بول فيرلين (١٨٤٤–١٨٩٦م)

أغنية خريف

تنهُّدٌ نحيب،
ترسله الأوتار
في موسم الخريف،
وتجرح القلوب
بالألم الدفين،
بالألم الرتيب،
وبينما الناقوس
يدق في الفضاء،
يغلبني بؤسي،
تهيجني الذكرى
حزنًا على أمسي،
يخنقني دمعي،
أمضي مع الريح،
والريح كم تقسو،
كتائه يسعى،
وليس لي مأوى،
كأنني أوراق،
ذابلةٌ موتى.

شارل روا

في العُشب الأسود
تَسْري الأرواح١
وأنين الريح
شجوٌ ونُواح٢
ياللإحساس!
أعواد الأذرة
تكسوها الصفرة،
والغصن يرِف
في عين العابر،
وبيوتٌ تبدو
مثل الحانات،
والأفق شبيهٌ
بالفرن الأحمر!٣
ياللإحساس،
السكة ترعد،٤
والأعيُن تسأل
عن شارل روا!
عطرٌ نفَّاذ،
بشعٌ، ما الأمر؟
ما هذا الصوت
يصفر ويئز؟٥
بيدٍ وحشية،
يا للأنفاس!
وصراخ المعدن
من عرَق الناس!
في العشب الأسود
تَسْري الأرواح،
وأنين الريح
شجوٌ ونُواح.

لا لستُ أدري لماذا

لا لستُ أدري لماذا
تطير روحي المُرَّة،
بجناحٍ قلِق مجنون فوق البحر.
وكل غالٍ عليَّا
يطويه حُبي طيَّا
بجناح الرعب على سطح الموج.
لِمَ ذا؟ ما السر؟

•••

فكري طائر نورس،
تذروه الريح بكل سماء،
ويميل يميل مع الأنواء،
فكري طائر نورس.
سكران بالشمس،
نشوان بالحرية،
ينطلق بفطرته
في أفقٍ ليس يُحَد.

•••

ونسمة الصيف
فوق المياه الشقر،
تحمله في لُطف
بين الكرى والصَّحْو،
وقد يصيح بحزن
فيفزع الملَّاح.

•••

للريح يُسلم أمره،
فتارةً يعلو،
وتارةً يهبط،
ويرفع الجناح،
يدمى من الجراح،
ويُطلِق الصياح،
فيجفل الملَّاح.

•••

لا لستُ أدري لماذا،
تطير روحي المُرَّة،
بجناحٍ قلِق مجنون فوق البحر.
وكل غالٍ عليَّا،
يطويه حُبي طيَّا،
بجناح الرعب على صوت الموج.
لِمَ ذا؟ ما السر؟

ربما لم يعرف الشعر الفرنسي في تاريخه الطويل شاعرًا يفوق «فيرلين» في غنائيته العذبة الحنون، وعاطفيته الرقيقة الجريحة، وموسيقاه الوديعة الصافية، وتمزُّقه بين ذكريات الأمس ونعيم اللحظة، بين الروح والجسد، بين الورع والفسوق …

وُلِد في مدينة «ميتس» لأبٍ يعمل مهندسًا بالجيش، واتجه في العشرينيات من عمره إلى باريس؛ حيث عمل موظفًا للتأمينات في أحد المجالس المحلِّية. لم يكد ناقوس الزمن يدق بانتهاء ساعات العمل الرتيب حتى يهرول إلى الحي اللاتيني، وينضم إلى صفوف «البرناسيين» الذين ربطَت بينه وبين بعضهم صداقةٌ قوية حميمة (مثل كوبيه وسولي برودوم) واستطاع حوالي سنة ١٨٦٦م أن ينشر أُولى مجموعاته الشعرية «قصائد زحلية» (نسبة لأعياد الإله زحل الرومانية التي اشتهرَت بالإفراط في اللهو والعربدة …) التي لا يتضح فيها تأثُّره فحسب بالبرناسيين — لا سيما الكونت دي ليل — في ذوقهم الكلاسيكي وعقلانيتهم وتشاؤمهم وعشقهم للطبيعة وبُعدهم عن العاطفية الذاتية والرومانسية، وإنما تكشف أيضًا عن تأثُّره بشعر بودلير وجمالياته الوحشية المستفزة. ثم أثبتَت مجموعتان تاليتان (أعياد أنيقة ١٨٦٩م والأغنية الطيبة ١٨٧٠م) أنه قد اتخذ موقفًا وسطًا بين الطرفين وبدأ يعزف ويوقع نغمه الساحر العذب الذي تفرَّد به، تزوَّج في العام الأخير، ولكن الزواج لم يلبث أن فشل وانفصمَت عُراه تمامًا بعد أربع سنوات، وربما كان لصداقته الغريبة الشاذة التي بدأت سنة ١٨٧١م مع الصبي العبقري رامبو وانقضَت أيامها ولياليها في الصعلكة والعلاقة الجنسية الشاذة والشجار والصراع الدائمَين! — ربما كان لها دخل كبير في فشل زواجه — لم يكن الصديقان يفترقان، وفي زيارة لهما لإنجلترا نشبَت بينهما في أحد الفنادق مشادَّة حادَّة أطلق أثناءها فيرلين الرصاص على صديقه الأصغر فجرحه جرحًا بسيطًا عُوقِب بسببه بالسجن سنتين، ثم خرج من السجن واشتغل بالتعليم في المدارس وإعطاء الدروس الخصوصية لتوفير اللقمة الضرورية … ونشر أثناء وجوده في السجن (١٨٧٤م) مجموعة قصائده «خياليات بلا كلمات» التي كشفَت عن صفاء معدنه الشعري الذي صهره عذاب الحبس والعشق المحرَّم والحرمان الروحي والجسدي فتألَّق سحره الجذاب وارتفعَت أنغامه التأثيرية بألحانها وظلالها الملوَّنة وإيقاعاتها وقوافيها التي تُسعد الأذن والقلب …

أمضى فيرلين بقية حياته — لا سيما بعد اختفاء صديقه العبقري المشاغِب وسفره إلى مجاهل أفريقيا — في صراعٍ قاسٍ بين طبيعتَيه أو «نفسَيه» الممزقَتَين بين الإيمان الكاثوليكي الصادق والسعار الشبقي الفاسق، وتجلى هذان الجانبان من ناحية في مجموعته «حكمة» (١٨٨١م) ومن ناحيةٍ أخرى في مجموعتَيه «في الزمن القديم» (١٨٨٤م) و«بالتوازي» (١٨٨٩م) وكلها تصوِّر الصراع الذي سبق أن أشرْنا إليه بين تطلعات الروح ومتطلبات الجسد التي سقط في النهاية ضحية لها، إلى أن جاءه الموت وحيدًا محرومًا ومعذَّبًا مهجورًا في إحدى المستشفيات … وقد ترك وراءه مجموعات شعرية أخرى أدنى مستوى، وكتابات نثرية واعترافات وذكريات عن أيام السجن نُشِرَت جميعًا ضمن أعماله الكاملة التي صدرَت في خمسة مجلدات بين عامَي ١٨٩٨ و١٩٠٣م.

ولعل قصيدته الشهيرة التي جعل عنوانها «فن الشعر» أن تكون مرآة صافية ينعكس عليها أسلوبه الشعري، ورأيه في اختيار الكلمات وصقل القوافي، وبُعده عن التصنُّع والحذلقة والاستعراض، وإيثاره للغموض الشفاف، وإلحاحه على «الموسيقى أولًا وقبل كل شيء!» ثم على «الموسيقى مرةً أخرى وعلى الدوام!» (وهما البيتان رقم ١، ٢٩ من القصيدة المذكورة — راجع ثورة الشعر الحديث، القسم الثاني، ص٤٣٠–٤٣١ الطبعة الثانية، أبولُّو، ١٩٩٧م).

١  حرفيًّا: الكوبولد، وهي أرواح جنياتٍ طيِّبة أليفة يُعتقَد في الأدب الشعبي أنها ترعى البيت وتحرس المعادن النفيسة في باطن الأرض.
٢  حرفيًّا: والريح عميقة يخيل للمرء أنها تبكي.
٣  حرفيًّا: أية آفاق من أفران حمراء …
٤  حرفيًّا: محطات السكك الحديدية.
٥  حرفيَّا: روائح بشعة ماذا في الأمر؟ ما الذي يدوي كأنه الصلاصيل (وهي آلة موسيقية مخشخشة كان يستعملها قدماء المصريين).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤