عَبقر لشفيق مَعلوف

١

قصيدة عدد أبياتها مائتان وثلاثة وسبعون بيتًا، أكثرها مقفى على الطراز العربي، والبعض الآخر على النمط الفرنجي العتيق، بحرها هادئ غير عجَّاج، رخو قليل الحيل كالكاهن سطيح أحد أبطالها، أما عناوينها فستة وعشرون عنوانًا.

أخرجت هذه القصيدة في مائة واثنتي عشرة صفحة، منها إحدى وعشرون بقلم والد الشاعر الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، مطبوعة على ورق صقيل فاخر، مزيَّنة برسوم رائعة أبدعتها ريشة المصور الطلياني فرنكوشيني، ولولا تقطُّع بعض الحروف عند ضبطها لسلم إخراجها من كل عيب.

موضوع القصيدة شِبْه قصة هذا مساقها: ينام الشاعر فيتضحَّى، وتدق ساعة اليقظة فينهض — لم يذكر إذا كان تمطى أو فرك عينيه — فيرى غمامة يسير تحتها شيطانه، يقبل الشيطان نحو شفيق ويحييه، فيسأله عن مقدمه السعيد، فيخبره الشيطان أنه آتٍ من عبقر، ويدعو الشاعر إلى زيارتها، فيركبه شفيق ويطيران إلى «البلد المرصود» فيعجبه الموضع؛ يطوف بالأبراج، فيرى الجن أشكالًا وألوانًا، على نسق ما أنبأنا «السنكسار» عن ظهورها لآبائنا القديسين، وكما صوَّرها فلوبير في روايته «تجربة القديس أنطونيوس»: أقزام يركبون مطايا من يرابيع وأنعم وديوك وعظايات وقنافذ وسلاحف، وإن كنتَ ملِحًّا تريد أن تفهم جيدًا كيف يكون عالم الجن فعليك بالجاحظ.

ونزل الشاعر عن ظهر شيطانه مرة ثانية أمام «عرافة عبقر»، ومن صفات عجوز الخير هذه أنها تتزنر بثعبان، ومع هذا الزنار العجيب يرتخي ظهرها، فترتاع العرافة لرؤية الشاعر ويهز الدنيا صريخها وتُسمِع الشاعر كلامًا فجًّا، تدعس في آخِره على ذيله؛ يغضب شاعرنا غضب فزع، أي بهدوء ولين، فيهدِّئ شيطانُه روعَه — وهذه أول مرة يكون فيها الشيطان ابن حلال، محب السلامة — ويحكي له حكاية أميرة الجن اللهبانة، فيسفهها الشاعر وشهوتها التي لا تشبع، وتغني الجنية مشتاقة إلينا لتطفئ نارها، وتتمنى إتعابنا وعذابنا لتحضن وتحتضن.

وينقلنا الشاعر من عند هذه الجنية الجميلة التي أبدعت تصويرها ريشة المصور أكثر من قلم الشاعر، إلى الكاهن سطيح، ثم إلى المحترم الآخَر شِق، فيسألهما حكمةً فيعلمانه شيئًا كلا شيء، أي ما يعرفه مفكر بين بين.

وينتقل الشاعر فجأةً حتى بدون «دَعْ ذا» النابغة، إلى غابة الحور فيريناهنَّ في أعشاش، ويقول له شيطانه: إنهن أتعبن شياطين جهنم فشكوهن إلى الله، فنفين إلى عبقر رحمةً بالأبالسة، وحفظًا لسلامة دولة النار، فقد كُنَّ يطفئن الوقيد … وهنا يسمعنا الشاعر نشيدًا كله عتب على الله الطويل الروح والبال — والعتب على مقدار المحبة — فهو الذي خلق لهن قلوبًا تحب، فكيف يعاقبهن على فعلتهن؟ ولا ينتهي حديث هذه الجنية حتى نقف «على حدود عبقر»، فنرى مقبرة ولكن العظام فيها مكشفة، وما تلك إلا عظام الشعراء ينقلها شياطينهم من أقاصي الأرض إلى عبقر، المدينة الأزلية. يسأل الشاعر المعلوف تلك العظام الهزيلة عن ماضيها ولياليها، فيخرج من عندها بأنه لا يبقى إلا أحلام الشعراء، ويرفض أن تقام لهم الأنصاب والتماثيل، ويقول هو أو الشعراء: كل شيء بلا الحب المعلوم خراب، وهنيئًا للأرض.

هذا سياق رؤيا الشاعر، أما كيف دبَّرَ خطته بالتفصيل، وأين قصَّرَ وأجاد، فهذا ما نقوله لك بعد كلمة لا بد منها في هذا المقام.

قال الخليل بن أحمد: لا يصل أحد من علم النحو إلى ما يحتاج إليه حتى يتعلم ما لا يحتاج إليه، ونحن نطلب كثيرًا لنحصل على كفاف يومنا، أما إذا صحَّ فينا المثل: «مَن طلَبَ الزيادة وقع في النقصان»، فتلك مسبة، فالرجاء من إخواننا أن يصبروا علينا، ولا يتهمونا بالتعنُّت والتقعُّر.

جاء في القرآن الكريم: الشعراء في كل وادٍ يهيمون، وما في هذا شك، فهذا واحد منا يذهب اليوم إلى أروع الأودية، كما ذهب قبله كثيرون إلى جهنم والسماء من يوحنا وأغوسطينوس إلى أعمى المعرة ودانتي شاعر الطليان، فإيمان الشعراء بشياطينهم قوي، حتى إن العقاد قال شيئًا فيه، فأغوى الدكتور طه حسين.

أنا لا أستكثر هذا، فالشعراء شركاء ربنا في تدبير الكون، والمتفلسف منهم يظن أنه هو الله بعينه، وقد يقتنع بأنه ابن عمه، أو على الأقل ابن ضيعته!

ولكي نبرئ ذمة شاعرنا من الاعتقاد بالشياطين، نروي للقارئ حكاية الفرزدق حين أفحمه الأنصاري، فركب ناقته مع الفجر حتى بلغ ذباب «جبل المدينة»، فنادى بأعلى صوته: أخاكم! «يعني شيطانه»، فجاش صدره كالمرجل وقالها مائة وثلاثة عشر بيتًا، وهي التي على الفاء، ومطلعها «عزفت بأعشاش … إلخ.» والتي يقول الرواة أنه اغتصب بيتها المشهور:

ترى الناس إنْ سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

ولما سمعها الأنصاري قام كئيبًا.

إن قصص الشعراء مع شياطينهم أطول من قصص الحيات، وأخبار الجن أكثر، وللعرب في عبقر وسكانها حكايات طريفة يرويها لك الجاحظ مترصِّنًا، فتخاله يجدُّ وهو يهزأ ويمزح ويسخر، وقد قسم هذه الطوائف؛ إذ روى عن ابن عباس قال: «السود من الكلاب الجن، والبقع منها الحن، ويقال أن الحن ضعفة الجن، كما أن الجني إذا كفر وظلم وتعدَّى وأفسد قيل شيطان، وإنْ قوي على البنيان والحمل الثقيل وعلى استراق السمع قيل مارد، وإن زاد فهو عفريت، فإن زاد فهو عبقري.» (كتاب الحيوان جزء ١ ص١٤١) أرأيت أن سادتنا العباقرة أرقى رتبةً من العفاريت والشياطين؟ حقًّا إن الشعراء عفاريت وشياطين كبار، أعوذ بالله من مطامعهم!

•••

لا نحتاج إلى كد فكر لنعرف ما أوحى إلى الشاعر شفيق موضوعه هذا، فهو أخو فوزي، المرحوم فوزي ركب الطائرة، فلا بدع أن يركب شفيق شيئًا آخَر، فكان شيطانه، ورحل كأخيه في طلب الحكمة والفلسفة، طلبها برنردين دي سان بيار بواسطة صاحبه في الكوخ، وطلبها المعلوفيان فوق الفوق وتحت التحت، وإن يحذُ أحدهم حذو الآخَر فنحن — اللبنانيين — مشهورون باحتكار المهن في بيت واحد نتوارثها خلفًا عن سلف، وليخلف علينا الله ما شاء.

قد جعلنا في هذه القصيدة كلَّ وَكْدِنا، فجئنا ننقدها مقطعًا مقطعًا؛ لأن أدبنا يسير على درب جديدة، وشعراؤنا الجدد يطرقون أبواب الأدب العالي، فلا يليق بنا أن نقف قبالتهم مكتَّفِين؛ ولذلك سنقول كلمتنا في هذه القصيدة البديعة لنرى ما بلغ شاعرنا شفيق من التوفيق. لم تلهني فخامة طبعها وطرافة رسومها عن كلماتها، فقد غمضت عيني عن ذلك، فالناقد كالأثري لا يستهويه تخريم التحفة، وشرف معدنها، فقد يرمي قطعة مزوَّقة، ويعنى بصحن فخار مشروم أكثر من تمثال مصوغ من ذهب عياره أربعة وعشرون.

عبقر ككل القصائد فيها شعر وفيها نثر، أي شعر كالنثر، والكمال لله، وكيفما قلبتها يظل اسمها أكبر منها ككل أسطورة، والذي عندي أن الشاعر قدَّم طبيخه للناس قبلما نضج، وسيندم بعد حين ويذكر كلامي هذا — بعد عمر طويل — وإنْ سؤته اليوم فسوف يترحَّم عليَّ غدًا، ويذكر بالخير إخلاصي له وللفن، فأنا واحد من الذين يعلنون رأيهم بلا محاباة، ولو سُحِبوا من المجلس كإسحق، ولعنة الله على كل مُخارق.

إني أرى القصيدة تمشي مشيًا وئيدًا كتلك الجِمَال، وهي لا تمشي مشيًا هينًا لينًا، فإما أن شيطان شفيق عنيد غير رهوان، وإما أن شاعرنا غير خيَّال، يأخذ الشاعر حوادثها واحدة واحدة كأنه مستنطق يبحث عن الجاني، فيخشى التقاء المتهمين، أو دنوهم من بابه لئلا يفسد التحقيق، أو كأنه رجل يزور ضيعة فيدخل من باب ويخرج من باب، والضيافة معلومة فنجان قهوة، وشيء من النقولات أحيانًا؛ ولهذا جاءت عبقر باردة الحركة جامدة، فلا حياة فيها ولا في أبطالها، فكأنهم ليسوا جنًّا ولا عفاريت.

عالج المعلوف موضوعًا يشبه موضوعَي المعري ودانتي من ناحية، أما قال هكذا مَن انتقدوا، والصحيح مَن قرظوا، هذه القصيدة؟ إننا نجاريهم في هذا الزعم، ولكن شاعرنا بَلَا نفسه وبَلَانا معه بشخوصه الوهمية، فلم تتحرك تحت قلمه، رغم اجتهاده وجهاده، إلا تحرك من تهوَّر قلبه عند الحقن ونخز الإبر. استعار شاعرنا شيئًا من دانتي، ولكنه لم يعش في إقليمه، فهذه القباب والأبراج مثل التي في «مدينة الشيطان» لدانتي، وهذا النور من نارها، والفرق بين النار والنور بعيد، وحرس أبواب جهنم دانتي طغمة من الأبالسة كحرس عبقر المعلوف، وبنات الشر الثلاث يصرخن صراخ «أميرة الجن» المتمردة مثل «ماريناتا» ودانتي.

ابتدأ الشاعر قصيدته كما يبدأ الطالب فرضه، فلا بد من أن يذكر ماذا كان يصنع قبل أن عالج موضوعه، وهكذا فعل شاعرنا، فقال لنا قبل رحلته إلى بلاد أحبابنا:

صاحِ هي اليقظة دبَّت على
جفنيَّ فاستلانت الموطئا
وعالجت بالنور بابيهما
حتى استخارت فيهما ملجأ

جميل جدًّا دبيب اليقظة، ولكن لي على هذا الافتتاح اعتراضات جمَّة؛ إنه لم يدل القارئ على شيء من خطورة الموضوع، بل لم يقربه منه أبدًا، وهذا شرط من شروط الملاحم إن كانت عبقر ملحمة كما زعموا، ثم كان في مكنة الشاعر أن يتخلص من «صاح» التي تذكر بصاح هذه قبورنا … إلخ. أو بخليلي مرَّا بي على أم جندب. والصورة في البيت الثاني جميلة أيضًا، ولكن الشاعر لم يحسن استعارة البابين، فركبهما لمَن ليسا له، ثم ماذا رأى في «استخارت»؟ فهي — بلهَ كراهةَ لفظها — غلط لغوي، فليست بمعنى تخيرت كما أراد الشاعر.

أما ما قالته اليقظة للشاعر فجميل، وجميل مثله الكلام الذي قاله الشاعر لها، ولكن البيتين الأخيرين أخوا النثر:

ومن تكن حالته حالتي
لم يستعض بالأسوأ السيئا
ما الفرق في نومي وفي يقظتي
وكل ما في يقظاتي رؤى

فقوله «ما الفرق في نومي وفي يقظتي» لا نرضى به في قصيدة نتمنَّى أن تكون من بنات السلامة، لو كانت من شعر المناسبات الذي يموت بموتها لهان الأمر، ولكن نظرتنا إليها أكبر وأوسع.

ويستيقظ الشاعر بعد ما تضحَّى، فيرى شيئًا جميلًا وصفه لنا بقوله:

على الربى استلقى شعاع الضحى
يعبث فيه الأرج العاطر
فعانق الزهر وضمتها
غمامة علقها الناظر

الوجه يعبث به. ويظهر الشيطان لشاعره سائرًا تحت تلك الغمامة، فوصفه الشاعر فأبدع، ولا سيما في البيت الثالث:

في فمه من سقر جذوة
منها يطير الشرر الثائر
ووجهه جمجمة راعني
أنيابها والمحجر الغائر
كأنما محجرها كوَّة
يطل منها الزمن الغابر

ولكن في هذا الشيطان — كما وصفه الشاعر — ملامح جهنمية، فهل عبقر سقر يا تُرَى؟ أما إقبال الشيطان على شاعره فكان بليدًا، ثم شرع يحدِّثه حديث سائق سيارة ينتظر خروج الخواجة من البوابة:

أقبل نحوي قائلًا إنني
طوع لما يقضي به الآمر
أتيت والليل طوى ذيله
فعمَّ صباحًا أيها الشاعر

أما التحية فلولا أنها جاءت متأخرة لكانت طبيعية، فهذه تحية الجاهلية، ونحن فيها، كما علمت من ذكر شق وسطيح، ولكن طيَّ الليل ذيله غير مستحبة، إلا إذا اعتبرناها من لغة الشيطان — كما فعل بشار مرة — فالشيطان ذو ذَنَب كما صوَّروه لنا، ولا حرج عليه أن يخطر على باله.

٢

أما حديثه مع شيطانه فعاديٌّ: من أين جئت؟ أمن فوق أم من تحت؟ فيقول الشيطان إنه قادم من عبقر التي:

تسوس فيها الجن عرافة
ترى بزجر الطير ما لا يرى
ساحرة مطلسم مسحها
تطوي به الأجيال والأعصرا

رائع هو هذا المسح المطلسم، وسحر البيان يدبُّ في هذا البيت دبيب الخمرة الأخطلية، ولكنني أعجب كيف تخصص هذه العرافة الجليلة بزجر الطير، ثم لا نرى ريشة واحدة في العالم الذي تعيش فيه، اللهم إن يكون الديك منها، ولكنه لا يلائم الكهنة إلا على السفرة.

ويدعو الشيطان الشاعر، إلى مجهل موعر، إلى عبقر حيث:

جن من النور جلابيبها
من كل سعلاة ترى نيرًا
تضطرب الأرض متى أقبلت
قاذفة عزيفها المنكرا

لماذا استعار لهؤلاء الجنيات ثيابًا من النور؟ وهل يكون العزيف أشد هولًا في النور فتضطرب له الأرض؟ وهذا الشيطان الذي قال للشاعر منذ هنيهة: إنه «طوع لما يقضي به الآمر» قد أصبح الآمر الناهي. قل لا غرابة في هذا، فمن طبيعة أصحابنا الشياطين أن يغووا الناس ويوسوسوا لهم، فمما قال لشفيق:

فقم بنا صاحِ إلى عبقر
نؤم ذاك المجهل الموعرا

حتى رأينا الشاعر راكبًا شيطانه على الجلد، بلا حزام ولا لجام ولا ركاب، عرفنا ذلك من قوله:

وانطلق الشيطان في الجوِّ بي
كأنه النيزك أو أسرع
مكنت من فقاره قبضتي
مندفعًا أصنع ما أصنع

يعلم الله ماذا، بل ماذا يعنينا مما يصنع؟ وسافر شفيق مخاطرًا بنفسه، ورأى شحنة شيطانه المفزعة ولم يضرب له عرق، لم يقل في أحرج المواقف أكثر من «راعني»، فكان أثبت جنانًا من عمر في ليلة ذي دوران، غير أنه أحسَّ برهبة في هوة فزاد على راعني «واهي الجنان». وسألت نفسي لماذا لم يَعُدْ شفيق لهذه الرحلة قبل أن حميت الشمس؟ فلو وصف شيئًا من غرائب الطريق لقام له عذر، ولكنه كان في طيرانه ووقوعه أسرع من النور. قبل أن رحل دانتي رحلته العظيمة وصف لنا رعبه وخوفه، ثم غشي عليه مرات، أما شفيقنا فكما رأيته، انطلق في الجو كالسهم، ثم تهاوى ككواكب بشار بن برد، إلى موضع أعجبه كثيرًا فوصفه لنا ببلاغة مار بولس الذي قال بعد رجوعه من السماء: لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعده الله للذين يحبونه. لقد قال شفيق أخصر من هذا وأوجز:

ثم تهاوَى بي إلى موضع
ما راقني من قبله موضع

وكذلك فعل في وصف الأبراج:

فيا لأبراج ضخام البنا
ملء الثرى ملء السموات

إن «جوامع الكلم» كثيرة في قصيدته هذه، وما عليك إلا أن تختار أنت ما يحلو لك من الصور. تصور أبراجًا ملء الثرى، ملء السماوات، وقُلْ سبحان الخالق! أما عبقر فخطَّطها على:

غمائم زرق على متنها
منازل جدرانها تسطع

أشهد أنه أصاب جدًّا، فالعرب يخافون الجن ويتطيرون من العيون الزرقاء، ولكنَّ إنارة الجدران بأشعة رنتجن حتى سطعت جدرانها لا تواتي السكان الذين قال فيهم الشاعر:

أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا ظلامًا

ما لنا وكل هذا؟ فقد تكون عبقر باردة كما زعموا، وقد يكون سعر النور رخيصًا في تلك البقعة الخافية، وقد تكون الشركات في عالم الجن تهاود ولا تطمع … ووصف الشاعر عبقر بلسان شيطانه وصفًا مفزعًا:

تثور في أبراجها ضجة
بها يضيق الأفق الأوسع
عزت على الإنس فمن حولها
أبالس الأبراج تستطلع
جهاتها الأربع مرصودة
تحرسها الزعازع الأربع
ما أفلت الأنسي من زعزع
إلا تلقَّى صدرَه زعزع

ثم دخلها وطاف بأبراجها كعقيد جيش يفتش الخنادق والمكامن، وما خاف ولا اصفرَّ، رأى الجن أشكالًا وألوانًا:

فمن يرابيع ومن أنعم
إلى ديوك وعظايات

ثم ركب شيطانه إلى عبقر، لا يلتفت إلى «أنعم» ليعلم أنها ليست من أنعم الله التي لا تكفر، لم أعرف المسافة التي بين الأبراج وعبقر، ولكن الركوب خطرة ثانية يدل على البُعْد، ولولا ذلك لتمشى الشاعر وشيطانه ووصف لنا ما هنالك وأرانا ما لا نرى، ولم يجعل أكثر هذه القصيدة تحويمًا وتدويمًا.

وحوَّم الشيطان على عبقر يشعرها بعوده، وحطَّ أمام العرافة التي قال في وصفها:

كأنما الله لدى بعثها
زوَّدها بكل ما في سقر

فاستعاذت بالشيطان من شر الشاعر؛ لقد غاظ قدومه العرافة وروَّع الجن. سمعنا أن الناس يخافون الجن، أما شفيق ففزعهن ورهبهنَّ فاختبأن بين الشجر! أتقول إنه صلَّب يده على وجهه؟ أو قال في قلبه على الأقل: باسم الصليب المقدس، شرط الندامة عند الموت لريح الغفران الكامل، والذهاب توًّا إلى الفردوس؟ وإلا فما سبب خوف الجنِّ الشديد؟ ولماذا تدمدم العرافة سخطًا حتى اقشعر أديم الأرض تحت الشاعر؟ ولكنه كان — والحمد لله — أشد تماسكًا من بحتري السينية، فاهتزت الأرض ولم يهتز، أما العرافة فانفشَّت كربتها في الحال، فهدأت وصارت وديعة كالحمام، وحكيمة كالحيات، بَيْدَ أنها فلتت لسانها ككل عجوز غضبانة، وعيَّرت الشاعر بما تعيِّر به العجائز: مكار، شرير، حية سوداء، وبكلمة مختصرة: أزعر. وإليك بعض كلامها منظومًا:

وددت يا غادر لو أنني
أطلقت شيطاني لا ينثني
عنك فيرديك ولكنني
أخشى على الشيطان من غدرك

شعر من طراز شعر ابن أبي ربيعة المصرع، وهذا نموذج منه:

يا ذا الذي في الحب يلحى أما
تخشى عقاب الله فينا أما
والله لو حملت منه كما
حملت من حب رخيم لما
لمت على الحب فدعني وما
أطلب إني لست أدري بما
قتلت إلا أنني بينما
إلخ … … … …

أو كما كتب تيوفيل غوتيه شعرًا على قافية واحدة إلى شارل غارنيه جوابًا على دعوة لعشاء. ترى العرافة الشاعر شرًّا من الأفاعي وأشد غدرًا ومكرًا، وقد أخطأ الشاعر حين قوَّلها:

ليس هذا الصل بالأفعوان
بل أنت يا إنسان!

فالصلُّ كما عرفه القاموسيون أخبث جدًّا من الأفعوان، وإن كان اسم الأفعوان أطول. وما أظن الجاني هنا إلا القافية، وكم بذمة هذه الجارية من ذنوب! ثم ماذا نخسر لو ألصقنا هذه الخطيئة بالحية ولعنَّاها، فهي التي أدخلتنا اليوم والأمس في التجارب؟!

وبلسان العرافة أفهمنا شفيق أيضًا أن الجن أشد إيمانًا بالله منا:

جعلتَ نفسك أعلى
في الأرض من ربك

وبعد أن تصمنا العرافة بحب الذات وأكل الأموات — وهذا النعت الأخير يليق بالشعراء — تتنبأ للإنسان أن ليس خلف ضحاه إلا دجى ليله. حاول الشاعر أن يعالج مسألة الخلود الهرمة، فتوسَّل إلى ذلك بغسالة من المخلوقات كشق وسطيح، وغيرهما من جن وحن، فأساء إلى الفلاسفة الذين يحلمون بحيوات أخرى — لا أدري كيف أجمعها لأرضيهم، وكيف تجمع واحدة غير كاملة؟ — ويرون الدودة من قرائبهم، ويقولون للغراب لبيك، كما فعل قبلهم بهاليل الصوفية.

ثم تجبر العرافة خاطرنا فتقول إن الشعراء يحكون آلهة في السماء ولكنهم يظهرون غير ما يبطنون، وعبَّرت عن هذا بكلام ناشف مثل وجهها:

فهات حتى نرى ما
خبَّأت من هولك
يا ابن السلام إذا ما
دسنا على ذيلك

وقد وضع الشاعر «على» بين هلالين ظانًّا أن التعبير عامي غير فصيح، وقد قال مثله الشنفرى أخشن الجاهليين في بيته المشهور الذي استعان بمفرداته المجمع اللغوي المصري لخلق ألفاظ جديدة:

دعست على غطش وبغش وصحبتي
سعار وأرزيز ووجر وأفكل

وداس تحمل على دعس فتعدى بعلى مثلها، وبهذا الختام حطَّتِ العرافة الشاعر من مصف الآلهة إلى جماعة لا أسميها، فاستاء شاعرنا وقال لشيطانه:

شيطانَ شعري قُمْ بنا نرتحل
عن هذه الأرض وغيلانها

فطمأنه الشيطان ولهاه بأغاني «أميرة الجن» الممسوسة، وعندي أن «حسرة الروح» أحد العناوين الستة الكبرى المتضمن: أميرة الجن، والشهوة، وأغنية الجنية، خير مقاطع هذه القصيدة. فهذا المقطع عاطفي، وشفيق ككل شاعر عربي يجيد بسط العاطفة أكثر من وصف المحسوسات، فقال وقلت، ورح وتعال، وما أشبهها من نظم الأخبار تركها العرب وحايدوها، ولهذا قلنا في صدر هذا المقال: إن المصور أجاد رسم أميرة الجن أكثر من الشاعر الذي لم يتعدَّ حدود الخيال العادي: الشمس كورت من حلقات النور أضلاعها، رمت إلى الأرض أعجوبة، شفافة كالنور، فجاءت هذه المخلوقة في شعره كالمقول عنه في قانون الإيمان: نور من نور.

وأرانا الشاعر هذه الجنية تحصد الهواء حصدًا يثير ويفتن، وإن بدا لنا كما تروي أساطيرنا من مظالم فرعون:

ثم أراها وهي مأخوذة
تطوي على ما لا أرى باعها

فالشهوة التي لا تروى تقيمها وتقعدها، فتتلوى كحية فوق ملة، لا تدرك الجسد لتشبع فهي جائعة ثائرة صاخبة، وتغني فتقول لنا:

هل أنا إلا ذرة من ضياء
هل أنا إلا زفرة الله قد
صعَّدَها فوق قباب الجلد
فلم تزل لاهبة في الفضاء

لا تتمنى هذه المسكينة إلا نقطة من ماء الحياة تطفئ لهيبها، فهي تريد أن تعمل مثل الناس ولا تقدر، فقلبها محروق، خبرتنا أنهم هناك لا يتلذذون ولا يتنعمون مثلنا، فالأرواح في دنيا ممالك الأرض وما عليها كقطع الغيم تضمحل متى تعانقت، ولا تثبت للعراك البشاري المغازل الأشِر.

ويفيض الشاعر في وصف تحسر الجنية على ملذاتنا التي يسميها القليلو الذوق منَّا «بهيمية» وهم ثمرتها المباركة، ثم يخبرنا بلسانها أيضًا أن النعيم المقيم مضجر. هذا — والله العظيم — شعوري، فأنا خائف من الآخرة وخلودها الهادئ الرصين، أنا خائف جدًّا من رؤية الكاروبيم والساروفيم، والملائكة وأجدادنا الآباء الأبرار والصديقين الهيبين الذين لا يحاولون ولا يزولون من وجهنا، ولكنني سأتكل على الله — سبحانه وتعالى — وألبِّي الدعوة. وأخيرًا أرانا الشاعر بلسان جنيته هذه أن كل الصيد في جوف الفرا، أي كل اللذة في الجسد، فقال:

ما نفع روح خالد عشت فيه
ما زلت لم أحضن ولم أحتضن

لا نجادل شاعرنا في هذا؛ لأننا لا نعلم ماذا ينتظرنا هناك، فالقول مختلف. نعم، لا نجادل لئلا يصيبنا ما أصاب ذلك الفلكي الذي نظر إلى النجوم فسقط في الحفرة.

ولا تنتهي «أغنية الجنية» حتى يسلمنا الشاعر إلى «حكمة الكهان». إن هؤلاء المحترمين هم هم، كما في السماء كذلك على الأرض، هذا سطيح وصفه شاعرنا وصفًا حسنًا كما تخيَّله العرب، وجعله لحمًا بلا عظم كما يقول في الباذنجان مَن يحبونه، وزاد عليهم المحيط الجهنمي حتى حيرتني عبقر هذه، ولم أهتدِ إلى حلٍّ لها أحسن من تشبيهها بالمطهر.

وهناك أيضًا الكاهن شِق، وهو في نظر شاعرنا أعظم من سطيح، ومغارته — إنْ جاز لي الاعتراض على المصور — كأنها صنع يد ماهرة، فإما أن الكهوف الإيطالية غير كهوفنا، وإما أنه رسمها بديعة هكذا؛ لأن بناتها من أولئك الذي بنوا تدمر بالصفاح والعمد … وشِق جالس على باب مغارته كالخيثعور — جني كنيته أبو هدرش — في رسالة الغفران.

٣

وقف الشاعر ببابَي الكاهنين الجليلين يصيح:

يا كاهني عبقر هل حكمة
أعدها للغد بين العدد

فلبَّى سطيح وافتتح الحديث كالكهنة بالدعاء، فقال للشاعر:

أقالك الرحمن من عثرتك
هيهات أن يردعك الزاجر
ما لم يك الزاجر من حكمتك

إنها لحكمة أقدم من الخبز، والبيت ممسوخ — كما عرف ابن الأثير السرقات الشعرية — وهذه صورته الأصلية:

لا ترجع الأنفس عن غيِّها
ما لم يكن منها لها زاجر

وقد شوَّه شفيق الكلام بنسخه «ما لم يك الزاجر» فتَرْكُ النون هنا لا يجوِّزه النحاة. ويخبر سطيح الشاعر أن الله حين خلق الأنام خصَّصه هو — أي الكاهن — بمنتهى رحمته، فسلَّ عظامه «وملأ الفراغ من حكمته» كما يفعل الطاهي الأستاذ بالسمكة ليقدمها مع الأدام بلا حسك، في المآدب العبقرية. أما الحكمة التي يقول المحترم إن الله حشاه بها فهشة كالصوفان: الرياح تنام، ويعقب الليل الصباح، وتخلف الشمس الشهب، والخلق حمقى وأغبياء، يجرون كالعميان خلف القدر، وفوق رءوسهم سيف القضاء، وتحتهم الحفر، وسطيح قابع في مغارته على عرشه الذي يخلد، وإنه ولى الدهر ظهره فقابله الدهر بالمثل. كان سطيح شاعرنا والدهر كجارية المعري التي حملت ابن القارح «زقفونه» ليجوز الصراط، أما الحكمة الخالدة التي راح بها الشاعر من عند سطيح ليعدها للغد بين العدد فهذه هي:

الحكمة الحكمة في بسمة
تمخَّض الهزء بها في الشفاه

لقد أضحكني هذا الكاهن الذي يوصي بالابتسام وهو أمرط كالوطواط لا مبسم له! وإن كان هذا سلاحه في حرب الدهر، فلماذا صوره الشاعر يشك في وسطه «مدية نار غمدها من دخان»؟ وأغرب من هذا استعارة التمخض للهزء والشفاه؛ إذ لا بد للتمخض من طحير وزحير، وليس مخرجه من الباب الفوقاني، ناهيك أن الهزء يرتجل ارتجالًا.

أما شِق فيقول إنه نصف إنسان «وقد شُقَّ من أعلى إلى أسفل»، ولكي تتصوره جيدًا تأمَّلْ القصاب حين يقد الذبيحة على الدودة، وشقٌّ هذا — كأخوته بالربِّ — يحمد الله على كل حال، فكأنه يقول بلسان داود: الربُّ نوري وخلاصي فممَّن أخاف؟

أقفز فوق الأرض مثل القطا
والله يهديني سواء السبيل
لو شئت أن أعلو أو أهبطا
أعلو بجيل ثم أهوي بجيل

إنه ينط هذا النط وهو شَقَفَة إنسان، فكيف لو يكون مثل الناس؟ وشقٌّ كما بدا من كلامه مسيحي لا غش فيه، وشعاره: إن شككتك عينك فاقلعها، أو يمينك فاقطعها. وهو وإن نطق من نصف لسان وفم، فقد بلا دهره ولم يصل إلى الحكمة لولا السكوت، ويكفيه قلب نصفه نيِّر «لا كان قلب نصف أسود»، أما الحكمة التي زوَّد بها شاعرنا فهي:

سبحان ربي وهو رمز الكمال
أني لولا النقص لم أكمل

لو قال المثل: «القرد في عين نفسه غزال»، لقلنا صحَّ في شق، ولكن الأمثال لا تتغير عن مواردها، أما حكمة شق فتنتقض فلسفة الشاعر التي وضعها على لسان العرَّافة، ولو تأمَّلها لردعته عن تعنيف الإنسان وسخطه عليه.

ومن حكمة الكهان المملة ننتقل إلى «ثورة البغايا»، والضد يظهر حسنه الضد، فترى في «غابة الحور» أعشاشًا مطينة بفتيت المسك، والحور فيها عاريات شُعث الشعور، طبقًا للمثل القائل: «شعرها منكوت مثل الجنِّية»، وما رأت الحور الشاعر حتى فررن ووقفن منه بعيدًا يغمزنه، فعرف فيهن بنات الفجور — هن هن في الدنيا والآخرة غمازات متشيطنات — ويمعن الشاعر في تصوير نهودهن وتشبيهها:

هل النهود البيض ألصقنها
من نتف الغمام فوق الصدور
والنقط الحمراء في وسطها
أهي من الفجر بقيَّات نور
أم بقع منذ عناق الهوى
تؤجُّ فيها جمرات الثغور

فلولا «ألصقنها» في البيت الأول التي أرتنا النهود ملزقة تلزيقًا، لتمَّ له ما اشتهى من فن رفيع، ويخبره شيطانه أنهن ثُرْنَ على الله وأبرمن الجهنميين، ولذلك «زجَّ بهنَّ الله في عبقر»، وهنا أحتجَّ باسم صاحبي جبرائيل، فشفيق جعله خازنًا للنار أو وقادًا لجهنم، أو لا أدري ماذا، بقوله:

إن ينفض الرجوم عن سيفه
جبرين قهقهن لجبرينا

قلت لا أدري ماذا، لأن هذه «الرجوم» مضطربة مثل اضطراب الأسطورة، فجبرين بشير سلام، ورسول خير، طرقته دائمًا صوبنا لا صوب عبقر، فهو لا يعرف درب جهنم. أما وزير الحربية في ملكوت الله، وقامع ثورة الملائكة، يوم تمردوا على الأب الأزلي، فذاك ميخائيل رئيس الملائكة، هذا هو رب السيف الذي وطد دعائم العرش السماوي، وبلانا — نحن البشر — بإخوته الذين طُرِدوا من الفردوس، فأي بأس على الشاعر لو صبَّ اسمه في قالب جبرين فصار ميخين، وسلِمَ التاريخ؟!

أما ماذا قالت البغايا في نشيدهن فملخصه: إنهن فراشات صرفن أزمنة اللهو كما ينبغي، وأقبل الليل وأطفأ الأحداق فتركن الجسد مدَاسًا تحت أقدام العاشقين، وهُنَّ لا يأسفن على الكأس المحطمة بعد شربها — كما فعل بشارة — ثم احتججن لثورتهن على الله بأنه خلقهن للهوى وجاء يعاقبهن عليه.

المقطع حسن — يا أخي — فاقرأه، إن هذا المقال لا يتسع لكل شيء، وما عليَّ أنا أن أمضع لك، جرِّبْ أنت أضراسك ومعدتك، أقول لك هذا ولا أحرمك شيئًا منه، فاسمع:

ثُرْنَا عليه حينما سامنا
عسفًا فلم نصبر على عسفه
قد حشد اللَّذَّاتِ قُدَّامنا
وجيَّش العذاب من خلفه
أفتى بأن نقوم في ربقنا
بجزية العبد إلى ربه
هو الذي أذنب في خلقنا
وراح يجزينا على ذنبه

وإنْ تقل لي وهل يخرج هذا الكلام عن قول الشاعر القديم:

إلهي ليس للعشاق ذنب
لأنك أنت تبلو العاشقينا
أتخلق كلَّ ذي وجه جميل
به تسبي عيون الناظرينا
وتأمرنا بغضِّ الطرف عنه
كأنك ما خلقت لنا عيونا

قلتُ لك: ما غادر الشعراء من متردم … وبعد «ثورة البغايا» يأتي «العبقريون» فيجعل الشاعر محلتهم مقبرة على حدود عبقر، كما جرت العادة بالمقابر في عالمنا هذا، ولأمر ما خطط أبو العلاء للحطيئة كوخًا في أقصى الجنة وقال: إنه لم يصل إليه إلا بعد هياط ومياط، فهل مَن يقول لي لماذا جعل شفيق الشعراء رفاتًا، ولم يهبهم الحياة في عبقره؟ ولماذا رآهم رممًا وجماجم باليات؟ أليسأل شيطانه عنها ويقول لنا:

فقال لي وقد لوى ضاحكًا
هذا الذي تلده الأمهات

إنه لجواب شيطان مكَّار، ومن حقه أن يقهقه ويستلقي على قفاه، لا أن يلوي ويضحك فقط، ولكنه كان رفيقًا بصاحبه هذه في الرحلة بجملتها. أما أنا فما ضحكت، بل أحسست باشمئزاز كثير حين رأيت الجرذ والفأر والجماجم والعظام المبعثرة. أما حديث الشاعر مع هذه العظام النخرة والجماجم المكشِّرة، فكلام خوري يعظ محدِّثًا أولاده المباركين عن الموت والدينونة، وكذلك جوابها حين صاحت لتقول كأيوب في بلواه: الربُّ أعطى والرب أخذ. ثم ينهى الشاعر عن إقامة التماثيل للعبقريين كما فعل موسى من قبلُ فقتل الفن، فقال بلسان الشعراء:

أحلامنا نحن فقُلْ للألى
شادوا لنا الأنصاب إكبارًا
أحلامنا كنَّ لطافًا فلا
تصيروا الأحلام أحجارًا

وهل التماثيل حجارة؟ لا يا أستاذ، فكم من تمثال صيغ قصيدة، وكم من قصيدة جعلها الفنان تمثالًا ناطقًا، الفن شعر حيث كان، أما ما يريده شفيق لزملائه فهذا:

لكن مَن يهز منَّا الرفات
فهو الذي كل أماني الحياة
يفترُّ في ثغره
وكل ما في الأرض من ذكريات
يغفو على صدره
لا تستطيب النجوم
غير تهاليله
وليس تبكي الغيوم
في غير منديله

ترى هل تمنع التماثيل هز الرفات وبكاء الغيوم في هذا المنديل الذي هو كجزَّة جدعون المحكي عنها في التوراة؟!

أما الفلسفة الكبرى التي عاد بها الشاعر من هذه الرحلة السندبادية، فهي أن الحب المعلوم هو كل شيء:

فالأرض إن كانت جحيمًا له
وكان فيها تهنأ الأرض

هذا رأي الناس حتى عوامِّهم، ولذلك تراهم يقرطون الترمس المنقوع حين تكلُّ أضراسهم عن تكسير اللوز، فليت الشاعر خلق غير هذا الفكر المبتذل، فقد أتعب قلبه، وأجهد قارئه ليقول له ما يعلم، يا ليته غنَّى له — كما يفعل المسافر — لينسى مشقة هذه الرحلة العمشاء، بل ليته لم يجئه بهذا الوزن المخلع الذي لا يستطيع المسيح أن يقول له: احمل سريرك وامش. كنا نتمنى أن تكون عبقر المعلوف قهوة يلهو فيها العباقرة، لا مقبرة تبعثر فيها بقاياهم، كنا نتمنى أن تكون عبقره مثل قمقم ألف ليلة وليلة، تنشق عن مارد ينطح رأسه السحاب ويسد زوله الفضاء، ولكنها جاءت بالعكس: الإطار أعظم من الصورة، فكانت كالأرض في سِفْر التكوين، وما هكذا تنظم الأساطير.

ولشفيق فلسفة أخرى تسود قصيدته، وهي أيضًا مما يقوله عامة الناس: الإنسان شرير خبيث لأنه يسيء، فكأنه لا يعلم أن الحياة كذا خُلِقت، خُلِق فيها الشر والخير توءمين معدتهما واحدة. قال شاعر عربي أظنه بشر بن المعتمر في الحيوانات الضارة:

وكلها شرٌّ وفي شرِّها
خير كثير عند مَن يدري

فماذا عسانا نقول في الإنسان؟ إن الحياة لذيذة، فَلْنعش هذين اليومين بلا فلسفة، فالفلسفة تطحل الناس، الدنيا حلوة وزينتها الإنسان، ولو خلت منه لصارت كعبقر المعلوف. ولو صار الإنسان خيرًّا بلا شرٍّ، أو شرًّا بلا خير لصار كالخالدين الذين وصفهم الشاعر، «فلو كان الشرُّ صرفًا هلك الناس، أو كان الخير محضًّا سقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة» إلى آخِر ما يقول الجاحظ (الحيوان ص٩٥ جزء ١٠) صدق جاحظنا الجميل.

الحياة في نظري بحر، وخير ما في هذا البحر مده وجزره، فما أكره هذه الفلسفة السوداء، فلسفة الغاضبين على الحياة وسيدها الإنسان! وبعدُ، فَلْيقلِ الشاعر ما شاء فهو حرٌّ في خلق عالمه، وليس لنا أن نسأله إلا عن «الحياة» فيه، وهذا ما فعلناه في مقالنا الأول إذ وصفنا بإيجاز أشخاص عبقر.

أما لغة القصيدة وتعابيرها فلا تحيد عن خطة القدماء، بَيْدَ أنها خالية من الكلام الوعري، وإنْ كان فيها كثير من الرواسم، فقد يكون الحوار أحوجه إليها، ولكنه كثيرًا ما أنطق أبطاله بألفاظ لا يعرفها رفاقهم، فجاء الكاهنان كأنهما من أئمة وقسيسي هذا الزمان.

وخلاصة القول أن عبقر قصيدة عادية مبنى ومعنى وتصوُّرًا، تزيِّنها فلتات تدلنا على الشاعر المرتجى خيره، وهي — على قلة حظها من الخلق — ستظل وجيهة إلى حين، يتبِّل بعضها بعضًا، وحسبها هذا، فقلما رأيت شاعرها يفعل كغيره من الشعراء الذين يرجمون البحور الشعرية بألفاظ مهيَّأة كأنهم يدكدكون حفرة.

إلى الأمام يا شفيق، ولا تقنع بهذه، بل هات في الغد قصيدةً أكبر من اسمها.

٤ / ١٩٣٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤