الفصل الرابع

أشهر علماء الدعوة الفاطمية

(١) بنو النعمان١

لا أكاد أعرف في تاريخ مصر الإسلامية حتى نهاية الدولة الفاطمية أسرةً كان لها من الأثر في الحياة العقلية والسياسية ما كان لهاتين الأسرتين: أسرة عبد الحكم٢ قبل العصر الطولوني وأثناءه، وأسرة النعمان في العصر الفاطمي، فبنو عبد الحكم كانوا أساتذة المدرسة المالكية في مصر، وكذلك كان بنو النعمان أساتذة مدرسة المذهب الفاطمي بمصر، وكان بين بني عبد الحكم مَن اتجه إلى التاريخ وتدوينه، كذلك كان بين بني النعمان مَن دوَّن التاريخ، وكان بنو عبد الحكم مقربين إلى الولاة في مصر، كذلك كان بنو النعمان في مكانة لا تقربها مكانة أخرى لدى أئمة الفاطميين، فالأسرتان — بنو عبد الحكم وبنو النعمان — من أشد الأسرات أثرًا في الحياة المصرية، ولا سيما من الناحية العقلية.
أسَّسَ أسرة النعمان رجل عُرِف أنه من أشهر فقهاء المذهب الفاطمي، ومن أكثرهم تأليفًا للكتب، وتُعَدُّ مؤلفاته من الأسس التي تبعها مَن جاء بعده من علماء هذا المذهب، بل لا تزال بعض كتبه إلى اليوم من أهم الكتب وأقومها لدى طائفة البهرة الإسماعيلية، هذا الرجل هو القاضي أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور بن حيون التميمي المغربي، ويُعرَف في تاريخ الدعوة الفاطمية باسم القاضي النعمان، تمييزًا له عن سَمِيِّه أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب السني المعروف. اختلف الناس في تاريخ مولده، فذهب بعضهم مثل الأستاذ جوثيل إلى أنه وُلِد سنة ٢٥٩،٣ وتبعه الأستاذ ماسينيون في ذلك الرأي، ولكن الأستاذ آصف فيظي خالَفَهما وذهب إلى أنه وُلِد في العشر الأخير من القرن الثالث،٤ وليس لدينا ما يرجح أحد الرأيين، بل نصرح بأنه لم يصلنا شيء عن نشأته الأولى، ولا عن آبائه وأسرته، إلا ما رواه ابن خلكان: أن والده أبا عبد الله محمد قد عمَّرَ طويلًا، وأنه كان يحكي أخبارًا كثيرة نفيسة حفظها في كبره، وتوفي في رجب سنة ٣٥١، وصلى عليه ولده أبو حنيفة النعمان، ودُفِن بأحد أبواب القيروان،٥ فحياة الأسرة غامضة أشد الغموض، ولم يحفظ التاريخ شيئًا عنها، ولا أدري من أين استقى الأستاذ جوثيل ما رواه من أن والد النعمان كان من رجال الأدب، إلا إذا كان قد فهم من نص ابن خلكان ذلك.
وليس لدينا شيء عن حياة النعمان قبل قيام الدولة الفاطمية سنة ٢٩٦ﻫ، وقبل اتصاله بعبيد الله المهدي الفاطمي مؤسِّس الدولة الفاطمية، إلا أنه كان مالكي المذهب، وتحوَّل إلى المذهب الفاطمي،٦ ولكن مؤرخي الشيعة الاثني عشرية قالوا: إن النعمان كان مالكي المذهب، ثم تحوَّل إلى الشيعة الاثني عشرية، ثم انتقل إلى الإسماعيلية الفاطمية.٧ ويذهب أبو المحاسن إلى أنه كان حنفي المذهب قبل أن يعتنق المذهب الفاطمي،٨ ولكن إذا أمعنا النظر في هذه الخلافات وجدنا أن الأرجح هو ما رواه ابن خلكان، فالمذهب المالكي هو المذهب الذي كان يسود شمال إفريقية والأندلس، على أن المذهب الحنفي كان قليل الانتشار بين المسلمين في إفريقية وفي مصر أيضًا، وأن خاصة تلاميذ مالك كانوا مصريين، وعن مصر انتقل هذا المذهب المالكي إلى شمال إفريقية والأندلس، وساد هذه البلاد حتى قلَّ أن تجد فيها مذهبًا آخَر من مذاهب أهل السنة، فمن المرجح أن النعمان كان على مذهب أهل بلاده، أما ما يدَّعِيه الأستاذ آصف فيظي أن النعمان كان إسماعيلي المذهب منذ نعومة أظفاره، وأنه اتخذ التقية والستر خوفًا على نفسه وعلى مذهبه، فهو كلام يحتاج إلى ما يؤيده. وكذلك لم يتحدث أحد من المؤرخين الذين ذكروا النعمان عن إسماعيليته إلا بعد صلته بالمهدي سنة ٣١٣ﻫ، أي بعد أن أظهر المهدي نفسه في المغرب، وهزم الأغالبة، واحتلَّ ديارهم. دخل النعمان في خدمة المهدي واتصل به، ولا ندري نوع الخدمة التي كان يؤديها ولا الصلة التي اتصلها به، ولكن بعد وفاة المهدي اتصل النعمان بالقائم بأمر الله طوال مدة حكمه، وفي أواخر أيام القائم ولي النعمان قضاء مدينة طرابلس الغرب، أما قبل ولايته قضاء طرابلس فلا نكاد نعرف عنه شيئًا. ولما بنى المنصور مدينة المنصورية كان النعمان أول مَن ولي قضاءها، بل ولَّاه المنصور القضاء على سائر مدن إفريقية.

وأصبح النعمان شديد الصلة بالإمام الفاطمي مقرَّبًا منه، وظلَّ قاضي قضاة هذه المدن ومن تحته قضاتها، إلى أن ولي المعز لدين الله الإمامةَ، فاشتدت صلة النعمان به، حتى إنه كان يجالسه ويسايره، وقلَّ أن يفارقه بعد أن كان مستوحشًا منه عقب ولايته، ولكن المعز طلب إليه أن يكون في عهده كما كان في عهد أبيه المنصور بالله، ثم قويت الصلة بين المعز والنعمان حتى أصبح النعمان جليسه ومسايره، ووضع النعمان كتابه المجالس والمسايرات جمع فيه كل ما رآه وما سمعه من إمامه المعز. ولما رحل المعز من إفريقية إلى مصر سنة ٣٦٢ﻫ اصطحب معه بني النعمان، وكان النعمان إذ ذاك قاضي الجيش، وكان من الطبيعي أن يقلد النعمان قضاء مصر، ولكن المعز بعد أن استقر بمصر ترك القضاء لأبي طاهر الذهلي محمد بن أحمد الذي كان على قضاء مصر منذ سنة ٣٤٨ﻫ، وطلب إلى أبي طاهر أن يحكم بفقه الفاطميين، فكان لابد للقاضي من أن يسترشد في أحكامه بالقاضي النعمان، وما زال كذلك حتى توفي النعمان سنة ٣٦٣ﻫ.

ويقول ابن حجر: إن النعمان كان يسكن مصر، أي الفسطاط، ويغدو منها إلى القاهرة في كل يوم.٩ ويروي ابن خلكان عن المسبحي أن النعمان كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل ما لا مزيد عليه.١٠ ونقل ابن خلكان عن ابن زولاق أن النعمان بن محمد القاضي كان في غاية الفضل، من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالمًا بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر الفحل والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف.١١ وكلُّ مَن تحدَّثَ عن النعمان من المؤرخين يذكر فضله وعلمه وسعة ثقافته، فلا غرابة إذن أن نرى هذه الكتب الكثيرة التي ألَّفَها النعمان، والتي أصبحت عمدة كل باحث في المذهب الفاطمي، بل أصبحت الأصل الذي يستقي منه علماء المذهب، فلا أكاد أعرف عالمًا من علماء الدعوة الفاطمية لم ينهج نهج النعمان في فقهه، أو اختلف معه في رأي في المسائل الفقهية، وقد يكون ذلك لأن النعمان قال في كتابه المجالس والمسايرات: إن الإمام المعز لدين الله طلب إليه أن يلقي على الناس شيئًا من علم أهل البيت، فألَّف النعمان كتبه، وكان يعرضها على المعز فصلًا فصلًا وبابًا بابًا حتى أتَمَّها، فهو يقول مثلًا:
أمرني المعز لدين الله (صلع) بجمع شيء لخَّصه لي وجمعه وفتح لي معانيه وبسط لي جملته، فابتدأت منه شيئًا ثم رفعته إليه، واعتذرت من الإبطاء فيه لما أردته من إحكامه ورجوته من وقوع ما جمعته منه بموافقته (ص)، فطالعته في مقداره، فوقع إليَّ: يا نعمان، لا تبالِ كيف كان القدر مع إشباع في إيجاز، فكلما أوجزت في القول واستقصيت المعنى فهو أوفق وأحسن، والذي خشيت من أن يستبطأ في تأليفه، فوالله لولا توفيق الله — عز وجل — إياك وعونه لك لما تعتقده من النية ومحض الولاية، لما كنت تستطيع أن تأتي على باب منه في أيام كثيرة، ولكن النية يصحبها التوفيق.١٢
وفي كتابه هذا كثير من النصوص التي تدل على أنه كان يعرض كتبه على المعز قبل إذاعتها ونشرها بين الناس، كما أنه كان يقرأ مجالس المحكمة التأويلية، ومن هنا لقَّبَه ابن زولاق بالداعي.١٣ وليس لدينا من النصوص ما يثبت أن النعمان كان من الدعاة، وإن كان مؤرخو المذهب المحدثون، مثل الداعي إدريس، يحدِّثنا في كتابه عيون الأخبار أن النعمان كان في مكانة رفيعة جدًّا قريبة من الأئمة، وأنه كان دعامة من دعائم الدعوة، ولكنه لم يصرح بأن النعمان ولي مرتبة داعي الدعاة. ويُخيَّل إليَّ أن النعمان كان داهية في سياسة التقرب إلى الأئمة، وأنه استطاع بعلمه وثقافته أن يجذب إليه قلوبهم، فقرَّبوه إليهم وعرف أسرارهم ونيَّاتهم فوضع هذه الكتب الكثيرة، وادَّعَى أن الأئمة هم الذين لقَّنوه إياها، بل لعلي لا أغالي إذا قلتُ: إن النعمان هو أول مَن دوَّنَ فقه المذهب الفاطمي، فلا أكاد أعرف فقيهًا من فقهاء المذهب قبله كتب في هذا الفن، وبين يدي الآن كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية، وهو ثبت لأسماء المؤلفين والكتب الإسماعيلية، وأمامي فهرست ابن النديم، ومجموعة خطية قديمة لمؤلف مجهول جمع فيه أسماء الكتب التي أُلِّفَتْ منذ أوائل الدعوة الإسماعيلية، فلم أعثر في هذه الكتب كلها على كتاب واحد في الفقه الإسماعيلي قبل القاضي النعمان بن محمد. فلا غرو أن يعرف المعز فضل هذا العالم، وأن يرفعه إلى أعلى الدرجات، ولا سيما أن النعمان ذكر في كتبه أنه اقتبس هذه العلوم من الإمام! حتى قال المعز عن النعمان: مَن يؤدي جزءًا من مائة ممَّا أدَّاه النعمان أضمن له الجنة بجوار ربه.١٤ ويحدِّثنا المؤيد في الدين في سيرته أن الوزير اليازوري قال له: إن النعمان بنى هذا الأمر، وإن أحق الناس بمكانه أبناؤه؛١٥ فالنعمان إذن قد أدَّى للدعوة الفاطمية هذا الفضل الذي عرفوه له؛ إذ لا يزال علماء الدعوة يعيشون على الفقه الذي وضعه لهم النعمان، وربما على التأويل الذي ذكره في كتبه.
لننظر الآن إلى هذه الكتب التي وضعها النعمان لأهل الدعوة، فيقول ابن خلكان: إن النعمان ألَّفَ لأهل البيت من الكتب آلافَ أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وعمل في المناقب والمثالب كتابًا حسنًا، وله ردود على المخالفين، له رد على أبي حنيفة، وعلى مالك والشافعي، وعلى ابن سريج، وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت، وله القصيدة الفقهية التي لقَّبَها بالمنتخبة.١٦ وسرد الأستاذ إيفانوف مؤلَّفات القاضي النعمان، فإذا بها نحو أربعة وأربعين كتابًا، بعضها لا يزال يحتفظ به أتباع المذهب وهم طائفة البهرة، ومنها كتب عُثِر على بعض أجزائها، ومنها ما فُقِد ولم يُعرَف إلا أسماؤه، ولا تعرف مكتبات أوروبا إلا ستة كتب من كتب النعمان هي:
  • (١)

    جزء من كتاب شرح الأخبار بمكتبة برلين، وأحضرت دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه.

  • (٢)

    كتاب دعائم الإسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي دار الكتب المصرية صورة فتوغرافية منه.

  • (٣)

    تأويل دعائم الإسلام بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة صورة فتوغرافية منه.

  • (٤)

    أساس التأويل بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن.

  • (٥)

    جزء من كتاب المجالس والمسايرات بمكتبة مدرسة اللغات الشرقية بلندن، وفي مكتبة جامعة القاهرة.

  • (٦)

    كتاب الهمة في اتِّبَاع الأئمة بمكتبة مكتب الهند بلندن، وعندي نسخة خطية منه.

ويحتفظ أصحاب الدعوة الآن في مكتباتهم الخاصة بالكتب الآتية: (١) افتتاح الدعوة، وعندي نسخة خطية منه، كما تحتفظ مكتبة جامعة القاهرة بصورة منه. (٢) كتاب الإيضاح. (٣) كتاب الينبوع. (٤) مختصر الآثار. (٥) كتاب الطهارة. (٦) القصيدة المختارة. (٧) القصيدة المنتخبة. (٨) منهج الفرائض. (٩) الرسالة ذات البيان في الرد على ابن قتيبة. (١٠) اختلاف أصول المذاهب. (١١) كتاب التوحيد والإمامة. (١٢) مناقب بني هاشم. (١٣) تأويل الرؤيا. (١٤) مفاتيح النعمة.

أما كتبه التي لم يُعثَر عليها وعُرِفت أسماؤها فهي: (١) مختصر الإيضاح. (٢) كتاب الأخبار. (٣) كتاب الاقتصار. (٤) كتاب الاتفاق والافتراق. (٥) كتاب المقتصر. (٦) كتاب يوم وليلة. (٧) كتاب كيفية الصلاة. (٨) الرسالة المصرية في الرد على الشافعي. (٩) كتاب في الرد على أحمد بن سريج البغدادي. (١٠) دامغ الموجز في الرد على العتكي. (١١) نهج السبيل إلى معرفة علم التأويل. (١٢) حدود المعرفة في تفسير القرآن والتنبيه على التأويل. (١٣) كتاب إثبات الحقائق في معرفة توحيد الخالق. (١٤) كتاب في الإمامة في أربعة أجزاء. (١٥) كتاب التعاقب والانتقاد. (١٦) كتاب الدعاة. (١٧) كتاب الحلي والثياب. (١٨) كتاب الشروط. (١٩) أرجوزة ذات المنن، وهي في سيرة الإمام المعز. (٢٠) أرجوزة ذات المحن وهي في تاريخ ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد. (٢١) كتاب معالم المهدي. (٢٢) كتاب منامات الأئمة. (٢٣) كتاب التقريع والتعنيف.

هذه هي الكتب التي تركها النعمان بن محمد، ولعل أهم كتاب خالد له هو كتاب «دعائم الإسلام، في ذكر الحلال والحرام، والقضايا والأحكام»، وهو الكتاب الذي أمر الظاهر بأن يحفظه الناس، وجعل لمَن يحفظه مالًا جزيلًا، ويشتمل هذا الكتاب على جميع فقه الفاطميين؛ فدعائم الإسلام عندهم الولاية والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وكل فريضة من هذه الفرائض لها أصولها وفروعها وآدابها، فهو يتحدث عن ذلك كله بشيء من الإطناب، ويروي عن كل فريضة ما ورد عنها في القرآن الكريم، وفي الأحاديث النبوية، وما جاء عن الأئمة. ومَن يقرأ هذا الكتاب ويقارن بين الفقه فيه وبين فقه مالك، لا يكاد يجد اختلافًا إلا في بعض أمور لا تمس الدين في شيء، اللهم ما ورد في القسم الخاص بالولاية.

والفصل الخاص الذي في أول الكتاب تحدَّث فيه عن الإيمان، وجعل الولاية شرطًا أساسيًّا للمؤمن، أما ما سوى ذلك من أحكام فرائض الدين وسننه والمعاملات وغيرها، فلا تختلف عن الأحكام الشرعية عند المالكية. وتظهر قيمة هذا الكتاب عند علماء المذهب — منذ عُرِف هذا الكتاب — إذا عرفنا أن عالِمَيْنِ من أكبر علمائهم ذكراه في كتبهما، واعتمدا عليه ونوَّهَا به، أما العالم الأول فهو أحمد حميد الدين بن عبد الله بن محمد الكرماني المتوفى ٤١٢ﻫ، فقد ذكر في مقدمة كتابه «راحة العقل» الكتب التي يجب أن تُقرَأ قبل قراءة راحة العقل، ومن هذه الكتب كتاب «دعائم الإسلام»، وأما العالم الثاني فهو المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي المتوفى ٤٧٠ﻫ، فقد ذكر في السيرة المؤيدية أنه كان يعقد مجلسًا خاصًّا كل يوم خميس يقرأ فيه على السلطان أبي كاليجار البويهي فصولَ كتاب «دعائم الإسلام». ويُعتبَر هذا الكتاب الآن من أهم كتب الإسماعيلية، على الرغم من أنه في علم الظاهر، ويُعدُّ من كتبهم السرية التي لا يقربها إلا علماء المذهب فقط.

وقد أَتْبَعه القاضي النعمان بكتاب تأويل دعائم الإسلام، واسمه الكامل: كتاب تربية المؤمنين، بالتوقيف على حدود باطن علم الدين، في تأويل دعائم الإسلام. وهو في ذكر التأويل الباطني للأحكام والفرائض التي وردت في كتاب دعائم الإسلام، وهو من أهم كتب التأويل عند الإسماعيلية، وعليه اعتمد الدعاة بعد النعمان،١٧ وقد توفي النعمان قبل أن يتم هذا الكتاب.

ومهما يكن من شيء فالقاضي النعمان يُعَدُّ من أكبر علماء الدعوة وفقيهها الأعظم، وتوفي هذا الرجل بمصر سنة ٣٦٣ﻫ.

كان هذا الفقيه رأس هذه الأسرة ومؤسِّسها، وجاء بعده أبناؤه وحفدته، وعُرِفوا جميعًا بالعلم والفقه، وتولَّوا الدعوة والقضاء بعده.

وُلِد ابنه الأكبر أبو الحسين علي بن النعمان بالقيروان، في رجب سنة ٣٢٨ﻫ١٨ وقَدِم مصر مع باقي أفراد الأسرة في صحبة المعز لدين الله، ولما مات النعمان اشترك علي بن النعمان في قضاء مصر مع أبي طاهر الذهلي، فظلَّا يقضيان حتى توفي المعز وولى العزيز، وعرض لأبي طاهر القاضي مرض الفالج، ففوَّض العزيزُ الحُكْم إلى علي بن النعمان، وذلك في صفر سنة ٣٦٦، وظل منفردًا بالقضاء وافر الحرمة عند الإمام العزيز حتى أصابته الحمى وهو بالجامع يقضي بين الناس، فقام من وقته ومضى إلى داره وأقام عليلًا أربعة عشر يومًا، وتوفي يوم الإثنين لستٍّ خلون من رجب سنة ٣٧٤ﻫ، وصلى عليه العزيز، وهو أول مَن لُقِّبَ بقاضي القضاة في مصر، وكان عالمًا فقيهًا مثل أبيه، وكان شاعرًا أورد له الثعالبي شيئًا من شعره، مثل قوله:
ولي صديق ما مسني عدم
مذ وقعت عينه على عدمي
أغنى وأقنى فما يكلفني
تقبيل كف له ولا قدم
قام بأمري لما قعدت به
ونمت عن حاجتي ولم يَنَم١٩
ومن شعره — وقيل بل من شعر أخيه محمد بن النعمان:٢٠
رب خود عرفت في عرفات
سلبتني بحسنها حسناتي
حرمت حين أحرمت نوم عيني
واستباحت دمي بذي اللحظات
وأفاضت مع الحجيج ففاضت
من جفوني سوابق العَبَرات
لم أَنَلْ من منى منى النفس حتى
خفت بالخيف أن تكون وفاتي٢١

ومن شعره أيضًا:

صديق لي له أدب
صداقة مثله نسب
رعى لي فوق ما يرعى
وأوجب فوق ما يجب
فلو نقدت خلائقه
لبهرج عندها الذهب٢٢

فمن هذه الأبيات القليلة نستطيع أن ندرك أنه كان شاعرًا، رقيق الشعر، عذب الديباجة، متلاعبًا باللفظ، ومن سوء الحظ أن شعره لم يصل إلينا كاملًا حتى نستطيع أن نكوِّنَ رأيًا دقيقًا في شاعريته.

ولا أدري أيضًا من أين استقى الأستاذ آصف فيظي أن أبا الحسن علي بن النعمان كان في مرتبة داعي الدعاة، فليس لديَّ من النصوص ما يؤيِّد ذلك، بل الذي ذكره المؤرخون أن أول مَن أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين هو ولده الحسين بن علي بن النعمان على نحو ما سنذكره بعدُ.

ولما توفي علي بن النعمان أرسل الإمام العزيز بالله إلى أبي عبد الله محمد بن النعمان يقول: إن القضاء لك من بعد أخيك، ولا نخرجه عن هذا البيت.٢٣ وهكذا ولي مرتبة قاضي القضاة بعد أخيه، وكان في حياة أخيه ينوب عنه في القضاء، فإنه لمَّا سافَرَ العزيز بالله إلى حرب القرامطة سنة ٣٦٨، وسار عليٌّ في صحبته استخلف أخاه محمدًا في القضاء. وُلِد محمد بالمغرب سنة ٣٤٥ﻫ،٢٤ وقدم القاهرة مع أفراد الأسرة، وما زال بها حتى ولي القضاء، وكان جيد المعرفة بالأحكام، متفنِّنًا في علوم كثيرة، حسن الأدب والدراية بالأخبار والشعر وأيام الناس.٢٥ وقد مدحه الشاعر عبد الله بن الحسن الجعفري السمرقندي بقوله:
تعادلَتِ القضاة عليَّ أمَّا
أبو عبدِ الإله فلا عديلُ
وحيدٌ في فضائله غريبٌ
خطيرٌ في مفاخره جليلُ
تألَّقَ بهجة ومضى اعتزامًا
كما يتألَّقَ السيف الصقيلُ
ويقضي والسداد له حليفٌ
ويعطي والغمام له زميلُ
لو اختُبِرت قضاياه لقالوا
يؤيِّده عليها جبرئيلُ
إذا رقي المنابر فهو قسٌّ
وإنْ حضَرَ المشاهدَ فالخليلُ

فلما قرأ محمد بن النعمان هذه القصيدة كتب إلى الشاعر:

قرَأْنَا من قريضِكَ ما يروقُ
بدائع حاكَهَا طَبْعٌ رقيقُ
كأنَّ سطورَها روضٌ أنيقُ
تضوَّعَ بينها مسكٌ فتيقُ
إذا ما أُنشِدت أرجت وطابَتْ
منازلها بها حتى الطريقُ
وإنَّا تائقون إليكَ فاعلَمْ
وأنتَ إلى زيارتِنَا تتوقُ
فواصلنا بها في كل يوم
فأنتَ بكل مكرمة حقيقُ٢٦

ومما يُروَى له أيضًا قوله:

أَيَا مشبهَ البدرِ بدر السماءِ
لسبع وخمس مضت واثنتينِ
وَيَا كاملَ الحُسْن في نعتِهِ
شغلْتَ فؤادي وأسهرْتَ عيني
فهَلْ لي من مطمعٍ أَرْتَجِيهِ
وإلَّا انصرفْتُ بخفَّيْ حُنينِ
ويشمتُ بي شامِتٌ في هواكَ
ويفصحُ لي ظلت صفر اليدينِ
فإمَّا مننتَ وإمَّا قتلتَ
فأنتَ القديرُ على الحالتينِ٢٧

وفي سنة ٣٧٥ عقد لابنه عبد العزيز بن محمد بن النعمان على ابنة القائد جوهر الصقلي في مجلس العزيز، ثم قرَّر ابنه هذا في نيابته عنه في الأحكام بالقاهرة ومصر.

وعلت منزلة محمد بن النعمان عند الإمام العزيز بالله، حتى إنه كان يصعد معه على المنبر،٢٨ وكان مهيبًا محترمًا، حتى إن أحدًا لم يكن يخاطبه إلا بسيدنا.٢٩ ويروي ابن خلكان عن ابن زولاق المؤرخ المصري: «ولم نشاهد بمصر لقاضٍ من القضاة من الرياسة ما شاهدناه لمحمد بن النعمان، ولا بلغنا ذلك عن قاضٍ بالعراق، ووافَقَ ذلك استحقاقًا لما فيه من العلم والصيانة والتحفُّظ وإقامة الحق والهيبة.٣٠ فكانت هذه المكانة التي حظي بها هذا القاضي سببًا في أن ينقم عليه الوزير يعقوب بن كلس. ويُخَيَّل إليَّ أن الوزير كان يخشى اتساع نفوذ بني النعمان، فحاوَلَ ما استطاع أن يكسر شوكتهم، وينقص من قدرهم، فكان يعمد إلى أن ينقض أحكام القاضي. ويروي ابن حجر العسقلاني عن المسبحي أن الوزير ابن كلس كان كثير المعارضة لبني النعمان في أحكامهم.»٣١ وروى قصة تدل على مدى خوف الوزيز من اتساع سلطانهم ونفوذهم وما كان يضمره لهم، وبعد أن توفي العزيز بالله سنة ٣٨٥ وولي الحاكم بأمر الله، أقَرَّ القاضي محمد بن النعمان على ما بيده من القضاء، وزادت منزلته عنده رفعةً، ولكن محمدًا تزاحمت عليه العلل، فتوفي ليلة الثلاثاء رابع صفر سنة ٣٩٩، وصلَّى عليه الحاكم ووقف على دفنه، وحزن الحاكم لوفاته، فلم يولِّ أحدًا مرتبةَ القضاء إلا بعد شهر، فقلَّدَ القضاء أبا عبد الله الحسين بن علي بن النعمان.
وُلِد أبو عبد الله الحسين بن علي بن النعمان بالمهدية سنة ٣٥٣ﻫ، وقدم مع أسرته إلى القاهرة المعزية، ومهر في علوم الفقه حتى صار أحد أقطاب فقهاء المذهب الفاطمي، وكان ينوب أحيانًا عن عمه محمد بن النعمان في القضاء حتى وليه بعد وفاة عمه. وفي صفر سنة ٣٩١ بينما كان القاضي جالسًا في الجامع بمصر يقرأ عليه الفقه، أُقِيمت صلاة العصر فقام يؤدي الفريضة، وبينما هو في الركوع إذ هجم عليه رجل مغربي وضربه بمنجل في رأسه ووجهه، فحُمِل القاضي جريحًا إلى داره، وظل حتى اندمَلَ جرحه، فصار من ذلك اليوم يحرسه عشرون رجلًا بالسلاح، وكان إذا صلَّى وقف خلفه الحرس بالسيوف حتى يفرغ من الصلاة، ثم يصلي حرسه، ولا نكاد نسمع أن قاضيًا من قضاة المسلمين في التاريخ الإسلامي كله كان يصلي والشرطة تحرسه غير الحسين بن علي بن النعمان. وزاد الحاكم في إكرامه حتى أمر أن يضاف له أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته، وفوض إليه الخطابة والإمامة بالمساجد الجامعة، وولَّاه الدعوة وقراءة مجالس الحكمة التأويلية بالقصر وكتابتها، وهو أول قاضٍ أضيفت إليه الدعوة من قضاة الفاطميين.٣٢ ويظهر أنه في ذلك الوقت دبَّ دبيب الشقاق بين أبناء هذه الأسرة، فهذا القاضي طالَبَ ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان ببعض ودائع كانت في الديوان أيام ولاية محمد بن النعمان على القضاء، وتشدَّدَ القاضي في مطالبة ابن عمه بهذه الودائع حتى ألزَمَه أن يبيع كل ما خلفه أبوه سدًّا لهذه المطالبة، ولست في مركز يسمح لي أن أقول: أكان تشدُّد القاضي عن ورع ودين أم عن حسد وغيرة وشقاق بين بني الأعمام. ومهما يكن من شيء فقد صُرِف هذا القاضي عن رتبة القضاة والدعوة في رمضان سنة ٣٩٤، وأمر الحاكم بحبسه، ثم ضُرِبت عنقه في مطلع سنة ٣٩٥ﻫ، وهكذا لقي حتفه بيد الحاكم، بعد أن كان مكرمًا لديه مقرَّبًا إليه.
وولي القضاء بعده ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، المولود في أوائل ربيع الأول سنة ٣٥٥ﻫ، وهو الذي كان ينوب عن أبيه في القضاء، وكان عالمًا من علماء الدعوة الفاطمية يُنسَب إليه كتاب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم في أصول الدين، وهو الكتاب الذي ردَّ عليه القاضي أبو بكر الباقلاني،٣٣ وقيل إن هذا الكتاب من تصنيف عمه علي بن النعمان. ومهما يكن من شيء فالقاضي عبد العزيز بن محمد هو أول مَن ولي النظر على دار العلم،٣٤ وكان يجلس في الجامع، ويقرأ على الناس كتاب جده النعمان «اختلاف أصول المذاهب»، وعلى الرغم من أنه خُصَّ بمجالسة الحاكم ومسايرته، فإنه لم يَنْجُ من نزوات الحاكم وتقلُّباته، فعزله عن القضاء سنة ٣٩٨ﻫ، ثم اعتقله في السنة التالية، ثم عفا عنه وأعاد إليه النظر في المظالم وخلع عليه، وفي سنة ٤٠١ اضطر هذا القاضي إلى أن يهرب من وجه الحاكم هو والقائد الحسين بن جوهر الصقلي، فصادَرَ الحاكم بيوتهما وحمل كلَّ ما كان فيها، ثم كتب الحاكم لهما بالأمان وخلع عليهما، ولكنه أمر بعد ذلك بقتلهما في ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ٤٠١ﻫ.
وبعد هذه المأساة ضعف أمر بني النعمان وساءت حالهم، ولم تَبْقَ لهم تلك السطوة ولا ذلك النفوذ، حتى إن القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان ولي القضاء سنة ٤١٨ﻫ، ولكنه لم يمكث في هذه المرتبة سوى عام وشهرين، وأُعِيد مرةً أخرى إلى القضاء سنة ٤٢٧ﻫ، وأُضِيفت إليه الدعوة. ويقول عنه المؤيد في الدين: «وتوجَّهتُ إلى الموسوم بالقضاء والدعوة، وهو يومئذٍ القاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان رحمه الله وإيانا، فرأيته رجلًا يصول بلسان نسبه في الصناعة التي وُسِم بها دون لسان سببه، فارغًا مثل فؤاد أم موسى عليه السلام، وفيه جنون يلوح من حركاته وسكناته.»٣٥ وعُزِل القاسم عن هذه المراتب سنة ٤٤١ﻫ، ويحدِّثنا المؤيد أن نساء بني النعمان تشفَّعن للقاسم عند أم المستنصر، وأَلْحَفْنَ عليها بالسؤال لإعادته، فعيَّنه الوزير اليازوري ٤٤٢ﻫ نائبًا له في الدعوة، فقبل القاسم أن يكون تابعًا لداعي الدعاة بعد أن كان أصلًا في هذه الخدمة، واستمر القاسم بن عبد العزيز نائبًا لليازوري في مرتبة الدعوة حتى أقعده المرض، فأناب ابنه محمد بن القاسم في الدعوة بدله، واستمر محمد نائبًا عن والده في نيابة الدعوة حتى سنة ٤٥٠ﻫ. ثم لم نَعُدْ نسمع شيئًا عن هذه الأسرة التي ظلَّتْ زهاء قرن في مكانة رفيعة عالية، وفي اتصال بالأئمة الفاطميين، كما كان لهذه الأسرة أَثَرها في بَعْث العقائد الفاطمية في نفوس الناس بما ألَّفوه من كتب، وما ألقوه من مجالس الدعوة، وبما كانوا يحكمون به في القضايا على حسب فقه المذهب الفاطمي الذي وضعه لهم النعمان بن محمد مؤسِّس هذه الأسرة.

(٢) يعقوب بن كلس

ومن أشهر علماء الدعوة الفاطمية الذين كان لهم أَثَر قوي في الحياة العقلية بمصر أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس، وُلِد ببغداد في أسرة يهودية، ونشأ بها حيث درس شيئًا من الكتابة والحساب، واتخذ التجارة متكسبًا له، شأن غيره من أبناء جلدته الذين لا يتورَّعون عن كسب المال بشتى الطرق والوسائل، ثم رحل مع أبيه إلى الشام في بعض مسائل تجارية، فنزل مدينة الرملة وأقام بها فصار وكيلًا للتجَّار بها، ثم فرَّ منها إلى مصر. قيل إن سبب ذلك أنه اجتمع قِبَله مالٌ عجَزَ عن أدائه، فهرب.٣٦ وقيل بل أرسله أبوه إلى مصر للتجارة بها.٣٧ ومهما يكن من شيء فقد وفد يعقوب على مصر إبَّان ولاية كافور الإخشيدي، فاستطاع بذكائه وكياسته أن يتصل بكافور، وأظهر من علو النفس والجد ما جعل كافورًا يقرِّبه إليه ويثق به حتى اشتدت صلة يعقوب بكافور، فعرض عليه كافور الإسلام، فترك يعقوب اليهودية ودخل دين الإسلام، وذلك يوم الإثنين لثماني عشرة ليلة خَلَتْ من شعبان سنة ٣٥٦، ولزم التعبُّد ودراسة القرآن، ورتب لنفسه رجلًا من أهل العلم يدرِّس له أصول الدين الإسلامي، وكأنه في ذلك الوقت كان يتطلَّع إلى ما وصل إليه بعد ذلك، فعمل على إتمام النقص الذي كان يشعر به، وهو يهوديته السابقة، فأراد ألَّا يُرمَى بضعف إسلامه إذا بلغ ما تاقت إليه نفسه، فاجتهد في الدرس والتحصيل حتى بلغ فيهما درجةً عاليةً، وكأني بالوزير أبي الفضل جعفر بن الفرات المعروف بابن حنزابة وزير كافور، عرف ما كان يرمي إليه يعقوب، فخشي من صلة كافور بهذا اليهودي التاجر، فإنه بعد أن أسلَمَ يعقوب بن كلس اشتَدَّ مقت ابن حنزابة له، فنصب له الحبائل لإخراجه من البلاد، فلما توفي كافور سنة ٣٥٧ قبض ابن الفرات على جميع الكتَّاب وأصحاب الدواوين، وطلب يعقوب بن كلس فوجده قد هرب إلى المغرب، واتصل يعقوب بالمعز لدين الله، فقرَّبه المعز إليه وصحبه معه إلى مصر بعد أن فتحها الفاطميون. وقيل إن ابن كلس هو الذي أطْلَعَ المعز على أسرار مصر، وسهَّلَ له أمر فتحها بعد أن استعصت على جيوش الفاطميين من قبلُ.

وبعد أن استتب الأمر في مصر للمعز ونقل عاصمة ملكه إلى مدينة القاهرة، ولي يعقوب بن كلس الخراج وجميع وجوه الأموال والحسبة، وذلك في سنة ٣٦٣ﻫ، ومن مثل ابن كلس يصلح لأمر المال! فاستمر في عمله حتى سنة ٣٦٥، فقد زادت صلته بالمعز واكتسب حبه وثقته، فولَّاه المعز النظر في جميع أموره في قصره، وبعد قليل توفي المعز لدين الله ففوَّض العزيز بالله ليعقوب النظر في سائر أموره وجعله وزيرًا له، وذلك في المحرم ٣٦٧، وفي رمضان ٣٦٨ خلع العزيز عليه، ولقَّبَه بالوزير الأجَلِّ، فكان يعقوب بن كلس أول وزير في مصر الفاطمية.

ويروي ابن زولاق مؤرخ مصر ومعاصر ابن كلس: «أنه لما خلع على الوزير يعقوب بن كلس، وكان مكينًا من العزيز وكنت حاضرًا مجلسه، فقلت أيها الوزير: روى الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: حدَّثني الصادق رسول الله : «أن الشقي مَن شقي في بطن أمه، والسعيد مَن سعد في بطن أمه.» وهذا علو سماوي. فقال الوزير: ليس الأمر كذلك، وإنما أفعالي وتوفيراتي وكفايتي ونيابتي ونيتي وحرصي الذي كان يُهجَى ويعاب، قد مات قوم ممَّن كان وبقي قوم. وكان هذا القول بحضرة القوم الذين حضروا قراءة السجل الذي خرج من العزيز في ذكر تشريفه. قال ابن زولاق: فأمسكت، وقلت: وفَّقَ الله الوزير، إنما رويت عن رسول الله حديثًا صحيحًا. وقمت وخرجت وهو ينظر إليَّ. وحدَّثني أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني قال: عاتبت الوزير على ما تكلَّمَ به، وقلت: إنما روى حديثًا صحيحًا بجميع طرقه، وما أراد إلا الخير. فقال الوزير: خفي عنك، إنما هذا مثل قول المتنبي في كافور:

وللهِ سرٌّ في عُلَاك وإنما
كلامُ العدا ضربٌ مِنَ الهذيانِ
وأجمَعَ الناس على أن ذلك هجو في كافور؛ لأنه أعلمه أنه تقدَّمَ بغير سبب، وابن زولاق هجاني على لسان صاحب الشريعة ، فما أمكنني السكوت، وكان في نفسي شيء فجعلت كلامه سببًا.٣٨ فمركب النقص عند يعقوب دفعه إلى أن يعتقد أن تهنئة ابن زولاق هجاء له، وشعوره بيهوديته الأولى، وأنه أصبح وزيرًا مقرَّبًا إلى إمام من أئمة المسلمين دفعته إلى أن يتعمَّق في دراسة الدين الإسلامي حتى أصبح عَلَمًا من أعلام علماء الدعوة الفاطمية. ومع ذلك فنحن لا ندري السبب الذي من أجله اعتُقِل الوزير في القصر سنة ٣٧٣ﻫ عدة أشهر، فالمؤرخون لم يذكروا لنا شيئًا عن ذلك، ثم نرى العزيز يُطلِقه سنة ٣٧٤ﻫ، ويأمر بحمله على عدة خيول، وقُرِئ سجلٌّ برَدِّه إلى تدبير أمور الدولة مرة أخرى، ووهَبَه العزيز خمسمائة غلام من الناشئة وألف غلام من المغاربة، فاتسعت دائرته وعظمت مكانته حتى كتب اسمه على الطرز وفي الكتب.٣٩
بجانب هذه المكانة الرفيعة التي بلغها الوزير يعقوب بن كلس، وهذا السلطان القوي الواسع الذي أحرزه، كان هذا الوزير محبًّا للعلم والعلماء مشجعًا لمَن طلب العلم، يغدق المنح والعطايا للكتَّاب والشعراء. ويروي ابن خلكان: «كان يعقوب يجمع عنده العلماء، وكان في داره قوم يكتبون القرآن الكريم، وآخَرون يكتبون كتب الحديث والفقه والأدب والطب، ويعارضون ويشكِّلون المصاحف وينقطونها، وكان ينصب كل يوم خوانًا لخاصته من أهل العلم والكتَّاب وخواص أتباعه،٤٠ فكان من خاصة جلسائه الحسين بن عبد الرحيم المعروف بالزلازلي مصنِّف كتاب الأسجاع،٤١ والتميمي المقدسي الطبيب الذي صنَّف للوزير كتابًا ضخمًا في عدة مجلدات سمَّاه: «مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء.»٤٢ وأخذ الوزير علم العروض عن شيخه البديهي، وبفتحه وهدايته قال الشعر،٤٣ وبلغ هو نفسه في علم الفقه الفاطمي درجةً أهَّلَتْه لأن يؤلِّف الكتب ويعقد مجالس التأويل، فقد رتَّب لنفسه مجلسًا في كل ليلة جمعة يقرأ فيه مصنفاته على الناس، وكان يحضر هذا المجلس القضاة والفقهاء والقرَّاء والنحاة وجميع أرباب الفضائل والعدول، وغيرهم من وجوه الدولة.٤٤ كما نصب مجلسًا في داره يحضره في كل يوم ثلاثاء الفقهاءُ والمتكلمون وأهل الجدل للمناظرة بين يديه،٤٥ فرعايته للعلم والعلماء ساعدته على أن يؤلِّف هذه الكتب التي قرأها على الناس، والتي منها كما ذكر ياقوت:٤٦ (١) كتاب في القراءات. (٢) كتاب في علم الأبدان وصلاحها. (٣) كتاب في الفقه مما سمعه من المعز والعزيز. (٤) كتاب في الأديان وهو في الفقه. (٥) مختصر الفقه وهو المعروف بالرسالة الوزيرية. (٦) كتاب في آداب رسول الله .
هذه بعض الكتب التي ألَّفها هذا الوزير، ويقول إيڤانوف: إنها فُقِدت جميعها، ولم يَبْقَ منها إلا الرسالة الوزيرية في مختصر الفقه، وهو الكتاب الذي طلب الإمام الظاهر إلى الناس أن يحفظوه، وشجَّعَ على ذلك بترتيب أموال لمَن حفظه.٤٧ ويحدِّثنا المقريزي أن الناس كانوا يفتون بكتابه في الفقه، ودرس فيه الفقهاء بجامع مصر، وأن العزيز بالله أجرى لجماعة فقهاء كانوا يحضرون مجلس الوزير أرزاقًا كل شهر تكفيهم،٤٨ وقد ذكرنا أن هذا الوزير هو أول مَن جعل من الجامع الأزهر جامعة علمية، ورتَّبَ لعلمائها الأرزاق. معنى هذا كله أن الوزير يعقوب بن كلس رعى العلم والعلماء، فاتسعت بفضله الثقافة، وازداد الإقبال على العلم، وكذلك لقي الشعر على يديه التشجيع الذي لقيه العلم، فقد كان الوزير بعد أن ينتهي من مجالسه العلمية يأذن للشعراء في إنشاده مدائحهم فيه،٤٩ وكان يغدق عليهم الهبات والعطايا، ولعل أكثر الشعراء مدحًا له هو الشاعر أبو حامد أحمد بن محمد الأنطاكي المنبوز بأبي الرقعمق، وعبد الله بن محمد بن أبي الجوع، فمِن قول ابن أبي الجوع، وقد مرض الوزير من علة أصابت يده:٥٠
يدُ الوزيرِ هي الدنيا فإنْ ألمَتْ
رأيت في كلِّ شيءٍ ذلك الألَمَا
تأمَّل الملكَ وانظُرْ فرطَ علَّتِهِ
من أجله، وَاسْأل القرطاسَ والقلَمَا
وشاهد البيض في الأغمادِ هائمة
إلى العِدَا وكثيرًا ماروين دَمَا
وأنفس الناسِ بالشكوى قَدِ اتَّصَلَتْ
كأنما أشعرت من أجلِهِ سقَمَا
هل ينهضُ المجدُ إلَّا أن يؤيِّده
ساق يقدم في إنهاضِه قدَمَا
لولا العزيزُ وآراءُ الوزيرِ معًا
تحيفتنا خطوب تشعب الأمَمَا
فقُلْ لهذا وهذا أنتما شرَفٌ
لا أوهَنَ اللهُ ركنَيْه ولا انهدَمَا
كِلاكُمَا لم يَزَلْ في الصالحاتِ يدًا
مبسوطةً ولِسَانًا ناطقًا وفَمَا
ولا أصابكما أحداث دَهْرِكما
ولا طوى لكما ما عِشْتُمَا علمَا
ولَا انْمَحَتْ عنكَ يا مولاي عافية
فقد محوتَ بما أوليتَنِي العدَمَا

ومن قول أبي الرقعمق:

إنَّ يعقوبَ قد أفاد وأقنى
وأعادَ النَّدَى وأغنى الضعيفَا
سلَّ سيفًا من البصيرة والرأ
يِ فأغنَاهُ أن يسلَّ السيوفَا
باذلًا للعزيزِ دونَ حماهُ
مهجةً حرَّةً ورأيًا حصِيفَا
ما رَأْيناه قطُّ إلَّا رَأْينا
خلقًا طاهرًا وفعلًا شريفَا
ورأينا قرمًا كبيرًا همامًا
منعمًا مفضلًا رحيمًا رءوفَا٥١

ووُجِد بين شعراء مصر في ذلك الوقت مَن كان يهجو الوزير ابن كلس، ويحدِّثنا ابن الأثير أن الشاعر الحسن بن بشر الدمشقي هَجَا يعقوب بن كلس، وهجا كاتب الإنشاء أبا نصر عبد الله الحسين القيرواني بقوله:

قُلْ لأبي نصرٍ صاحب القصرِ
والمتأتى لنقض ذَا الأمرِ
انقض عُرَى الملك للوزيرِ تَفُزْ
منه بحُسْن الثناءِ والذكرِ
واعط أو امنع ولا تخف أحدًا
فصاحبُ القصرِ ليس في القصرِ
وليسَ يدرِي ماذا يراد به
وهو إذا ما دَرَى فما يدري

فشكاه ابن كلس إلى الإمام العزيز، وأنشده الشعر، فقال له: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء، فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضًا، وعرض بالفضل القائد:

تنصر فالتنصر دين حق
عليه زماننا هذا يدل
وقل بثلاثة عزوا وجلوا
وعطل ما سواهم فهو عطل
فيعقوب الوزير أب وهذا الـ
ـعزيز ابن وروح القدس فضل

فشكاه يعقوب إلى العزيز فامتعض منه، إلا أنه قال: اعف عنه. فعفا عنه، ثم دخل الوزير على العزيز فقال له: لم يَبْقَ للعفو عن هذا معنى، وفيه غض من السياسة، ونقض لهيبة الملك، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك، وسَبَّكَ بقوله:

زبارجي نديم
وكلس وزير
نعم على قدر الكلـ
ـب يصلح الساجور
فغضب العزيز على هذا الشاعر، وأمر بالقبض عليه، ثم بدا للعزيز إطلاقه فأرسل يستدعيه، وكان للوزير عين في القصر فأخبره بذلك، فأمر بقتل الشاعر، فقُتِل.٥٢
وهكذا كان لهذا الوزير أعداء كما كان له أنصار ومحبون، وقد حزن الناس حين ابتدأت علته في الحادي والعشرين من شوال سنة ٣٨٠ﻫ، ونزل إليه العزيز بالله يعوده، وقال: «وددت أنك تُباع فأبتاعك بمالي، أو تُفدى فأفديك بولدي.»٥٣ وتوفي يعقوب بن كلس ليلة الأحد لخمس خَلَوْنَ من ذي الحجة سنة ٣٨٠ﻫ، واجتمع الناس فيما بين القصر وداره لتشييعه إلى مقره الأخير، وخرج العزيز من القصر على بغلة، والناس يمشون بين يديه وخلفه بغير مظلة، والحزن ظاهر عليه، وأقام ثلاثًا لا يأكل على مائدته ولا يحضرها مَن عادته الحضور، وأقام الناس عند قبر الوزير شهرًا، وغدا الشعراء إلى قبره فرثاه مائة شاعر أجيزوا كلهم. فهذا كله يدل على أنه كان للوزير مكانة في نفس إمامه وفي نفوس معاصريه جميعًا، وذلك لما عُرِف عنه من إنصافه وكرمه وعلمه، وما أظهره من شدة تمسُّكه بأهداب الدين الإسلامي على مذهب القوم.

(٣) المؤيد في الدين داعي الدعاة٥٤

وهل نستطيع أن نتحدث عن علماء الدعوة الفاطمية دون أن نتحدث عن هذا العالم الذي بلغت علوم الدعوة الذروة على يديه، ذلك هو المؤيد في الدين داعي الدعاة الذي عُرِف في تاريخ الأدب العربي بمناظرته مع أبي العلاء المعري في تحريم أكل اللحم، والذي أراد الأستاذ مرجوليوث المستشرق الإنجليزي أن يعرف شيئًا عن حياته فخانه التوفيق، واكتفى بذكر اسمه دون حياته، فعلى الرغم من أن المؤيد لم يكن مصري المولد والنشأة فقد وفد على مصر، وأقام بها زهاء ثلاثين عامًا، واستمع له جمهرة من المصريين، أخذوا عنه علوم الدعوة فأثَّر في الحياة العقلية المصرية بمبادئه التي كان ينادي بها. وفي مصر أخذ عنه لمك بن مالك قاضي الصليحيين باليمن، فنُقِلت عن مصر علوم الدعوة إلى اليمن، وأصبح اليمنيون يدينون للمؤيد بالأستاذية في علوم الدعوة، وفي مصر أنشد المؤيد أكثر قصائد ديوانه، وألقى مجالسه التي بلغت الثمانمائة مجلس، فلا غرابة أن نتحدث عنه في كتابنا هذا، وهو كتاب خاص بمصر.

اسمه هبة الله بن أبي عمران موسى بن داود الشيرازي، وُلِد بشيراز في العُشْر الأخير من القرن الرابع من الهجرة، في أسرة اتخذت العقيدة الفاطمية مذهبًا لها، وكان أبوه حجة جزيرة فارس أيام الحاكم الفاطمي، فنشأ ابنه هبة الله ليأخذ مكانته في الدعوة في هذا الإقليم، وأخذه منذ نشأته بالإلمام بكل شيء يخص الدعوة وأسرارها، وكاتَبَ الحاكم بأمر الله بأن يولِّي ابنه هبة الله أمر فارس من بعده، وبالفعل أصبح هبة الله حجة فارس بعد أبيه، وما لبث أن أصبح يملك نفوس أتباعه فانقادوا له الانقياد كله، فكانوا يفشون إليه أسرارهم الخاصة حتى مع أهل بيتهم، ويضحون في سبيله بأرواحهم، وكثر أتباعه حتى خشي السلطان أبو كاليجار البويهي سطوته ونفوذه، وهَمَّ أن ينفيه مرارًا من شيراز، ولكنه كان يخاف ثورة أتباع المؤيد، وبلغت كراهية السلطان أبي كاليجار للمؤيد أنه كان يكره سماع اسمه في مجالسه، ولكن المؤيد في الدين احتال حتى استطاع أن يتصل بأبي كاليجار، وأن يجعل السلطان يستمع إليه، وأن يعقد مجالس المناظرة بين المؤيد وعلماء المعتزلة والشيعة وأهل السنة؛ فكان المؤيد يبرز على خصومه ومناظريه، فاضطر السلطان أمام قوة بيانه ودامغ حجته إلى أن يخضع للمؤيد، بل لأن يدخل في دعوته، وأن يعقد مجلسًا خاصًّا يلقي فيه المؤيد على السلطان شيئًا من علوم أهل البيت والفقه الفاطمي من كتاب دعائم الإسلام للقاضي النعمان.

كان ذلك كله سببًا في غضب جمهور أهل السنة في فارس، ولا سيما القضاة والعلماء، فأخذوا يوغرون صدور المقربين من أبي كاليجار وندمائه على المؤيد، وانتهزوا فرصةً واتتهم للإيقاع به؛ ذلك أن المؤيد زار أتباعه في مدينة الأهواز، فوجد مسجدًا قديمًا تهدَّمَتْ جدرانه فأمر شيعته بتجديده ونقش على محرابه بالذهب أسماء الأئمة الفاطميين، وطلب من نقبائه الأذان فيه «بحي على خير العمل» أذان الشيعة، وخطب يوم الجمعة باسم المستنصر الفاطمي، فجهر بالدعوة الفاطمية دون خشية، وأعلن عصيانه في بلد يدين للعباسيين، مما جعل قاضي الأهواز يرسل إلى الخليفة العباسي ببغداد ينعي الدولة العباسية وضياع خلافتها على يد المؤيد في الدين، كما ثار أهل السنة على أبي كاليجار، وجاء الوزير العباسي ابن المسلمة موفدًا من قِبَل العباسيين للقبض على المؤيد، وكان أبو كاليجار إذ ذاك يرنو إلى ملك بغداد، فكان بين عاملين: إما ضياع هذه الفرصة من يده في سبيل رعاية ذمة المؤيد، وإما أن يضحي بالمؤيد في سبيل أطماعه.

وأدرك المؤيد تردُّد أبي كاليجار في هذا الأمر، ولا سيما بعد أن قطع السلطان مجالسه الليلية مع المؤيد، ورغبته عن لقائه، فلم يجد المؤيد بدًّا من النزوح عن وطنه، فسار مختفيًا متجنِّبًا الطرق العامة، سالكًا البراري والقفار حتى وصل إلى مصر سنة ٤٣٧ﻫ. جاء مصر يحدوه الأمل فيما سيكون عليه شأنه من جاهٍ وسلطانٍ وتوقيرٍ؛ لأنه خدم دعوته بما لم يخدمها به أحد من الدعاة قبله، وقام بأمرها حق قيام، ولكنه من جهة أخرى كان يعلم أن الأمر في مصر ليس بيدِ إمامه المستنصر، بل كانت السلطة كلها بيد أم المستنصر ووكلائها، أمثال التستري واليازوري وغيرهما، يصرح المؤيد بذلك في سيرته بقوله: «بلغت بشق النفس الباب الطاهر، مترجحًا بين أمل ويأس، ومتعقبًا لملتقى ما يلقاني من طرفي إيحاش وإيناس؛ فأما الأمل فمن جهة خدمة ما خدَمَ مثلَها غيري، حداني حاديها، وناداني بالأهل والمرحب مناديها. وأما اليأس فمن حيث علمت أن المقصود شمس توارت بالحجاب، ووجه نهار تبرقع بالسحاب، وأن المسافة لعلها تقذفني من الإضاعة في يمٍّ، وتئويني من حيث أرادت غنمًا إلى غرم … أدخلوني من باب القاهرة المعزية إلى قصر الخلافة — عمَّرها الله تعالى — فاستلمت على جاري العادة في مثله الأبواب، ولمحت الثريا ترابًا تحت قدمي إذ ترشفت ذاك التراب، وأجلسوني هنيهة لأفيق من غشية الهيبة التي ملأت جوانحي، لما غشيت المسرة بمشاهدة ذلك المقام قلبي وجوارحي، ثم أدخلوني إلى الوزير المعروف بالفلاحي — رحمه الله — فرأيت شيخًا عليه من الوقار مسحة، ومن الإنسانية سمة، فأدنى وقرَّبَ، وأكرَمَ ورحَّبَ، وخرجت فأخذوني إلى دويرة كانت فُرِشت لي، هي من الكرامة في الدرجة الوسطى من الحال، لا بالإكثار ولا بالإقلال …»٥٥

وهكذا استقر بمصر، واتصل برجالها، وحضر مجالس الدعوة فيها، ولكن الوشايات لم تنقطع عنه، والدسائس تحاك حبالها حوله، فكان يقرِّبه الوزراء حينًا ويُبعِدونه حينًا آخَر، فعاش في مصر بين الرضا والغضب، وكثيرًا ما فكَّرَ في الرحيل عن مصر، ولكن القوم لم يسمحوا له بالرحيل، وكان يأمل أن يولى مرتبة داعي الدعاة، ولكنها كانت تفرُّ منه كلما حاوَلَ الإمساك بها، وأخيرًا عيَّنَه الوزير اليازوري رئيسًا لديوان الإنشاء، وزاد في معاشه، فتحسَّنت حاله، فظل في هذا العمل إلى أن علم بقيام طغرلبك التركماني لامتلاك بغداد، وهنا تظهر لنا موهبة المؤيد وتوقُّد ذكائه؛ إذ أدرك أن التركمانية خطر على الدولة الفاطمية، وأنه إذا تمَّ أمر بغداد لطغرلبك فإنه لا ينثني عن محاربة أملاك الفاطميين في بلاد الشام وأعالي الجزيرة، فأسرع المؤيد في درء هذا الخطر عن أملاك إمامه، فكاتَبَ رجال طغرلبك يستميلهم إلى الدعوة الفاطمية، كما راسَلَ البساسيري وغيره من رجال العباسيين الذين يحقدون على التركمانية، ويخشون تملُّكهم للبلاد، ووعد هؤلاء بإمدادات الفاطميين إن قاوَموا طغرلبك.

أما البساسيري ورجاله فرحَّبوا بالعمل باسم الفاطميين، على حين لم يستجب رجال طغرلبك. فأيقن المؤيد أن الحرب لا شك ناشبة بين الفاطميين والتركمانية، فنشط للدعوة بين الوزراء ورجال مصر لحرب طغرلبك، ووجدت دعوته قبولًا منهم، وأعَدَّتْ مصر الخلع والسلاح والعتاد والأموال، وأنفقت الدولة على هذه الحملة أموالًا ذكرها المؤرخون في كتبهم، وهي الأموال التي أدت إلى ضعف مصر اقتصاديًّا، وجرَّتْها إلى ما عُرِف بالشدة العظمى، وطُلِب من المؤيد أن يكون على رأس هذه القافلة لتسليم هذه الذخائر إلى البساسيري، فاعتذر المؤيد، ولكن المستنصر الفاطمي أصدر أمره بأن يكون المؤيد على رأس الركب، فلم يسع المؤيد إلا الخضوع لأمر إمامه، وطُلِب المؤيد لأن يلبس خلع الوزارة فأبى وأمعن في الإباء.

وهكذا بدأ المؤيد حياة جديدة، حياة الرجل العسكري وحياة السياسي الداهية، فقد خرج من مصر وليس معه جندي واحد، وإنما كانت معه ذخائر وأموال وعتاد حربي، ورسم له أن يصطنع من الأعراب وأمراء البادية ومن العرب والأكراد مَن يشاء، ويغريهم جميعًا بالأموال والألقاب من قِبَل الفاطميين، فإذا كانت إنجلترا تعترف لأحد أبنائها وهو «لورنس» بخدماته في تأليب العرب على العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، وتشيد بذكر أعماله وتمجِّد بطولته، فكيف ينسى المصريون المؤيد في الدين وقيامه بما عهد إليه من حفظ ممتلكات الفاطميين، بل ما أدَّاه من نشر الدعوة الفاطمية في بلاد لم تُذكَر الدعوة فيها من قبلُ، وفي إعادة بلاد أخرى كانت خرجت عن الدعوة وسلطانها. لقد وصف لنا المؤيد في سيرته حركاته ومكاتباته مع أمراء العرب، وكيف استمالهم جميعًا للنهوض معه في حرب التركمانية ومساعدته في طردهم من العراق، حتى تكاثَرَ الأنصار حوله، وسارع أمراء الكوفة وواسط وحلب إلى الدعوة باسم الإمام المستنصر، فاستطاع المؤيد بما تجمَّع حوله أن ينتصر على طغرلبك في موقعة سنجار التي ذكرها الشاعر ابن حيوس في قصيدة منها:

عجبت لمدعي الآفاق ملكًا
وغايته ببغداد الركود

وبهذا النصر الذي أحرزه المؤيد دانت له الموصل والجزيرة وديار بكر، ولكن جموعه كانت تضم نفوسًا متباغضة متشاحنة، فسرعان ما دَبَّ بينها النفور، وحلَّ الشقاق، وتفرَّقَ عنه أكثر الأمراء حسدًا منهم لمَن قرَّبهم المؤيد إليه، ووصف المؤيد حالهم بأنه كان بين ذئاب تتخادش وكلاب تتهارش. وكان يحاول تهدئتهم وإصلاح ما بينهم فلم يُوفَّق، وعلم طغرلبك بحالهم فأسرع إليهم وهزمهم، وكان المؤيد إذ ذاك في الرحبة، فاصطنع الصبر والثبات وأخذ يحث مَن تفرَّقوا عنه إلى الرجوع إليه ويعدهم ويمنيهم، ولكنها كانت صيحة في وادٍ، وخشي أن يدركه العدو وهو حي، فآثَرَ أن ينسحب إلى حلب واتخذها مقرًّا لقيادته، وكانت حلب في يد المرداسيين الذين قطعوا خطبة الفاطميين، فما زال المؤيد بهم حتى سلموا بلدهم إلى الوالي الذي أرسله المستنصر الفاطمي.

وفي حلب استطاع المؤيد أن يتصل بإبراهيم بن ينال، وأغراه أن يخالف طغرلبك، ووعده بالتلقيب والخلع الفاطمية، فكانت مؤامرة ناجحة؛ إذ انفصل إبراهيم بن ينال عن جيوش طغرلبك وخرج هذا لمحاربته، فانتهز المؤيد هذه الفرصة، وأمر البساسيري بالمسير إلى بغداد، فتَمَّ له ذلك سنة ٤٥٠ﻫ، ودعا على منابرها باسم المستنصر الفاطمي لمدة عام، ولو كان وزراء مصر استمعوا لنصائح المؤيد لتغيَّرَ وجه التاريخ الإسلامي، ولكانت هذه الحركة سببًا في محو الخلافة العباسية منذ دخلت جيوش البساسيري بغداد سنة ٤٥٠ﻫ، ولكن المؤيد عاد إلى مصر دون أن يحفل به أحد، ولم تحتفل مصر بامتلاك بغداد فلم يُنفَخ فيها بوق واحد، ولم يُقرع فيها طبل واحد، ولا غرابة في ذلك فقد كان الوزير في مصر إذ ذاك هو الوزير المغربي الذي لم يَنْسَ ما فعله الفاطميون بأجداده وآبائه، وهكذا أضاع وزراء مصر تلك الفرصة الذهبية التي هيَّأها لهم المؤيد بدهائه وسياسته.

عاد المؤيد إلى مصر فولي مرتبة داعي الدعاة، وبذلك أصبح في المرتبة التي شقي بالتطلُّع إليها ردحًا طويلًا من الزمان، ولكنه لم يمكث في تلك المرتبة طويلًا؛ إذ خشى الوزراء مكانته ونفوذه وسلطانه فنُفِي مرة من مصر، ثم أُعِيد إليها وولي مرتبة الدعوة، ثم عُزِل عنها وولي ديوان الإنشاء مرة ثانية، وهكذا عاش حتى توفي سنة ٤٧٠ﻫ بالقاهرة، ودُفِن في دار العلم بجوار القصر، وصلى عليه الإمام المستنصر نفسه.

كان المؤيد في الدين من أكبر علماء عصره، وتدلنا كتبه التي وصلت إلينا على أنه كان واسع الثقافة ملمًّا إلمامًا تامًّا بجميع العلوم التي عُرِفت في العالم الإسلامي إذ ذاك، قوي الحجة في مناظراته وجداله مع مخالفيه، وقد صدق أبو العلاء المعري حين وصفه بقوله: «وسيدنا الرئيس الأجَلُّ المؤيد في الدين، ما زالَتْ حجته باهرة ودولته عالية … ولو ناظَرَ أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه.»٥٦ ويكفي أن ننظر إلى مناظرات المؤيد مع المعري لندرك كيف كان شيخ المعرة يتهرَّب من هذه المناظرة، وأنه كان يخشى قوة منطق المؤيد وحجته مع فصاحة بيانه، فاعترف له بالتفوق في الجدل، وأنه ورث علم الأولين.
وضع المؤيد في الدين عدة كتب أهمها:
  • (١)
    المجالس المؤيدية: وهو أكبر كتاب وصل إلينا في الدعوة الفاطمية؛ إذ يضم هذا الكتاب ثمانمائة مجلس من مجالس الدعوة التي كان يلقيها المؤيد، ويثبت من هذا الكتاب أن الدعوة وعلومها بلغت ذروتها على يد المؤيد، ويُعَدُّ هذا الكتاب من أقوى الكتب عند طائفة البهرة، ولا يقربه إلا مَن بلغ مرتبةً خاصةً من مراتب دعوتهم. وقد رتب حاتم بن إبراهيم الحامدي الداعي اليمني هذا الكتاب، وقسَّمَه إلى أبواب حسب موضوعاته، وسمَّى الكتاب «جامع الحقائق»، وإذا نظرنا في كتب الدعوة لدعاة اليمن، نرى أن جميع الدعاة كانوا يقتطفون من المجالس المؤيدية ويستشهدون بها. ونرجو أن نُوفَّق إلى نشر هذا الكتاب القيِّم، فهو موسوعة في علوم الدعوة الفاطمية، وفي هذه المجالس نرى مناظرات المؤيد وردَّه على المخالفين.
  • (٢)
    ديوان المؤيد في الدين: كان المؤيد شاعرًا كما كان أديبًا وعالمًا، وقد وصل إلينا ديوانه، فإذا به مجموعة من قصائده التي أنشدها في مدح الأئمة، وفي هذا الديوان نرى تطوُّر حياة المؤيد، ووصف أحواله، وإشارات إلى جهوده، كما ملأ قصائده بالعقائد الفاطمية ومصطلحاتها. وطُبِع هذا الديوان بشركة الكاتب المصري في سلسلة مخطوطات الفاطميين.
  • (٣)
    السيرة المؤيدية: ولعل هذا الكتاب أقوم كتاب تاريخي يفصِّل لنا الحياة السياسية والاجتماعية في فارس والعراق ومصر، في المدة من سنة ٤٢٩ حتى سنة ٤٥٠، كما يُعَدُّ سجلًّا للوثائق التي تبودلت بين المؤيد وأمراء العرب، وبينه وبين الوزراء المصريين إبَّان الثورة التي عُرِفت في التاريخ باسم ثورة البساسيري، وكذلك لم أجد كتابًا من كتب التاريخ تحدَّثَ عن هذه الثورة كما تحدَّثَ عنها المؤيد، ولا غرو في ذلك؛ إذ كان المؤيد سبب هذه الثورة ومدبِّرها والمشرف عليها. وقد طُبِع هذا الكتاب بشركة الكاتب المصري في سلسلة مخطوطات الفاطميين.

وللمؤيد غير هذه الكتب كتاب شرح المعاد، وكتاب الإيضاح والتبصير في فضل يوم الغدير، وكتاب الابتداء والانتهاء، وكتاب تأويل الأرواح، وكتاب نهج العبادة، وكتاب المسألة والجواب، وترجَمَ إلى اللغة الفارسية كتاب أساس التأويل للقاضي النعمان، وهو في تأويل قصص الأنبياء.

ويُعتبَر المؤيد أستاذ الدعوة في اليمن والهند، فعنه أخذ القاضي لمك بن مالك علوم الدعوة، وعاد إلى اليمن يلقي على المستجيبين ما تلقَّاه عن المؤيد. كما يُعَدُّ أستاذ ناصر خسرو الشاعر الفارسي المعروف، فقد ذكره ناصر في أشعاره، ووصف مجالسه، وهكذا كان للمؤيد أثر في الحياة السياسية والعقلية والأدبية.

١  راجع ما كتبناه عن بني النعمان في مقدمة كتاب الهمة في آداب اتِّبَاع الأئمة (طبع دار الفكر العربي).
٢  راجع ما كتبناه عن بني عبد الحكم في كتاب أدب مصر الإسلامية — عصر الولاة.
٣  I’A O.S. 1907 pvol. XXVII P.227.
٤  I.R S. I I P. 34.
٥  وفيات الأعيان: ج٢، ص١٦٦.
٦  المصدر نفسه.
٧  المستدرك: ج٣، ص٣١٣.
٨  النجوم الزاهرة: ج٤، ص٢٢٢.
٩  رفع الإصر: ص١٣٦ ب، نسخة خطية بدار الكتب المصرية.
١٠  ابن خلكان: ج٢، س١٦٦.
١١  ابن خلكان.
١٢  المجالس والمسايرات: ورقة ٧٥ ب.
١٣  ابن خلكان: ج٢، ص١٦٦.
١٤  كتاب عيون الأخبار: ج٦، ص٤١.
١٥  السيرة المؤيدية.
١٦  ابن خلكان: ج٢، ص١٦٦.
١٧  راجع ما ذكرناه عن ذلك في مقدمة كتاب المجالس المستنصرية.
١٨  رفع الإصر: ورقة ٨٥.
١٩  يتيمة الدهر للثعالبي: ج١، ص٣٠٥.
٢٠  يتيمة الدهر للثعالبي: ج١، ص٣٠٦.
٢١  دمية القصر للباخززي: ص٨٨.
٢٢  يتيمة الدهر: ص٣٠٥. وابن خلكان: ج٢، ص١٦٧.
٢٣  ابن خلكان: ج٢، ص١٦٧.
٢٤  رفع الإصر: ص١٢٩.
٢٥  ابن خلكان: ج٢، ص١٦٨.
٢٦  ابن خلكان: ج٢، ص١٦٨.
٢٧  المصدر نفسه.
٢٨  ابن خلكان: ج٢.
٢٩  الكندي: ص٥٩٤.
٣٠  ابن خلكان: ج٢، ص١٩٨.
٣١  رفع الإصر: ص١٢٩.
٣٢  الكندي: ص٥٩٦ وما بعدها.
٣٣  الكندي: ص٦٠٣.
٣٤  المصدر نفسه.
٣٥  السيرة المؤيدية.
٣٦  المقريزي: ج٣، ص٧.
٣٧  ابن خلكان: ج٢، ص٣٣٣.
٣٨  معجم الأدباء لياقوت: ج٧، ص٢٢٥.
٣٩  المقريزي: ج٣، ص٨.
٤٠  ابن خلكان: ج٢، ص٣٣٤.
٤١  ابن خلكان: ج٢، ص٣٣٤.
٤٢  أخبار الحكماء للقفطي: ص٧٤.
٤٣  الإشارة إلى مَن نال الوزارة: ص٢٢.
٤٤  ابن خلكان: ج٢، ص٣٣٤.
٤٥  المقريزي: ج٢، ص٣٣٤.
٤٦  معجم الأدباء: ج١٠، ص١١٨، ط دار المأمون.
٤٧  خطط المقريزي: ج٢، ص١٦٩.
٤٨  خطط المقريزي: ج٣، ص٩.
٤٩  المصدر السابق.
٥٠  المصدر السابق.
٥١  يتيمة الدهر: ج١، ص٢٣٩.
٥٢  ابن الأثير: ج٩، ص٤٨.
٥٣  المقريزي: ج٣، ص٩.
٥٤  راجع «ديوان المؤيد داعي الدعاة»، وكتاب «السيرة المؤيدية» — طبع شركة الكاتب المصري.
٥٥  «السيرة المؤيدية» — طبع شركة الكاتب المصري.
٥٦  انظر الرسالة الثانية من الرسائل التي دارت بين المؤيد في الدين وأبي العلاء المعري، في معجم الأدباء ج٣ ص٢٠٢، طبعة دار المأمون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤