كتاب الأخلاق١

هو عجالة مفيدة في الأخلاق ألَّفها لطلاب هذا العلم الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد أمين المدرس بمدرسة القضاء الشرعي، وسنَّ بها سُنَّة محمودة لمدرسي الأخلاق في مدارسنا ومعاهدنا العلمية، فقد كان العهد بالفصول الأخلاقية أن تكون موضوعات إنشائية فارغة يفتتحها مؤلفوها بأبيات من الشعر أو مقتبسات من الحكمة في الحث على هذه الفضيلة أو التنفير من تلك الرذيلة، وكثيرًا ما يمدحون الخلة الواحدة ويذمونها في صدد واحد، ويعدون ذلك من آيات البراعة والافتنان. وكانوا إذا كتبوا في مناقب النفوس أو مثالبها نظروا إليها كأنها أجزاء مودعة في النفس بعناوينها، كما تُودع العلب والحقاق رفوف التجار. وكأنما ليس عليهم إلا أن يرفعوا حجاب النفس فيروا فضائل الشجاعة والصدق والعزم والمروءة ماثلة في أماكنها، أو يروا هذه الأماكن خاوية منها تنتظر إيابها إليها. وما أحقر علم أخلاق يكون على هذا المثال.

أما العجالة التي بين أيدينا فقد خالف فيها مؤلفها ذلك النمط العتيق، وعالج رد الأخلاق إلى عللها الطبيعية، فجمع بين النفس والجسم بسبب، ولحظ طبائع الحيوانية وهو يتكلم في خصائص الإنسانية، ورأيناه يكتفي بالقواعد المجملة ولا يستطرد إلى ما وراءها من المسائل الخلافية والشكوك التي لا آخر لها، وحسنًا فعل، فإن خليقًا بالطالب أن لا يتعلم طلاسم وشكوكًا تضل لُبه، وتبلبل قلبه، وحسبه أن يجد من مادة التعليم ما ينتهي منه بحثه واطلاعه وتجربته وتفكيره إلى حيث يقوده استعداده.

ومع ثنائنا على هذا النحو الذي نحاه المؤلف نُنبِّه إلى تساهل في العجالة وددنا لو خلت منه، وهو تحميل التعريفات والضوابط فوق ما يتحمله لفظها، ومثال ذلك قوله في تكوين العادة: «كل عمل خيرًا كان أو شرًّا يصير عادة بشيئين؛ ميل النفس إليه وإجابة هذا الميل بإصدار العمل مع تكرار ذلك كله تكرارًا كافيًا. أما تكرار العمل الخارجي وحده؛ أعني مجرد تحرك الأعضاء بالعمل فلا يفيد تكوين العادة. فالمريض يتجرع الدواء المر مرارًا وهو في كل مرة كاره له، يتمنى اليوم الذي يُشفى فيه فلا يتجرعه ولا يصير شربه الدواء عادة له.»

ولقد كان يصح إطلاق هذا القول لو أننا شاهدنا رجلًا يُكرهونه على تجرع الأفيون فيتجرعه مرة بعد مرة كارهًا مجبرًا، ثم لا يرغب فيه مختارًا بعد الامتناع عن إكراهه عليه، أو لو رأينا رجلًا يُصاب بالصرع فتجري منه أعمال وأقوال تعودها كلما أخرجته النوبة عن طوره، واستطعنا أن نقول: إنه يميل ويجيب داعي الميل في هذه الحالة، أو لو أمكنا أن نجزم بأن مشي النائم في نومه لا يسمى عادة يصدق عليها كل ما يُصدق على العادات من مران الأعصاب على تكريرها وسهولة إتيانها بها. فأما قبل أن يثبت شيء من ذلك فلا يصح أن نجعل العادة رهينة بالميل والإجابة بإصدار عمل. ثم إن المعروف أن العادة تكون في العجماوات كما تكون في الإنسان، فإذا سيرنا حيوانًا في طريق واحدة مرارًا متوالية صعب تحويله منها إلى غيرها، ولا نحسب نظرية الميل وإجابته بإصدار العمل تفسر العادة في هذا الحيوان.

ومما يؤخذ على المؤلف استشهاده بغير الثقات أحيانًا، ونقله أقوالًا لرجال مشهورين كتبوها في أعمار لا يحتج فيها برأي الرجل مهما كان نصيبه من العبقرية وخصوبة الذهن، من ذلك ما استشهد به من كتاب آلام فرتر للشاعر جيتي إذ يقول: «ما أولى انقباض النفس أن يكون غيظًا كمينًا من نقص كفاءتنا وسقوط قدرتنا وسخطًا على أنفسنا مصحوبًا برذيلة الحسد التي تهيج فينا الزهو الشديد والعجب المفرط … إلخ إلخ.»

فقد يستظرف المقال أو القصيد يصنعه الشاعر النابغ في الرابعة والعشرين من عمره يصف فيه عشقه وهواجس فؤاده، ويتمنى فيه ويتخيل ما شاء له الصبا ونجابة العقل، فأما الحكم على حالات النفوس وأصول الأخلاق فمما لا يُستفاد من فتى في هذه السن ليُلقى على الطلبة أو يُدرَّس لهم كما تُدرَّس صفوة الحقائق وخلاصة التجارب، ولا سيما إذا كان ذلك الفتى يسوق بطل روايته إلى بخع نفسه حزنًا وانقباضًا وأسفًا على شيء يفوت الكثيرين ولا يقتلون أنفسهم أسفًا عليه.

١  الأهرام ١٠ مايو سنة ١٩٢٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤