كآبة

figure
كآبة.

كآبة

فيمَ تُطيلين الفكر
يا أيتها الجالسة على الحجر
بثوبٍ فضفاض؟
الجبهة تبدو معقودة،
والبرجل في يدكِ اليمنى،
والنظرة مستغرقة
ومحدِّقة
في الأبعاد المجهولة،
وصبيٌّ يجلس بجواركِ
معتليًا حجر الطاحونة،
وعلى الحائط ميزان،
ناقوسٌ، ساعة زمنٍ رملية،
واللوح المحفور يمثِّل لغز الأعداد المشهورة.
لم هذا الحشد من الأدوات المنثورة،
من ينشلها من قيدٍ أخرس؟
هل تتعثر خطوات الفعل
لأن جديدًا يُولَد؟
هل بدأت ترتفع اليد
حاملة البرجل؟
في قبضتكِ المضمومة،
تحيا قوة عزمٍ توَّاقة،
وإرادة روحٍ خلَّاقة،
لم تفتر بعد!

كآبة …

كيف سيبدو مجلسها اليوم
وسط العلماء وأهل الخبرة
في قاعدةٍ صاروخية؟
في الخلفية
علماء العلل النفسية والعقلية …
تستيقظ أكثر من ذكرى
عن أسماء المدن الأخرى
(ناجازاكي – هيروشيما)
عن أعراضٍ ظاهرة أو مختفية،
كيف ستبدو جلستها اليوم
لم يعرفها أحد
أم أسلمها الخونة؟
خبراء الأعصاب على استعداد
أن يجروا رسم المخ،
لم يلحظ أحدٌ منهم،
أن «كآبة»
ذات جناحَين
(كطير الرخ)!

الصورة لحفرٍ على النحاس لواحدٍ من أعظم الفنانين «العلماء» والحرفيين المدققين في كل العصور، وهو فنان عصر النهضة — الذي كان من أهم أعمدتها وجسورها إلى الشمال الألماني — ألبريشت دورر (١٤٧١–١٥٢٨م)، وقد فرغ منها في سنة ١٥١٤م، تكفي النظرة الأولى لهذه اللوحة الشهيرة لترينا امرأةً عظيمة الجرم جالسة على الأرض في ثوبٍ واسع فضفاض، على رأسها المستنِد إلى اليد والذراع الأيسر ما يشبه التاج المعقود، وفي عينيها نظرة اكتئابٍ لا شفاء منه، وفي اليد اليمنى قلمٌ طويل أو برجل تتحرك سِنُّه على لوحٍ كبير، ويحيط بالرأس والكيان كله ما يحيط بالمفكر والمبدع من أخيِلة وصُور وذكريات حزينة وآمال مهددة وأشباح أعمال وأفكار ومشروعات لا زالت في طَور التخلُّق، كما يظهر من وراء ظهرها ومن أمامها حشدٌ هائل من الأدوات والأجهزة والكائنات الحية: ميزانٌ لقياس الزوايا، ناقوسٌ ولوحٌ زجاجي نُقِشَت على صفحته ألغاز الأعداد المشهورة، كرةٌ ضخمة ربما تمثِّل الأرض أو الكون المعروف في ذلك العصر المزدحم بالكشوف الفلكية والجغرافية والفنية والعلمية، وصبيٌّ جالس فوق حجر الطاحونة منهمك فيما لا أدريه، وخروف أو نعجة وديعة ومستسلمة للنوم وإن بدَت عينها اليمنى مفتوحة، كل ذلك بجانب ميزانٍ كبير وسُلَّم مسنود إلى حائطٍ خلفي وجسمٍ كبير مربَّع الأضلاع أو مسدَّسها، وفي العمق لوحةٌ بيضاوية كالمروحة نُقِشَت عليها كلمة الاكتئاب بحروفٍ لاتينية (ميلانكوليا) …

كتب القصيدة الأولى الشاعر الألماني بيتر أو مولر (المولود في مدينة نورمبرج سنة ١٩٠٩م) وقد نظمها في سنة ١٩٦٧م، وظهرَت سنة ١٩٧١م في مجموعته الشعرية «تأمل ٤٦»، وهي تدور حول عملية الخلق التي ما تزال في دور الولادة، كما تعدد الأدوات والكائنات التي سبق ذكرها بتفصيلٍ دقيق وفي الإطار القاتم لحالة الكآبة والاكتئاب اللذين يسيطران على المرأة والمرئيات جميعًا …

أما القصيدة التالية للشاعر إدفين فولفرام دال المولود سنة ١٩٢٨م في بلدة زولنجن، فتضع المرأة — العالمة الفلكية أو المفكرة الفيلسوفة في حال العالم ومصيره — في قلب عصرنا الحاضر وفي مراكز أبحاثه العلمية والعسكرية المتقدمة والمهددة بالأخطار المحتملة والكوارث التي تمَّت بالفعل ودَمرَت وأحرقَت وأبادت من الأحياء ما يفوق الخيال ويزيد عمَّا يمكن أن تحويه الكوابيس السوداء (هيروشيما ونجازاكي على سبيل المثال لا الحصر!) وإذا كان الشاعر يصور علماء النفس والأمراض النفسية والعقلية الذين اجتمعوا — في إحدى قواعد الصواريخ! — لفحص العالمة المريضة التي ربما استيقظ ضميرها على هول أسلحة الفتك والدمار الشامل التي توصَّل إليها العلماء، وربما شاركَتهم في اكتشافها أو تركيبها، فإنه — أي الشاعر — ينبهنا في آخر أبيات القصيدة إلى أن المفكرة أو العالمة المكتئبة لا تقع بسهولة في شبكة علماء النفس، وذلك لسببٍ بسيط لم نكَد نلحظه للوهلة الأولى عند تأمُّلنا للَّوحة … فالمكتئبة لن تستسلم بسهولةٍ لعلماء العصر وخونته؛ لأن جناحَيها الملتصقَين بكتِفَيها يكفيانها عبء الحياة معنا في زمن الرعب والهمجية وأخطار الخراب والدمار — المحتملة والمتوقعة في كل لحظة! — للحياة ولجنس البشر، إن في استطاعتها في كل لحظة أن تنتفض كالنسر الغاضب وترجع لعصر النهضة أو لعزلتها في مدينتها العلمية المثالية (أو اليوتوبية) التي لم تلوِّث هواءها وأرضها وسماءها أطماعُ السياسيين والجنرالات البشعين المفزعين …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤