الفصل الرابع

الشيخ عبد الغني النابلسي

١٠٥٠–١١٤٣ﻫ/١٦٤١–١٧٣١م

وُلِدَ عبد الغني بن إسماعيل النابلسي في دمشق، في الخامس من ذي الحجة سنة ١٠٥٠ﻫ، أي في بداية النصف الثاني من القرن الحادي عشر الهجري (١٧م) وعُمِّر طويلًا؛ فقد عاش ثلاثةً وتسعين عامًا، وتُوفِّي في سنة ١١٤٣ﻫ، أي في أواخر النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري (١٨م)، وقد كان خلال هذا القرن زعيم الحياتين: الدينية والأدبية في الشام دون منازع؛ فقد كان متعدد الثقافة غزير الإنتاج، ألَّف في موضوعات كثيرة متعددة.

وأسرته من نابلس أصلًا، ولكنها انتقلت إلى دمشق، واستقرت بها قبل مولده بسنوات طويلة، وبرز من أفرادها كثيرون، نبَغوا في ميادين العلم والدين والأدب؛ فالمحبِّي ترجم لجده في كتابه «خلاصة الأثر، ٢ / ٤٣٣» ووصفه بأنه «شيخ مشايخ الشام.»

وكانت الأسرة شافعية المذهب، غير أن أباه إسماعيل تحوَّل إلى المذهب الحنفي، وكذلك كان عبد الغني.

وقد شُغِف عبد الغني — منذ صِباه — بالتصوف، وراقَتْه حياة الزهد والعبادة، فاتصل بشيوخ الطريقتين: القادرية والنقشبندية، ولم ينصرف في شبابه إلى ما كان ينصرف إليه أنداده من حياة اللهو والمتعة، وإنما اتخذ لنفسه خلوة في منزله، ولزم هذه الخلوة سبع سنوات طوالًا، عكَف في أثنائها — إلى جانب صلاته وتعبُّده — على دراسة مؤلَّفات ثلاثة من كبار المتصوفة الذين مزجوا الفلسفة بالتصوف، وهم: محيى الدين بن عربي وابن سبعين وعفيف الدين التلمساني.

وكان عبد الغني أديبًا مرهفَ الحس وشاعرًا مطبوعًا؛ ولهذا كان الشعر في معظم الأحوال وسيلتَه للتعبير عن نفسه، وعن أحاسيسه الدينية والصوفية، وقد بدأ في شبابه، فنظَم قصيدة طويلة في مدح الرسول أسماها «البديعيات» وهي أول إنتاجه الفكري.

وأعجب الناس بالبديعية إعجابًا شديدًا؛ فقد كانت قصيدة قوية معبِّرة رائعة؛ ولهذا ساورَهم الشكُّ أن يكون عبد الغني هو ناظِمَها ومنشئَها، ولكن عبد الغني استطاع أن يُسْكِتَ هذا الشكَّ حين ألف شرحًا لقصيدته.

وكان النابلسي محبًّا للرحلة، وله رحلات كثيرة زار فيها معظم أجزاء العالم الإسلامي، فكانت رحلته الأولى إلى إستانبول عاصمة الدولة في سنة ١٠٧٥ﻫ/١٦٦٤م وهو بعدُ في الخامسة والعشرين من عمره.

وبعد خمس وعشرين سنة أخرى — أي في سنة ١١٠٠ﻫ/١٦٨٨م — زار البقاع ولبنان.

وفي سنة ١١٠١ﻫ/١٦٨٩م زار بيت المقدس.

وفي سنة ١١٠٥ﻫ/١٦٩٣م زار مصر والحجاز.

وفي سنة ١١١٢ﻫ/١٧٠٠م زار طرابلس الشام.

وفي كل هذه الرحلات، وفي كل هذه الأقطار والبلدان التي زارها كان دائم الصلة بالعلماء والمتصوفة يأخذ عنهم ويأخذون عنه، وقد ألف النابلسي كتبًا كثيرة في وصف هذه الرحلات، غير أنه لم يُعْنَ في هذه الرحلات بوصف المدن والمشاهد والأماكن التي زارها من النواحي التاريخية والجغرافية والأثرية والطبوغرافية، وإنما عُنِيَ — شأنُه في ذلك شأن غيره من الرحَّالة في العصر العثماني — بوصف تَجاريبه الصوفية الشخصية، واتصالاته بأعلام الفكر والأدب والتصوف الذين قابلهم؛ فرحلاته لهذا تُلْقِي أضواءً كثيرة على الحياتين: الثقافية والدينية في بلدان الشرق الإسلامي على عصره، وقد كانت هذه الرحلات أنموذجًا احتذاه الرحَّالةُ من العلماء والأدباء الذين أتَوْا بعده، وخاصة تلميذه الرحَّالة والعالم الدمشقي مصطفى البكري، والرحَّالة والأديب المصري أسعد اللقيمي.

ويعتبر الشيخ عبد الغني بحق «شيخَ مشايخ الشام» في عهده، وقد وصفه تلميذه المرادي في ترجمته له بأنه «أعظم مَن ترجمتُه علمًا وولاية وزهدًا وشهرة ودراية»، والمرادي صادق في وصفه؛ فقد تتلمَذ على النابلسيِّ كلُّ علماء عصره، فما منهم إلا مَنْ أخذ عنه أو حضَر دروسه أو قرأ عليه أو كان مِن مُريديه.

وقضى الشيخ عبد الغني حياته كلها إمامًا متعبدًا أو مدرسًا أو مؤلفًا؛ ولهذا كثرت مؤلفاته، فبلغت نحو المائتين أو المائتين وخمسين مؤلَّفًا، ونستطيع أن نصنِّف هذه المؤلفات إلى مجموعات ثلاث:
  • كتب في التصوُّف.

  • دواوين شعرية.

  • كتب في الرحلات.

أما كتبه الصوفية فإنه لم يأت فيها بجديد، وإنما هي في معظمها تعليقات وشروح لكتب نفر من كبار الصوفية السابقين؛ من أمثال ابن عربي، والجبيلي، وابن الفارض، وهو في هذه الشروح لا يُلخِّص أو يُجْمِل آراء هؤلاء المتصوفة السابقين، ولكنه يفسِّرها ويشرح غامِضَها، ويأتي في هذا التفسير والشرح بكثير من الجديد الذي يُعتبَر مرجعًا هامًّا لدراسة آرائه الدينية والفقهية بوجه عام.

ودراستنا لهذه المجموعة من كتب النابلسي تبين أنه قد تأثر في آرائه الصوفية بتيَّارين من تيارات التفكير الصوفي، وهما: التيار المغربي الأندلسي الذي يمثله أبو مَدْين، وابن مشيش، والششتري. والتيار الفارسي التركي الذي يمثله أوحَدُ الدين نوري، ومحمود الإسكوداري، ومحمد برجالي.

وإلى جانب هذه الشروح كتب النابلسي كذلك عن الطرق الصوفية التي كان ينتمي إليها، وخاصة الطريقة المولوية.

والذي نلاحظه أنه في آرائه الصوفية كان أكثر تأثرًا بابن عربي وبفكرة وَحْدة الوجود، ويبدو هذا التأثر واضحًا في الجزء الأول من ديوانه الكبير المسمى «ديوان الدواوين».١

وهذا الديوان يشمل أصلًا — إلى جانب هذا الجزء الأول في الشعر الصوفي — أجزاء ثلاثة أخرى تضم أشعارًا كثيرة في مدح الرسول ومدائح ومراسلات أخرى، وأشعارًا في الغزل، غير أن هذه الأجزاء الثلاثة لا تزال مخطوطة لم تُطْبَع بعد.

وهذا الديوان يمثل المجموعة الثانية من مؤلفات النابلسي، وهي دواوين الشعر، ويبدو شغفه بالشعر واضحًا كذلك في الشرح الذي وضعه لشعر ابن هانئ الأندلسي ولشعر ابن الفارض.

ولهذا اشتَهر النابلسي في حياته وبعد مماته كشاعر، وتحدَّث عنه مؤرِّخو الأدب العربي عند حديثهم عن الشعراء.

أما رحلاته فقد أشرنا إلى خصائصها فيما سبق، وأهمها:
  • رحلة طرابلس.

  • الذهب الإبريز، في الرحلة إلى بعلبك وبقاع العزيز.

  • الحقيقة والمجاز، في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز.

  • الحضرة الأنسيَّة، في الرحلة القدسية.

وللنابلسي مؤلفات أخرى كثيرة، تقع في مجلدات عدة، في علوم مختلفة؛ كالتفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، بل لقد ألَّف النابلسي في علوم وفنون أخرى غير العلوم الدينية والصوفية؛ فقد ألَّف كتابًا في علم الفلاحة، وثانيًا في تفسير الأحلام، وثالثًا في تحليل شرب الدخان، وغير ذلك مما يدل على أنه كان موسوعيَّ الثقافة والإنتاج.

١  طُبِعَ في القاهرة سنة ١٣٠٢ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤