أرتير رامبو (١٨٥٤–١٨٩١م)

أغنيةٌ أعلى الأبراج

شبابي الخامل،
كم أنت مستعبَد،
برقَّة الحسِّ،
ضيَّعتُ أيامي
(وعمري الزائل)
(عهد الصبا بادا)
يا ليته عادا،
ليُشعل القلبا!

•••

قد قلتُ يا نفس ازهدي،
لا تتركي أحدًا يراك،
لا تضرعي، لا تحلمي
بسعادةٍ عُليا هناك.

•••

زمن التخفِّي والرجوع
لا يوقفَنْ أحدٌ خطاك!

•••

كم تصبَّرتُ طويلًا
بعد نسيان فؤادي
كيف يصبر،
كل خوفي وشقائي
صعدا نحو السماء.

•••

عطشي وهو السقام
راح يسري كالظلام
في عروقي ودمي.

•••

هكذا ينمو ويزهر،
بعدما ينسى ويهجر،
ها هنا مرجٌ معطَّر،
ببخور أو سموم،
حولها يهفو ويهدر
من ذباب بالمئات
كل وحشيٍّ قذر.

•••

يا ألف همٍّ وهم،
يعرو النفوس الشقية،
لم يبقَ فيهن إلا
خيال رسمٍ قديم،
لأُمِّنا العذرية!
فهل هناك قلوب
تدعو لها وتصلي
من هذه البشرية؟

•••

شبابي العاطل
كم أنت مستعبَد،
ضيَّعتُ أيامي
(وعمري الزائل)
(عهد الصبا بادا)
يا ليته عادا،
ليُحرِق القلبا!

حياةٌ لم تتجاوز السابعة والثلاثين عامًا. موهبةٌ شعرية خارقة تفجَّرَت في ميعة الصبا ثم توقَّفَت بعد أربع سنوات. صمتٌ أدبي مطلَق. ضَياعٌ بين أوروبا والشرق الأدنى وأواسط أفريقيا. حيرةٌ متصلة بين أعمالٍ متباينة تقلَّب فيها الشاعر — الذي فقدَ ذاكرته الأدبية — بين الجيوش الاستعمارية، والمحاجر، وشركات التصدير، وتجارة البُنِّ والجلود في عدن، والسفر مع القوافل للاتجار في الرقيق وشراء الأسلحة وبيعها لنجاشيِّ الحبش. كتابة التقارير للجمعيات الجغرافية عن مناطق لم تُكتشَف في الصومال، رحلات دائمة مع الحر والبرد والجوع والشقاء، مرض التيفوس، بتر ساق، موت مبكر — في مدينة مرسيليا — لم يكد يشعر به أحد، حتى ولا صديقه السابق الشاعر الغنائي فيرلين الذي ربطَت بينهما علاقةٌ جنسية شاذة، تطورٌ شعري مذهل في غضون أعوام قليلة، تفوَّق فيه الشاعر على نفسه وعلى تراثه، وخلق لغةً شعرية غريبة وأصيلة لم تزل حتى اليوم هي اللغة التي يعزف عليها الشعر الغربي الحديث تنويعات لا حصر لها …

تلك هي بعض الوقائع البارزة في حياة رامبو وشخصيته. إن إنتاجه قليل، ولكن الكلمة الوحيدة التي تصدق عليه هي أنه أشبه بالانفجار. صحيحٌ أنه مرَّ بمرحلة يمكن أن تُوصَف بأنها مرحلة الشعر المفهوم، ولكن هذه المرحلة التي كتب فيها قصائد تقليدية لم تلبث أن انتهت في حوالي منتصف سنة ١٨٧١م لينتقل منها لمرحلة الشعر الحرِّ ثم ينتهي إلى قصيدة النثر الموقَّع وغير المتساوق الذي يغلب عليه الغموض والإغراب، ويسيطر عليه النشاز المتعمَّد، ويتحكم فيه خيالٌ «دكتاتوري» يتسلط على الأشياء والكائنات والألوان والروائح والطعوم والأصوات؛ فيتلاعب بها كما يشاء وينسج بينها علاقات لا وجود لها في الواقع على الإطلاق. ويتجلى هذا الأسلوب الجمالي الشاذ بوجهٍ خاصٍّ في قصائده المطوَّلة الشهيرة التي أفرغ فيها فنَّه المذهل المحيِّر ووضعها تحت عنوان فصل في الجحيم ثم في الإشراقات، وقد تدفَّق كلاهما في عواصف من الإلهام المحموم الذي يومض بالبروق ويدوي بالرعود ويزلزل أعمدة العقل والمنطق والواقع المألوف (وقد كُتِبا بين سنتَي ١٨٧٢ و١٨٧٣م).

إن ألوان التوتر الحاد التي يتذكرها قارئ «أزهار الشر» للرائد الأول لبناء الشعر الأوروبي الحديث (وهو بودلير ١٨٢١–١٨٦٧م) قد بلغَت أشُدَّها عند هذا الرائد الثاني، وأصبحَت ألوانًا مربكة من النشاز المطلَق؛ فالموضوعات التي يطرقها شعره لا تكاد تتصل ببعضها إلا على نحوٍ قد يحدس به القارئ؛ ولكنه لن يستطيع أن يقطع فيه بالرأي اليقين (وهذا هو الشأن مع الجانب الأعظم من الشعر الغربي الحديث الذي امتدَّ تأثيره أيضًا على جانبٍ كبير من الشعر الشرقي والعربي المعاصر …)

وهذه الموضوعات تختلط في معظم الأحيان ببعضها البعض كما تمتلئ أحيانًا بالثغرات والفجوات.

والواقع أن حقيقة هذا الشعر لا تكمن في موضوعاته بقدر ما تكمن في غليان انفعالاته، وغرابة صوَره واستعاراته، ومقاطعته للتراث الأدبي المأثور، وثورته على التراث الديني، وطرحه للنزعة البشرية؛ بحيث نجده يتحدث عن ذات أو أنا شعرية محايدة لا عن ذاته الشخصية أو تجاربه الوجدانية والفكرية، وتفجيره لكل الحدود اللغوية والمكانية والزمنية، وإنكاره للمجهول المطلَق أو المتعالي على الرغم من توقه المسعور إليه، وتحطيمه لنظام الواقع وبناء اللغة بحيث نكاد نتخبَّط معه في عماءٍ مرعب من الشذرات المبتورة والشظايا المكسورة والصور والأصوات والإيحاءات والإيماءات والرموز التي يصعب — إن لم يستحل — استخلاص معنًى مفهوم منها؛ لأن هدفها هو أن تصدم وتحيِّر وتفكِّك الأبنية المعهودة وتتركنا وسط الحطام مذهولين مضيَّعين عاجزين عن التحليق مع تلك المخيلة الخلَّاقة والمدمرة التي تحوِّم فوقنا ومن حولنا كطائر يأتي من ذرًى لم يحلِّق فوقها طائر من قبل وهو يصرخ ويصيح: فكروا في كل شيء من جديد! …

لا أريد أن أتوسع — في هذا المجال الضيِّق — في الكلام عن شاعرٍ سبق أن تناولته بالتفصيل (في كتابي عن ثورة الشعر الحديث، من ص٩٥ إلى ص١٤٨، الطبعة الثانية، أبولُّو، ١٩٩٨م) ولهذا أكتفي — في تقديمي لهذه القصيدة النادرة — بالقول بأنها تنبهنا إلى لونٍ واحد من ألوان النشاز والإغراب المميز لشعر رامبو، وذلك هو التنافر الشديد بين ما يقال والطريقة التي يقال بها، أو بين المضمون والأداء؛ فالشاعر ينشد واحدة من أجمل وأعذب قصائده — التي لم تتخلَّ مع ذلك تمامًا عن الغموض والغرابة! — في نغمة الأغنية الشعبية البسيطة والمباشرة التي تأبى بطبيعتها الغموض والإلغاز. وقد حاولت في هذه الأغنية — التي أعترف بأنني تصرفت قليلًا في نقلها — أن أحافظ على الأقل على أصداء من نغمها الأصلي الحلو، واضعًا كل زيادة مني بين قوسين، راجيًا أن يصل القارئ أثر — ولو بعيد — من عذوبة شجوها وشجنها اللذين لا يمكن لأي ترجمة في أي لغة أن تعكسهما على مرآتها، دع عنك أن تحل محلها أو تعوض عن قراءتها وسماعها في لفظها ونغمها الأصلي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤