الفصل الثاني

بوادر النهضة الإصلاحية في مصر والشام

في أواخر القرن الثامن عشر

نتيجة لهذا كله؛ جَمُد التفكير في العالم الإسلامي، وقلَّ الابتكار في التأليف، وخمَدَت الهمم وخفَتَت الأصوات التي تُطالب بالإصلاح، إلا في حالات نادرة متفرقة، حين كان يتصدَّر بعضُ العلماء للدفاع عن مصالح الشعب.

ولكن هذا الجمود بدأ يذوب شيئًا فشيئًا في القرن الثامن عشر، وبدأت تظهَر في المجتمع العربي في مصر والشام بوادرُ نهضة إصلاحية جديدة، وتبدو بوادرُ هذه النهضة واضحة في مظاهرَ ثلاثة:
  • (١)

    في المواقف الجريئة المشرِّفة التي بدأ يقفها العلماء من الأمراء والحكام لِرَدعهم ومنعهم من الظلم، وللدفاع عن مصالح الشعب وحقوقه.

  • (٢)

    وفي الحركات التي قام بها بعض الأفراد والجماعات؛ لمهاجمة الأولياء والدراويش، ومحاربة البدع والخرافات التي أشاعوها في المجتمع، والمناداة بهدم الأضرحة وعدم التمسُّح بها أو الاستغاثة بأصحابها أو الاعتقاد في كراماتهم.

  • (٣)

    وفي ظهور عدد من العلماء والمفكرين يُعْتَبَرون بحقٍّ طلائعَ نهضة ثقافية جديدة.

وسنُشير لكل ظاهرة من هذه الظواهر بشيء من التفصيل؛ لبيان أهميتها:

(١) الظاهرة الأولى: زِعامة العلماء

كانت مصرُ في العصر العثماني نهبًا مقسَّمًا بين الباشا التركيِّ وقُوَّاد حاميته وأمراء المماليك، أما حقوق الشعب فكانت مُضيَّعة، لا يُعْنَى بها هؤلاء الحكام في قليل أو كثير، ولم يكن يَحُدُّ من سلطان هؤلاء الحكام غيرُ سلطان العلماء؛ فهُم رجال الدين، وهم حمَلةُ القرآن، وهم أصحاب السلطان الروحي، ولم يكن رجال الحكم من جند وأمراء يخشون شيئًا قدرَ خشيتهم لهذا السلطان الروحي، والشعب لم تكن تربطه بهؤلاء الحكام صلة؛ فهم غرباء عنه جنسًا ولغةً ومشاعر، أما العلماء فهم مصريون مثله، نَشئوا كلهم في قلب الريف، يُحسُّون إحساس أهليهم وإخوانهم، وهم بعدُ قد تفقَّهوا في أمور الدين الإسلامي، وعرَفوا أنه دينٌ يقوم على المساواة والعدل، وأنه يأبى الظلم والجَوْر والعَسْف، وأنه يعتبر كل راعٍ مسئولًا عن رعيته، ويطالب كل حاكم بأن يلتزم الحق والعدل والإنصافَ في حكمه، فهؤلاء العلماءُ كانوا في نظَر الحاكمين والمحكومين رمزًا للشرع، للقانون السماوي الذي يَحكم بمقتضاه حكامُ هذه البلاد الإسلامية.

لهذا عُقِدَ للعلماء في العصر العثماني نوعٌ من الزِّعامة الاختيارية ارتَضاه الحكامُ والمحكومون جميعًا، فكان الشعب إذا ضاق بحكامه لجأ إلى زعمائه، يشكو لهم ما به من ضيق، وكان العلماء يسعَوْن بهذه الشكوى إلى الحكام، ويُقدِّمون لهم النصيحة، وقد يَرفُقون بهم في النصيحة وقد يعنفون، وكان الحكام يستمعون دائمًا لهذا النصح، ويستجيبون دائمًا لهذه الوساطة، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ، نكتفي هنا بإيراد بعضها:

حدث في سنة ١١١٤ﻫ/١٧٠٢م «أن أهل الأسواق أصابهم غَبْنٌ من وراء تزييف النقود، فاجتمعوا ودخلوا الجامع الأزهر، وشكَوْا أمرهم إلى العلماء، وألْزَموهم بالركوب معهم إلى الديوان»، واضطُرَّ الباشا أن يُصدِر أمره بعقد اجتماع عام، حضَره الأمراء والقاضي التركي والأغوات (قواد فرق الجيش) ونقيب الأشراف وكبار العلماء.

ولم يَنفضَّ الاجتماع إلا بعد أن اتخذ المجتمِعون قراراتٍ تُزيل شكوى الناس وتحفظ مصالحهم.

وفي سنة ١١٤٨ﻫ/١٧٣٥م أرسل السلطان إلى مصر بعض الأوامر المالية، وكان أحدُها يَقضي بإبطال بعض المرتبات التي كانت تُصْرَف في وجوه الخير، واجتمع أعضاء الديوان لسماع هذه الأوامر، فلما قُرِئَ المرسوم السلطاني عقَّب عليه القاضي العثماني بقوله: «أمر السلطان لا يُخالَف، وتَجِب طاعته»، فانبرى له في الحال أحد الأعضاء المصريِّين من العلماء، وهو الشيخ سليمان المنصوري، فقال:

«يا شيخ الإسلام، هذه المرتَّبات كانت من فعل نائب السلطان، وفعل النائب كفعل السلطان، وهذا شيء جرَت به العادةُ مُدَّةَ الملوك المتقدمين، وتَداوله الناس ورتَّبوه على خيراتٍ ومساجدَ وأسبِلة، فلا يجوز إبطالُ ذلك، وإذا بطَل بطَلَت الخيرات، وتعطَّلت الشعائر المُرْصَدُ لها ذلك، فلا يجوز لأحد يؤمن بالله ورسوله أن يبطله، وإِنْ أمَر وليُّ الأمر بإبطاله لا يُسلَّم له ويُخالَف أمره؛ لأن ذلك مُخالَفةٌ للشرع، ولا يُسَلَّم للإمام في فعل يُخالِف الشرع.»

وكان لمعارضة الشيخ أثرٌ قوي، فلم يُنفَّذ أمر السلطان، وعَدَلَت الحكومة عن الأخذ به.

كان هذا الشيخ وأمثاله من العلماء — الذين لا يَخشَون في الحق لومة لائم — شعارُهم دائمًا الإيمان بالمثل العليا في العدل والحق وأداء الواجب، كما نصَّ عليها وأكدها الإسلام.

ولهذا كان حكام العصر يخشون دائمًا بأسهم؛ لأن هذا البأس مُسْتَمَدٌّ من قوة الشرع، ومن قوة الشعب الذي يعبرون عن آرائه وحقوقه.

ولهذا أيضًا كان معظم الحكام يوقِّرون هؤلاء العلماءَ، ويسعَوْن إليهم يسألونهم الرأي والمشورة والنصيحة، ومِصْداق هذا ما قاله الجبرتي في ترجمته للشيخ محمد بن سالم الحِفْني؛ فقد وصَفه بأنه «كان قُطْبَ رَحى الديار المصرية، لا يتم أمر من أمور الدولة إلا باطلاعه ومشورته.»

ومن هذا النوع من العلماء الشيخ علي الصعيدي، وكان معاصرًا للأميرَيْن الكبيرَين اللَّذَين حاولا أول محاولة للاستقلال عن الدولة العثمانية، وهما: علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وقد كانا يُجِلَّان الشيخ ويُبجِّلانه، فإذا دخَل عليهما أفسَحا له وقبَّلا يده، ولم يَرُدَّا له شفاعة، وكان كثيرَ الشفاعة لدَيهما.

وكان الناس يلجئون إليه دائمًا بشكاواهم، فيُرْصِدها في ثبَتٍ؛ حتى لا ينسى شيئًا منها، ثم يذهب بها إلى أبي الذهب، فيُجيبه إلى كل ما يَطلب، ولا يُخالفه في شيء مما يرجوه فيه، وإذا حدَث وأبدى شيئًا من الامتعاض أو التردد قال له الشيخ: «لا تضجَر ولا تأسَفْ على شيء يفوتك بغير حق في الدنيا؛ فإن الدنيا فانية، وكلنا نموت، ويوم القيامة يسألنا الله عن تأخُّرنا عن نُصحِك، وها نحن نصَحْناك وخرَجْنا من العُهدة.»

أما إذا امتنع الأمير عن رفع مظلمة من المظالم فإن الشيخ كان يصرخ في وجهه ويقول له: «اتق النارَ وعذاب جهنم»، ثم يمسك يده ويقول: «أنا خائف على هذه اليد من النار.»

وفي أواخر القرن الثامن عشر في عهد الطاغيتَيْن: مراد وإبراهيم، ثارَتْ خصومة بين رجل فقير من عامة الشعب وأميرٍ من أمراء المماليك، ولجأ الرجل إلى القضاء، فحكَم له، فثار الأمير وأرعَد وأبرق، وأبى أن يخضع لحُكم القانون، وأدرك العلماءُ أنهم حُماة الشرع، فطالَبوا باحترام كلمة القانون، وتزعَّمَهم الشيخ الدَّرْدير، وأيَّدهم الشعبُ في غضبتهم، وقامت مظاهرةٌ خطيرة في شوارع القاهرة، وأغلق التُّجارُ حَوانيتَهم، وكاد الأمر ينتهي إلى فوضى شاملة، لولا أن تدارَكه بعضُ العقلاء من الأمراء، فأرسلوا إلى الأمير المغتصِب يطلبون إليه النزول عند رأي القانون، فأذعَن مضطرًّا، ولكن العلماء لم يأمَنوا لهذا الإذعان، وأصرُّوا على أن يحصلوا على وثيقة تُثبِت هذا الحق، فكُتِبَ صلح رسمي أقرَّ فيه الأمراءُ بالْتِزام ما يَقضي به القانون ويُحتِّمه الشرع.

وبعد ذلك بقليل اعتدى والي القاهرة على رجلٍ قصَّاب من أهل الحسينية، وعنَّف عليه، واشتد في مطالبته بأموال للحكومة، وأراد أن يقبض عليه بغير أمر شرعي، فثار أهل الحسينية ولجَئوا إلى الشيخ العروسي، فحمل الشيخُ الشكوى إلى الأمراء، وجادلهم في شأنها، وطالبهم بالْتِزام حدود الشرع، واضطُرَّ الأمراء إلى الإذعان، وعزَلوا الواليَ، وعيَّنوا مكانه واليًا جديدًا، ونزل الوالي الجديد إلى الأزهر وقابل المشايخ واسترضاهم.

وفي سنة ١٢٠٩ﻫ/١٧٩٥م اشتد أحد الأمراء في مطالبة الأهالي في بلبيس بالأموال، ونالهم من شرِّه أذًى كثير، فشكَوْا ما أصابهم إلى الشيخ الشرقاوي، والشيخ من الشرقية، وقد ناله شيءٌ من هذا العنَت، فقد كانت له أرضٌ في بلبيس، فسعى بهذه الشكوى إلى مراد وإبراهيم، وأراد أن يمنع الظُّلمَ بالحسنى، ولكن الأميرَيْن رَكِبا رأسَيْهما، ولم يصنَعا شيئًا، فدعا الشيخُ الناسَ إلى الثورة، فاستجابوا له، وسادت الفوضى في القاهرة، وكاد الأمرُ ينتهي إلى ثورة دموية شاملة، وعند ذلك خضَع الأمراء! يقول الجبرتي في وصف هذه الأحداث وما انتهَت إليه:

«فنزل الباشا إلى بيت إبراهيم بك، واجتمع الأمراء هناك، وأرسَلوا إلى المشايخ، فختم الشيخ السادات والسيد النقيب والشيخ الشرقاوي والشيخ البكري والشيخ الأمير … ودار الكلام وطال الحديث، وانحطَّ الأمر على أنهم (أي الأمراء) تابوا ورجعوا، والْتزَموا بما شَرَطَ العلماء عليهم، وانعقد الصلح على شروط؛ منها … أن يَكفُّوا أتباعَهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس … وأن يَسيروا في الناس سيرة حسنة … وكان القاضي حاضرًا بالمجلس، فكتب حُجَّة عليهم بذلك، وفرْمَنَ١ عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك، وأرسلها إلى مراد بك، فختم عليها أيضًا، وانْجَلَت الفتنة ورجع المشايخ، وحولَ كلٍّ منهم وأمامَه وخلفه جملةٌ من العامة وهم ينادون …»

(٢) الظاهرة الثانية: محاربة البدع والخرافات

أما الظاهرة الثانية فتُمثِّلها الأصواتُ التي ارتفعَت في مصر في القرن الثامن عشر لإلغاء البدع التي أشاعها المتصوِّفة والمتدروِشون، والحقيقة أن البلاد العربية — وخاصة مصر — كانت قد انقلبَت في العصر العثماني إلى خانقاه أو تكيَّة كبرى، وانتشرَت فيها الطرقُ الصوفية من كل نوع ولون، والغريبُ أن مصر لم ينشَأ مِن بَنيها شيخٌ ذو طريقة، وإنما هذه الطرق بعضُها ظهَر في الشرق، وبعضها ظهر في الغرب، ثم وفدت هذه وتلك إلى مصر، ووجدَت في رُبوعها وبين أهليها صدرًا رحبًا، فنَمَتْ وترعرعَت، وتفرَّعَت إلى طرق فرعية كثيرة، ونتيجةً للجهل الفاشي وللفقر المدقِع؛ تعلَّق المصريون من مُختلِف الطبقات — وخاصة رجال الفِلاحة وأصحاب الحِرَف — بهذه الطرق الصوفية؛ يلتمِسون في رحاب الروح وفي نعيم الآخرة الموعودِ عِوضًا عن الفقر المادي الذي يعيشون في كنَفِه، وعن الظلم والعَسْف والقهر الذي يُنْزِله بهم حُكامُهم، وقد تطوَّر الحال حتى أصبح كلُّ مجذوب شيخًا، وكلُّ معتوه وليًّا من أولياء الله الصالحين! وفي تاريخ الجبرتي أمثلة كثيرة لهؤلاء.

وقد قامت من قبلُ خصومةٌ بين الفقهاء والمتصوِّفة، وظلَّت هذه الخصومةُ قائمة في العصر العثماني.

فالفقهاء كانوا يرَوْن أن طريق المعرفة هو الشرع ودراسة القرآنِ والسنة وعلوم الدين المختلِفة؛ من تفسير وحديث وفقه وأصول، أما المتصوفة فكانوا يرَوْن أن طريق المعرفة هو الذَّوق والزهد والعبادة، والفناء في حب الله سبحانه وتعالى، وقليلٌ من الشيوخ مَنْ جمع بين الفقه والتصوُّف؛ مثل ابن عطاء الله السَّكَندري في القرن الثالث عشر، وعبد الوهاب الشعراني في القرن السادس عشر (في هذا العصر العثماني).

والتصوُّف في حد ذاته لا خطرَ منه على المجتمع؛ فهو يدعو إلى رياضة النفس والروح، وإلى التقشُّف والعبادة، والزهد والفناء في حب الله، وبعض الطرق الصوفية — كالطريقة الشاذليَّة — لا تدعو إلى التكاسل والتواكل، وإنما تحضُّ على العمل والسعي في طلب الرزق، وإنما نشأَت الخطورة منه في العصر العثماني عندما ساد وانتشَر حتى ادَّعى الولايةَ — كما أسلَفْنا — كلُّ جاهل وكلُّ مجنون، وعندما غالى المتصوفةُ في الدفاع عن أنفسهم ومكانتهم وكراماتهم، وأخذوا يكتبون الرسائل في تحذير الناس من الشكِّ في الشيوخ وكراماتهم التي كانوا يَدَّعونها أحياءً وأمواتًا، والتي كانت تَفوق في بعض الأحيان معجزاتِ الأنبياء عليهم السلام، وكل هذا يتَعارض ومبادِئَ الإسلام الصحيحةَ السمحة اليسيرة، ويُفسِد عقائدَ الناس …

لهذا لم يكن غريبًا أن ترتفع الأصواتُ في الحينِ بعدَ الحين لمقاومة هذه البدع التي انتشرَت باسم الدِّين وباسم التصوُّف، وكان هذا النقد أو هذه المقاومةُ تتخذ أحيانًا شكلًا عنيفًا، وتتخذ أحيانًا أخرى شكل الجدَل النظري، وكان يقوم بها تارةً الحكامُ والأجناد، كما كان يقوم بها أحيانًا أخرى رجالُ الفكر من العلماء والفقهاء، والوُعَّاظ والشعراء.

(٢-١) أمثلة: الشيخ علي البكري وصاحبته

من المجاذيب الذين فشا اعتقادُ الناس فيهم: رجلٌ اسمه علي البكري، تَرجم له الجبرتي في وفَيَات سنة ١٢٠٧ﻫ/١٧٩٢-١٧٩٣م، فقال: إنه كان رجلًا معتوهًا، يمشي في الطرقات عاريَ الرأس مكشوفَ السوءتَين في أغلب الأحوال، أو يسير حافيَ القدمين وقد لبس قميصًا وطاقية، ويخلط في كلامه ويَهْذي، فيتبعه الأطفالُ وعامة الناس وهم بين مُنكِر لأحواله ومُصدِّق لولايته، ولكن أكثر الناس قد مالوا إليه، وصحَّت عندهم ولايتُه «كما هي عادة أهل مصر في أمثاله» كما يقول الجبرتي.

وكان لعلي البكري أخٌ صاحبُ دهاء ومكر، فعمل على استغلال عقيدة الناس في أخيه سعيًا وراء الثروة، فمنَعه من التجوال في الشوارع، وحجَزه في منزله وألبسه ثيابًا، وأظهَر للناس أنه أَذِنَ له بذلك، وأنه تولى القُطْبانيَّة، وصدَّق الناسُ دَعاواه واشتد إيمانهم به، وأقبلوا على زيارته في منزله، والسماعِ إلى هذَيانه وخلطه وتأويل كلامه بما يوافق رغباتهم وما في نفوسهم، وانهالت عليه الخيراتُ والنذور، وخصَّه بالبرِّ نساءُ الأمراء والأكابر، حتى أثرى أخوه واغتنى، يقول الجبرتي: «ونفَقَت سِلعتُه وصادَت شبَكتُه، وسَمِنَ الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة، حتى صار مثلَ البوِّ العظيم.»

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشيخ في أوقات تَجْواله تبِعَتْه امرأةٌ معتوهة لا تقل عنه خَبلًا، ولزِمَتْه في تنقُّله وتَجْواله، وسرعان ما آمن الناس بها أيضًا، واعتقدوا في ولايتها، وأشاعوا أن الشيخ قد «لحظها وجذَبها» فأصبحَت مثله من الأولياء الصالحين، ثم ارتقت درجةً أخرى من درجات الجذب، فخرجت معه إلى الشارع في زِيِّ الرجال، يَتبعُهما أنَّى سارا الجمُّ الغفير من الفقراء والعامة والأطفال الصِّغار، ومنهم — كما يقول الجبرتي — مَن اقتدى بهما «ونزع ثيابه وتحَنْجل في مِشْيته»، فقيل: إن الشيخ قد جذَبه أو مسَّه، فصار وليًّا! وكانت المرأة تَرْقى أحيانًا على درَجٍ عال، وتُفْحِش في القول، فيزداد إيمان الناس بها، ويتَزاحمون على تقبيلِ يدها؛ تبركًا بها!

وتفاقم الحال وكثر أتباع الرجل والمرأة حتى كانا إذا مرَّا بشارع كَثُر الضجيج وعلَت الأصوات، واجترأ أتباعُه فنهَبوا الدكاكين، واستولَوْا على ما فيها من متاع وبِضاعة، ومرَّ هذا الموكب يومًا ببيت جندي يُدْعَى جعفر كاشف، فقبَض على الشيخ وأدخله إلى داره ومعه المرأة وسائرُ المجاذيب، ثم طرَد الناس الملتفِّين حوله، وقدَّم له ما يأكله، ثم أطلقه بعد ذلك إلى حال سبيله، أما المرأة والمجاذيب فقد أخذ يضربهم حتى طيَّر الولاية من رءوسهم، ثم أطلق سَراح المجاذيب، وأرسل المرأة إلى المارسْتان، وربَطها عند المجانين.

ورغم هذا فقد ظلَّ الناس يؤمِنون بولاية الشيخ ورفيقته حتى بعد موتهما؛ فقد تُوفِّي الشيخ في سنة ١٢٠٧ﻫ، فأقام أخوه على قبره مقصورة ومقامًا، ورتَّب له المقرئين والمدَّاحين وأربابَ الأشاير والمنشِدين، يتغنَّوْن بكراماته وأوصافه في قصائدهم، وكان هؤلاء المريدون — كما يقول الجبرتي: «يتَواجَدون ويتصايَحون ويُمرِّغون وجوههم على شُبَّاكه وأعتابه، ويَغرِفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في عبابهم وجيوبهم.»

أما المرأة فقد لبثت في المارستان وقتًا ما، ثم أُطلِق سَراحُها، فخرجَت إلى الشوارع، وإذا بها «شيخة على انفرادها» يعتقد الناس في ولايتها، ويؤمن النساء — بوجهٍ خاص — في كراماتها، وبعد مَماتها أُقِيمت لها الموالد، وقُدِّمَت لها الهدايا والنُّذور.

(٢-٢) العنزة المباركة

كان ادعاء الولاية إذن طريقًا سهلًا ميسورًا لاصطناع الغنى واجتلاب الثروات، في وقتٍ فَشا فيه الفقرُ واشتد الضيق بالناس، وقد يكون هذا سببًا من أهم أسباب انتشار التصوُّف وكثرة المجاذيب والدراويش، ولكن الناس تغالَوْا في هذا الباب حتى نسَبوا الولاية والكرامات إلى الحيوانات، فعَل هذا كبيرُ خُدَّام مشهَد السيدة نفيسة؛ فقد أتى هذا الرجلُ بعَنْزة، وادعى أن السيدة أوصَت بها خيرًا حتى أصبحَت تأتي بالكرامات، وشاع خبرُ العنزة، فآمن الناسُ بها وبما قاله الشيخ فيها، وصاروا يُهْدون إليها الهدايا من الفُسْتق واللَّوْز والسُّكَّر وماء الورد، وعمل النساء لها قلائدَ وأساورَ وحُلِيًّا من الذهب، وتزاحم الناس ونساء الأمراء والكبراء على زيارتها والتبرُّك بها.

وسمع الأميرُ عبد الرحمن كَتْخُدا بخبرها، فأرسل يستدعي الشيخَ وعنزتَه بدعوى أنه يريد التبرك بها هو وحريمُه، فركب الرجل — والعنزة في حجره — وسار في موكبٍ حافل تتقدَّمه الطبول والزمور، وتحيط به البيارق والجمُّ الغفير من الناس، إلى أن وصل إلى منزل الأمير، فاحتفى به، وأدخل العنزة إلى الحريم ليتبرك بها نساؤه، ثم أمر بذبحها وأطعَم صاحبها من لحمها، ولما أراد الانصراف طلب العنزة فعرَّفه أنها هي التي أكَل لحمها، ثم وبَّخه وأنَّبه على فَعْلتِه، وأمر أن يُعاد إلى بيته في موكب حافل، ولكن شِتَّان بين الموكبين؛ فقد وضع جلد العنزة على عمامة الشيخ، والطبول والزمور تزفه، والناس يَسخَرون منه إلى أن وصل إلى داره.

(٢-٣) محاولات سلبية للإصلاح

عنف رفيق

هذه أمثلة للمقاومة العنيفة، ولكنه عُنفٌ — كما نَرى — كان رفيقًا غايةَ الرفق لم يَزِدْ على ضرب بعض المجاذيب، أو إلحاق امرأةٍ بالمارستان، أو ذبح العنزة صاحبة الولاية والكرامات، ويدخل في هذا الباب ما فعله نابليون؛ فقد هال الرجلَ ما رآه من هوَسِ هؤلاء المجاذيب، فاستفتى علماءَ مصر في شعبان سنة ١٢١٥ﻫ في أمر الفقراء الذين يَدورون في الأسواق، ويكشفون عوراتهم ويصرخون ويدَّعون الولايةَ ويعتقدهم العوام، وهم مع هذا لا يُصلُّون صلاةَ المسلمين ولا يصومون، وسأل العلماءَ رأيَ الإسلام في جواز مَسلَكِهم هذا أو تحريمِه، فأجاب الفقهاء بأن هذا كله حرامٌ ومخالف لديننا وشرعنا وسُنَّتنا، فشكَرهم نابليون على فتواهم، وأمر رجال الإدارة بتتبُّع هؤلاء الفقراء والقبض عليهم، فمَنْ كان منهم مجنونًا رُبِطَ بالمارستان، ومَنْ كان كاملَ الرشد نُفِيَ من البلد إنْ أبى تغييرَ مسلكه.

فتاوى الفقهاء

وهذه الفتوى التي أصدرها العلماء تشرح — في وضوح — موقفهم من التصوف والمتصوِّفة، وهي خيرُ دليل على الخصومة التي كانت قائمةً بين الفريقين، وقد اتَّخذَت هذه الخصومةُ — كما أسلفنا — أشكالًا أخرى، لعل أبرزها وأوضحها تلك الفتاوى أو الرسائلُ التي ألَّفها علماءُ هذا العصر لنقد المتصوفة وتَجْريحهم والحطِّ من شأنهم، ومن أمثلة هذه الفتاوى والرسائل الفتوى التي أصدرَها الشيخ علي الصعيدي في سنة ١١٩٧ﻫ ردًّا على سؤال وُجِّه إليه بصدد طريقة الذكر عند طائفة المطاوعة التي كان يتَّخِذ فقراؤها المغنِّين والأعلام والطبول، ويستعملون السبح الكبيرة والملاحف والسراويل، يضعها الغلمان الذين يَجلسون خلف الذاكرين فوق رءوسهم أو يُمسِكون بها ظهورهم … وغير ذلك من البدع.

ومن الرسائل تلك الرسالة التي كتبها الشيخ محمد صفي الدين الحنفي في سنة ١١٠٥ﻫ وأسماها «الصاعقة المحرقة»، وهاجم فيها التصوُّفَ وأهله هجومًا عنيفًا، وخاصة أولئك الفقراء الذين اتَّخَذوا الرقص واللعب دينًا وخلَطوهما بالعبادة، وراحوا في حلقات الذِّكر يَدورون مُركِّبين أيديَهم إلى وراء، وقداء رءوسهم بالتصعيد والتسفيل والتلوِّي على هيئةٍ معروفة في لعبة «ركض الديك» عند النصارى.

صوت المجتمع والشعر

ومن الأصوات التي ارتفعت للتنديد بهذا النفر من مدَّعي الولاية صوتُ الشعر، وكثيرًا ما كان الشعرُ ترجمانًا لأحوال المجتمع ولأحداثِ السياسة، وقد عاش في مصر في القرن الثامن عشر شاعرٌ مُجيد اسمه حسن البدري الحجازي، وكان هذا الشاعر شديدَ الانفعال لما يحدث حوله، وفي المقطوعات الكثيرة التي نقلَها عنه الجبرتي في تاريخه صورٌ جميلة للحياتَيْن: السياسية والاجتماعية في مصر على عهده، وهو في كثير من هذه المقطوعات يَضِجُّ بالشكوى من أدْعِياء العلم الجهَلة، ومن أدعياء التصوُّف المجاذيب، قال تعقيبًا على حادث الشيخ علي البكري سالف الذكر:

ليتنا لم نَعِشْ إلى أن رأينا
كلَّ ذي جِنَّةٍ لدى الناسِ قُطْبا
عَلَمًا هُمْ به يَلُوذون بل قد
تَخِذوه من دونِ ذي العرش ربَّا
إذْ نَسُوا اللهَ قائلين: فُلانٌ
— عن جميع الأنامِ — يُفْرِجُ كَرْبا
وإذا مات يجعلوه مَزارًا
وله يُهْرَعون عُجْمًا وعُرْبا
بعضُهم قبَّل الضريحَ وبعضٌ
عَتَبَ البابِ قبَّلوه وتُرْبَا
هكذا المشرِكون تفعل معْ أصْـ
ـنامهم تبتغي بذلك قُرْبا
وأولو العلم والقُرَانِ عليهمْ
صُبَّ سَوْطُ العذابِ والمقتِ صَبَّا
إذْ رمَوهُمْ بالفسق والزُّور والجَوْ
رِ وظُلمِ العباد سلْبًا ونهبا
كلُّ ذا مِن عَمَى البَصيرةِ والوَيْـ
ـلُ لشخصٍ أعمى له اللهُ قلبا
والحجازيُّ مَنْ سُمِّي حسَنًا يَنـ
ـظُرُ ما خالف الشريعةَ صَعْبا
فالحذارَ الحذارَ مِن فِعْل أهل الـ
ـجهل لو عالِمًا يُدرِّسُ كُتْبَا
جعَل العِلمَ فخَّ صَيدٍ لدنيا
ه فساوى في صَنْعة السوء كَلْبا
لا، بل الكلب منه خيرٌ؛ إذِ الكلـ
ـب عديمُ العقاب في يوم عُقْبى

وللبدري الحجازي قصيدة أخرى أشد عنفًا هاجم فيها مدَّعي الولاية بوجهٍ عام؛ قال:

احذر أولي التسبيح والسِّبحَةِ
والصُّوفِ والعُكَّازِ والشَّمْلةِ
والدِّلقِ والأبريق لا سيَّما
شيوخَ إبليسَ أُولي الشَّعرةِ
حَوَتْ أباليسَ بتَعْدادِ ما
حوَت شُعورًا بل بلا عدَّةِ
والمكرُ فاتَ الحَصْرَ كالبحر، بل
يُعَدُّ فيه البحرُ كالقَطْرةِ
فصار إبليسُ لهم تابعًا
يقول: يا لَلْعونِ والنَّجْدةِ
مما حوَيْتُم عَلِّموني؛ فما
لي عنكمُ في المكرِ مِن غُنْيَةِ
لكم قِيَادي وانْقِيادي وما
مِثلُكمُ في النَّادِ والنَّدْوةِ
بملْءِ أفواهٍ يُنادون: يا
أهل الوفا، يا صاحِبَ النَّوبةِ
يا شافعِي يا قُطْبُ يا رافِعي
يا لَلرِّفاعي يا بَني الرِّفْعةِ
يا سيِّدي أحمدُ يا أوْلِيَا
ءَ الكونِ عينونا على الحَمْلةِ
ذو كَرَّةٍ والمالَ يَبْغون، ما
لهمْ بغير المال مِن بُغْيَةِ
لكنهم في الفسق أرْقى الورى
كما ترى مِن غيرِ ما مِرْيةِ

والقصيدة طويلة، نَكْتفي منها بهذا القدر.

(٢-٤) محاولة إيجابية للإصلاح

في هذه الأمثلةِ جميعًا كان الاستنكارُ سلبيًّا، ومع هذا فقد أشار الجبرتي إلى محاولة إيجابية واحدة لمحاربة البِدَع والقضاء عليها، كان صاحبُ هذه المحاولة واعظًا روميًّا (أي تُرْكي الأصل)، وكان يَعقد مَجالسَ وعْظِه في جامع المؤيد.

وفي ليلة من ليالي رمضان سنة ١١٢٣ﻫ/١٧١١م بعد أن انتهى من وعظه بدأ ينتقد «ما يفعله أهلُ مصر بضرائح الأولياء، وإيقاد الشموع والقناديل على قبور الأولياء وتقبيل أعتابهم» وقال: إنَّ «فعل ذلك كفرٌ يجب على الناس تركُه، وعلى ولاة الأمور السَّعيُ في إبطال ذلك، «وذكر أيضًا قولَ الشعراني في طبقاته: إن بعض الأولياء اطَّلَع على اللوح المحفوظ! أنه لا يجوز ذلك، ولا تَطَّلع الأنبياءُ — فضلًا عن الأولياء — على اللوح المحفوظ، وأنه لا يجوز بناء القِباب على ضرائح الأولياء والتكايا، ويجب هدمُ ذلك، وذكَر أيضًا وقوف الفقراء بباب زويلة في ليالي رمضان.»

إن ما قاله هذا الواعظ وما دعا إليه كان جديدًا، وكان جريئًا، وخاصة في ذلك العصر، لقد سبق محمدَ بن عبد الوهَّاب بثلاثٍ وثلاثين سنة؛ فقد بدأ ابن عبد الوهاب دعوته حوالي سنة ١٧٤٤م، أما هذا الواعظ فقد نادى بنفس الآراء في سنة ١١٢٣ﻫ/١٧١١م.

وقد استجاب المستمِعون في مسجد المؤيد لدعواه، وأراد الرجل أن يفعل ما فعَله ابن عبد الوهاب؛ أن يُقوِّم المنكَر بيده ولسانه جميعًا، فخرَج ووراءَه أتباعُه بعد صلاة التراويح، ووقَفوا جميعًا بالنَّبابيت والأسلحة على باب زويلة، «فهرَب الذين يقفون به، فقطعوا الجوخ والأُكَر المعلَّقة، وهم يقولون: أين الأولياء؟!»

بدأت عروش الأولياء والشيوخ إذن تهتز، ولم يَعُد الأمر فتوى تَصدُر أو شِعرًا يُنْظَم، بل أصبح نَبُّوتًا يَصْدَع الرأسَ، أو سلاحًا يَقتل، عند ذلك أسرع العامة المفتونون بمشايخهم إلى علماء الأزهر يسألونهم الفتوى في أمرِ هذا الواعظ وما يقول، ومن العجيب أن شيوخ الأزهر هم الذين حارَبوا هذه الدعوى وقضَوْا عليها! ولكنني لا أرى في هذا عجبًا؛ فإن شيوخ الأزهر لم يَكونوا جميعًا من المعادين للتصوُّف، بل كان بعضهم يَجمع — كما قُلنا — بين عِلمَي: الشريعة والتصوف، وكان الكثيرون منهم — وهذا أهمُّ — خطباءَ أو أئمةً أو وُعاظًا أو مدرِّسين في الزوايا والجوامع، وكانت لهم من أوقافها مرتَّباتٌ وجامكيات تُدِرُّ عليهم الرزق الوفير، كما كانت لهم أنصِبةٌ أخرى من الهدايا والنُّذور التي تُقدَّم لأصحاب الأضرِحة، وهم بعد هذا كلِّه موظَّفون في الدولة، تَربِطهم بها روابطُ الولاء، ومن العسير عليهم أن يَستجيبوا للثورة أو يَسيروا في ركابها.

وأصدر شيخان من شيوخ الأزهر — هما: الشيخ أحمد النفراوي والشيخ أحمد الخليفي — فتوى يَنقُضان فيها رأيَ هذا الواعظ، ويطلبان من الوالي زجره على ما قال.

وحمل الناسُ هذه الفتوى إلى الواعظ في مجلس وعظه، فقرأها، ولكنه غضب وثار، وقال: إن كان العلماءُ أفتَوْا بغير ما قلتُ فلْيَأتوا لِمُجادَلتي في مجلس القاضي! ثم وجَّه خطابه إلى أتباعه وقال: «فهل مِنكم مَنْ يساعدني على ذلك ويَنصر الحق؟» فكانت إجابةُ أنصاره: «نحن معك، لا نُفارقك.»

وترك الواعظ كرسيَّ وعظِه، وخرج من المسجد وحولَه جماعةٌ من أنصاره يَزيدون على الألف، وتقدَّم بهم في شوارع القاهرة إلى أن وصل إلى بيت القاضي؛ وانزعج القاضي واضطرَب عندما رأى هذا الجمع المحتشِد، وسألهم عمَّا يريدون. فقالوا: «نريد أن تُحضِر اللَّذَين أصدَرا هذه الفتوى؛ لِنُباحِثَهما أمامك» فقال القاضي لمن يُخاطبه:

«اصرفوا هؤلاء الجموع ثم نُحضِرُهما ونَستمع إلى مُجادلتِكم معهم»، ولكنَّ أحدًا لم ينصرف، بل الْتفُّوا جميعًا حول القاضي وقالوا له:

«ماذا تقول أنت في هذه الفتوى؟»

وخَشِي القاضي بأس المتظاهرين، فأنكر الفتوى وقال: «هي باطلة»، غير أنهم لم يَقْنَعوا بهذا الإنكار الشفوي، وطلبوا منه أن يُسجِّل إنكاره هذا كتابةً، ولكن القاضيَ لم يكن يَعني ما يقول وإنما هو أراد أن يتخلَّص من هؤلاء الثائرين المتظاهِرين؛ لهذا لم يلبَثْ أن انتحَل عُذرًا آخر، فقال لهم: «إن الوقت قد ضاق والشهود قد خرجوا، فلْنَترك ذلك إلى غد.»

عند ذلك اشتدَّت ثورة المتظاهرين، وكان الترجمان هو الذي ينقل الحديث بينهم وبين القاضي (فقد كان القاضي تركيًّا لا يَفهم العربية)، فانقَضُّوا عليه وضربوه، وانتهز القاضي الفرصةَ ففرَّ هو وحريمه، ولم يَترك الناسُ نائبَ القاضي حتى كتَب لهم حُجَّةً بصواب رأي الواعظ وخطَأِ رأي الشيخين: النفراوي والخليفي.

ولم تنته الفتنة عند هذا الحد؛ فقد ذهَب الناسُ بعد ذلك بأيام إلى مسجد المؤيد؛ ليحضروا درس وعْظِهم فلم يجدوه، وسرَتْ شائعةٌ أن القاضيَ منَعه من الوعظ! يقول الجبرتي: «فقام رجلٌ منهم وقال: أيها الناس، مَنْ أراد أن ينصر الحق فليَقُم معي، فتَبِعه الجمعُ الغفير، فمضى بهم إلى مجلس القاضي، فلما رآهم القاضي ومَنْ في المحكمة طارَت عقولهم من الخوف، وفرَّ مَنْ بها من الشهود ولم يبقَ إلا القاضي، فدخلوا عليه، وقالوا له: أين شيخنا؟

فقال: لا أدري.

فقالوا له: قم واركب معنا إلى الديوان، ونكلم الباشا في هذا الأمر، ونسأله أن يُحضِر لنا أخصامنا الذين أفتَوْا بقتل شيخنا، ونتباحث معهم، فإن أثبتوا دَعْواهم نجَوْا مِن أيدينا وإلا قتَلْناهم.

فركب القاضي معهم مُكْرَهًا، وتَبِعوه من خلفه وأمامَه إلى أن طلَعوا إلى الديوان، فسأله الباشا عن سبب حضوره في غير وقته، فقال: انظر إلى هؤلاء الذين ملَئوا الديوان والحوش، فهم الذين أتَوْا بي.

وعرَّفه عن قصتهم.»

وهال الباشا ما رآه من تجمُّع الناس وغضَبِهم، وخشي شرَّهم إنْ هو عارض رأيهم، فأصدر أمره بأن يَحضُرَ الشيخان لمناقشة الواعظ، وخرج الناس فأحضروا شيخهم وأجلَسوه على كرسيِّ وعظه بجامع المؤيد، واتفق معهم على أن يأتوه بالشيخين في اليوم التالي؛ ليذهبوا جميعًا إلى القاضي، ويناقشوا الأمر أمامه.

غير أن الباشا لم يكن جادًّا في أمره، وإنما هو أراد أن يتَّقيَ شرهم، فلما خرَجوا أرسل رسالة إلى إبراهيم بك وقيطاس بك «يعرِّفهم ما حصل وما فعله العامة من سوء الأدب، وقَصْدَهم تحريك الفتن، وتحقيرنا نحن والقاضي» وختم رسالته بتهديد الأميرَيْن بأنه سيُغادر مصر هو والقاضي إن لم يَعمَلا على وضع حدٍّ لهذه الفتنة، قال: «وقد عزَمتُ أنا والقاضي على السفر من البلد.»

وأدرَك الأمراءُ المماليكُ خطورةَ الموقف، فأصدروا أمرهم بنفي الواعظ خارج مصر، وتفرق أنصاره، فقد صدر الأمر أيضًا إلى الأغا «أن يركب، ومَنْ رآه منهم قبَض عليه، وأن يدخل جامع المؤيد، ويطرد مَنْ يسكنه من السقط.»

وهكذا شَهِدَت مصرُ أول حركة إصلاحية في القرن الثامن عشر، ولكنها لم تَدُم إلا أيامًا قليلة، ولم يُكْتَب لها النجاح؛ فإن المجتمع المصري لم يكن مستعدًّا بعدُ لتقبُّل هذه الدعوى، ومن المؤسف حقًّا أن الجبرتي لم يَزِدْنا علمًا بها، فلم يَذكُر لنا اسمَ هذا الواعظ أو شيئًا من سيرته: أين نشأ؟ وأين تعلَّم؟ ومَن شيوخه؟ وكيف كان نوع ثقافته؟ وبمن تأثر في دعواه؟ هل كان كخَلَفِه ابن عبد الوهاب متأثرًا بآراء ابن تيمية أو كانت حركتُه ردَّ فعلٍ طبيعيًّا لما كان يراه في القاهرة وغيرها من مدن مصر من انتشارٍ للبدع والشعوذة والخرافات؟ كل ذلك لا نعلم عنه شيئًا!

(٣) الظاهرة الثالثة: نهضة ثقافية تلقائية

أما الظاهرة الثالثة فكانت تُمثِّلها نهضة ثقافية علمية، بدأَت تَباشيرُها تظهر في مصر في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت هذه النهضة تلقائية، بمعنى أنها نبتَت نباتًا داخليًّا في مصر، ولم تكن متأثرةً بأي مؤثر خارجي شرقي أو غربي، وكان يمثلها مجموعةٌ من رجال الفكر المصريين لم تَعرِف مصرُ شبيهًا لهم في القرون الثلاثة السابقة؛ ففي ميدان الدراسات الرياضية والفلَكية ظهر الشيخ حسن الجبرتي، وفي ميدان الشعر والنثر ظهر رجال كالشيخ محمد الشبراوي والشيخ حسن العطار — وقد وَلِيَا مشيخة الأزهر — والشيخ إسماعيل الخشاب، وفي التاريخ ظهر الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وفي ميدان الدراسات اللغوية والدينية ظهر السيد محمد مُرتَضى الزَّبيدي، وكان مِن الممكن أن تسير هذه النهضة في طريقها وتتطوَّرَ تطورًا طبيعيًّا، وأغلب الظن أن هذا التطور كان سيأخذ شكلًا بعثيًّا إحيائيًّا، بمعنى أن هذه النهضة كانت ستعمل على بعث أمجاد الماضي العلمية، ونشر التُّراث القديم.

غير أن النهضة التلقائية أُصِيبت بقطعٍ أو انفصال وقْتيٍّ عند مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر؛ فقد أتى مع الحملة عددٌ من العلماء الفرنسيين، وكان هؤلاء العلماء، بل كانت الحملة كلها تَحمل معها إلى مصر مَظاهر نهضة علمية مختلِفة عن مظاهر النهضة المصرية اختلافًا بيِّنًا في كل شيء. وزار نفرٌ من العلماء المصريين المعهدَ الذي أنشأه العلماء الفرنسيون في القاهرة، وزاروا المكتبةَ والمطبعة، وبهَرَهم ما رأَوْا، وبدَءوا يفكرون ويقارنون بين ما في أيديهم من علم وما في أيدي هؤلاء الفرنسيين من علم.٢
وجَلَت الحملة عن مصر وحدَثَت اضطرابات، واستقر الأمر لمحمد علي واليًا على مصر، وأدرك النظام الجديد أنه لا بد من النقل عن الغرب إذا كانت مصرُ تريد نهضة حقيقية تُسايِر بها العالم، وفُتِحَت المدارس الجديدة، وأُرْسِلَت البعثات إلى أوروبا، ووقَفَت حركةُ التأليف مؤقتًا؛ لتبدأ حركة الترجمة،٣ ولتستمرَّ طوال عصر محمد علي.

وخيرُ مَنْ يمثل هذه النهضة الفكرية الثقافية الجديدة في مصر هو السيد محمد مرتضى الزَّبِيدي، وخيرُ مَنْ يمثلها في الشام هو الشيخ عبد الغني النابلسي، وسنحاول فيما يلي أن نرسم صورة لسيرة كلِّ واحد منهما، ولجهوده العلمية.

١  أي كتَب فرَمانًا.
٢  راجع: جمال الدين الشيال، تاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، القاهرة، ١٩٥١م.
٣  راجع نفس المؤلف: تاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي، القاهرة، ١٩٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤