فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م)

هو ذا إنسان

حقًّا إني أعرف أصْلي!
نهِمٌ لا أشبع،
أتوهَّج، آكُل نفسي
كاللهب المحرِق،
نورًا يصبح ما أمسكه،
فحمًا ما أتركه،
حقًّا!
إني لهبٌ محرِق!

القصيدة لفيلسوف الحياة وإرادة القوة فريدريش نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠م) صاحب «هكذا تكلم زرادشت» و«مولد التراجيديا من روح الموسيقى» و«أفكار في غير أوانها» و«إنساني، إنساني جدًّا»، و«العلم المرح»، و«وراء الخير والشر»، و«شجرة أنساب الأخلاق» و«غروب الأصنام» … وغيرها من الكتابات الفلسفية السابقة أو اللاحقة التي نُشِرَت بعد موته. وهو نفسه فريدريش نيتشه، صاحب قصائد أو «أناشيد» ديونيزيوس الديثرامبية، (والديثيرامب هي أنشودة الجوقة الراقصة التي انبثقَت عنها التراجيديا الإغريقية) المتوهجة بالعاطفة الملتهبة الجياشة، المثقَلة بالصور والاستعارات الكثيفة والرموز والإشارات الغامضة المتناقضة، الممزَّقة بين العذاب والفرح واليأس والأمل، والقمة المتوَّجة بالرضا والتسليم، والهاوية المظلمة بالمرارة والمعاناة من هول الصيرورة أو المصير المرعب الفاجع والحتمي الرائع في نفس الوقت وفي نفس اللحظة.

أجل إن القصيدة لنيتشه الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف الذي قال عن نفسه إنه يتفلسف بالمطرقة ويحطم أصنامًا عمرها ألف سنة من التراث الغربي والمسيحي، وإنه لم يكتب كلمة واحدة لم يتمزق بها في أعماقه الباطنة، ولم يغمسها في دم القلب … لم يطلق عواصف نذيره وتحذيره على «عصره العدمي» — في النصف الثاني من القرن التاسع عشر — إلا لكي «يقلب كل القيم» البالية الفاسدة — قيم العبودية والضعف والشفقة والزهد والإحسان المسيحية — ليضع مكانها لوحة قيمٍ مغايِرة: قيم السادة أو قيم الإنسان الأعلى: إرادة القوة والعيش في خطر ومباركة الحياة والأرض واللحظة الحية المبدعة التي لا تفتأ تبدأ وتعود إلى غير نهاية …

هذا الفيلسوف «غير المنهجي» الذي لم يقدِّم — كغيره من الفلاسفة الخُلَّص — بناءً فكريًّا متماسكًا، بل آثر أن يقدِّم أفكاره العميقة المخيفة في رداء الحكمة الموجزة التي تخطف البصر بمفارقتها اللمَّاحة الخاطفة البريق، وفي ثوبٍ جمالي وأدبي تميز بأسلوبه النثري الغنائي، وصوره المتوهجة ولغته المَجازية الغنية بالإيقاعات الحرة والاستعارات الغامضة والأمثولات الموحية والعبارات التأثيرية الملونة والمبهمة التي تشبه أقوال العرافين ونبوءات المتنبئين وشطحات «المجانين»، هذا الفيلسوف الذي لا شك في شاعريته أو «أدبيته»، ولا جدال في تأثيره البالغ على أدب لغته والأدب العالمي منذ أواخر القرن التاسع عشر (لا سيما على أصحاب المذهب الطبيعي والحركة التعبيرية والتأثيرية والرومانسية الجديدة) حتى أيامنا هذه فيما يُسمَّى بما بعد الحداثة … هذا الفيلسوف كان شاعرًا أيضًا، وقد حاول في وقتٍ مبكر من حياته أن يكتب مسرحية عن «أنبادوقليس» (١٨٧٠–١٨٧١م) بقيَت — لسوء الحظ — شذرة لم تكتمل، وتمنى بعد فراغه من «زرادشت» (من ١٨٨٣م حتى مطلع سنة ١٨٨٩م عندما سقط ضحية للشلل، بعد حادثة تورين المعروفة، في ليل الجنون الذي لم يوقظه منه إلا الموت في صيف سنة ١٩٠٠م) تمنى لو أنه كتبه في شكلٍ روائي — وباللغة الفرنسية أيضًا! — نستطيع أن نتتبع رحلته الجمالية والأدبية بالمعنى الدقيق لهاتَين الكلمتين منذ كتب دراسته عن «مولد التراجيديا» (؟–١٨٧٢م)، التي أعاد فيها تفسير نشأة التراجيديا، وأكد أنها قد تمخضَت عن التفاعل بين عنصرين: الأبولُّوني (نسبة لأبولُّو إله النور والوضوح والمظهر المحدَّد) والديونيزي (نسبة لديونيزيوس إله الخمر والنشوة والوجد والعذاب المأساوي بالحقيقة العميقة المخيفة!) حتى كتابته لسيرته الفلسفية التي جعل عنوانها «هو ذا إنسان» (وهو نفس العنوان الذي وضعه لقصيدتنا هذه وقد نشر بعد وفاته في سنة ١٩٠٨م) وحاول فيه أن يطبق موضوع التراجيديا الديونيزية على تراجيدياه (أو مأساته) الشخصية من خلال تنويعات مختلفة على اللحن الفخم المعتم القديم …

ثم إنه قد عبَّر شعرًا عن ديونيزيوس في قصائده الديثيرامبية التي نُشِرَت مباشرةً قبل مرضه الميئوس من شفائه، وبعد أن نضجَت على نيرانٍ فلسفتُه بكل صراعاتها وتفجراتها وصواعقها وتجاربها الأليمة المظلمة، وكأنما جُمعَت هذه القصائد في جمرات متوهجة ومركزة ما سبق أن تفرَّق منها في نثره الغنائي المغَّنم وفي حِكَمه المتألقة بالمفارقات الجدلية الخاطفة (وينتهي كتاب العلم المرح الذي صاغه على هيئة حِكَم بليغة بمُلحَق يضم — منذ طبعته الثانية في سنة ١٨٨٧م — مجموعة أغانيه التي كتبها تحت هذا العنوان الدال «أغاني الأمير الحر حرية الطير») …

نعود للقصيدة التي بين أيدينا فلا ندري بعد قراءة عنوانها هل هي تنطق بلسان الأنا الفردية المعذَّبة المحترقة للشاعر، أم تعبِّر عن حال الوجود نفسه — وهو في نظر فيلسوفنا تناقُضٌ ضخم! — أم تعبِّر عن الصيرورة التي لا تتوقف عن التغير والتحول ولا تني تخلق نفسها وتجدد ذاتها منذ الأزل وإلى الأبد؟ لكننا بذلك نكون قد ميَّزنا بين شيئَين هما في الحقيقة شيءٌ واحد؛ فالوجود عند نيتشه — كما كان عند توءم روحه القديم هيراقليطس في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو الذي تصور فيلسوفُنا أنه هو نفسه ظله أو روحه المجسَّد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر! — الوجود عنده ليس ثابتًا، وإنما هو في حقيقته صيرورة متصلة للوجود الكلي الواحد والمتغير على الدوام. هذا الوجود، أو بالأحرى هذه الصيرورة، كانت — وما زالت، وسوف تظل — تبدع نفسها وتهلكها في كل لحظة، في عَودٍ أبديٍّ للشبيه لا يتوقف أبدًا عن عملية إبداعه وإهلاكه لكل شيء على الإطلاق …

لسنا بحاجة — في هذا المجال المحدود — لعرض فلسفة نيتشه عن إرادة القوة — أي إرادة الحياة والمزيد من الحياة — والإنسان الأعلى المنتظَر الذي تتمثل فيه هذه الإرادة في أعلى درجاتها، ولا عن «نظريته» المحيِّرة الغامضة، وأكاد أقول الصوفية الملغزة! عن عودة الشبيه الأبدية. من أجل أن نسبر أغوار هذه القصيدة المعبِّرة — في رأيي المتواضع — عن مأساة الوجود المتحول في مجموعه وعن مأساة نيتشه الذاتية وعذابه الذي انتهى بانحداره في هاوية ليل الجنون أو العدم أو العدمية (التي تصور أنه آخر المعذَّبين بها والمحذِّرين منها وأول المبشِّرين بتجاوُزها …) يكفي أن نذكر هنا نصَّين من نصوصه التي يمكن أن تساعدنا على التواصل مع هذا النص المعذب — ولا أقول المعقَّد — وأبدأ بالنص المتأخِّر الذي كتبه نيتشه في عام ١٨٨٨م قبل إصابته بالشلل الذي أدى به إلى الجنون، وذلك في كتابه الذي عرفْنا أنه عبَّر فيه عن مسيرته الفلسفية، وأنه لم يُنشَر إلا بعد وفاته، وأقصد به كتابه «هو ذا إنسان»: يقول نيتشه في فقرة تحت عنوان لماذا أنا قدر (أو مصير):

«إنني أعرف نصيبي، سوف يرتبط اسمي ذات يوم بشيءٍ هائل مرعب، بأزمة لم تعرف الأرض نظيرًا لها، بقرارٍ حاسم ومضاد لكل ما آمن به الناس حتى الآن ولكل ما تطلبوه وما قدسوه … سوف يرتبط «بقلب جميع القيم»، وهذه هي الصيغة التي وضعتُها لفصلٍ تعيشه البشرية في أقصى درجات تأمُّلها لذاتها، وهو الفصل الذي تحول في كياني إلى لحم وروح …»

لم يكتفِ نيتشه بالنبوءة المتشائمة التي أعلنها في هذا النص، وإنما أضاف إليها أنه سيكون «الرسول المبشِّر» الذي سيتقرر عن طريقه تجاوُز العدمية لذاتها من «إرادة العدم» إلى الإرادة المريدة لعودة الشبيه الأبدية، وذلك في التأكيد الإيجابي و«الديونيزي» للقدرية الحتمية لكل ما كان وما هو كائن وما سوف يكون …

والنص الثاني الذي يعبِّر عن هذا التوتر الممزَّق بين قطبَين تتأرجح بينهما حياة الفيلسوف وفكرُه (أي بين عدمية عصْره وصنمية أوثانه الأخلاقية والميتافيزيقية والدينية التي أعمَل فيها معوله وحطمها بمطرقته، وبين تجاوُز تلك العدمية عن طريق التأكيد والمباركة الإيجابية لكل لحظة من لحظات الزمان سيعود شبيهها الملغز المحيِّر في نظريته المحيِّرة التي سبقَت الإشارة إليها) هذا النص الأخير مستمَد من أول كتابٍ فلسفي بالمعنى الدقيق وضعه في حياته؛ إذ يرجع لعام ١٨٦٢م، وفيه تنبض بذْرة فلسفته التي ستنمو بعد ذلك في شجرة مؤلفاته الوارفة المعتمة …

سنجد في هذا الكتاب، وهو الذي جعل عنوانه «القدر والتاريخ»، فقرةً مذهلة لعلها تعبِّر في ذلك الوقت المبكر عن أعمق أفكار نيتشه التي صاحبَته حتى آخر أيامه وأشدها خفاءً وغموضًا:

«ولكن بمجرد أن يصبح من الممكن أن نقلب ماضي العالم كله، بإرادةٍ قوية، رأسًا على عقب، فسوف ننضم عندئذٍ على الفور إلى صفوف الآلهة المستقلِّين بأنفسهم، ولن يكون تاريخ العالم في هذه الحالة بالنسبة لنا سوى نوع من التلاشي الحالم … عندئذٍ تنزل الستار ويعثر الإنسان على ذاته، ويكون مثل طفل يلعب مع العوالم (تذكر هنا شذرة هيراقليطس الشهيرة!) مثل طفل يصحو من نومه مع توهُّج نور الصباح ويزيح عن جبهته — وهو يضحك — كل الأحلام المخيفة التي رآها في نومه» …

أأقول إن نيتشه قد توصل في بداية حياته بصورةٍ حدسية وضبابية غائمة إلى فكرته عن إرادة القوة التي صورَت له روح الطفل والشاعر الكامنة فيه أنه قد انتصر بها انتصارًا حاسمًا ونهائيًّا على ضدِّية الوجود والعدم، ودورة الميلاد والموت، وثنائية الأنا والعالم، والتناهي المحزن وغير المجدي للزمان والتاريخ والإنسان وحضارته وتعبه على الأرض؟! أم تراني أقول إنه توصل في هذا النص أيضًا، ولكن على هيئة حدسٍ غامض وغائم وبعيد بُعد النجوم المتناثرة على الطريق اللَّبني لمجرَّتنا، إلى فكرته المتأخرة عن عودة الشبيه الأبدية، وهي الفكرة المذهلة والمربكة التي وضعَته فجأةً على الذروة التي عثر فيها على ضالَّته من الفرح والدهشة، والرضا والتسليم و«حب القدر»، أي حب كل ما تأتى أو أتت به الضرورة؛ لأنه سوف يتكرر — أو يتكرر شبيهه — ما لا حصر له من المرات إلى ما لا نهاية؟ …

وأخيرًا ربما كانت الشذرة النثرية التالية التي يرجع تاريخ كتابتها لعام ١٨٨٥م (أي قبل سقوطه في ليل الجنون بما يقرب من ثلاثة أعوام، ولم تُنشَر على الناس إلا بعد وفاة الفيلسوف) ربما كانت هذه الشذرة تنطق نثرًا بما تنطق به قصيدتنا شعرًا، وأجتزئ من الشذرة الطويلة هذه العبارات التي تمتُّ بصِلة القرابة لنص القصيدة أو على الأقل تُلقي بعض الضوء عليها:

«… وهل تعرفون أيضًا ما هو معنى العالم عندي؟ هل ينبغي عليَّ أن أريكم إياه في مرآتي؟ هذا العالم كيانٌ هائل من الطاقة التي لا تكبر ولا تصغر ولا تستهلك، وإنما تتحول فحسب، وهي في مجموعها تظل دائمًا طاقةً كبيرة لا تزيد ولا تنقص، وكذلك لا تنمو ولا يُضاف إليها أو يؤخذ منها شيء … ويحوطها العدم كما لو كان حدًّا لها (…) إنها طاقةٌ شاملة، تشبه لعبة قوى وأمواج قوى وتبقى دائمًا واحدة وكثيرة، تتراكم هنا وفي نفس الوقت تتناقص هناك، هي بحر من الطاقات العاصفة الفيَّاضة، دائم التغيُّر والتراجع، وهو في عودته يستغرق أعدادًا هائلة من السنين، ويتدافع مد وجزر أشكاله من أبسطها إلى أكثرها تنوُّعًا، ومن أشدها سكونًا وجمودًا وبرودًا إلى أكثرها توهجًا وتوحشًا وتناقضًا مع نفسه، ثم عائدًا من المتنوع إلى البسيط، ومن لعبة المتناقضات إلى متعة التجانس، مؤكدًا ذاته حتى في هذه الرتابة لطرقه وأعوامه، ومباركًا نفسه بوصفه ذلك الذي يتحتم أن يرجع من جديد، وبوصفه صيرورة لا تعرف الشبع ولا الضجر ولا الإحساس بالتعب …

إن عالمي «الديونيزي» هذا هو عالم الخلق الذاتي الدائم، وهو عالم التدمير الذاتي الأبدي، عالمي هذا السرِّي للشهوات المزدوجة، هو عالم الواقع فيما وراء الخير والشر، بلا هدف إلا أن يكون في سعادة الدائرة هدف، وبلا إرادة، إلا أن تكون في عودة الخاتم إلى ذاته إرادة طيبة، هل تبغون اسمًا لهذا العالم؟ حلًّا لكل ألغازه، نورًا من أجلكم أنتم أيضًا، يا من أنتم أشد الخلق خفاء، وأعظمهم قوة وجسارة وتمسُّكًا بحياة منتصف الليل، هذا العالم هو إرادة القوة — ولا شيء سواها! — وأنتم أيضًا إرادة القوة هذه — ولا شيء غير ذلك!»

أسأل نفسي وأسألك يا قارئي الكريم بعد هذه الرحلة بين نصوص نيتشه لمحاولة الاقتراب من نص قصيدته: هل تجلى العالم بصورةٍ واضحة في هذا التشابك بين إرادة القوة وعودة الشبيه الأبدية على هيئة دورةٍ خالدة؟ وهل فهِمنا أيضًا — ولو من بعيد — أن الإنسان الأعلى هو المنوط به قهر العدمية، وقلب جميع القيم الموروثة، وحب القدَر، أي التسلم بأبدية الدورة الضرورية التي بلا هدف، هذه الدورة التي لا يُدمَّر فيها شيء تدميرًا نهائيًّا؛ لأن كل شيء يذهب، وكل شيء ينكسر، وكل شيء يلتئم من جديد — أبدًا يبني بيت الوجود نفسَه ويعيد البناء — وكل شيء يغادر ويمضي، وكل شيء يتبادل التحية مرةً أخرى، ودائمًا ما يبقى خاتم الوجود وفيًّا لذاته (عن هكذا تكلم زرادشت، القسم الثالث، الناقِه).

وأخيرًا أسألك وأسأل نفسي: هل كان نيتشه ينطق عن حاله الخاص أم عن حال الوجود الذي فهمه كصيرورة تأكل نفسها وتجوع، وتحرق ذاتها وتضيء، وتتمزق وتنكسر وتتحطم كي تلتئم مرةً أخرى، وتحيا وتفرح وتبارك كل شيء وتقول في النهاية ما قاله أوديب المسكين: كل شيء طيب؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤