سقطة إيكاروس

figure
إيكاروس.
غصنٌ عطِر يحتضن البحر،
سفنٌ تتفكر في الكون،
وعلى الشط قطيع الأغنام ينام،
إيكاروس سقط من السَّمت،
وغاص النورس في أعماق اليَم،
هاجعةٌ كل المخلوقات
المكنونة في شمس الظهر،
وجمال العالم لا يزعجه شيء.

إيكاروس الذي كان أول إنسان يغامر بالتحليق فوق الأرض كطائرٍ جسور حمله طموحه فوق ما يحتمل جناحاه الضعيفان …

إيكاروس، الذي سبق عباس بن فرناس الأندلسي بما يزيد على ألف وخمسمائة عام، وانطلق في الفضاء بجناحَين صنعهما لنفسه من الشمع، أو صنعهما له أبوه، ولم يمنعه الخوف من أن تصهرهما الشمس من العلو إلى أقصى الآفاق حتى أجبرته الشمس على السقوط في البحر … إيكاروس الذي يحتمل أن يكون الغضب والسخط على جحود الإنسان وغدره هو الذي دفعه إلى مغامرته التي لا شك في أنه قدَّر عواقبها وواجهها بالتحدِّي اليائس الشجاع، وهل كان في مقدروه أن يفعل غير ذلك بعد أن رأى كيف جُوزِي أبوه أسوأ الجزاء على يد ملك كريت الأسطوري الذي أمره بتصميم وبناء المتاهة الشهيرة التي حبس فيها ثور مينوتاوروس الخرافي ثم وضعه في السجن عقابًا له على نبوغه؟

إيكاروس الذي لم يبقَ أمامه إلا أن ينقذ أباه وينقذ نفسه من الحقارة والخسَّة والشر والصَّغار، بل أن يخرج من الأرض كلها ويرتفع فوق ناسها وحيوانها ونباتها وتاريخها الهمجي الغارق في الكوارث والمعارك والرذائل الدنيئة، الذي لم يجد أمامه من سبيل إلا أن يصبح طائرًا ويتجاوز الطبيعة وكل طبيعةٍ بشرية، فلم يتردد عن المخاطرة الأولى في تاريخ العلو فوق كل إنسان وكل شيء على الإطلاق …

إيكاروس هذا الطائش الطيب النبيل سقط في البحر الإيجي الذي سُمِّي بعد ذلك باسمه، سقط السقطة التي لم تزل تدوِّي في كل أذن تسمع وكل ضمير يحس ويترفع عن الاستسلام واليأس، ويبادر لركوب أجنحة الأمل والأطلال على الحضيض وأصحابه وكهنته وعباده وحرَّاسه من أعلى ومن فوق …

أجل لقد سقط إيكاروس ودفع الثمن الغالي لطموحه المتكبر العنيد إلى التحرر والارتفاع … ولا بُد أن يكون قد صرخ وهو يرتطم بسطح الماء مع بقايا طائرته الشمعية الكسيرة، وأن تكون صرخته قد دوَّت لحظةً — فارقةً في عمر الزمن الأبدي — في أذن الكون، واصطدمَت بالجبل والصخر، وقرعَت أبواب البشر النائمين، وهزَّت السمك السابح في البحر، وجعلَت الطير المحلِّق في الجو يرتجف في دهشة، لكن دويُّ السقطة ضاع صداه وانطفأ بَرقه وسكن رَعده وماتت الدهشة التي انطلقَت منه ودُفِنَت في المقبرة الأزلية للرتابة والسأم وملل التكرار اليومي المهين …

حتى جاء فنانٌ كبير فتذكَّر إيكاروس وصوَّر صرخته وانعكاس بَرقها وبَريقها على الوجود والموجودات … جاء بيتر بروجيل الأب أو الأكبر (١٥٢٥–١٥٦٩م) فرسم اللوحة المقابلة التي حاول فيها أن يعبِّر عن مأساة المغامر الباسل وعن ندائه المتصل لكل اليائسين المهزومين والمحبَطين المستسلمين …

لقد سقط إيكاروس بالقرب من السفينة الصغيرة الراسية على شط القرية أو البلدة الغافية الغافلة (ومن أسفٍ أن طباعتها بالأسود والأبيض قد حرمَتنا من ألوانها الأصلية) … سقط البطل الطائش النبيل؛ فبدا على سطح الماء كوطواط كبير ارتمى جناحه المخذول أمامه، وبقيَت رأسه السوداء طافية بضع لحظات قبل أن تغطس في عمق الماء … هل التفَت لحظة أو لحظات ليرى أثر سقطته على ما يحيط به؟ لا ندري ماذا شعر به ولا فيم فكَّر، لكننا ندري مِن تأمُّل الصورة على مهل أن شيئًا لم يتغير من حوله، وأن العالم — البحر والضوء والشجر والغنم والناس والثور الذي يجُر المحراث والفلاح الذي يمشي وراءه — لم ينزعج، ولم يخرج عن مسار عبوديته المعتادة … مضى الفلاح يتابع محراثه وثوره اللذين شغلاه عن سماع الدويِّ الخاطف، وبقي الصياد الجالس على الصخرة يمدُّ بصره في هدوء واسترخاء للسنارة التي لم ترتجف بعد بالغنيمة المنتظَرة، وظل الطائر الواقف على غصنٍ قريب من صياد السمك يترقب أن ينقضَّ على السمكة التي ستخرج من الماء، وراحت الريح تنفخ أشرعة السفينة الحربية الصغيرة، والبحَّارة — الذين شغلَتهم ذكريات الليلة الماضية في الحانة الفقيرة مع النساء الفقيرات — انهمكوا في شد الحبال وإصلاح الصواري وتهيئة السفينة للرحلة الوشيكة، وراعي الأغنام — المنكبَّة على الْتهام الخضرة والحلم الدائم بجنَّته الخضراء — ربما يكون قد رفع رأسه ولمح شيئًا غريبًا لم يلبث أن اختفى وغاب، وربما تكون صيحات سرب النوارس المحلِّق فوق رأس إيكاروس قد هزَّته أو لفتَت سمعه للحظة، لكنه رجع إلى غنمه يهش عليها بعصاه، واستمر البحر يقذف أمواجه المزبدة على شط الخليج كما فعل على مَرِّ العصور والآباد، ورجع الفلاح لثَوره وأرضه ومحراثه، والصياد لسنارته، والبيوت والأكواخ والكنيسة الريفية القديمة في القرية إلى نومها الرخيِّ الذي لم تقلقه الصيحة، ولم يخرجه صوت النداء الحاد من كهفه السحري البليد …

لم ينزعج العالم، ولم يخرج عن مساره أو محوره … كل شيء وكل إنسان أدار ظهره للكارثة، وأصمَّ أذنه عن سماع الصرخة الضائعة … لكن هل ضاعت بالفعل؟ هل انطفأت نيران الكارثة؟ ألم يزل صدى الصيحة يتردد ولهيب المأساة يحرق كل ثائرٍ أبي، ألا يحرض كل ضحية على الجلَّاد، ويدعو كل مظلوم ومهان لأنْ يغرس في كتفيه أجنحة الشجاعة والتمرد والتحليق الجسور إلى آفاق الحرية؟!

والقصيدة المقتبَسة للشاعرة رئيسة ماريتان (١٨٨٣–١٩٦٠م) زوجة الفيلسوف المسيحي الفنان جاك ماريتان وحبيبة عمره. وربما تكون قد كتبَتها بعد مشاهدتها لوحة بروجل في قصر الفنون ببروكسيل، ثم نشرَتها في مجموعتها الشعرية «رسالة الليل» التي ظهرَت في باريس سنة ١٩٣٩م، كما وردَت في كتاب زوجها عن الحدس الخلَّاق في الفن والشعر، باريس سنة ١٩٦٦م، ص٣٢٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤