قطرات من نبع الديوان الشرقي للشاعر الغربي

(١) تمائم

لله المشرق،
لله المغرب،
الأرض شمالًا،
والأرض جنوبًا،
تسكن آمنة
ما بين يديه.
(عن كتاب المُغنِّي)

(٢) من يعرف نفسه

من يعرف نفسه،
وكذلك غيره،
فسيعرف أيضًا
أن الشرق
وأن الغرب
لن يفترقا عن بعضهما
أو يبتعدا،
أبدًا أبدَا.
سأظل أغني،
وأردِّد لحني،
وأهدهد نفسي
بين الشرق
وبين الغرب،
وليصبح جهدي
هو غاية مجدي!

(٣) حافظ، أأسوِّي نفسي بك؟

حافظ، أأسوِّي نفسي بك؟
يا للوهم!
أن تمخر أمواج البحر سفينة،
بشراعٍ تنفخه الريح،
وتشق عباب الماء بفخر وجسارة،
وإذا حطَّمها موج محيطٍ هادر،
سبحَت فيه،
قطعة خشبٍ متهرِّئ،
في أشعارك — يا حافظ — وأغانيك
ينساب اللحن الحلو العذب،
يتدفق سيلٌ رطب،
يغلي ويمور كأمواج حريق،
فأحس كأني
تبلعني النار،
لكن أحيانًا تنفخني روح غروري
ويزيِّن وهمي
أني مقدام وجَسور؛
فلقد زُرتُ بلاد الشمس
وعشتُ هنالك وعشقتُ!
(عن القصائد التي عُثِر عليها بين أوراق جوته وضُمَّت بعد وفاته إلى الديوان)

(٤) حنينٌ مبارَك

لا تقُل هذا لغير الحكماء،
ربما يسخر منك الجهلاء،
وأنا أُثني على الحي الذي
حنَّ للموت بأحضان اللهيب.

•••

في ليالي الحب والشوق الرطيب
يصبح الوالد والمولود أنت،
يحتوي قلبك إحساسٌ غريب،
ومن الشمعة إطراقٌ وصَمت.

•••

تترك الأَسر الذي عشتَ به
غارقًا في عتمة الليل الكئيب،
ينشر الشوق جناحَيه إلى
وحدةٍ أعلى وإنجابٍ عجيب.

•••

سوف تعروك من السحر ارتعاشة،
ثم لا تجفل من بعد الطريق،
وستأتي مثلما رفَّت فراشة،
تعشق النور فتهوي في الحريق.

•••

وإذا لم تُصغِ للصوت القديم
داعيًا إياك: متْ كيما تكون،
فستبقى دائمًا ضيفًا يهيم
في ظلام الأرض كالطَّيف الحزين.
(من كتاب المُغنِّي)

(٥) كتاب مطالَعة

إن كتاب الحب
لأعجبُ الكتب،
عليه قد عكفت
نظرتُ عن كثب:
به من الأفراح
صحائفٌ قليلة،
للحزن والأتراح
ملازمٌ طويلة،
للهجر فيه باب،
وللقاء فصلٌ
مشتَّتٌ شحيح!
مجلدات الهم
مسهبة الشروح
(بالسهد والجروح)
وما لها من حدّْ.
أوَّاه يا «نشاني»
وجدتَ في النهاية
طريقك الصحيح،
واللغز من يحله؟
أن يلتقي العشاق
(بعد عذاب القلب)
والهجر والفراق …
(من كتاب العشق)

(٦) عزاءٌ سيئ …

في منتصف الليل بكيتُ، نشجتُ؛
لأني احتجتُ إليك،
شعرتُ بحرماني منك.
عندئذٍ جاءت أشباح الليل
فخفتُ، خجلتُ.
ناديتُ عليها:
«يا أشباح الليل!
ها أنتِ ترَين دموع العين،
وكم طوَّفتِ عليَّ،
وكنتُ غريقًا في حضن النوم،
إني أفتقد الخير كثيرًا، كل الخير.
بربَّكِ إلا أحسنتِ الظن
(وأقللتِ اللوم)
مَن أضفيتِ عليه قديمًا
ثوبَ الحكمة
حلَّ عليه الكرب ونزل الشؤم!»
عبرَت أشباح الليل،
ومرَّت كالحة الوجه،
لم تحفل بي
إن كنتُ حكيمًا،
أو أحمق
(يُعوِزني الفهم)!
(من كتاب العشق)

(٧) أخذَت منك السنوات …

أخذَت منك السنوات، كما قلت، كثيرًا:
متعة ألعاب الحِس،
وذكرى عبث الأمس
المفعَم بدلال الحب،
وحُرِمتَ من التجوال طويلًا
بين مغاني الأرض؛
لأنك جاوزتَ السِّن
(وشاب القلب)
لم يسلم حتى الشرف،
وكان يزين الرأس،
ولا سلم المدح،
وكان يسرُّ النفس.
جفَّ معين الخلق وغاض النبع،
فما عُدتَ تغامر
(كي تنفض عنك غبار اليأس)
لا أدري ماذا يبقى لك
(من كل كنوز العالم)؟
– يبقى ما يكفي القلب!
وتبقى الفكرة والحب!
(من كتاب التفكير)

(٨) زليخا تقول …

قالت المرآة إني فاتنة،
حزتُ آيات الجمال!
قلتمو: إن الليالي خائنة،
سوف يطويكِ الزوال.
كل شيء خالد في عين ربي،
فاعبدوه الآن فيَّا،
هذه اللحظة حَسْبي!
(من كتاب التفكير)

(٩) ما خاب لصبٍّ مسعاه

ما خاب لصبٍّ مسعاه،
مهما يشتد من الكرب،
لو تُبعَث ليلى والمجنون
هديتُهما درب الحب!
(من كتاب زليخا)

(١٠) حين أكون بعيدًا عنك …

حين أكون بعيدًا عنك فما أقربني منك!
يعروني الهم، يداهمني فيض عذاب،
عندئذٍ أسمع صوتك يتردد بعد غياب،
فأراك وقد عُدت إليَّ (وعُدت إليك)!
(من كتاب زليخا)

(١١) إن قدَّر الدهر يومًا

إن قدَّر الدهر يومًا
بالنأي عمَّن تحب،
وصار بعدُك عنه
كبُعد شرقٍ وغرب،
يهيم عبر الفيافي
فؤادك المشتاق،
ما من رفيقٍ سواه
إن عزَّ فيها الرفاق،
بغداد ليست بمنأى
عن أعيُن العشاق.
(من كتاب زليخا)

(١٢) صدى

لا تدعْني هكذا للَّيل وحدي للكدر،
يا أحبَّ الناس عندي،
أنت يا وجه القمر
شمعتي أنت وشمسي
آه يا نور البصر!
(من كتاب زليخا)

(١٣) في وسعك أن تتخفَّى في آلاف الأشكال

في وسعك أن تتخفى في آلاف الأشكال،
لكن يا أغلى الناس سأعرفك على الفور،
قد تُخفِين محيَّاكِ وراء الأقنعة السحرية،
يا حاضرةً في الكل، سأعرفكِ على الفور.
في شجرة سروٍ رائعة ناضرة القَد،
يا فاتنة العود سأعرفكِ على الفور،
في وشوشة قناةٍ صافية الموج،
أيتها العابثة سأعرفكِ على الفور،
وإذا لمحَت عيناي سحابًا يتشكَّل
— يا من تتعدَّد أشكالكِ —
أعرفكِ على الفور.
في سجاد المرج الأخضر تحت قناع الزهر
أعرف حُسنكِ، يا من زينتكِ ضياء البدر،
وإذا اللبلابة مدَّت ألف ذراعٍ نحو الأرض،
يا من عانقت الكل سأعرفكِ على الفور.
وإذا اشتعل الجبل بنيران الفجر،
يا من أسعدت الكل أحيِّيكِ على الفور،
ولو الأفق ترامَت قُبَّته فوقي
لَتنفستكِ يا من أنتِ سماء القلب.
إن كنت عرفتُ بحسِّي الظاهر أو باللُّب،
شيئًا — يا نبع العلم — فعلمي منك،
أو سبَّحتُ بمائة من أسماء الله الحسنى
سيردِّدُ كل دعاء اسمًا لك.
(من كتاب زليخا)

(١٤) رائعٌ كالمسك أنت …

رائعٌ كالمسك أنت،
حيثما كنت يفوح العطر منك،
وتشي الأنفاس بك …

(١٥) أسألكم هل تعرفون …؟

أسألكم هل تعرفون
يا ترى ما اسم الحبيب؟
وأي خمرٍ أنتشي
بذِكرها وأستطيب؟
(عن القصائد التي ضُمَّت للديوان بعد وفاة جوته)

(١٦) خمسة أشياء …

خمسة أشياء لا تنتج خمسَا،
فافتح أذنيك لتستوعبَ هذا الدرسا:
لا تنبُت في صدر المغرور زهور الوُد،
ورفاق الخِسَّة والوُضعاء عديمو الذوق،
والعظَمة لا يدرك ذُروتها شريرٌ وغْد،
والحاسد لا يرحم عريًا،
والكاذب يطمع عبثًا في ثقة الناس،
فاحفظ هذا الدرس (وأمِّنْه بالحراس)،
واحذر لا يسرقه أحد (الأنجاس)!
(من كتاب التفكير)

(١٧) الفردوسي يقول …

«أيها العالم قُبِّحتَ وما أفظع شرَّك!
أنت تغذو وتُربِّي،
وبنفس الوقت تُهلِك!»
(من كتاب التفكير)

(١٨) إن شكا المظلوم يومًا للسماء …

إن شكا المظلوم يومًا للسماء،
قد حُرِمت العون منهم والرجاء،
فدواء الجرح إن عزَّ الدواء
كلمةٌ طيِّبة فيها الشفاء!
(من كتاب الحِكم)

(١٩) إن ميراثي لرائع

إن ميراثي لرائع،
وهو موفورٌ وشاسع!
فملكي الزمان،
وحقلي الزمان …
(من كتاب الحِكم)

(٢٠) افعل الخير

افعل الخير لأجل الخير وحْدَه،
ثم سلِّمه لنسلٍ من دمك،
فإذا لم يجنِ أولادُك منه؛
فهو لن يُخلِف للأحفاد وعْدَه …
(من كتاب الحِكم)

(٢١) إن كنت تحاذر

إن كنت تُحاذر ألَّا ينهبك الناهب ويشينك،
فاكتم ذهبك وذهابك، واكتم دينك …
(من كتاب الحِكم)

(٢٢) لما قتلتُ عنكبوتًا ذات يوم

لما قتلتُ عنكبوتًا ذات يوم،
فكرتُ: هل كان صوابًا ما فعلت؟
لقد أراد الله أن يصيبه
من هذه الأيام مثل ما أصبت …
(من كتاب الحِكم)

(٢٣) الشعب والخادم والحكام …

الشعب والخادم والحكام
يعترفون دائمًا وكل حين
بأن أسمى بهجةٍ ينالها الإنسان
شخصيةٌ واحدة (واضحة الجبين)،
وتستوي أي حياةٍ تُعاش،
إن أنت فيها النفس ما ضيَّعت،
فكل شيءٍ ضائعٍ يهون
إذا بقيتَ دائمًا من أنت.
(من كتاب زليخا)

(٢٤) إذا أردتَ حياة

إذا أردتَ حياة
بغير همٍّ وفكر
فاجعل رفيقَيك دومًا
كأسًا وديوان شعر!
(من كتاب الحِكم)

(٢٥) هل القرآن قديم؟

هل القرآن قديم؟
شيءٌ لا أسأل عنه!
هل هو مخلوق؟
شيء لا أدريه!
أما أن القرآن كتاب الكتب
فهذا ما أعتقِد ويفرضه واجبي كمسلم.
وأن الخمر قديم قِدم الأزل
فذلك شيء لا أتشكك فيه.
ولعل القول بأن الخمرة
خُلِقَت قبل ملائكة الله،
ليس خيالًا وحديث خرافة،
فالشارب — مهما تكُن الحال —
يُعايِن وجه الله
بعينٍ أكثر نضرة …
(من كتاب الساقي)

(٢٦) حق علينا أجمعين

حق علينا أجمعين السكْر،
إن الصبا سكْر بغير خمر،
إن جدَّد الشيخ صباه بالشراب
فذا فضيلة وغاية الصواب،
حياتنا تكفَّلَت بالغمِّ والهموم،
والهمُّ لا تطرده
إلا يد الكروم!
(من كتاب الساقي)

(٢٧) الآن لا شك هناك

الآن لا شك هناك لا سؤال،
حُرِّمَت الخمر علينا لا جدال،
فإن قضى بشربها وقُدِّر المقدور،
فاشرب إذَن من أجوَد الخمور!
ستستحقُّ اللعن مرَّتَين
إذا شربتَ ثم كان السكْر بين بين!
(من كتاب الساقي)

(٢٨) شدوُ البلبل في الليل

شدوُ البلبل في الليل تصاعَد وسط الأنواء،
نفذ الصوت العذب لعرش الله الوضَّاء،
كافأه الله على شدوِه،
في قفصٍ ذهبي حبسَه،
والقفص ضلوع الإنسان.
لم يزل الروح يحسُّ بضيق السجن،
ولا ينفك يردِّد نغمًا حلو الأصداء
حين يفكر في محنته كالعقلاء!
(من كتاب الأمثال)

(٢٩) تركتُ جوف محار لؤلؤة

تركتُ جوف محار لؤلؤة،
زينة اللؤلؤ من أصلٍ نبيل،
هتفَت بالصائغ الطيِّب أن
يصنع المعروف فيها والجميل:
– «إن ثقبتَ الرأس مني فلقد
ضعتُ وانهدَّ كياني وانحطَم،
سأذوق المُر لو جمَّعني
ورفاق السوء عقدٌ منتظم!»
– «لستُ أبغي الآن إلا مكسبي،
فاعذريني واغفري ظلمي لكِ،
كيف للعقد إذَن أن يزدهي
لو ترفَّقتُ ولم أقسُ عليكِ؟!»
(من كتاب الأمثال)

(٣٠) طابت ليلتكم

نامي الآن
يا أشعاري المحتشدة في الديوان
على صدر الشعب،
ولينشر جبريل بفضل الله
سحابة مِسك
فوق الجسد المكدود المتعَب،
كي يمضي الشاعر وهو معافى،
مرح — كالعهد به — وودود،
فيشقُّ الصخر
وينفذ منه إلى الفردوس ويصحب
— وهو سعيدٌ منشرح الصدر —
كل الفرسان وأبطال الموكب
من كل زمان،
ويجوب الكون ويرعاه الرب،
وهنالك يزكو الحُسن ويتجدد
في كل مكان،
وبه تسعد كل الناس وتطرب،
ويحق لقطمير، الكلب الطيب،
أن يدخل مع سادته،
جنات الخلد
(ويهنأ بنعيم الحب)
ويسعد …
(من كتاب الفردوس)

للديوان الشرقي معي قصةٌ طويلة … وقع في يدي لأول مرةٍ في أواخر الأربعينيات في طبعته العربية الأولى التي أصدرها أستاذي الجليل عبد الرحمن بدوي (قبل أن يُصدر طبعته الموسَّعة المحقَّقة في منتصف الستينيات) وبالطبع لم أستطع في تلك الفترة من شبابي الحالم التائه أن أتذوق عذوبة شعره أو أدرك مدى عمقه وأهميته لنا نحن العرب بوجهٍ خاص، ثم قُيِّض لي في أوائل الستينيات أن أقرأه وأدرسه في لغته الأصلية على يد أستاذٍ محِبٍّ للشعر ومتخصص في أدب جوته أثناء سنوات الطلب في جامعة فرايبورج، وظلَّت أغاني الديوان تتردَّد في كياني وتهزُّ وجداني وتتنفس حيةً مرحة صافية في بئري العميقة أو ملجئي السرِّي الذي تنزوي فيه أحزاني وأحلامي ومشروعاتي التي تنتظر — انتظار الأرواح قبل التجسُّد! — أن تُولَد تحت الشمس وتبزغ للنور بوجهٍ مبتسم وضمير مستريح …

وكان أن عكفتُ في منتصف السبعينيات على معايشة الديوان وتجربته من داخله، كما فعلتُ وأفعل مع كل النصوص الأدبية والفلسفية التي ألتقي بها، وتمخضَت الساعات الممتعة — وربما لم تُتَح لي قبلها ولا بعدها متعةٌ تعدِلها أو تدانيها في الصفاء والنقاء والفرح الحقيقي! — عن كُتيِّب نشرَته دار المعارف بالقاهرة في سلسلة اقرأ في شهر فبراير سنة ١٩٧٩م وعليه صورة من رسم الفنان المرحوم جودة خليفة لوجه جوته الرزين بعينَي النسر السوداوَين العميقتَين اللتَين تُطلَّان على العالم الطبيعي الذي توحَّد به، وعلى مروج الأدب العالمي الذي كان أول من بشَّر ببداية عصره واتحد بكل التقدير والعرفان مع أعلامه من كل اللغات والحضارات والبلاد … وتضمَّن الكتاب فصولًا مختلفة عن علاقة جوته بالأدب العربي وبالإسلام ورسوله الكريم، مع فصلٍ مطوَّل عن قصة نشأة الديوان وبداية انهمار قصائده على قلب الشاعر في وقت تلبدَت فيه سماء بلاده بسُحب حرب التحرير من قبضة نابليون، كما خيَّمَت على قلب الشاعر كوابيس الاكتئاب من الشيخوخة الزاحفة، إلى أن فاجأَته نعمة الحب لشاعرةٍ رقيقة (هي ماريانة فون فيلليمير التي أطلق عليها في الديوان اسم زليخا …) غمرَته بعطائها السخي، وتركَته ينهل من نبع حنانها ووفائها وإجلالها أيضًا. وكان أن جدَّد الشاعر الكهل ربيع شبابه وإبداعه معًا، وتتابعَت قصائد الديوان وأغانيه في تدفُّقها من النبع الذي كان قد أوشك على النضوب والجفاف … ومن هذه القصائد والأغاني — التي امتزجَت فيها أنغام الدعابة والمرَح الصافي مع ألحان الأسى والخوف من الفراق المحتوم — قدمتُ ما يقرب من ستِّين قصيدة ومقطوعة مختارة من أشعار الديوان، وبقي التعطُّش لتقديم الديوان كله في ثوبٍ عربي ملائم كأنه حريق صغير لا يخمد في نفسي ولا ينفك يطالب بإطفائه … حتى أتاحت ظروف حياتي — بعد ترك التعليم الجامعي إلى غير رجعة — أن أعكف من جديد على تعريب الديوان بأكمله مع شرح قصائده شرحًا مستفيضًا (صدَر عن مكتبة أبولُّو بالقاهرة في سنة ١٩٩٧م)، ولمَّا كنتُ قد ذكرتُ في هذه الطبعة كل ما أمكنني ذِكره مما يهمُّ القارئ العربي ويثير شغفه وتقديره لتجربة جوته الفريدة مع الشرق والإسلام والأدبَين العربي والفارسي؛ فسوف أكتفي بهذه الفقرات القليلة للتعريف بالديوان نفسه قبل الانتقال لشرح القصائد والمقطوعات المنظومة التي اخترتُها منه:

كثيرة هي الكتب التي نقرؤها، ونادرة هي الكتب التي نعايشها ونعيش بها ومعها. والديوان الشرقي هو أحد هذه الكتب التي تصحبنا في رحلة العمر، نرجع إليه بين الحين والحين لنستمد منه العزاء والإيمان، وننهل منه الحكمة والحب، ونجد في أشعاره النقية وألحانه العذبة من الصفاء والمرَح والجمال ما يردُّ إلينا الانسجام المفقود في عالمنا المزدحِم بالقبح والفوضى والأنانية والصغار والفساد، ثم إنه — بجانب فاوست وأفيجينيه وتوركواتو تاسو — أعظم ما أبدع هذا الشاعر الحكيم وأصدقه تعبيرًا عن قلبه الرقيق وفكره العميق وتجربته الغنية بالطبيعة والحياة. وربما كنا — نحن القراء في الشرق — أحق بهذا الديوان من قُرَّائه الغربيين وأقدر منهم على تذوُّقه وتقديره، والإحساس بصوره ورموزه وإشاراته؛ فكم من قصيدة تهبُّ علينا منها أنفاس الصحراء العربية، أو تستوحي روح الإسلام وعالمه السمح وآيات كتابه الكريم، وكم من حكاية أو نادرة مستلهَمة من حياة النبي وأولياء الله الصالحين والشهداء المجاهدين في سبيله. وكم من اسمٍ يتردَّد من شعراء العرب والفُرس الذين نعرفهم أو على الأقل نقرأ لهم أو نسمع عنهم ونألَف صورهم وأخيلتهم ولا نجد مشقَّة في التعاطُف معهم ومشاركتهم في حبهم وحزنهم أو في لهوهم وعبثهم. لن نتصور هذا كله — كما قد يتصوره القارئ الغربي — مجرد تلاعُبٍ ذكي بأقنعةٍ شرقية يتوارى خلفها شاعرٌ كهل ليعكس عليها لواعج حبه المشبوب لفتاة في عمر أبنائه، أو سخطه على بعض الأدباء الأدعياء واضطراب الحياة الأدبية في عصره، بل سيزداد عجبُنا وإعجابنا بهذا الشاعر الذي يستقبل «النور الطالع من الشرق» ويجدِّد شبابه وشاعريته فينطلق فوق جواده ولا شيء فوق رأسه إلا النجوم، ويسافر مع القوافل ويحضر مجالس الشراب في الحانات، ويخالط الندامى والعشاق والدراويش، ويغنِّي بلسان حافظ والسعدي والمجنون وكُثيِّر وجميل والطغرائي وزليخا وهدهد سليمان وحوريات الفردوس، ويقيم جُسورًا من الحب والتقدير والعرفان والتسامح والحوار الوُدِّي الجميل بين الشرق والغرب الذي ظل شعراؤه قرونًا طويلة يتغنون بآلهة الأوليمب وأساطير الإغريق والرومان، ويلهثون في آثار هوميروس وبندار وأوفيد وفرجيل، دون أن يحفلوا بالشرق أو يحاولوا طَرق أبوابه التي أوصدَتها دونهم أقفال الجهل والتعصب، حتى جاء هذا الشاعر فبدأ عهدٌ جديد للاهتمام بتراث الشرق واستلهامه ودراسته دراسة علمية جادة ومنصفة …

لم يسبق لشاعرٍ غربي قبل جوته أن فتح هذه الأبواب — بكل الحب والسماحة والإرادة الطيبة — لينفُذ إلى عالم الشرق الفسيح، ويتجول بين شعوبه وحضاراته المختلفة على مرِّ العصور، ويسافر في بحاره ومُدنه وصحاريه، ويفتح قلبه وبصره وبصيرته على كتبه وأسراره، ويدير في النهاية هذا الحوار الشيِّق بين القارات والقرون والأديان والعادات والتقاليد …

ومع ذلك — وتلك هي معجزة الاستلهام الأصيل! — لم يضيِّع الشاعر نفسه في الغربة، ولم ينس ذاته أو هويته في الفيافي ومضارب الخِيام. لقد سجَّل يوميات رحلته الشرقية شعرًا في هذا الديوان، ولكنه بقي ديوان شاعرٍ غربي تتغنى قصائده بالمدن والحانات التي زارها، والخمور التي ذاقها، ونعمة الحب أو مرارة الهجر التي تجرَّعها وكابَدها. وكما تدل كلمة الديوان الفارسية الأصل على الجمع أو المجموع، كذلك تؤلِّف أشعار الديوان بين الشرق والغرب، والعام والخاص، وأقدار الطغاة الجبابرة والشعوب والحضارات الغاربة، وكأنما هي مرايا تعكس ذلك الحوار العابث الجاد في وقتٍ واحد في اثني عشر كتابًا تشبه اثني عشر وتَرًا تتوافق لعزف لحنٍ واحد ينبعث من آلةٍ واحدة (والكتب الاثنا عشر هي على الترتيب: كُتب المغنِّي وحافظ والعشق والتفكير والضيق والحكمة وتيمور وزليخا والساقي والأمثال والبارسي أو المجوسي والفردوس، وكلها متبوع بكلمة نامه الفارسية أي كتاب)، ولهذا كله لم يخطئ بعض الباحثين عندما وصفوا الديوان بأنه سيمفونية شعرية ترتبط فيها البداية بالنهاية، ويظهر اللحن ليختفي ثم يتكرر ظهوره، أو عندما شبَّهَه الشاعر نفْسُه بسجادةٍ فارسية تتشابك فيها القصائد كما تتشابك الخيوط والزخارف، وتستغرق الأجزاء في الكل كما يشتمل الكل على الأجزاء، أو كما وصفه البعض بأنه عالَم من المرايا المراوغة التي تعكس الشيء ونقيضه وتنويعاته المختلفة، وتتجلى فيها ذات الشاعر الصافية العالية التي تدير الحوار مع شعراء الشرق وعشاقه ونساكه وحكامه وسقاته وعبيده في مختلف الأزمنة والأمكنة، بل في الفردوس الخالد نفسه، بروح الحب والتفهم والتعلم والتعاطف الصادق البريء من التحيز والأحكام المسبقة؛ لأنه يحتضن الطبيعة والعالم، والمكان والزمان، والشرق والغرب، والآداب والأديان، والماضي والحاضر والمستقبل، في وحدة وجود وحب شعرية واحدة …

ونأتي إلى الشرح والتعريف المختصَر بالقصائد؛ فنبدأ بالمقطوعة الأولى التي تشبه أن تكون شعارًا يلخِّص روح الديوان:

(١) تمائم: تعبِّر هذه الأبيات القليلة عن رؤية جوته الدينية والكونية التي امتزجَت بالرؤية الشرقية، وتقوم نواتُها على التسليم بقدرةٍ عالية تفعل فعلها الأبدي على نول الزمان المدوِّي لنسج ثوب الألوهية الحي؛ على نحو ما يقول الشاعر نفسه في فاوست الأولى، البيتين ٥٠٨–٥٠٩ وفي فاوست الثانية، الأبيات من ١١٨٦٢–١١٨٦٥: «حتى يطيح العدم بكل ما هو زائل، ويسطع الكوكب الباقي، نواة الحب الأبدي.» وكذلك في مواضع مختلفة من كتاب الفردوس، ومن التعليقات والأبحاث التي ألحقَها الشاعر بالديوان حيث يذكر — في الفقرة التي خصصها لجلال الدين الرومي — اسمَ الله سبحانه وأسماءه الحسنى. وهذه الأبيات تقوم أيضًا على مبدأ الاستقطاب الجدلي الذي يؤدي دورًا هامًّا في تفكير جوته ورؤيته للطبيعة والحياة والفكر، ويتمثل في عمليتَي القبض والبسط التي تعتمد عليها الحياة الطبيعية والحياة العقلية والروحية، وغنيٌّ عن الذكر أن السطور الأربعة الأولى مستوحاة من الآيتَين الكريمتَين من سورة البقرة (١١٥–١٤٢) «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم» و«قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم» …

(٢–٣) من يعرف نفسه، وحافظ، أأسوِّي نفسي بك؟

يتكرر معنى القصيدتين — اللتَين ضُمَّتا إلى طبعات الديوان بعد وفاة جوته الذي لم ينشرهما ضمن طبعتَي أعماله الكاملة في سنتَي ١٨١٩ و١٨٢٧م — في مواضع أخرى من الديوان، بل يسري في الروح العامة للديوان نفسه الذي يشبه أن يكون جسرًا شعريًّا ممدودًا بالمحبة والتقدير والوُد المتبادَل بين الشرق والغرب، يقول الشاعر مثلًا في المقطوعة رقم ٨١ من كتاب الحِكم:

«اعترفوا بأن شعراء الشرق/أعظم منا نحن شعراء الغرب/أما الشيء الذي نجاريهم فيه سواء بسواء/فهو حقدنا على أمثالنا من الشعراء …»

كما يقول أيضًا في المقطوعة ٤٦ من الكتاب نفسه:

«رائع هو الشرق/الذي جاوَز البحر المتوسط/لن يفهم غناء كالديرون/إلا من أحب حافظًا وعرفه» …

ويتكرر كذلك معنى القصيدة الثانية «حافظ، أأسوِّي نفسي بك؟» في قصائد أخرى من الديوان يتردَّد فيها الإعجاب بحافظ «توءم الروح».

والإشادة بحكمته وعظَمته وتحرره، ونجد ذلك في عددٍ من قصائد الكتاب الذي يحمل اسم حافظ وهي «بغير حدود» و«لقب» و«محاكاة».

وربما كان المقصود بالسفينة — التي تمخر عباب الماء بجسارة ثم تحطمها أمواج المحيط فتسبح فيه كقطعة خشبٍ متهرِّئ — هي قصيدة الشاعر الغربي التي تحاول أن تكون شرقية فيصيبها الاضطراب أو يضطرب الشاعر نفسه الذي يؤكد بتواضُعٍ ونُبل بأنه لا يساوي نفسه بزميله الشرقي، وإن كان يصف نفسه بعد ذلك أو يعزِّيها على الأقل بأنه زار بلاد الشمس (أي إيطاليا إبَّان رحلته المشهورة، وكذلك منطقة الراين) وهناك جرَّب الحياة وسعد بنعيم الحب.

(٤) حنينٌ مبارَك: أرجو ألَّا أكون مبالغًا في القول أو مغاليًا إذا ذهبتُ إلى أن هذه القصيدة هي واسطة عقد الديوان وقلبُه النابض وجوهرته الثمينة، وهي كذلك كالجذر الذي تتفرع عنه أهم موضوعات الديوان، كالحب الذي يشمل كتابَي العشق وزليخا، والدِّين الذي تسري روحه الورِعة في الديوان بأكمله — لا سيما كتاب البارسي (أو المجوسي) وكتاب الفردوس (أو الخلد). وليس من قبيل الصدفة أن تُوضَع هذه القصيدة في آخر الكتاب الأول، وهو كتاب المُغنِّي؛ لأن موضوعه يمهِّد في الحقيقة لوحدة السياق أو البنية التي تربط بين الكتب التالية له، وهو موضوعٌ قلَّما كشف عنه جوته إلا بمنتهى الحذَر (كما فعل في مسرحيته المبكرة بروميثيوس التي لم يكملها، وفي قصيدته المتأخرة مرثية) وكيف كان من الممكن أن يفعل غير ذلك وهدفه من هذا الحب هو الصعود إلى المحبوب الأعظم شوقًا للاتحاد به والفناء في نوره كما تحنُّ الفراشة للفناء في اللهب؟

والمعروف أن السطور الأولى للقصيدة تشير لأبيات حافظ الشيرازي التي يقول فيها: «هل يدري العوام ما قيمة الدُّر الكريم؟ كلا! لا تُلقِ الجواهر إلا للعالِمين.» ومن المعروف أيضًا أن تشبيه النفس أو الروح بالفراشة تشبيهٌ متكرِّر وشائع في الشعر الشرقي (الفارسي والعربي، لا سيما الشعر الصوفي) وأن عشقها (أي الفراشة) لنور الشمعة الذي يدفعها لأن تطير نحوه متلهفة على الاحتراق فيه، يفسَّر بمعانٍ صوفية مختلفة، سواء في الشعر «الدنيوي» أو في شعر الحب الإلهي. والواقع أن جوته ينظر بعقلية الشاعر والعالِم في ليلة من ليالي الصيف إلى الفراشة التي تُلقي بنفسها في لهيب الشمعة، ثم يتتبع تحولاتها المختلفة فيعتبر أن موتها هو المرحلة العليا والأخيرة التي تسمو فيها إلى كمال وجودها في الوقت الذي يفنى فيه هذا الوجود، أي أنها تحافظ على هويتها أو شخصيتها الحقيقية — إذا جاز هذا القول! — عندما تتخلى عنها وتبذلها حين تتحول وتصير، وهذا هو الذي يعبِّر عنه فعل الأمر الغامض الرهيب في النص الأصلي: «وطالما أنك لم تبلغ هذا، وهو مُت وصِر (أو وكُن)، فستبقى ضيفًا عكرًا (أو معتمًا) فوق الأرض المظلمة» (وإذا لم تُصغِ للصوت القديم، داعيًا إياك مُت كيما تكون، فستبقى دائمًا ضيفًا يهيم، في ظلام الأرض كالطَّيف الحزين) واللافت للنظر أن الشاعر لا يذكر الفراشة إلا قرب نهاية القصيدة التي يبدؤها بالثناء على الحي بشكلٍ عام ومطلَق، كما يوجِّه كلامه إلينا بصيغة المخاطَب الفرد، أي بأنت التي تنتمي إلى الحي الذي يمتدحه، وبهذا نتَّحد نحن أيضًا مع «الأنت» التي يخاطبها، ثم مع الفراشة التي ترمز للوجود المبذول أو المضحَّى به في العطاء الذي ليس بعده عطاء، أي للوجود الذي يتحول بالاحتراق فيكون بحق أو يصير إلى حقيقته …

أما المقطوعة الأخيرة فيصعب فهمها وتفسيرها، اللهم إلا أن يكون معناها أننا — نحن الذين يوجه إلينا الخطاب مباشرة — نستطيع أن نحقق هذا الوجود الأكمل في هذه الحياة نفسها، وكأنما هي دعوةٌ للجود في أسمى صوَره التي يتحول فيها الموجود إلى عين الوجود، من خلال الحب «الحقيقي» الذي توحي القصيدة بأن الذين جرَّبوه على حقيقته هم الفراشة والعاشق والمتصوِّف … ولعلها قد أرادت أيضًا أن تشير إلى «السر» الذي طلبَت منا أن نضنَّ به على الجهلاء والسفهاء، وهو أن الثلاثة الذين ذكرناهم الآن هم «مُثُل» الحب المجسَّدة، أو هم في الحقيقة مثالٌ واحد لمحبٍّ واحد أخلص في الحب حتى احترق كالفراشة، أو فَنِي في ذات الله كالمتصوف، أو كابَد الحب «الأرضي» الطاهر الذي هو في صميمه نوع من الحب الإلهي، وكلها كما ترى دوائر متداخلة مركزها الوحيد هو الحب، والحب هو النواة أو البذرة الأولى التي ينمو منها كل ما هو حقيقي وجوهري وأصيل وفعَّال …

إن الحديث عن هذه القصيدة — التي وُضِعَت عنها بحوث وأُلِّفَت عنها كتب ورسائل كاملة! — وعن أسرارها وإيحاءاتها وصعوباتها حديث لا يمكن أن ينتهي … وعليك أنت أن تقرأها وتتحاور معها وتعايشها وتجربها بنفسك لتستخرج منها ما تشاء من التفسيرات، وتتذوقها بما يتوافق مع موهبتك وثقافتك وميولك العقلية والوجدانية …

(٥) يمكن وصفُ هذه القصيدة بأنها إعادة إبداعٍ لقصيدةٍ سبق أن أبدعها الشاعر التركي نيشاني (عاش على عهد سليمان الأول سنة ١٥١٩–١٥٦٦م)، كما يمكن القول أيضًا بأنها احتفظَت بطابع شعر التجربة الشخصي عند جوته، وأن اعتماده على النموذج الأصلي لم يُقلِّل من النغمة الأسيانة التي تكسوها وتعبِّر عن نفسها بالإيقاعات الحرة، بحيث يمكن أن تُوضَع بجوار قصيدة «عزاء سيئ» التي سنتحدث عنها بعد قليل، وإذا كان مترجم هذه القصيدة إلى الألمانية، وهو هينريش فون دييتس (الذي قرأ جوته ترجمته لها في كتابه ذكريات من آسيا) إذا كان قد فسَّر الحب والمحبوب فيها بأنهما إلهيان، وزعم أن كل سطر من سطور القصيدة يتحدث عن الحب الإلهي؛ فإن جوته بفطرته الأرضية، قد حوَّل هذا الحب إلى حبٍّ دنيوي وإنساني خالص. والجدير بالذكر أنه (أي جوته) قد خلط سهوًا في النص الأصلي بين نيشاني ونظامي، الشاعر الفارسي الذي عاش قبل الشاعر التركي بأربعة قرون، ولذلك صحَّحْنا الاسم في الصيغة العربية …

(٦) عزاءٌ سيئ: لا عجب أن نجد هذه القصيدة أيضًا في كتاب العشق بعد القصيدة السابقة بقليل، وأن نسمع النغم الحزين يتردَّد فيها كما سمعْناه في «كتاب مطالعة» وفي قصائد عديدة من كتاب زليخا والقصائد التي نُشِرَت بعد وفاة الشاعر (كالقصيدة الشهيرة التي ربما تأثر فيها بمطلع معلقة امرئ القيس) طالما تغنَّى جوته الشاب بقصائد الألم والحسرة والعذاب، ولكن الكهل الذي يتغنَّى بهذه القصيدة بعد أن بلغ الخامسة والستِّين لا يستطيع أن يتخلى عن روح الدعابة أو التهكُّم على الذات، وكأن عنصر التأمل في المرآة قد أضيف بحكم السن وإن لم يُقلِّل من عمق الألم بحالٍ من الأحوال …

وإذا كانت القصيدة السابقة تُبقي على شعاعٍ من الأمل في لقاء الأحباب بعد عذاب الهجر واليأس والحرمان؛ فإن هذه القصيدة تهوي بنا في قاع اليأس الفاجع من الحب والحكمة جميعًا، بحيث لا يبقى إلا الصمت (على حدِّ قول هاملت …) وغنيٌّ عن الذكر أن أشباح الليل أو أطيافه مألوفة في الشعر الشرقي — الفارسي والعربي — كما هي معروفة في العهد القديم (قارِن على سبيل المثال سفر أيوب، ٤: ١٣–١٧).

(٧) أخذَت منك السنوات: من أهم القصائد التي تُشعرنا بالصفاء الروحي والفكري الذي يتنفسه الديوان كله.

والبيتان الأخيران يدلان على الطابع العام للديوان الذي يتجلَّى في الحرص على الربط بين الأعلى والأدنى، والروحي والجسدي، والمعنوي والتجريبي، والحسي وما فوق الحس … وقد لاحظ بعض الشراح أن كلمة «الفكرة» — ولها أهمية كبرى في عالم جوته ورؤيته الكونية والدينية والعلمية — لم تظهر في الديوان كله، ولم ترد إلا في السطر الأخير من هذه القصيدة. وإذا كانت الفكرة تأتي هنا مرتبطة بالحب، فإن هذا يدل على الروح العامة للديوان؛ لأن الشاعر الكهل الذي يشارك بفكره وعقله في إدراك وحدة النظام الكوني، لا يقدر على تحقيق هذه المشاركة إلا عن طريق الحب، ومعلومٌ أن الفكر والحب كليهما طريق إلى المطلَق، وطوبى لمن يجمع بينهما ويحرص على وحدتهما في حياته العامة والخاصة حتى النهاية، كما فعل هذا الشاعر المحِب الحكيم.

ويضيق المقام عن شرح معاني الفكرة كما تظهر عنده في عالم التجربة والأخلاق والحياة الباطنة، وكما تتحكم على هيئة القانون في عالم الظواهر، بحيث تكون مهمة العلم هي اكتشافها من خلال هذه الظواهر نفسها … وسواء سمَّينا هذه الفكرة بالظاهرة الأولى أو بالمثال الأفلاطوني أو بالواحد الأفلوطيني أو بالأبدي والإلهي الخالد؛ فإن عالم الظواهر والمظاهر الذي نعيش ونضطرب فيه — ولن يتسنَّى لنا، كما يرى كانط، أن نُدرك سواه إدراكًا «ذهنيًّا أو علميًّا» — هذا العالم الوحيد الممكن والقابل لمعرفتنا ليس إلا انعكاسًا باهتًا لتلك الفكرة. (تأمَّل مدى تأثير فلسفة كانط المعرفية والأخلاقية على شاعرنا، وإن كان هذا التأثُّر يسير في طريق الفن وبأدوات الشعر ولا ينزلق أبدًا إلى التجريد الجاف!)

(٨) زليخا تقول: يختتم كتاب التفكير بهذه الأبيات الحلوة على لسان محبوبة الشاعر التي خلع عليها اسم زليخا، امرأة العزيز وفاتنة يوسف الصديق، وهي تأتي ردًّا على أبيات سابقة على لسان الصوفي الكبير مولانا جلال الدين الرومي يقول فيها: «إن أقمتَ في العالم فرَّ منك كالحلم، وإن رحلتَ حدَّد لك القدَر المكان، لا الحر ولا البرد يمكنك التحكُّم فيهما، وكل ما يزدهر أمام عينيك سيشيخ على الفور ويذبل.» ولا بُد أن كلمات زليخا تحمل الردَّ على كلمات الصوفي الجليل، صحيح أن كل شيء سيمرُّ كالحلم، وأن الحياة كلها حلم ينتهي بشهقة الموت أو صيحته الأخيرة (التي ربما تتجاوب عندئذٍ مع الصَّيحة الأولى للميلاد …) ولكن الشاعر يأبى أن يسلِّم بالموت والفناء والذبول الحتمي لكل ما هو حي أو مزدهر، وتكاد تحس أنه يشك في تلك الحقيقة الكبرى أو الحقيقة الوحيدة التي نسميها الموت، وما ذلك إلا لسببٍ بسيط يلخصه الشاعر في هذه العبارة التي سبقه إليها العديد من الفلاسفة القدماء والمحدَثين لا شيء يموت أو يفنى، بل كل شيء يتحول ويصير. ولعل هذا الإيمان بتحوُّل كل شيء هو الذي يشدُّ أزر الشاعر ويحفزه على العمل المبدع؛ لأن كل لحظة من لحظات نهر الزمن المتحول تدعوه لأنْ يسبح فوقها ويمسكها من شعرها المزبد ويروضها لتحمل على صدرها قارب إبداعه الذي لا يتوقف هو أيضًا عن التحرك والتحول والجريان. ولو استسلم المبدع لفكرة الموت المطلَق لَما بقي ثمة معنًى لأي جهدٍ بشري، ولا بقي ثمة أمل في بقاء أي شيء، بما في ذلك الشعر والأدب والفن والعلم والحضارة.

وزليخا لا تقول شيئًا أكثر ولا أقل من هذا … وهي تقوله أثناء النظر في مرآتها التي تجلو جمالها الرائع الذي يطارده الناس — كأنما يشمتون فيه ويعزُّون أنفسهم عن عجزهم عن تذوُّقه والاستمتاع به! — يطاردونه بكلامهم الذي يشبه نعيب البوم: حتى هذا الجمال سيذبل يومًا وسيفنى … لكن زليخا تُواصل تأمُّل مرآتها، وربما تستمر في الابتسام أو الضحك قائلة: ما من شيء يفنى، فكل شيء في الحقيقة خالد وإلهي، وجمالي هذا الذي أعلم أنه عابر، وأنه سيذوي ويموت ذات يوم، إنما يكشف في هذه اللحظة عن الجمال الإلهي الخالد، فهيَّا اعبدوا الله واعشقوه في جمالي، اعبدوه الآن، واعشقوه في هذه اللحظة التي يمكننا — أنتم وأنا — أن نُعاين فيها وجه الله وفعله الأبدي، وأن نملأها بالحب والجمال والإبداع المتجدِّد.

(٩) ما خاب لصبٍّ مسعاه: استوحى جوته هذه الأبيات من ترجمة أولياريوس (١٦٥٤م) لبستان السعدي: «لو أحببتَ إنسانًا حبًّا صادقًا لوَّجهتَ قلبك إليه، وأغمضتَ عينيك عن كل شيء في العالم. ولو بُعثَت ليلى والمجنون مرةً أخرى إلى الحياة وقد نسيا الحب تمامًا لَتعلَّما من جديدٍ فن الحب من كتابي.»

وهذه هي إحدى المرات القليلة التي يظهر فيها اسم ليلى والمجنون في الديوان كرمزَين مثاليَّين على الحب الصادق العفيف، راجع كذلك قصيدة «نماذج»، وهي أُولى القصائد في كتاب العشق.

(١٠–١١) حين أكون بعيدًا عنك، إن قدَّر الدهر يومًا: يظهر في هاتَين المقطوعَتين موضوع الهجر والفراق للأحباب، وهو الذي غمر قلب الشاعر بالقلق والخوف ثم انتهى إلى التسليم به بعد أن رجع إلى مستقَره في فيمار بعد زيارته للشاعرة المحبوبة في منطقة الراين وتخلِّيه — لأسبابٍ مختلفة — عن فكرة الاقتران بها تخلِّيًا نهائيًّا … وفي المقطوعة الثانية (إن قدَّر الدهر يومًا) تأثُّر واضح بأبياتٍ شرقية — ترجع للشاعر التركي كاتبي رومي — ذكرها المستشرق «دييز» في كتابه ذكريات من آسيا (جزء ٢ ص٢٣٢ وترجمة عبد الرحمن بدوي ص٢٣٨): لو كان ما بينك وبين الحبيبة بُعد ما بين الشرق والغرب، فاجْرِ أيها القلب؛ لأن بغداد في نظر المحبِّين ليست بعيدة.

ونغمة الألم التي تسود هذه الأبيات ستصل إلى ذروة المأساة أو عمقها العميق في القصيدة التالية (صدى).

(١٢) صدى: المقصود أنها صدى لقصائد سابقة في الديوان عبَّر فيها الشاعر عن إحساسه بالعظمة لاتحاد «أناه» بالأنت المحبوب إلى حد وصف نفسه بالشمس أو بالقيصر الذي يتفوق — بفضل الحب — على كل القياصرة!

والمقطوعة المذكورة هي الثالثة في هذه القصيدة، التي تبدأ المقطوعة الأولى منها بترديد المعنى الذي سبقَت الإشارة إليه:

«ما أروع الرنين حين يشبه الشاعر نفسه/مرةً بالشمس ومرةً أخرى بالقيصر …»

ثم تهبط فجأةً في السطرَين التاليَين إلى طبقةٍ أعمق ونغمةٍ أبطأ تذكِّرنا بقصيدة «عزاء سيئ» (التي سبق الحديث عنها، وهي القصيدة التاسعة من كتاب العشق)، كما ترسم صورة الوجه الحزين الذي يُخفي الشاعر قسماته المكتئبة عندما يتسلل وحيدًا في الليالي المعتمة:

«إلا أنه يخفي قسمات وجهه الحزينة/عندما يتسلل في الليالي المعتمة.»

ثم يستدعي الوجه الحزين — في المقطوعة الثانية — صوَرًا أخرى أكثر حزنًا، كسيور السحب ودموع القلب الكابية، وكأنها بقعٌ غامقة على لوحة القلب التي سوَّدَتها شيخوخة الحزن:

«غاصت زُرقة السماء الناصعة في ظلام الليل، بعد أن دثَّرَتها السحب بسيورها، وخدودي ضامرة كساها الشحوب، ودموع القلب كابية.»

وأخيرًا يرن صوت الأنا، بل ينفجر مستغيثًا بالأنت المحبوب، بعد أن غاص في قرار الألم الوحيد المظلم، ولم يبقَ أمامه إلا أن يستنجد بشمعة حياته وشمسها ونورها الذي حُرِم منه.

وعلينا أن نلاحظ تكرار الصور المعبِّرة عن النور الذي يحتل مكانةً سامية في تفكير الشاعر ورؤيته للعالم الذي ليس في نظره إلا انعكاسًا باهتًا للنور الأولي أو الأصلي — ومن الواضح أن تشبيه الحبيب بوجه القمر، ثم بالشمعة والشمس ونور البصر، متأثرة كلها بتشبيهاتٍ شائعة في الشعر العربي والفارسي والشرقي بوجهٍ عام — ولا شك أن التوحيد بين الحبيب وبين النور — وهو الصورة المرئية أو المحسوسة التي تعبِّر عن الألوهية الفعالة في كل شيء — يحمل أثارًا من أفلاطون وأفلوطين والتصوُّف الإشراقي في الشرق والغرب، ولا عجب أن تكون آخر عبارةٍ نطَق بها الشاعر قبل وفاته هي — فيما يُقال — «مزيدًا من النور!»

(١٣) في وسعك أن تتخفَّى في آلاف الأشكال: تأتي هذه القصيدة — التي حاولتُ أن أحافظ عليها على نوعٍ من الإيقاع الذي يخلُّ في كثير من الأحيان بموازين العبقري العربي الخليل بن أحمد! — في ختام كتاب زليخا، وكأنما هي الحركة الأخيرة المتسارعة لسيمفونية الحب الذي تابعْنا صوَره ورفيف جناحَيه بين الأرض والسماء … والقصيدة مكتوبة على هيئةٍ غزلية مدورة تتكرَّر فيها كلمات وتعبيرات محدَّدة مثل الكل وعلى الفور … إلخ، كما يكرر المؤمن التَّقي تسبيحه في نغمٍ متِّصلٍ متواتر، دافئ وعميق التأثير، وتنهمر صور التبتُّل وتشبيهاته التي تسبِّح بحمد المعبود الحاضر في كل شيء، والمتجلي في كل مظاهر الطبيعة، أشبه باللحن المنسكب في تنويعات مختلفة.

وتسير القصيدة في خطٍّ لولبي يبدأ من المنبع الإلهي ليعود إليه، وكأن المحبوبة صارت هي الطبيعة، أو كأن الطبيعة أصبحَت هي المحبوبة والأنثى الخالدة (التي تغنَّى بها في ختام قصيده الدرامي الأكبر فاوست) …

(١٦) خمسة أشياء: تكاد هذه القصيدة أن تكون نظمًا لعددٍ من الأبيات التي قرأها الشاعر لفريد الدين العطار، وذلك في الترجمة الفرنسية لسلفستر دي ساسي عميد المستشرقين في ذلك الوقت (وكانت قد نُشِرَت في مجلة كنوز الشرق التي كان يصدرها المستشرق النمسوي فون همر بورجشتال، الجزء الثاني، ص٢٢٩) لكتاب الإرشاد بند نامه (راجِع ترجمة بدوي، ص١٣٨) — وقد كان العنوان الأصلي للقصيدة هو «خمسة أشياء عقيمة».

(١٧) الفردوسي يقول: أخذ جوته البيتَين الأولَين في هذه المقطوعة من الشاهنامه (من الترجمة الألمانية التي قام بها النمسوي كارل جرافلودلف المتوفى سنة ١٨٠٣م) أما الأبيات التالية للبيتَين السابقَين فتقدِّم ردَّ الشاعر الغربي المؤمن بالمثُل الإنسانية في التربية والثقافة، وباستقلال الشخصية الذي يعدُّه فضلًا كبيرًا منَّ الله به عليه … وبهذا المعنى تُوصَف الثروة الحقيقية التي ينعم بها الشحاذ أيضًا إذا استطاع أن يستمتع بجمال العالم ويهنأ بالقرب من الله والإحساس بوجوده في نبض المخلوقات جميعًا، من نبتة العشب إلى الإنسان الذي استخلفه على الأرض وسوَّاه في أحسن صورة … وإليك الأبيات التالية للبيتَين المذكورَين:

ومن يُؤثِره الله بفضله وكرمه
فإنما يغذو نفسه، ويربي نفسه، وينعم بالحياة والثراء.
لكن ما معنى الثروة؟ إنها الشمس التي تدفئ،
ويستمتع بها الشحَّاذ، كما نستمتع بها،
فلا يتبرم أحد من الأثرياء،
ولا ينفس على الشحاذ المتعة والهناء …

(١٩) إن ميراثي لرائع: يرتبط الإعلاء من شأن الفعل بتقدير قيمة الزمن وملء كل لحظاته بالعمل الخلَّاق (كما سبق التنويه إلى ذلك أكثر من مرة) نُضيف في هذا المقام الرسالة التي بعث بها جوته إلى فرتس فون شتاين في اليوم السادس والعشرين من شهر إبريل سنة ١٧٩٧م وقال له فيها: «أعترف بأن الشعار القديم الذي اتخذتُه لنفسي يزداد في نظري أهميةً على الدوام: إن الزمان ثروتي، والزمان هو حقلي.» (ورد هذا الشعار في الأصل باللاتينية) ويتصل بهذا كل ما قاله عن أهمية اللحظة، وضرورة ملئها بالعمل، وأداء الواجب فيها دون تأجيل لغدٍ مأمول وغر مأمون، وما أجمل قوله في روايته «سنوات تجوال فيلهلم ميستر»: «لا بُد من عمل شيء في كل لحظة.»

(٢١) إن كنت تحاذر: إذا أردْنا أن نستوعب نصيحة الشاعر بأن نلتزم بالكتمان في كل أمورنا (وبالأخص في الأمور المتصلة بالخَلق والإبداع!) فعلينا أن نتتبعها في مواضع كثيرة من إنتاج الشاعر الذي تقيَّد بها في حياته وعمله، إلى حدِّ العكوف على الصمت المطبِق في كثيرٍ من الأحيان … يكفي في هذا الصدد أن تراجع السطرين الأولين من قصيدته الشهيرة التي قدَّمْناها من قبل وهي «حنينٌ مبارَك»: لا تقُل هذا لغير الحكماء/ربما يسخر منك الجهلاء … إلخ، وأن تنظر في هذه الحكمة التي تحمل رقم (٢٨) من كتاب الحِكم، ويقول فيها: إن الحكماء يقعون في الجهل إذا تجادلوا مع الجهلاء، وكذلك البيت رقم ٥٩٠ وما بعده في القسم الأول من فاوست: «إن القليلين الذين عرفوا شيئًا عنهما (أي عن العالم وعن قلب الإنسان وروحه كما قال تلميذه فاجنر) ثم كانوا من الحمق بحيث لم يكتموا أسرار قلوبهم، وكشفوا للعامَّة عن شعورهم ورأيهم، قد دأب الناس منذ القِدم على صَلبهم وإحراقهم — أرجوك يا صديق — لقد أوغل الليل، ويجب علينا الآن أن نقطع الحديث.» (وكم يذكِّرنا هذا بمأساة الحلاج لشاعرنا الكبير صلاح عبد الصبور، ويقول الشبلي عنه: قد كنتَ عطرًا نائمًا في وردتك، لمَ انسكبتَ؟ وكنتَ درَّة مكنونة في بحرها لمَ انكشفتَ؟) هذا ويحتمل أن يكون السطر الثاني من هذه الحكمة مستمَدًّا من الشاعر التركي كاتبي رومي الذي سبق ذكره.

(٢٢) لمَّا قتلتُ عنكبوتًا ذات يوم: وردَت هذه الحكمة في إحدى النُّسخ التي دوَّنها جوته بخط يده ووضع لها هذا العنوان: حكمةٌ هندية … ولا يُعرَف في الحقيقة مصدرها الأصلي.

(٢٣) الشعب والخادم والحكام: المقصود بالشعب في الاستخدام اللغوي للكلمة في القرن الثامن عشر هم العامة، أما كلمة الحكام فقد فضَّلْناها على المعنى الظاهر للكلمة الأصلية — ومعناها القاهرون أو الغالبون — مثل تيمور ونابليون، أو الطُّغاة بالمفهوم الإغريقي الذي يدل على الحاكم الفرد الذي لا يتحتم بالضرورة أن يكون حاكمًا ظالمًا (وهو التيرانوس)، وكلمة الشخصية هنا تعبِّر عن اقتناع جوته العميق بوحدة الشخصية الحية وحقها في الوجود والاستقلال. والواقع أن إيمانه ﺑ «التفرد» شبيه بإيمان ليبنتز (١٦٤٦–١٧١٦م) ﺑ «الموناد» أو الجوهر الروحي الفرد، من حبة الرمل وورقة الشجر والحيوان والإنسان، حتى الخالق سبحانه الذي أطلق عليه اسم «المونادة العظمى» أو «مونادة المونادات». واعتقاد جوته بالخلود بعد الموت قائم على اقتناعه بأن الشخصية — التي قضَت حياتها على الأرض في تثقيف نفسها واستيعاب كل ما أمكنها استيعابه من معرفة وتحقيق أقصى ممكناتها — مثل هذه الشخصية لا يسري عليها الفناء، ولا بُد أن تكون خالدة على نحوٍ لا ندريه — وقد عبَّر الشاعر عن هذا لصديقه يوهانيس فالك ليلة تشييع جنازة الأديب والكاتب المعروف كرستوف مارتن فيلاند (١٧٣٣–١٨١٣م) الذي أقام فترةً طويلة من حياته في فيمار بالقرب من جوته كما تُوفِّي فيها، وقد كان جوته يحبه ويقدره؛ لدوره الكبير في التمهيد للكلاسيكية في الأدب وللرواية التربوية (التي يُعَد بروايته أجاثون الأب الشرعي لها)، بثقافته الموسوعية وترجماته النثرية لاثنتين وعشرين مسرحية لشكسبير، ولعددٍ كبير من الكُتاب الرومان والإغريق (مثل هوراس وشيشرون ويوريبيدس ولوكيان).

(٢٥) هل القرآن قديم: ربما يكون جوته قد قرأ شيئًا عن مشكلة خلق القرآن الشهيرة على عهد الخليفة المأمون في أحد المصادر العديدة التي رجع إليها عن الإسلام، وإن كنتُ لم أجد أثرًا لهذا المصدر في طبعات الديوان التي تحت يدي. المهم أن شاعر الديوان يقرُّ بالاحترام الواجب على كل مسلم للقرآن الكريم، ولكنه لا يحرم نفسه — شأنه في ذلك شأن كثير من شعراء الفرس والعرب — من تذوُّق الخمر ولا من نشوتها، وهذا يؤكِّد ما سبق أن قلناه من أن الخمر في كتاب الساقي الذي ترد فيه هذه القصيدة هي خمرٌ روحية قبل كل شيء، وربما أوحَت للشاعر، كما أوحَت للصوفية المسلمين، بمعاني الحب الإلهي بجانب الحب البشري والأرضي الذي لا يمكن أن يكون الشاعر «الدنيوي» قد غفل عنه، بل لا يمكن أن يكون قد فاته أن الحب الدنيوي أو البشري — إذا كان حبًّا حقيقيًّا لا مجرد اشتهاءٍ حسِّي — يمكن أن يكون جزءًا من الحب الإلهي أو لا يتعارض مع هذا الحب على أقل تقدير …

(٢٨) شدوُ البلبل في الليل: البلبل هنا تعبيرٌ مجازي عن الروح الحبيسة في قفص الجسد … وقد تأثر الشاعر بحافظ الشيرازي (في ترجمة فون همر، كنوز الشرق، ج٢، ص١٠٨–١٠٩) حيث يقول: «هذا البلبل الحبيس، الذي يُسمَّى الروح، لا يخدم البدن، الذي هو على العكس قفصه.»

وفكرة حبس الروح في سجن الجسد أو في قفصه فكرةٌ قديمة ومعروفة منذ بدايات التراث الغربي، أي على أقل تقدير منذ عهد الأورفيين والفيثاغوريين وأفلاطون المتأثر بهما — كما هي شائعة في التراث الشرقي — الفارسي بوجهٍ خاص، والصوفي بوجهٍ أخص! — راجع الشرح الملحَق بقصيدة «حنينٌ مبارَك» التي وصفتُها بأنها دُرَّة عِقد الديوان.

(٢٩) تركتُ جوف محار لؤلؤة: واضح من معنى هذه القصيدة أو مغزاها (إذ إنها مثَل أو أمثولة قبل كل شيء) أن الفرد ينبغي عليه أن يضحِّي بنفسه في سبيل كلٍّ أسمى منه. ومع أن الفرد غاية في ذاته، فلا يجوز له أن ينسى أنه في نفس الوقت وسيلة إلى غايةٍ أكمل منه وأشمل، حتى اللؤلؤة النفيسة، أو الدرة اليتيمة، تعاني بقسوة من الصائغ وتُجبَر على الانتظام في عقد يضم أحجارًا غير نفيسة، كما يُضطَر العبقري، أو حتى الإنسان الطيب النقي، للحياة وسط الأشرار والاختلاط بالأراذل والأوغاد الذين يستحيل عليه أن ينجو من أذاهم ومن الفخاخ والكمائن التي ينصبونها له، وكل ذنبه معهم أنه طيِّب ونقيٌّ وعاجز عن أن يكون مثلهم.

(٣٠) طابت ليلتكم: يدل عنوان هذه القصيدة الخاتمة للديوان كله على أمل الشاعر — المودِّع لنا نحن قراءه وللحياة بأسرها — في أن يباركه جبريل كما بارك أهل الكهف وأظلَّهم برعايته وحنانه (س٤–٥) في مطوَّلة سابقة لهذه القصيدة، وهو يتمنى كذلك أن يخلَّصه من الحاضر ويرقى به إلى مملكةٍ يحيا فيها في صحبة الأبطال من كل زمان، كما ينمو فيها الجمال ويتجدد.

وليست هذه المملكة في الحقيقة — أو في رأيي المتواضع على الأقل! — إلا مملكة الفن والأدب العالمي الذي بشَّر جوته نفسه — كما سبق القول — ببداية عهده، وذلك عندما قال لسكرتيره الأمين إيكرمان في أحد أحاديثه الرائعة معه — بتاريخ آخر يناير سنة ١٨٢٧م: «إن الأدب القومي لم يَعُد له اليوم من معنى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به» … وهكذا يكون «الأبطال» الذين يقصدهم هم أبطال الفن والأدب لا أبطال الحروب والمعارك كما قد نتصور للوهلة الأولى.

وأخيرًا فإن الشاعر يتوق لأنْ يصحبه شعره إلى هذه المملكة الخالدة التي سيسعد فيها بوجوده في نادي المبدعين — كما عبَّر يحيى حقي رحمه الله أو في جمهورية المفكرين، كما يقول الفيلسوف كارل ياسبرز — ومع ذلك فهو لا يكتفي بصحبة أبطال العقل والقلب هؤلاء، وإنما يُسعده في النهاية أن يأخذ معه «قطمير» الكلب الطيِّب الذي كان نِعم الصديق والرفيق لأصحاب الكهف والرقيم (راجع المزيد عن عالَم الديوان الشرقي مع نَصِّه الكامل في كتابي: النور والفراشة، القاهرة، أبولُّو، ١٩٩٧م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤