المواكب١

قصيدة شعرية نظمها جبران أفندي خليل جبران من أدباء السوريين في أمريكا، وطبعها في كتاب مستقل كبير الصفحات مزدان بالرسوم الرمزية، ويظهر أنه جرى في وضعها وطبعها على أسلوب رباعيات الخيام؛ لأنه وضعها في المعاني التي طرقها الخيام، وطبعها على الشكل الأنيق المصور الذي اختاره الناشرون من الإنجليز والأمريكان لطبع رباعياته.

وللكتاب مقدمة بقلم نسيب أفندي عريضة نراها من ألزم المقدمات؛ لأنها فسرت من أغراض القصيدة ما لم تفسره أبياتها ومنها قوله:

ليتصور القارئ قبل إقدامه على مطالعة الكتاب مرجًا واسعًا في سفح جبل، هنالك يتلاقى رجلان على غير ميعاد أحدهما شيخ والآخر فتى. الأول خرج من المدينة والثاني من الغاب، أما الشيخ فيسير بخُطا ضعيفة متوكئًا على عصاه بيد مرتجفة، وفي غضون وجهه وشعره الشائب المسترسل ما ينم على أنه عرك الدهر وعرف أسرار الحياة ومخبآتها فذاق، منها مرارة أوصلته إلى التشاؤم منها. يصل هذا الشيخ إلى المرج، فيستلقي هنالك على العشب قصد الراحة، وإذا فتى جميل غض الإهاب قد لوحت الشمس بشرته وأكسبته الحياة جذلًا وانبساطًا، خرج من الغاب يحمل نايه فيسير حتى يصل إلى مكان راحة الشيخ فيضطجع بجانبه. فلا تمر دقيقة سكون إلا تراهما قد بدآ بالحديث، فيأخذ الشيخ بإبداء نظراته في الحياة كما يراها طرفه المتشائم وخبرته المحنكة، فيرد عليه الفتى شارحًا عن الحياة كما تراها عينه الجذلة المتفائلة.

هذا هو محور القصيدة كما فسَّره صاحب المقدمة. وقد أحسن كاتبها في مراعاة المقام لولا ما في كتابته من قليل الغلط النحوي والصرفي، وما يتخللها من روح النقد العتيقة التي احتذى بها أمرسون وأشياعه من متصوفة الأمريكان.

أما القصيدة فليس في استطاعتنا أن نسميها شعرًا صحيحًا كما وصفها صاحب المقدمة، وإن كنا نتبين منها أن ناظمها يفكر تفكير شاعر. وأول ما نشير إليه أن مبنى القصيدة ليس مما يوصف بالصحة؛ لما فيها من الخطأ اللغوي، وما يعتورها من ضعف التركيب وغلبة العبارة النثرية على النغمة الشعرية في أبياتها. وقد فتحنا الكتاب فوجدنا في أول شطرة من أول بيت خطأ من هذا القبيل في قوله:

الخير في الناس مصنوع إذا جبروا

يريد أجبروا. ولم ننتهِ من الصفحة إلا على خطأ ثانٍ في قوله:

فأفضل الناس قطعان يسير بها
صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر

والواجب جزم يندثر في البيت. وهذا وليس في الصفحة إلا أربعة أبيات! ولا نشك في أن ناظم القصيدة كان يحترس من الوقوع في مثل هذا الخطأ لو كتب بإحدى اللغات الغربية، فالاحتراس في الكتابة العربية أولى.

أما المعنى فمعيار صحته عندنا أن يكون موافقًا للفطرة الصحيحة والطبيعة الصادقة، ولا نرى معاني الناظم كذلك. نعم إن صاحب المقدمة يقول: إنه — أي الناظم — متمرد على الحياة نفسها. ولكن التمرد على الحياة لا يدل في كل حالة على رغبة في حياة أسمى وأفضل، وكثيرًا ما يدل على انتصار المتمرد لجانب الموت والفوضى على جانب الحياة والمثل الأعلى، خصوصًا إذا لم يكن هذا التمرد مبنيًّا على أساس من الشعور الصميم بقوانين الحياة الراسخة في دخائل الطباع وأعماق الإحساس. ونرجح مما قرأناه في مواكب الناظم أن تمرده على الحياة من هذا النوع؛ لأنه كما يقول صاحب المقدمة: «يتمرد على كل قيد ويود الرجوع إلى الغاب»، أما الغاب التي يقصدها في قصيدته، فليست غابًا بمعناها الضيق، بل هي الطبيعة بأسرها، فمن قال: إن الطبيعة تحل الإنسان من قيوده؟

ألا ليت الطبيعة كذلك! ولكنها في الحقيقة أم القيود والأغلال، وما من عادة متحكمة في نفوسنا ولا غريزة غالبة أو شهوة متمكنة إلا وفي يد الطبيعة طرفاها وإليها مرجعها.

فإذا قال الناظم متغنيًا بطلاقة الطبيعة وتسامحها:

ليس في الغابات دين
لا ولا الكفر القبيح
فإذا البلبل غنى
لم يقل هذا الصحيح

قلنا على الرغم منا: حقًّا إن البلبل لا يزعم أن غناءه هو الصحيح وغناء غيره الشاذ السقيم، ولكنه لسوء حظ العشاق: عشاق الطبيعة يدين بالأنانية القاسية التي يدين بها المتعصب لمعتقده الزاري على معتقد غيره، ويعمل في إطاعة هذه الأنانية كل ما يستطيع عمله من عبث وضر. ويؤيد قول المعري:

ظلم الحمامة في الدنيا وإن حسبت
في الصالحات كظلم الصقر والبازي

وإذا قال الناظم في الإشادة بمساواة الطبيعة وعفتها:

ليس في الغابات حر
لا ولا العبد الذميم
إنما الأمجاد سخف
وفقاقيع تعوم
فإذا ما اللوز ألقى
زهره فوق الهشيم
لم يقل هذا حقير
وأنا المولى الكريم

قلنا: إنه لا يقول ولكنه يفعل، إنه يقتل كل شجرة ضعيفة تجسر على النمو إلى جانبه وتشرئب إلى مكان لها من الفضاء والنور، وكذلك نجد قيود الطبيعة وقوانينها، ويجدها كل حي في هذا العالم المسخر، فهي قيود أثقل وأظلم على من يشعر بها من قيود المدنية، وقوانين أشنع وألأم عند من يشكوها من قوانين الإنسانية. وربما لطَّفت المدنية قيودها وزوقتها وصقلت جوانبها ولكن الطبيعة لا يعنيها القيد ولا حامله ولا تلقي إليك قيدها إلا حديدًا أسود كالحاثم تضاعفه لك، وقد لا تقبلك في حظيرتها إذا أنت حطمته أو زحزحته عنك.

فليس من الشعور الصحيح ولا من الإحساس العميق أن يعبر الإنسان عن ألمه من قيود المدنية هذا التعبير، أو يظن أن بساطة الحياة تنجو بالحي من أحكام الوجود، وقد تكون المدنية شوهاء، ولكن ليس معنى ذلك أن الحياة الهمجية مليحة الوجه حسناء، أليست شياطين ساكن الغابات وأرواحه الخبيثة ترجمانًا لوساوسه ومخاوفه؟ أليس هو أسوأ ظنًّا بالطبيعة وقوانينها منا؟ هذا وهو طفلها النازل في كنفها، ونحن عصاتها الخارجون عليها المتحصنون دونها في حصون المدنية؟

وبعدُ فنحن لا نغمط ناظم المواكب حقه إذا قلنا: إن شعره ليس من الشعر الصحيح لهذا السبب، ولكننا لا ننسى أن نذكر أننا قرأنا في مواكبه أبياتًا من أصدق الشعر وأحكمه مثل قوله:

وما السعادة في الدنيا سوى شبح
يُرجى فإن صار جسمًا ملَّه البشر

وكقوله في العدل:

والعدل في الأرض يبكي الجن «لو» سمعوا
به ويستضحك الأموات لو نظروا
فالسجن والموت للجانين إن صغروا
والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
وقاتل الجسم مقتول بفعلته
وقاتل الروح لا يدري به البشر

وأصاب إذ قال: «العدل في الأرض» ولم يقصره على الناس.

وقوله:

إنما الناس سطور
كُتبت لكن بماء

وقوله:

والحب في الناس أشكال وأكثرها
كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر

وعندنا أنه لو طرق باب الشعر المنثور، لكان ذلك أفسح مجالًا لآرائه وأقرب إلى سليقته وقدرته اللغوية من معالجة الشعر الموزون. وحبذا لو أقل من المعاني الرمزية؛ فإنها بقية من بقايا إبهام الكهان الأقدمين، لا يقبلها في العصور الحديثة إلا أشباه أتباع الكهان فيما تصرم من العصور.

١  نشرت بجريدة الأهالي في مايو سنة ١٩١٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤