما في معابد جنوب الهند.

ويتألَّف المعبد الأوريسي من مزار مكعب مشتمل على صور للآلهة يعلوه برج هرمي ذو جوانب مستديرة الخطوط من التي تكلمنا عنها، وذرى تلك الأهرام مقطوعة وتعلوها تيجان ذوات جوانب تشابه بها البطيخ المسطح، ويستر تلك الأهرام زخارف ونقوش، ويتقدم جبهة المعبد الأوريسي رواق يغشاه برج هرمي أيضًا، وتلي هذا البرج ردهة أو ردهتان معدَّةٌ إحداهما للرقص والأخرى للطعام.

ويحيط بالمعبد الأوريسي سورٌ ذو أبواب كثيرة مزخرفة يعلوها سقف هرمي ذو جوانب مستقيمة الخطوط.

وجبهة المعبد الأوريسي مصنوعة على وجه تكون الآلهة به أمام شمس مشرقة.

والنِّسَب في المعبد الأوريسي وأبعاد كل جزء فيه خاضعة لقواعد دقيقة، ولم يَسِر رجال الفن على هواهم إلا في زخارفه ونقوشه، وأُنشئت جميع معابد أوريسة على رسم واحد، فترى أشكالها العامة متشابهة كثيرًا، والهندوس محافظون أكثر من جميع الأمم المحافظة، فإذا ما أثبتت العادة بينهم أي طراز وجب انقضاء عدة قرون ليبتعدوا عنه، وفي دقائق الزخارف، لا في شكل المعابد، يجب البحث عن أوجه التطور عند درس فن عمارة الهند.

وثِخَنُ جدر المعابد بأوريسة عظيم إلى الغاية، وتُنشأ بما هو أقوى مما تتطلبه متانتها، فمما جاء في أقدم كتب فن البناء الهندوسي أن تعدل جُدُر البناء أربعة أعشار مجموع مساحته، وأن تُترك الأعشار الستة الباقية لفضائه، فكان من نتائج هذا الغلو في المواد الإنشائية أن اكتسب البناء من القوة ما لم يفنَ معه تقريبًا فضلًا عن روعته، ولعل فيما يحدث في بلاد الهند من الزلازل وتقلبات الجو ما يُسوغ إفراط القوم في ذلك كما تشير به النظرية.

ولم يغفل مهندسو تلك المعابد عما يزيد أبعادها الظاهرة، فتراهم أكثروا من الخطوط القائمة قصدًا، وتراهم تجنَّبوا الخطوط الأفقية عمدًا.

fig110
شكل ٢-٩: كنبهه كونم. الحوض المقدس في داخل الزون «القرن السابع من الميلاد.»

وبنيت جميع المعابد في أوريسة من الحجارة الرملية على الخصوص، لا من الآجر كما هو الأمر في جنوب الهند، وبلغ تشذيب حجارتها ووصل بعضها ببعض درجة من الكمال والإحكام لم يَبْقَ معها احتياج إلى المِلاط فلم يُتخذ قط، وشدت أقسامها الناتئة كثيرًا بكلاليب من حديد في بعض الأحيان، وأُنشئت العوارض المرتكزة على الأعمدة، أحيانًا من حديد مطرَّق، بدلًا من الحجارة، ووجد في كنارك من هذه العوارض ما طوله سبعة أمتار ومقطعه ٢٠ و٢٥ سنتيمترًا، ورُوعيت في صنع هذه العوارض قواعد الميكانيكا النظرية فجُعلت أواسطها أثخن من أطرافها.

ومما تقدم ترى أن تلك المعابد صُنعت من الحديد والحجارة فقط، وأما الخشب فلم يُعتمد عليه إلا في صنع الأبواب، ومن هذه الأبواب نذكر باب بهوونيشور المصنوع من خشب الصندل المحفور.

ولا تعرف مباني أوريسة القباب ذات الحجارة المتجهة إلى مركز واحد، شأن قباب معابد الهند الأخرى، وكل ما يُرى في أوريسة من القباب تلك التي تتألف من مداميك أفقية، وقبابٌ كهذه بعيدة من شروط الاقتصاد في المواد الإنشائية لا ريب، ولكنها تتصف بالديمومة.

وفي معابد أوريسة ندرت الأعمدة والأساطين المنفصلة عن الجدر، ولا تجد منها في سوى بهوٍ من معبد بهوونيشور الكبير.

فن العمارة في راجبوتانا

يطلق اسم راجبوتانا على البقعة المعروفة عند الأهالي باسم راجهستان أو بلد الراجوات، ووُفِّقت طائفة الراجبوت للمحافظة على نظمها في تلك البقعة منذ فتحهم لها، حتى بعد أن دوَّخها المسلمون.

تعني كلمة الراجبوت أبناء الملوك، والراجبوت هم عنوان عِرق من أقدم عروق الهند وأصفاها، ويزعم الراجبوت أنهم حفدة الفاتحين من الآريين، وبين الراجبوت ترى أقدم طبقة للأشراف في العالم الهندوسي، وراجه أدويبور هو ولي الأمر الوحيد الذي يستطيع أن يزعم أن شجرة نسبه ترجع إلى ما قبل ألف سنة.

ووجد المسلمون، حينما أوغلوا في الهند، الراجبوت مستقرين بجميع مدن الشمال وبسهل الغَنْج إلى حدود البنغال الحاضرة، فكانت لاهور ودهلي وقَنُّوج وأجودهيا إلخ. قبضتهم، وكانت دولتهم ممتدة في الشمال والغرب من نهر السِّنْد ونهر ستلج إلى نهر جمنة القريب من أغرا، وكانت ممتدة في الشرق والجنوب إلى جبال وِنْدهيَا، وإن شئت فقل إن دولتهم كانت قائمة على جميع شمال الهند الغربي، فلما دُحروا من هذه البقاع الخصبة هاجروا إلى مناطق راجبوتانا الحالية المنيعة.

سيجد القارئ شبهًا عظيمًا بين أكثر المباني التي أُنشئت قبل العصر الإسلامي على الأقل فنبحث فيها الآن، وتقع هذه المباني في بقعة واحدة وشادها عِرق واحد، وبين هذه المباني ما هو ذو طراز خاص، ومن المتعذر أن نشير إلى الأطوار التي اشتُقت منها وإلى المراحل التي ترتبط بها في مبانٍ أخرى أحدث منها ما كانت عنوان نوعها.

ويلوح لنا أن نعتَ «الْجَيْنِيِّ» الذي وصف به فن كثير من المباني التي سندرسها غيرُ صحيح كما قلت ذلك آنفًا، فيظهر أن الباحثين أطلقوا كلمة «الفن الْجَيْنِيِّ» على طراز عمارة خاص بديانة معينة مع أنه لا يشير إلا إلى طراز أحد الأدوار بالحقيقة، فسنرى أن مباني أحد الأدوار في المكان الواحد قامت على طراز واحد، مهما كانت الآلهة الْجَيْنِيَّة أو البرهمية التي شيدت تقديسًا لها، ولنا أمثلة على ذلك في معابد كهجورا.

نذكر من مباني راجبوتانا القديمة التي نشرنا غيرَ صورة لها في هذا السِّفْر معابد كهجورا الواقعة في بُنْدِيل كِهَنْد ومعابد جبل آبو.

fig111
شكل ٢-١٠: كنبهه كونم. داخل معبد راما في الزون الكبير «القرن السابع عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى أعلاها أربعة أمتار و٤٠ سنتيمترًا.»

تقع مدينة كهجورا، التي كانت عاصمة آل جندل من الراجبوت فغدت مهجورة، على بعد ٣٤ كيلو مترًا من شرق مدينة جهتربور، وكانت هذه المدينة، التي أصبحت منسية في الوقت الحاضر، من أهم مدن الهند كما تشهد بذلك مبانيها العظيمة، ففيها نحو أربعين معبدًا يبلغ اتساع بعضها سعةَ كنائسنا الغوطية الكبرى، ولا تزال تطلع على أطلال لها فيما مساحته عدة كيلو مترات مربعة، وأنت إذا ما استثنيت مدينة بهوونيشور لم تر مدينة ذات مجموعة مبانٍ مثلها.

وأكثر معابد كهجورا التي لا تزال قائمة مما بُنِي في القرن العاشر من الميلاد، ويُفتَرض أن أحدها شيد في القرن السابع بعد الميلاد، وإن كان يُشَكُّ في تاريخ إنشائه.

وعلى ما نبصره من إقامة معابد كهجورا في قرن واحد، على العموم، فإنها خاصة بثلاث ديانات مختلفة، أعني ديانة وِشنو وديانة شِيوا وديانة الْجَيْنِيِّين، وبلغت هذه المعابد من التشابه الفني ما يصعب معه، أوَّل وهلةٍ، أن يعرف الدين الذي تخصه، ويمكننا أن نستنبط من تساوي أهميتها تساوي تلك الديانات الثلاث ازدهارًا في ذلك العصر.

ولم يسبق الهندوس قط معابد كهجورا من الناحية المعمارية، وتجد بين ألوف التماثيل التي تغشى هذه المعابد غير تمثال لا يعيبه منقاش نحاتي الزمن الحاضر، ولا تجد بين متفتني الكتدرائيات الغوطية غير واحد استطاع أن يصنع ما يعدل معابد كهجورا في بعض الأحيان، وقلما تبصر واحدًا منهم قدر على صنع ما يفوق زخارفها.

ولما بين تلك المعابد من شبه أكتفي باتخاذ أحدها مثالًا، فأختار معبد كهندرايامهاديو الذي أنشئ في القرن العاشر من الميلاد على مسطح حجري فبلغ طوله ٣٣ مترًا وبلغ عرضه ١٨ مترًا وبلغ ارتفاعه ٣٥ مترًا، فهذا المعبد يذكرنا خارجًا، أي من حيث شكل أهرامه ذوات الخطوط المستديرة، بمعابد أوريسة الكبرى وإن كان يختلف عنها في جزئيات الزخارف مع اشتقاقها من مصدر واحد، ويتقدم مزار هذا المعبد إطارٌ أمامه رواقٌ يُدخَل من درج حجرية ضيقة، وحول هذا المزار ممرٌّ خلافًا لما يشاهد في أكثر معابد أوريسة، ويضاء هذا المزار والردهة التي تجيء قبله إضاءة جانبيه بنوافذ واسعة يتألف من مجموعها رُوَاق تمسكه أعمدة فينجم عن ذلك اكتساب رسم المعبد شكل صليب مزدوج، وقباب هذا المعبد، كما في جميع معابد الهندوس، مصنوعة من حجارة منضدة تنضيدًا أفقيًّا، وطراز عمارة كهذا، وإن كان لا يسمح بأخذ مساحة كبيرة يمنح القباب قوة كبيرة كما قلنا ذلك آنفًا، ومما رأيناه، أيضًا، أن مهندسي الهندوس وفقوا لتكبير المساحة التي تغشاها القبة المصنوعة على ذلك الوجه بأن دعموا المداميك الأفقية المجاورة للوسط بأعمدة.

fig112
شكل ٢-١١: راميشورن. معبر الأعمدة في داخل الزون «القرن السابع عشر من الميلاد»، «يبلغ طول هذا المعبر نحو ٢١٠ من الأمتار، أي أكثر طولًا من أوسع صحون أكبر الكاتدرائيات.»

ويستر داخل معبد كنهداريا وخارجه تماثيل يقرب ارتفاعها من متر واحد، ويبلغ عدد هذه التماثيل نحو سبعمائة.

وتقع معابد جبل آبو التي نذكرها الآن، ككثير من معابد الهند القديمة، في بقاع صعبة الوصول، ويبدو لنا أن منشئيها أرادوا هذه الصعوبة وفق خطة مرسومة.

وتقوم معابد جبل آبو فوق ذروة جبل مُوحش يبلغ ارتفاعه نحو ١٨٠٠ متر، وبُنيت جميع هذه المعابد من الرخام الأبيض الذي لا عهد لتلك المنطقة به، فوجب نقل هذا الرخام إلى تلك الذروة وتحمل نفقاتٍ باهظة بذلك، وتطلَّب إدماج قطع هذا الرخام بعضها في بعض أعمالًا أشد من تلك، وما أسفرت عنه هذه الجهود من الأثر الفني فيساويها، ولا تبصر مثل ذلك الإدماج في أي بناء غوطي بأوروبا.

ومعبدا جبل آبو خاصان بالديانة الْجَيْنِيَّة، وبُدِئ بإنشاء أحدهما المعروف بمعبد ويملاشاه سنة ١٠٣٠، وبُني الآخر المعروف ببال تيج بال بين سنة ١١٩٧ وسنة ١٢٤٧.

وشيد ذانك المعبدان على نسق واحد، ويتألف أساسهما من إطار قائم الزوايا يبلغ طوله ٣٤ مترًا، وتحيط به مقاصير صغيرة لا يدخلها النور إلا من أبوابها، ويحتوي كل واحد منها على صنم عارٍ ممثِّلٍ لصورة القديس الذي بني المعبد تقديسًا له، وترى الصورة نفسها مقتبسة في كل مقصورة اقتباسًا تامًّا، وترى نحو ستين مقصورة حول ذلك الإطار، وترى أمام كل واحدة من هذه المقاصير شرفة مؤلفة من صفي أعمدة، وتعلو كل باب لها نقوشٌ بارزة تمثل مناظر حياة ذلك القديس.

ويتألف قسم الإطار المقدَّم من رواق واسع تغشاه قبة يدعمها ٤٨ عمودًا متدمِّجًا من الرخام الأبيض يفوق الأعمدة الإغريقية العارية.

والقبة التي تدعمها تلك الأعمدة هي، كجميع قباب ذلك العصر، مصنوعة من مداميك أفقية، ويُشاهد ستة عشر تمثالًا مصفوفًا حول دائرتها، وهذه القبة إذا ما قيست بقبتي كنيستي وستمنستر وأكسفورد المشهورتين بغناهما بدت هاتان القبتان بجانبها ثقيلتين، هذا ما رآه فرغوسن، فلا يسعني إلا أن أشاطره رأيه هذا مشاطرة تامة.

fig113
شكل ٢-١٢: هيلابيد. «ميسور» مدخل المعبد الكبير «القرن الثالث عشر من الميلاد»، «هذا المعبد هو مثال الطراز المعروف بالجالوكي نسبة إلى آل جالوكية الذين شيدت هذه المباني في أيامهم فيظهر أن هذا الطراز مزيج من الطرز الْجَيْنِيَّة في شمال الهند ووسطها ومن الطراز الدراويدي في جنوبها.»

ومعبد جبل آبو، على عكس ما يشاهد في كهجورا، خاليان من كل زينة خارجية ومن كل نقش خارجي، ولا شيء يدل، أول وهلة، على ما تشتملان عليه من العجائب.

وفي راجبوتانا مبانٍ رائعة أخرى، ولا سيما ما يقوم منها في غواليار وجتور، ولا أرى وصفها لضيق صدر هذا الكتاب، فأكتفي بنشر صور لها، وَيُعَدُّ قصر غوليار والمعابد التي يشتمل عليها سور القلعة من أهم مباني الهند القديمة، وسأقول بضع كلمات عن هذا القصر وعن قصر أوديبور.

ومع ما عليه قصر غواليار من تلف، وعلى ما مُنِيَ به أكثر قطعه الخزفية المطلية بالميناء من السقوط، فإن السائح الناظر إليه لا يستطيع إلا الإعجاب به كما أعجب به الملك بابر حينما دخله سنة ١٥٢٧.

أقيم قصر غواليار حوالي سنة ١٥٠٠، ويسيطر هذا القصر على القلعة التي أنشئ على جانب منها، ويبلغ طوله خارجًا نحو مائة متر وارتفاعه ثلاثين مترًا، وأهم وجوهه هو الوجه الشرقي المستور بالخزف المطلي بالميناء، ولهذا الوجه طبقتان، ويؤلف من رصيف قائم الزوايا يتخلله على أبعاد متساوية ستة أبراج مستديرة تعلوها قباب، ولا تزال تجد روعةً لما بقي من خزفه المطلي الساتر للجدران، وليست التصاوير التي تغشاها غير هندوسية، ولكن صنعها من أصلٍ فارسي كما هو واضح.

وداخل ذلك القصر مؤلفٌ من طائفتي غرف صغيرة منظومة حول باحات صغيرة، ولا تزيد مساحة أكبر هذه الغرف عن ١٠ × ٦ = ٦٠، وهي ذات فنٍ بديع كما يبدو ذلك من إحدى الصور الفوتوغرافية التي نشرناها، ولا أجد ما يعدلُها روعةً غير بيوت في قصور فتح بور المشابهة لها.

وقصر أوديبور هو القصر الراجبوتي الوحيد الذي تستطيع أن تقيسه بقصر غواليار، بَيْدَ أن قصر أوديبور دون هذا القصر فنًّا؛ لأنه أحدث منه، ولما تجده فيه من الطابع الإسلامي، وهو يعد، مع ذلك، من أجمل القصور التي تخطر على قلب بشر؛ لقيامه على مكان من أروع ما في الدنيا.

وترى، أيضًا، بين الصور الكبيرة التي نشرناها عن مباني أوديبور بعض مزارات في المقبرة التي تضم رُفات ملوك ميوار.

وتجد على بعد ١٩ كيلو مترًا من أوديبور مدينة ناغدها الخربة الضائعة في الآجام، وتشتمل هذه المدينة التي أُنشئت في القرن السابع من الميلاد على معابد من أروع ما في الهند، وإذ كان يصعب بلوغ تلك الأطلال تفلَّتَت من الرواد على العموم، فلم يشتمل كتاب آخر على صور لآثارها الفخمة.

فن البناء في كجرات

طراز البناء في كجرات، ولا سيما طراز أحمد آباد، الذي يمكن اتخاذه نموذجًا يختلف عن طرز المباني المذكورة آنفًا، وذلك لاختلاط العناصر الفنية الإسلامية فيه بطراز البناء الذي يُدعى بالْجَيْنِيِّ.

أنشئت مدينة أحمد آباد في القرن الحادي عشر من الميلاد، وظلَّت مائةً وخمسين سنة عاصمة لولاية كجرات التي تعدل بريطانية العظمى مساحةً، والتي حافظ أهلوها على استقلالهم مع اختلاف العروق التي يتألفون منها، ومدينة أحمد آباد تلك اشتهرت بجدها، وفيها ازدهرت الفنون والآداب أيما ازدهار، وذاع صيت البقعة القائمة عليها منذ القديم، وكانت تتاجر مع بلاد العرب ومصر.

ويعود فضل إقامة أهم مباني كجرات إلى أتباع الديانة الْجَيْنِيَّة المشابهة للبُدَّهِية، ولم يصنع المسلمون غيرَ جعل هذه المباني ملائمة لمذهبهم.

استولى العرب على كجرات منذ القرون الأولى من الهجرة، ولكنهم لم يستقروا بها، وحافظت كجرات على استقلالها إلى عهد الملك فيروز تُغْلُق، مع ما قام به محمود الغزنوي من غزو لاحق، فلما حلت سنة ١٣٩١ اعتنق هندوسي راجبوتي الإسلام، وتسمَّى بمظفر وعُيِّن نائبًا للملك في كجرات.

وفي سنة ١٤١٢ نقل حفيد مظفر السلطان أحمد عاصمته إلى المدينة التي أطلق عليها اسمه فجعل اسمها أحمد آباد.

وحُوِّلت المباني الهندوسية القديمة المبنية على الطراز الْجَيْنِيِّ إلى مساجد، وما أنشئ بعدئذ من المساجد قام على هذا الطراز، فإذا جَرَّدت مباني أحمد آباد الحديثة من الأقواس والمآذن والكتابات العربية أمكنك عدُّها هندوسية الطراز.

فتح الملك أكبر مدينة أحمد آباد سنة ١٥٧٢ فجعلها من أملاك الدولة المغولية، فكان يُدير شئونها ولاةٌ يأتونها من دهلي، ومن هؤلاء نذكر شاهجهان وأورنغ زيب قبل أن يجلسا على عرش أجدادهما.

بلغت أحمد آباد ذروة عظمتها في العصر المغولي، فبدت أجمل مدينة في الهندوستان، وفي العالم على ما يُحتمل، فكان عدد سكانها يزيد على مليونين، وكان لسائحيها وتجارها صلاتٌ مستمرة ببلاد العرب وأفريقيا وجميع أجزاء الهند، وكان لمصانع ديباجها ومُخْملها وحريرها وطيلسانها وورقها شهرةٌ في كل مكان، وبلغ عمال الخشب والذهب والعاج فيها من إتقان الصنع ما يصعب معه التفوق عليهم، وعمال كجرات هم الذين لا يزالون يصنعون عُلب الصندل المرصعة المعروفة بعلب بمبي.

وفن العمارة في كجرات، وهو الذي نَعُدُّ طراز أحمد آباد مثالًا له، دليل بارز على اختلاف فن البناء الإسلامي في مختلف أقسام الهند، وتجد لمباني أحمد آباد من الطابع الخاص ما لا تجد مثله في بقعة أخرى من بقاع الهند؛ لما اتفق للعناصر الهندوسية فيها من التفوق، أجل، إن ما فيها من الأقواس والمناور والكتابات العربية يمنحها مظهرًا إسلاميًّا، بَيْدَ أنها تُعَدُّ بزخرفها من طراز المباني الْجَيْنِيَّة التي وجدنا أروع نماذجها في جبل آبو.

fig114
شكل ٢-١٣: دهلي القديمة. منظر عام لأطلال مسجد قطب الدين «برج قطب هو في وسط هذه الصورة، وترى دقائقه في الصورة الآتية، وتجد عن اليمين وتجاه البرج طاق علاء الدين»، «ترجع مباني دهلي إلى ثلاثة أدوار مختلفة، فأما مباني الدور الأول فهي التي شيدت قبل الفتوحات الإسلامية فلم يَبْقَ منها شيء تقريبًا، وأما مباني الدور الثاني فهي مباني الفتح الإسلامي الأول التي شيدت في أوائل القرن الثالث عشر فتظهر في هذه الصورة والصور الآتية، وأما مباني الدور الثالث فهي مباني الدور المغولي التي شيدت في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، وهي تختلف عن السابقة ونشرنا صورًا لها في هذا الكتاب.»

وإذا سألت عن رسم مساجد أحمد آباد العامِّ وجدته مثل رسم جميع المساجد الإسلامية، أي وجدته مؤلفًا من ساحة واسعة قائمة الزوايا تُحيط بها أروقة مسقوفة، فعلى جانب من هذه الساحة ترى رواقًا كبيرًا معدًّا للعبادة، تعلوه، على العموم، ثلاثُ قباب يحملها اثنا عشر عمودًا، شأن القباب الْجَيْنِيَّة، والقبة الوسطى أعلى من القبتين الأخريين، وقد تم هذا العلو بإضافة أعمدة أعلى من الأخرى مرتين فوق مقدَّم الأعمدة، وبتنضيد أعمدة على الجهات الثلاث الأخرى مستندة إلى السقف الذي اتُّخِذ أساسًا لبقية القباب، ويزيد هذا الوضع، الذي لا تشاهد مثله في المباني الْجَيْنِيَّة الأقدم مما في أحمد آباد، مقدار الضياء الذي ينفُذ في البناء.

ولما قضت الضرورة بتوسيع أروقة الصلاة في المساجد لم يتم ذلك بزيادة قطر قبابها، بل بزيادة عددها، ومن ذلك أن جُعِلت القباب في المسجد الكبير خمسًا يحمل كل واحدة منها اثنا عشر عمودًا، لا ثلاثًا على خط واحد، وكل قبة إذ كُرِّرت ثلاث مرات غَوْرًا غَدَت تلك القباب الخمسُ خمسَ عشرةَ قبة إذن.

ومما يشاهد في أكثر المساجد وجود كِواءٍ٤ حافلة بالنقوش الهندوسية الرائعة، وكانت هذه الكواء مملوءة بالتماثيل في المعابد الْجَيْنِيَّة، فالشريعة الإسلامية إذ كانت تُحرم صور الآدميين وكان خلو الكواء من شيء أمرًا كريهًا رُئِي مَلْؤها بشبكة هندسية.

مباني الهند الوسطى

ليس عدد مباني البقعة التي ندرسها الآن كثيرًا، وإنما تُعَدُّ من أكثر مباني الهند وقفًا للنظر، ولا يختلف أكثر هذه المباني، كمعبد أمبرناتهه مثلًا، عن المباني التي درسناها، بَيْدَ أنك تجد بينها ما يدل على فن بناء خاص كمباني إيلورا.

وترى في وسط الهند، أيضًا، معابدَ مصنوعة تحت الأرض، ولكنها غيرُ بُدَّهِية كما هو أمر معابد كارلي وأجنتا، إلخ، المذكورة فيما تقدم، بل تخص الديانة البرهمية كما هو أمر معابد إليفنتا، أو تخص كلتا الديانتين كما هو أمر معابد إيلورا، ومعابد إيلورا هذه هي من المعابد التي أدت دِراستها إلى نظريتنا التي أوضحنا بها أُفول البُدَّهِيَّة بابتلاع البرهمية لها ابتلاعًا تدريجيًّا.

fig115
شكل ٢-١٤: دهلي القديمة. قسم من برج قطب «بدئ بإنشاء برج قطب الدين الذي ترى منظره العام في الصورة السابقة سنة ١١٩٩، ويبلغ ارتفاعه ٧٣ مترًا، ويشتمل على خمس طبقات يحيط بكل واحدة منها شرفة مشابهة للشرفة الظاهرة في هذه الصورة.»

تقوم معابد إيلورا التي ندرسها وحدها في هذا المطلب على جوانب جبل تتوج ذروته قرية روضة الصغيرة حيث يُرى ضريح الملك أورنغ زيب، وتقع هذه القرية في شمال أورنغ آباد الغربي وتبعد منها ٢٢ كيلو مترًا.

ويبلغ عدد الأحافير التي تتألف معابد إيلورا منها ثلاثين، ونُحِتَت هذه المعابد في الجانب الغربي من الجبل على طول كيلو مترين، وتجد مدخل هذه المعابد ضائعًا في فجاج عميقة تسترها آجام وأشجار عاديَّة،٥ واليوم ترى تلك المعابد والأديار، التي غمرتها أجيال من الآدميين فتذكرنا بآثار قدماء المصريين الضخمة، صامتةً، فلا يُكدر صمتها سوى سائلين قليلين يسيرون وراء السياح.

وأُنشئت معابد إيلورا في أدوار مختلفة، ويرجع معبد وشوَا كَرَما، الذي هو أقدمها، إلى سنة ٥٠٠ من الميلاد، ولم يُنشَأ معبد كيلاسا الذي هو أحدثها في زمن أحدث من سنة ٨٠٠ من الميلاد، فتكون تلك المعابد قد أُنشئت، إذن، في دور دام ثلاثمائة سنة.

وعندي أن ذلك الدور، الذي بدأ في القرن السادس وانتهى في القرن التاسع فشيدت فيه مباني إيلورا، هو الدور الذي عادت البُدَّهِيَّة فيه بالتدريج إلى البرهمية مصهورة فيها، فلم تلبث أن ابتلعتها بأَسْرها، ففي هذه المعابد أُحيط بُدَّهة بآلهة ثانوية كثيرة مؤلفة من آلهة برهمية ومن آلهة مرشحة لمرتبة بُدَّهة، وذلك بدلًا من أن ينفرد بُدَّهة وحده بهذه المعابد، ومن الصعب أن نُميِّز جميع هذه الآلهة مستندين إلى ما بدا لنا من تفسير مجتهدي البراهمة «البندت» الخلافي، غير أنه وجد في هذه المعابد ما يزيل الشك، فقد رُئي بين نقوش ما هو بُدَّهِي منها صورةُ إله السماء إندرا، وإلاهة الموت كالي، وإلاهة العلم سرسوتي «زوجة بَرَهْمَا»، وإله الحكمة غنيشا، إلخ.

وهكذا نستطيع أن نشاهد في معابد إيلورا ذلك التطور الذي تمَّ في الهند بين القرنين السادس والتاسع من الميلاد، فلم يَبْقَ منه في الهند الأصلية سوى أثر قليل وإن سَهُل علينا درسه في نيبال كما بينا ذلك، ولا تدل معابد إيلورا على ذلك الدور الانتقالي وحده، بل تدل، أيضًا، على مثل ما في نيبال من أن بعض معابدها بُدَّهِية تمامًا وأن بعض معابدها التي أُنشئت بعد هذه المعابد البُدَّهِيَّة بزمن قصير برهمية تمامًا.

وبعض معابد إيلورا قائمة فوق الأرض وأكثرها مصنوع تحتها على عدة طبقات مستندة إلى أعمدة ضخمة منقوشة نقشًا عجيبًا، ومما يلاحظ أنها عاطلة من مِثل الأقواس الهلالية التي تُرَى في المعابد البُدَّهِيَّة القديمة المصنوعة تحت الأرض، ومن النادر أن تجد فيها دَغْهُوبات.

ويتطلب تعداد معابد إيلورا ودرسها مجلدًا، فاكتفينا في هذا السِّفْر بذكر أهمها، وفي هذه المعابد تبصر ما لا تبصره في غيرها من خدور وتماثيل.

وأجدر معابد إيلورا بالذكر معبدُ إندرا ومعبد كيلاسا، وليس معبد كيلاسا هذا معبدًا مصنوعًا تحت الأرض تمامًا، فترى القسم الأوسط منه منعزلًا فوق الأرض عن بقية الجبل، ولكنك تجده محاطًا بعدة أحافير تؤلِّف جزءًا منه وتنشب في جوانب الجبل.

ويشابه خارج معبد كيلاسا معابد جنوب الهند الدراويدية، وتجد تكرارًا له في الأبواب، وتجد هذا المثال الابتدائي في مهابلي بور أيضًا.

وإذا عَدَوْتَ معابد مهابلي بور وجدت معبد كيلاسا الذي أنشئ في القرن الثامن من الميلاد، كما يلوح، أقدمَ من جميع معابد جنوب الهند.

وَيُعَدُّ هذا المعبد البرهمي الذي صُنِع تقديسًا لشيوا من المباني التي تجلَّى خيال متفنني الهندوس في نقوشها، فلا يكفي مجلد واحد لتصوير هذه النقوش فاقتصرنا على نشر أهمها، فهي تُمثِّل جميع الآلهة الهندوسية وتمثل أقاصيص ديوان المهابهارتا.

وكان يغشى داخل ذلك المعبد وخارجه تصاوير ملونةٌ فلم يَبْقَ منها سوى أثر قليل.

ويقع معبد كيلاسا المصنوع من حجر واحد في باحة قائمة الزوايا تؤلَّف جوانبها من حواجز من الجبل نفسه، وقد نُحِتَت في هذه الحواجز رِدَاهٌ تحت الأرض مزينة بنقوش.

ونُحت ذلك المعبد الواقع في وسط تلك الباحة من صخرة واحدة، ويبلغ ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا، وتُدْخَل تلك الباحة من رواق مزين بأعمدة مربعة.

وداخل ذلك المعبد مؤلَّف من ردهة كبيرة تدعمها أساطين وأعمدة مربعة، وتحيط بها مقاصير، ونُصبت حول ذلك المعبد تماثيل أسود وأفيال وحيوانات وهمية مختلفة يخيل إلى الناظر أنها حارسة لها.

ويشاهد بالقرب من المعبد مِسَلَّتان تبدوان واضحتين في صورنا، ويشاهد هنالك، أيضًا، فيلان هائلان من قطعة واحدة، ويبدو لنا أن المهندس الذي أشرف على صنع ذلك المعبد دَارَى أقسامَ الصخر الضرورية لنحته ونحت الفيلين والمسلتين والمقاصير والجسور الجامعة بينها.

ولا أختم كلامي عن معابد إيلورا قبل أن أقول إنه كان لها، مع مباني كهجورا وبيجانغر ونيبال، أبلغ الأثر في نفسي، فقد نَسِيت ما كابدته من الجوع والتعب وليالي السهاد أمام هذه العجائب، أجل، إن معبد الكرنك في الأقصر بمصر أثر رائع، ولكن معبد الكرنك هذا إذا كان يُخيَّل إلينا أنه من عمل قوم من العمالقة فإنه يلوح لنا أن معبد كيلاسا ومعبد إندرا الواقعين في إيلورا من صنع قوم من الجن، فما كان لعلاء الدين، مع فانوسه السحري، أن يُتم عملًا شيطانيًّا كهذا، وما كان للصور الفوتوغرافية أن تبدي لنا حقيقة تلك الآثار إلا قليلًا، ويجب، لتمثلها، أن نتخيل كتدرائية عظيمة رائعة منحوتة في حجر واحد مفصول عن جبل فصلًا مصنوعًا، وترى بذهنك أيدي العمال، الذين ينتسبون إلى عالَم غير عالمنا فحفروا بها جوانب تلك الهوة ليفصلوا ذلك الصخر الهائل، حفروا بها أيضًا سلسلة معابد غائرة في جوانب ذلك الجبل، وترى تلك المباني وحواجزها مستورة بتماثيل آلهة وإلاهات وغيلان وبكل ما يتصوره الإنسان الواسع الخيال من الحيوان على مختلف الأوضاع.

وترى هنالك الآلهة المرهوبة الجبارة يحرسها شياطين من الحجارة متوعدين للزائر فلا يدنو منها، وترى قومًا من الغيلان مكشرين عن أنيابهم، وترى إلاهاتٍ باسمات ساحرات باسطات لذرعانهن، وترى راقصات مثيرات للشهوات، وترى آلهةً وإلاهاتٍ متعانقةً بشدة عن غرام شديد، وترى هؤلاء القوم من الأصنام الذين يلوح أنهم قدماءُ قِدَم العالم، والمؤلَّفون من موجودات علوية ومن راقصات ومن جنيات، يؤلِّفون موكبًا لا آخر له منتشرًا على حواجز المعابد وفيما هو منحوت من المباني في الجبل.

وأنت كلما صعدت وهبطت وتقدمت على نور مشعلك وجدت ظلال أولئك ضاحكةً تارَةً ومهدِّدةً تارَةً أخرى، فتصاب بالدوار فتعتقد أنك انتقلت إلى عالم من السحر والعجائب، وتدرك، إذ ذاك، وجود فرق بين تماثيل كتدرائياتنا الغوطية الفاترة الجامدة وأولئك القوم المصنوعين من الحجارة على أشكال بلغت من الحياة والصدق ما تقول معه إنها تتحرَّك، ولم يكن تاج محل القائم في أغرا وحده هو الذي يكفي لزيارة الهند كما قيل، بل إن معبد إندرا ومعبد كيلاسا يستحقان مثل هذه الزيارة أيضًا.

fig116
شكل ٢-١٥: دهلي القديمة. أقواس مسجد قطب وعمود الملك دهافا المصنوع من حديد «أنشئت هذه الأقواس في أوائل القرن الثالث عشر، ويبلغ ارتفاع أعلاها ١٦ مترًا، وترى أمامه عمود دهافا المصنوع من حديد والذي هو من أندر بقايا دهلي القديمة، ومن المحتمل أن يكون قد نصب في القرن الثالث من الميلاد.»

(٤) فن البناء في الهند الجنوبية

نجهل مصادر فن البناء الهندوسي في جنوب الهند جهلَنا لمصادره في شمالها، فلما بدت أقدم آثاره في أقدم معابد بادامي ومهابلي بور، إلخ، وذلك حوالي القرن السادس من الميلاد، كان قد وصل درجة من الكمال منطوية على ماضٍ طويل، وليس لدينا ما نذكره عن هذا الماضي الطويل الراقد تحت أعفار القرون، نعم، إن ممالك جنوب الهند الكبيرة، التي كانت عواصمها، كَمَدُورا مثلًا، معروفة لدى كتَّاب العالم الإغريقي اللاتيني القديم، اشتملت على مبانٍ مهمة لا ريب، بَيْدَ أن الأزمنة والحروب الأهلية والغزوات الأجنبية لم تُبق فيها شيئًا، فلم نقدر على مَلءِ الهوَّة التي تفصل أبنية ما قبل التاريخ الحجري، الموجودة في الهند كما في أوروبا، عن المعابد العجيبة التي شيدت في القرن السادس من الميلاد.

fig117
شكل ٢-١٦: دهلي القديمة. ضريح الملك ألتمش «أنشئ سنة ١٢٣٥ في مسجد قطب»، «جميع نقوش الردهة المشتملة على القبر منقورة على حجارة رملية حمر، ويبلغ ارتفاع أعلى القوس الكبير الذي يرى فوق المحراب نحو خمسة أمتار، وتنفصل حجارة الأقواس بعضها عن بعض قليلًا فيسهل الانتباه إلى أنها مبنية على مداميك أفقية على الطريقة الهندوسية، وَيُعَدُّ هذا الضريح مع الأثر المرسوم في الصورة الآتية مثالًا للمباني التي امتزج فيها الطراز الهندوسي بالطراز العربي امتزاجًا حسنًا.»

ولا نستطيع، إذن، أن نرجع فن عمارة جنوب الهند الأول إلى غير المباني، الحديثة نسبيًّا، القليلة التي أقيمت في القرن السادس من الميلاد كمباني مهابلي بور وبادامي، بَيْدَ أننا لا نجد بين هذه المباني والمعابد الهرمية التي يعود إنشاؤها إلى القرن العاشر من الميلاد أيَّ بناء متوسط، فتبصر هنا حلقاتٍ مفقودةً في سلسلة المباني كما أبصرت هنالك، أجل، إن فنَّ البناء تغير في هذا الدور الذي دام نحو أربعة قرون، غير أن المباني التي أنشئت فيه إذا كانت قد نالت ضخامة لم تنل كمالًا، فالحق، أنك ترى معابد مهابلي بور الأولى الصغيرة قد كُبِّرت كثيرًا فيما بعد فاستبدلت في المعابد التي أُنشئت مكبرة بالأعمدة المنقوشة نقشًا بسيطًا أعمدةٌ معقَّدة منقوشة عليها صور للغيلان والفرسان تُعَدُّ في الغالب دون التي رأيناها في معابد أيلورا روعةً فأمكن ربطها شكلًا بآثار جنوب الهند، وذلك عدا ما في بيجانغر على ما يُحتمل.

وبين معابد جنوب الهند فروقٌ مهمة من حيث الصنع، ولكنها شيدت على رسم واحد كما يظهر، فكانت من فصيلة واحدة، فترى فيها ما يأتي:

يحيط بالمعبد الكبير على الدوام إطارٌ قائم الزوايا أو عدة أطر قائمة الزوايا ذات مركز واحد، لها في جهاتها الأربع بابٌ هرميٌّ مجذومُ الرأس متآزي السطوح، فيبلغ ارتفاع هذا الباب المستور بالتماثيل ستين مترًا أحيانًا، فتلك الأبواب الهرمية هي التي تمتاز بها معابد جنوب الهند، وتلك الأبواب قد تُعَدُّ معابد لضخامتها، ومما يشاهد في الغالب تعاقب كثير من تلك الأبواب الهرمية على خط واحد فيتألف من ذلك شارع أهرام، ومصدر هذا الوضع، على ما يظهر، هو عد القوم للإطار الأول غير مناسب لشهرة المعبد أو غِنَى بعض الواهبين، فأنشئوا حوله بالتعاقب أُطُرًا أخرى ذات مركز واحد فتوسيعهم بذلك المعبد الأصلي من غير هدمه، فأسفر هذا الأمر الذي هو وليد ضرورة توسيع المعبد في البداءة عن اتخاذه دستورًا في شيد المعابد الجديدة فكان ما تراه من اشتمال هذه المعابد على عدة أطر ذات مركز واحد.

وتحتوي الأطر الخارجية للمعابد الكبرى على مساكن لسَدَنَتها، وتحتوي، أيضًا، على أسواق، إلخ، فيتألف منها مدينة مشتملة على عدة آلاف من الأهلين.

وتجد في صحون٦ المعبد الداخلية رُواقًا أو أكثر من أعمدة، منقوشةٍ عادةً، أمام زُون.٧

ونذكر، من بين الأبنية التي تشتمل عليها المعابد العظيمة، الرِّدَاهَ ذواتَ الأعمدة، ومن هذه الرِّدَاهِ ما تحتوي الواحدة منها على ألف عمود.

ويُرى في إطار كل معبد حوض مقدسٌّ قائم الزوايا معدٌّ للغسل يزيد جانبه على مائة متر في الغالب.

ويكون زُون الآلهة التي أقيم المعبد تقديسًا لها في وسط أحد الصحون الداخلية، وهذا الزون هو بناء قائم الزوايا يعلوه هرم عالٍ كما في تانجور مثلًا، ولا ينفذ النور في الزون إلا من الباب، ويكون هذا الزون صغيرًا على العموم، ولا ضير من صغره ما دام دخوله مقصورًا على أبناء الطوائف العليا.

والزون هو القسم الأصلي في كل معبد من معابد جنوب الهند، وفي سبيل الزون بذل الصناع وصانعو التماثيل أكبر عمل، فترى الزون مملوءًا من أسفله إلى أعلاه بالتماثيل الكثيرة جدًّا المتفاوتة القيم، فترى بين هذه التماثيل ما هو بديعٌ وترى بينها ما هو شنيع، وقد تكون هذه التماثيل من حجر، وتكون في الغالب من المِلاط أو الفخَّار، وعكس ذلك أمر أعمدة الزون، فهي مصنوعة من قطع صوَّان واحدة، ويجد بعض علماء الآثار الأفاضل وجه شبه بين الزون والأبراج القائمة أمام المعابد المصرية، وعندي أن هذا الشبه سطحي، فمن المتعذر أن تجد شبهًا جدِّيًّا بينهما، وإذا كان لا بد من الإصرار على وجود شبه بينهما فإن مثل هذا الشبه يكون بين الزون ومعابد بابل الهرمية المربعة القواعد التي حكى عنها أسترابون فتُبصِر مثالًا صالحًا لها في مرصد خرز آباد، وهذا إلى أن ذلك الطراز ليس خاصًّا بجنوب الهند وحده فتشاهد مثلَه بشمال الهند في معبد بُدَّهة غَيَا الذي يرجع إلى القرن الأول من الميلاد.

fig118
شكل ٢-١٧: دهلي القديمة. مدخل طاق علاء الدين «أنشئ سنة ١٣١٠»، «يبلغ ارتفاعه نحو ١١ مترًا.»
fig119
شكل ٢-١٨: أجمبر. إحدى أقواس المسجد الكبير «القرن الثالث عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاعه نحو ١٧ مترًا»، «طراز مسجد أجمبر مطابق لطراز المباني الإسلامية الأولى التي شيدت بدهلي فنشرنا صورها في الصفحات السابقة.»
fig120
شكل ٢-١٩: بيجابور. داخل المسجد الكبير «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع القوس الكبير الظاهر في الصف الأول من هذه الصورة ثمانية أمتار، ويبلغ طول المسجد نحو مائة متر، أي ما يعادل اتساع إحدى كاتدرائياتنا الكبرى التي أنشئت في القرون الوسطى»، «بيجابور هي إحدى العواصم الكبرى الخربة الكثيرة في الهند، وقد شيدت مبانيها المرسومة في هذه الصورة وفي الصور الآتية في القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر حين كانت مقرًّا لمملكة الدكن الإسلامية فبلغت دائرتها ٤٨ كيلو مترًا على ما روي.»

والناظرُ حينما يبحث في الزُّون يرى وجه كل طبقة منه مؤلفًا من أطواق صغيرة ذات أعمدة تعلوها قبة ويتخللها تماثيل، فعلى هذا الطراز الابتدائي شيد أقدم معابد الهند الجنوبية، كمعابد مهابلي بور مثلًا، ومن هذا العنصر اقتُبِس صنع الزون.

يكفي البيان الموجز السابق لوصف طراز المعابد التي شيدت في سبعمائة سنة «بين القرن العاشر والقرن السابع عشر» فنشرنا صورًا لها فلا تجد فروقًا أساسية مهمة بينها، ومن الممكن أن يقال، على العموم، إن جميع المباني التي وُصِفَت في هذا المطلب من طراز واحد خلا ما هو مصنوع منها تحت الأرض، وتقوم تلك المعابد في بقعة جنوب الهند الممتدة من نهر كرشنا إلى النقطة القصوى من شبه جزيرة الهند.

ونذكر من المعابد الشاملة للنظر التي وصفناها ما هو قائم منها في المدن: بيجانغر ومدورا وشري رنغم على الخصوص، ويبلغ معبد شري رنغم نحو كيلو متر طولًا، فهو أوسع معبد في العالم على ما يُحتمل، وفي بيجانغر أطلال من كل نوع، وبيجانغر هذه كانت من أعظم عواصم الدنيا كما تشهد به أطلالها، فغَدَت اليوم برِّيَّة لا يسكنها غير الضواري، ومن أروع ما شعرتُ به عندما زرت عجائب الهند هو ما تجلى لي حينما سِرت ذات ليلة مقمرة في شوارع هذه المدينة الميتة الواسعة اتساعَ شوارعنا والمطرزة بأطلال المعابد والقصور، ولِذُرَى هذه المعابد والقصور البادية من خلال الأدغال من الرَّوعة ما يأخذ بمجامع القلوب، وأشد من ذلك روعةُ منظر الإطار الحجري العظيم المحيط بتلك الأطلال الجليلة، والذي لا بد من مجاوزته قبل دخول تلك العاصمة، هنالك خُيِّل إلي أنني دخلت مدينة جبارة من صنع الجن فخربها مردة من أبناء السماء والأرض. ومن المعابد التي تحتويها هذه المدينة أذكر معبد وتهوبا، وما اشتمل عليه من الأساطين المصنوعة كل واحدة منها من حجر واحد، فبدا هذا المبعد من عجائب الدنيا، فمعبد وتهوبا هذا هو من أنفس ما شاده الإنسان، وهو من الآثار الرائعة التي لا تُصنع مرةً أخرى.

«وتظهر ألوف الآلهة المتأملة التي تحمل الأعمدة من مداميك المعبد إلى حنايا القباب.»

(٥) فن البناء الهندوسي الإسلامي

كان من نتائج تعدد الممالك الإسلامية في الهند في مختلف الأدوار ظهور طرز معمارية مختلفة باختلاف الولايات، وسبب هذا الاختلاف هو انتساب الفاتحين إلى عروق متباينة ووجود طراز بناء خاص لكل ولاية استولوا عليها، فأسفر انصهار هذه العناصر غير المتشابهة بعضها في بعض عن ظهور طرز مختلفة يتعذر إطلاق اسم واحد عليها، فمن يدرس آثار أحمد آباد ودهلي ولاهور وبيجابور، إلخ، يشعر بأنه أمام مبانٍ مختلفة الأصول وإن بدا الأثر الهندوسي في جميعها تقريبًا، فالحق أن مسلمي الهند لم يوفَّقوا، كما وفقوا في مصر والأندلس، لإبداع مبانٍ مبتكرة كجامع قايتباي في القاهرة أو الحمراء في غرناطة مثلًا، والحق أن العناصر الأجنبية في الهند قد تنضَّد بعضها فوق بعض أو اختلط بعضها ببعض اختلاطًا محمودًا يسهل معه تبين كل واحد منها، والحق أن اختلاف المباني الإسلامية في الهند باختلاف البقاع نشأ عن اختلاف نِسَب العناصر التي تألفت منها.

أدى امتزاج العناصر الأساسية الثلاثة، الهندوسي والعربي والفارسي، بعضها ببعض إلى ظهور طرز الهند الإسلامية، وأما العنصر البيزنطي فلم يَبْدُ فيها إلا في أحوال شاذة، كما في بيجابور، وأما المؤثرات الأوربية فلم تبد إلا في العصر المغولي، وقد انحصر أمرها، مع ذلك، في الزخارف الثانوية كترصيع رخام وجوه البناء بالحجارة الثمينة، وقد بدا المؤثر الإيطالي حديثًا في الأشكال الخارجية وفي جزئيَّات زخارف بعض المباني، كالتي شيدت في لكهنَئُو وتانجور مثلًا، بَيْدَ أن نتائج ذلك الضم كان على قلةٍ ودون الوسط بمراحل فلا يستحق الوصف، وإذا كان في الإشارة إليه من فائدة فلدلالته على أن الشرق والغرب لا يمتزجان في طرز مبانيهما كما أنهما لا يمتزجان في أفكارهما.

fig121
شكل ٢-٢٠: بيجابور. ضريح إبراهيم رضا «أواخر القرن السادس عشر من الميلاد»، «دقائق الأعمدة المحيطة بالضريح»، «يبلغ ارتفاع الأعمدة إلى سطحها خمسة أمتار و٤٠ سنتيمترًا.»

وما نشرناه في هذا الكتاب من الصور ينبئ، أحسن من الوصف، باختلاف نتائج ضم تلك العناصر المعمارية، فإذا نظرت إلى أقدم المباني الإسلامية الهندية، كمسجد قطب الذي أنشئ في دهلي في أواخر القرن الثاني عشر من الميلاد، وجدت المؤثرات العربية هي السائدة لها، ثم كانت الغلبة للمؤثرات الفارسية في شمال الهند الإسلامية على الأقل، كالتي أقيم منها في لاهور، وكانت الغلبة للعنصر الهندوسي في بقاعٍ أخرى كأحمد آباد مثلًا، فحُقَّ لنا أن نصف آثار هذه المدينة بالهندوسية إذا استثنينا أقواسها وقبابها ومآذنها.

أقيمت أقدم المباني الإسلامية في الهند كمسجد قطب بدهلي والمسجد الكبير بأجمير في أواخر القرن الثاني عشر، وأقيمت المباني الإسلامية الأخيرة المهمة في أواخر القرن السابع عشر، فتكون تلك المباني قد شِيدَت في دور دام خمسمائة سنة.

وفي الكتب الإنجليزية تجد المؤلفين يُطلقون، في الغالب، كلمة الطراز البتهاني على طراز البناء الإسلامي في الهند قبل العصر المغولي مقتبسين هذا الاسم من أسماء الأُسَر المالكة التي كان لها السلطان في ذلك الحين، فلا أرى من المفيد أن يطلق اسم خاص على طراز بناء كهذا لا يختلف عن فن البناء العربي إلا ببعض الإضافات الهندوسية، كما يلاحظ ذلك بسهولة في المباني القليلة التي انتهت إلينا من ذلك الدور.

فإذا كانت هنالك ضرورة إلى تسميات خاصة، فلتُطلق هذه التسميات على الطرز البارزة التي تشاهد أمثلتها في المدن الإسلامية: أحمد آباد وبيجابور وغور، إلخ.

وأما اسم الطراز المغولي فيجب أن يحافَظ عليه، ويدل هذا الاسم على المباني التي أنشئت في عهد ملوك المغول، ولا يرجع أقدم مباني هذا العهد الأول إلى ما قبل منتصف القرن السادس عشر، والملك أكبر هو الذي شادها، ثم سار خلفاؤه، جهانكير وشاهجهان وأورنغ زيب، على سُنَّتِه في شَيْدِ المباني إلى أواخر القرن السابع عشر، وتجد هذه المباني في أغرا ودهلي على الخصوص، ولا يستنبط القارئ من تشابه مباني هاتين المدينتين الواضح أن جميع المباني الإسلامية التي أقيمت في هذا الدور بالهند قد بُنِيَت على هذا الطراز، فليُنعم نظره في صور هذا الكتاب ليرى العكس.

والمباني التي أقيمت في الهند على الطراز المغولي هي التي تعرفها أوروبا تقريبًا، مع أنها ليست سوى قسم ضئيل مما شاده المسلمون فيها، ونُفسِّر ذلك باقتصار الأوربيين على زيارة مدينتين مشهورتين منذ زمن طويل وبَهْرِ مبانيهما لهم، وإن كنا نرى في الهند من المباني الإسلامية ما ينافس هذه المباني من الناحية الفنية.

وطراز البناء الذي أتى به المغول هو، كديانتهم، من أصل عربي حُوِّل حين مروره من بلاد فارس، ومما حدث أن شاد تيمور لنك الذي ظهر قبل بابَر بمائة سنة في مدينة سمرقند «١٣٩٣–١٤٠٤» مباني ذات طابع فارسي، فمن بلاد فارس اقتبس المغول القِباب البصلية الشكل والترصيع بالخزف المطلي بالميناء الشائع في لاهور والأقواس الحادة والأبواب الفخمة التي تعلوها نصف قبة.

وأراد الملك أكبر والملك جهانكير صَهْرَ الهندوس والمسلمين في أمة واحدة فلم يألوا جهدًا في مزج طرازَيْهم فنجم عن ذلك أن وُسم كثير من مباني ذلك الدور، كمباني فتح بورسيكري مثلًا، بالطابع الهندوسي أكثر مما بالطابع الإسلامي، ثم تورات روح التسامح هذه في عهد شاهجهان «١٦٢٨–١٦٥٨» الذي أقام أغنى المباني في العصر المغولي فعادت المؤثرات الهندوسية لا تبدو في غير بعض الجزئيات، فصِرت لا ترى النقوش البارزة العزيزة على متفنني الهند، فكان ما تعلم من خلوِّ تاج محل منها واقتصار زينته الخارجية على فسيفساء هزيلة.

وترجع عناصر الفن التي كانت سائدة للطراز المغولي في عهد شاهجهان إلى استعمال الأقواس المُفَرَّضة والقباب البصلية وترصيع الرخام الأبيض بالحجارة الثمينة وستر المساجد، في بعض الأحيان، بالخزف المطلي بالميناء.

وقد أفل نجم الطراز المدين لتأثير المغول بأفول نجم هؤلاء بالتدريج، فلا يشيد القوم مبانيَ مهمةً على حسب أصوله في الوقت الحاضر، مع أن الطراز الهندوسي لا يزال محافظًا على نفوذه، ومع أن الطرز الإسلامية الأخرى لا تزال باقية في الممالك الإسلامية التي تتمتع بشيء من السلطان كدولة نظام مثلًا.

تكفي الخلاصة السابقة لتسويغ ما اتخذناه من تقسيم المباني الإسلامية في الهند، وعلى الباحث أن يدرس هذه المباني في كل منطقة على حدة، والمباني المهمة لكل منطقة إذ كانت متجمعة في عاصمتها وجب اتخاذ مباني كبريات المدن أمثلة في البحث، فإذا ما قيل: فن بناء لاهور وفن بناء بيجابور، مثلًا، دل ذلك، بالحقيقة، على فن بناء المنطقتين الواسعتين اتساع ممالكنا الأوربية، في الغالب، اللاتين اتخذتا تَيْنِكَ الديانتين عاصمتين لهما.

ويتجلى النفوذ الإسلامي في جميع الهند تقريبًا، فقد وجدتُه حتى في نيبال التي لم يدخلها المسلمون قط، ووجدتُه، أيضًا، في جنوب الهند التي لا تحتوي على مساجد بناها المسلمون فقط، بل تشتمل على قصور إسلامية بناها الهندوس أيضًا كقصر مدورا مثلًا، وكان للنفوذ الإسلامي من الأثر البالغ في شيد هذه القصور ما يُخيَّل إليك معه، أول وهلة، أن بُناتها من المسلمين بالحقيقة.

وإذا اتخذت ما قلناه آنفًا قاعدة أمكنك أن تصنف المباني الإسلامية التي تملأ الهند كما يأتي:
  • (أ)

    فن البناء الإسلامي قبل العصر المغولي «وقد أنشئت على طرازه مباني دهلي القديمة ومباني أجمير وبيجابور وغولكوندا، إلخ.»

  • (ب)

    فن البناء في العصر المغولي «وقد أنشئت على طرازه مباني أغرا ودهلي ولاهور، إلخ.»

  • (جـ)

    فن البناء الموسوم بالمؤثرات الإسلامية في مختلف بقاع الهند حيث أكثر المباني هندوسيةٌ «وقد أنشئت على طِرازه المباني الإسلامية في غواليار ومهوبا وكهجورا ومدورا، إلخ.»

أَلا إن مبانيَ المسلمين في الهند كثيرة إلى الغاية، وتختلف طرزها بين دور ودور وبين مدينة ومدينة فيتعذر وصفها داخل الحدود التي رسمناها لهذا السِّفْر، وقد نشرنا أهم صورها في هذا الكتاب مع ذلك، ولا يسعني سوى إحالة الراغبين في دراسة كل واحدة منها بالتفصيل إلى كتابي «الهند الأثرية»، ومن هذه المباني الإسلامية أذكر برج قطب وباب علاء الدين ومزار أكبر وقلعة أغرا وأطلال فتح بور وقصر ملوك المغول بدهلي، وما إلى ذلك من الآثار القائمة في كبريات المدن فيسهل على الباحثين أن يصلوا إليها، فنجم عن هذا ذيوع صيتها في أوروبا.

(٦) فن البناء الهندي التبتي

تقع دولة نيبال، كما هو معلوم، بين سلاسل جبال هِمَالْيَة المتوازية التي تفصل الهند عن التبت، ونجم عن عزلتها واستقلالها محافظتُها على عاداتها القديمة محافظةً تامة، ومن المفيد أن يُدرس فن بنائها الذي صعب البحث فيه حتى الآن، فيُرى في كثير من مباني نيبال اختلاط العناصر الهندوسية والصينية، وبلغت هذه العناصر في بعض مباني نيبال من التمازج ما أسفر عن ظهور طراز خاص جديد.

fig122
شكل ٢-٢١: بيجابور. مهتري محل «القرن السادس عشر من الميلاد»، «يبلغ ارتفاع المئذنة نحو عشرين مترًا.»

مباني نيبال كثيرة جدًّا، ففيها ما يزيد على ألفي بناء، وتُربط طرز هذه المباني بأمثلة ثلاثة مختلفة اختلافًا جوهرًا كما نصفها لك:

فأما الطراز الأول بحسب القِدم فيتألف من مبانٍ كبيرة نصف كريَّة مصنوعة من الطين والآجُرِّ مشابهةٍ لقباب الهند الوسطى كمزار سانجي على الخصوص، ولكنها ليست محاطة، كهذه القباب، بسياجات حجرية ذات نقوش، بل هي محاطة بأرصفة مستديرة، وتبصر في كل جهة من جهاتها الأربع محرابًا، وإن شئت فقل مشكاة ذات تماثيل، ويعلو نصف الكرة برجٌ مربع يُتَوِّجُه هرم أو مخروط، وترى حول كل معبد أبنية دينية صغيرة ومقاصير وتماثيل، إلخ.

أَجَلْ، إن تلك المعابد خاصة بالديانة البُدَّهِيَّة، بَيْدَ أن البرهمية والبُدَّهِيَّة بلغتا من التمازج في نيبال ما تتلاقى معه رموز تَيْنِكَ الديانتين في جميع معابدها مهما كانت الديانة التي أُقيمت من أجلها، فترى في تلك المعابد البُدَّهِيَّة، في الغالب، تماثيل الآلهة البرهمية «وشنو وغنيشا، إلخ» بجانب تماثيل بُدَّهة وسابق تقمصاته والثالوث البُدَّهِي «بدهة ودَهرما وسِنغها.»

ونحن حين رأينا في نيبال كيف تتدرج البُدَّهِيَّة إلى الانصهار في البرهمية استنبطنا وقوع هذه الحادثة نفسِها في بقية الهند حوالي القرن السابع من الميلاد.

وتلك المباني التي وصفناها، وإن كانت أقدم ما في نيبال، ليست أكثر ما في نيبال عددًا، فيتألف معظم معابد نيبال من مبانٍ مصنوعة من الآجر والخشب على طراز تبتي صيني أكثر من أن يكون هندوسيًّا فتشتمل هذه المباني على عدة طبقات قائمة الزوايا مُتقبِّضة يعلو كل واحدة منها سقف، ويظهر كل واحد من هذه السقوف مرتفع الزوايا قليلًا، كما في المباني الصينية، مزينًا بعدة جلاجل، ويبدو كل بناء أُنشئ على هذا الشكل هرميَّ الشكل ذا طابع خاص.

ويرتبط قسم السقف البارز للأمام في بقية البناء بجسور خشبية منقوشة.

ويحيط بكل معبد شرفةٌ تحملها أعمدة خشبية محفورة حفرًا دقيقًا.

ويقوم كل بناء على أساس حجري ذي طبقات كثيرة متقبِّض بعضُها فوق بعض، ويُرى على أحد وجوه كل معبد دَرَجٌ مؤدية إليه، ويُزين جوانب الدرج تماثيل للآلهة والجن والإنس.

fig123
شكل ٢-٢٢: بيجابور. مزار السلطان محمود «أنشئ في أوائل القرن السابع عشر»، «يعد هذا المزار من أعظم مباني العالم، ويشتهر بأبعاده الواسعة أكثر مما بجماله وزخرفه، ويبدو مربع الشكل فيبلغ الجانب منه ستين مترًا، ويقوم على كل واحدة من زواياه الأربع مئذنة، وتعلوه قبة عرضها ٣٨ مترًا وارتفاعها من الأرض ٦٠ مترًا، فيبدو بذلك أعلى من مسجد أيا صوفيا بالآستانة.»

وأما الطراز الثالث فيتألف من معابد حجرية تختلف عن طراز ذَيْنِكَ الطرازين اختلافًا تامًّا، فهي ذات طابع مبتكر، فلا ترى للمؤثرات الصينية أثرًا فيها، أجل إنك تبصر للمؤثرات الهندوسية عملًا فيها، بَيْدَ أن هذه المؤثرات ليست من الأهمية بحيث تُخرجها عن طابعها الخاص، وهذه المباني هي الوحيدة التي تشاهد فيها عمل المؤثرات الإسلامية؛ لما فيها من القباب عرضًا.

ومن المتعذر أن نربط هذه المعابد الأخيرة بمثالٍ واحد كما يبدو ذلك من الصور التي نشرناها، ووصفها المشترك هو في إنشائها على أسس حجرية ذات عدة طبقات وفي وجود تماثيل للحيوان والإنسان على جوانب دَرَجها كما في المعابد السابقة.

وليس للمعابد الحجرية ما للمعابد الآجُرِّيَّة ذات السقوف المنضَّد بعضها فوق بعض من المنظر الغليظ، فتكلمنا عنها آنفًا، ويمكن عدُّ المعبد القائم أمام قصر الملك في بَتَن من أهم مباني الهند شكلًا، ويُزين طبقاته المتكمش بعضها فوق بعض «وهذا ما اتُّخِذَ مبدأً لفن البناء في نيبال على ما يظهر» قبابٌ ذوات منظر رائع، ولم يَبْدُ أثر طراز الشمال الهندوسي في غير الهرم ذي الوجوه المستديرة الخطوط الذي يعلو هذا المعبد.

ومن الصعب أن نُعيِّن تاريخ معابد نيبال، ولو تقريبًا، نعم، يمكننا أن نقول، بوجه عام، إن مزارات نيبال نصف الكُرِيَّة قديمة جدًّا، أي معاصرة للقرن الثاني من الميلاد لا ريب، وإن معابد نيبال الآجرية والخشبية أحدث من تلك، أي أقيمت بعد القرن الخامس عشر، ولكن من المتعذر تحديد تاريخ المباني التي شِيدت بين ذَيْنِكَ القرنين، فظلَّ أمر هذا التاريخ مشكوكًا فيه.

وتغشى معابد كبريات مدن نيبال وبيوتها وقصورها نقوشٌ وزخارف زاهية، وصنعت أبواب قصور نيبال من صفائح برونزية منقورة نقرًا دقيقًا، ويقوم أمام هذه الأبواب حجارة ضخمة تعلوها تماثيل، ويتجمع أكثر تلك المباني، في الغالب، ضمن مساحة قليلة فيتألف منها منظر رائع، وتراني قد زرت أشهر مدن الشرق في أثناء سياحاتي، فلم أجد لمدينة في الشرق من الأثر الجميل في نفسي كبعض مدن نيبال ولا سيما بتن، أجل، إن في الجزئيات غلظة أحيانًا، مع عدم وجود ما يستطيع أشد النقاد تطرفًا أن ينتقد به نقوش الأعمدة، ولكني أقول مكررًا إن للمجموع طابعًا رائعًا شاملًا للنظر.

وقد نشرنا في هذا السِّفْر صور أشهر مباني نيبال، أي أشهر ما أقيم منها في كهات ماندو وبهات غانو وبتن وبشو بتي، إلخ. مستندين إلى صورنا الفوتوغرافية.

(٧) فن البناء الهندوس الحديث

رجع فن البناء، كأكثر الفنون الهندوسية، إلى الوراء رجوعًا سريعًا منذ تمام الفتح الإنجليزي للهند، أي منذ نحو قرن واحد، ولهذا الانحطاط الهائل سببان: أولهما: تدرُّج أمراء الهند وأشرافها إلى الفقر، فهؤلاء السادة إذ جُرِّدوا، على الأكثر، من دخلهم اضطروا إلى العدول عن إنشاء مثل تلك المعابد والقصور العجيبة التي هي عنوان الثراء ومظهر غنى البلاد في الغالب، وثانيهما: اعتقاد الأقلين منهم، الذين بقي لهم من المال ما يستطيعون أن يشيدوا به قصورًا، أن تفوق الأوربيين في السلاح يتضمن تفوقهم في الفنون، فرأوا أن يقلدوا ما أقامه الإنجليز من الأبنية العامة الثقيلة، فكان ما نراه من قصورهم الحديثة الشنيعة، ومن هذا أن راجه غواليار، الذي هو من أقوى الأمراء المحليين، قد تعامى عما أمام عينيه من مباني الهند الرائعة فلم يجد غير إقامة قصر على طراز إحدى مباني لندن الكريهة، ومن هذا، أيضًا، أن أمير إندور بنى له قصرًا على الطراز الأوربي فكان أبشع ما رأيتُ في الهند مع عدِّه إياه، لا ريب، أجمل ما في عاصمته.

ومن الطبيعي أن يسير أغنياء الهند على تلك السنة، ظانين أنهم يقيمون الدليل بذلك على بلوغهم درجة رفيعة من الحضارة وعلى نهوضهم فوق مستوى أبناء وطنهم، فتبصرهم ينشئون بيوتهم على طراز أوربي سقيم ممزوج بما لا يلائمه من الزخارف الإسلامية.

وتصرف فاسد كهذا يؤدي، لا ريب، إلى انحطاط فن العمارة الهندوسي انحطاطًا تامًّا سريعًا، وفن عمارة كهذا، إذ كان لا يدوم إلا بتقدير قيمته يزول، لا ريب، إذا لم يُنسج على منواله، وليس على الباحث أن يكون نبيًّا ليبصِر عَطَل الهند بعد جيلين أو ثلاثة أجيال من صانع ماهر قادر على إقامة بناء كتلك الآثار القديمة التي لا تزال تملأ الهند وإن كانت أطلالها تمَّحي في هذه الأيام.

fig124
شكل ٢-٢٣: غور. محراب مسجد أدينه «القرن الرابع عشر من الميلاد»، «غور عاصمة قديمة مهجورة مثل بيجانغر وكهجورا وبيجابور، وتُغِير الآجام والأعشاب على مبانيها فتستولي عليها استيلاء تامًّا، ولا نرى كبير أهمية لما بقي منها»، «من مجموعة صور هنري رافينشو.»

حقًّا أن انحطاط الفن الهندوسي يرجع إلى ما ذكرتُه من الأسباب، ولا أعرف غيره، ومما يؤيد وجهة نظري تلك هو أن أخريات العمارات الهندوسية التي بنيت في الهند قبل استفحال النفوذ الإنجليزي فيها تثبت أن فن البناء لم يكن في دور الانحطاط حين إنشائها.

وفي هذا الكتاب نشرتُ صور عدة مبانٍ شيدت في الهند منذ قرن؛ ليطلع القارئ على قيمة أخريات عماراتها، وأهم هذه العمارات معبد دورغا ببنارس ومعبد أور بأمرتسر ومعبد هتهي سنغها بأحمد آباد، أجل، إن هذه المباني من طرز مختلفة أشد الاختلاف، بيد أنها تنطق بكمال من الصنع يتعذر مجاوزته في أوروبا، وأحدث هذه المباني هو معبد هتهي سنغها الذي شيد في أحمد آباد منذ أربعين سنة فتراني أشك في وجود صانع ماهر في الهند يستطيع أن يُنشئ مثله في أيامنا.

هنا نختم ما أردنا قوله عن فن عمارة الهند، وهو، كما ترى، خلاصةُ رِيَادِي لعالَمٍ من المعابد والقصور الخيالية التي هي آثار جيلٍ أفَلَ، وما أولئك الآلهة والإلاهات والشياطين ذوو الصور الرائعة المتوعدة أو المرهوبة التي تملأ المعابد المظلمة، وما تلك الأساطير والأقاصيص التي تدور حول الملوك والأبطال في المحاريب والمزارات الحافلة بالأسرار إلا شهودٌ على ماضٍ لا نَقْدِر على بعثه بغيرهم.

هوامش

(١) غما البيت يغموه غموًا: غطاه.
(٢) كتاب «آثار الهند»، وهو يقع في خمس مجلدات، ويشتمل على ٤٠٧ من الصور الكبيرة، وعلى مجلد واحد خاص بالنص، وهذا الكتاب هو نتيجة ما قامت به بعثة الآثار التي فوضت الحكومة «الفرنسية» إليَّ أمرها، فأرسلنا نسخة منه إلى وزارة المعارف «الفرنسية» العامة، وقد تطلب درس مباني الهند في وقت قصير قَطْعَنَا أربعة آلاف فرسخ في بقاع عاطلة، في الغالب، من الطرق ومن جميع وسائل النقل فانتهينا إلى ابتكار أساليب جديدة في التصوير والرسم، فتقوم هذه الأساليب المبتكرة على المزج بين الفوتوغرافية وبعض الطرق الهندسية، فتجد وصفها في مذكرة خاصة نشرتها المجلة العلمية سنة ١٨٨٥ بعنوان «الهند الأثرية والمنهاج»، فترى فيها، أيضًا، درجة ما في دراسة مباني الهند من النقص حتى الآن، وما يقتضي من الوقت نهائيًّا لصنع صورة للأطلال التي تزول بسرعة عظيمة.
(٣) الأقنثا: هو نبات يعرف بشوك اليهود.
(٤) الكواء: جمع الكُوَّة، وهي الخرق في الحائط.
(٥) العاديُّ: الشيء القديم.
(٦) الصحون: جمع الصحن وهو الساحة.
(٧) الزون: الموضع تجمع فيه الأصنام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤