إدفارد مونْش ومارجوت شاربنبرج

figure
الصرخة.

الصرخة

غناء
فوق الماء،
وموسيقى الماء
لا تطفئها إلا النار،
غناءٌ فوق الجسر،
صراخ عذارى
لم يتغنَّ به إنسان
من أجل الصُّم،
عبَّر عنه الفنان
كي لا يهووا
في جوف الصورة
كالعميان.
الصرخة
كالشلال،
تُطلَق بأصابع يد،
توغل توغل في بُعد البعد،
إلى أميال
تشبه قبضة حجر
(أو قبضة جمر)
فوق الجلد …
الطبلة
فاغرة الفم.

أصبحَت «الصرخة» علامة لا تُنسَى على الحركة التعبيرية في الفن والأدب؛ شعره وقصصه ومسرحه، ولعلها أن تكون أصدق «تعبير» عن هذه الحركة التي لم تعش أكثر من سنوات معدودة (حوالي العشرين) قبل أن تسحقها أقدام النازية الفظَّة في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، ويغطي دويُّ الحرب العالمية الثانية على «دويِّها» الوحيد الفاجع فيلوذ معظم رُوَّادها إلى المنفى أو الصمت أو الموت جوعًا وبؤسًا وانتحارًا …

يُخيَّل إليك وأنت تتأمل هذه الصورة أن الصرخة ما زالت تنطلق بكل حدَّتها ويأسها منذ أن رسمها الفنان النرويجي إدفارد مونش (١٨٦٣–١٩٤٤م) أحد رُوَّاد الحركة التعبيرية وصديق مواطنه رائد المسرح التعبيري أوجست سترندبرج (١٨٤٩–١٩١٢م) … فالعذراء التي تقف على الجسر وتضع كفَّيها على أذنيها وتفتح فمها الذي يبدو كطبلةٍ صغيرة مخرومة، وتبحلق بعينَين كعيون الأشباح المفزوعة المرعوبة، وتحتشد بكل ما في جسمها الضئيل وعُودها النحيل من قوة وعزم لإسماع استغاثتها للصُّم والعميان والبكم الغافلين في كل مكان، هذه الفتاة تقنعك بأن صرختها ما تزال تدوِّي في دوامات جارفة لا تنتهي، وأنها شلال لن يكفَّ عن التدفق لإغراق الكسالى والمتبلِّدين والعاجزين غير المكترثين فوق أرضنا الحزينة البائسة.

هل لاحظتَ الرجل والمرأة اللذين يسيران في هدوءٍ خلف الفتاة على الطرف البعيد من الجسر؟ إن الصرخة الممزقة التي تهيب بالنجدة والتحرك لفعل شيء لم تصِل إليهما، أو ربما وصلَت ولم تؤثِّر فيهما، هذان «البرجوازيان» من أبناء الطبقة الوسطى المخدوعة والخادعة لنفسها على الدوام، لا يهتمان بشيء حتى ولو كان صرخة استغاثة للنجدة ورفع الظلم وإطفاء الحريق وإسعاف الجريح والمصاب والملهوف. إنهما يعيشان في الوهم «البرجوازي» الذي يصور لهما أنهما ما داما بخير ويسكنان في بيتٍ متين البنيان ويأكلان حتى التخمة ويُشبعان شهواتهما للذة والتملك والاستهلاك والترف على حساب ملايين المحرومين والمتعبين؛ ما داما بخير فالعالم أيضًا على ما يرام.

لكن العالم ليس ولم يكن أبدًا ويبدو أنه لن يكون أبدًا على ما يرام ما دامت تدوي فيه مثل هذه الصرخة اليائسة في آذان الصُّم غير المبالين بعذاب الآخرين. لقد انطلقَت ودوَّت بكل ما فيها من قوة وغضب ونداء واستنفار لوقف نزيف الحروب ورفع الظلم والاستبداد، وإنقاذ إنسانية الإنسان المهدَّدة بالطغاة الصغار والكبار من كل العصور والبلاد، لكن ماذا كانت النتيجة؟ هل استمع إليها أحد؟! هل تحوَّلت عند القادرين إلى فعلٍ ينقذ ويمنع الشر ويطفئ نيران الحرب ويوقف العدوان المستمر على المظلومين والمقهورين من الداخل والخارج؟!

انطلقَت الصرخة ودوَّت فلم توقف الحرب العالمية الثانية، ولم تخدش صخرة النازية والفاشية التي داهمَت البشرية حتى منتصف القرن الماضي وما زالت تنقضُّ عليهم حتى اليوم في أشكالٍ وصور مختلفة، ولم توقف أكثر من حرب ظالمة ملعونة في كوريا وفيتنام وفلسطين ولبنان والبلقان وأفغانستان … ظلَّت تدوي وظل الصُّم يضعون أيديهم على آذانهم حتى لا يكلفوا أنفسهم مشقة الوعي ولا الفعل (باستثناء بعض الضمائر الحية والنادرة التي بقي تأثيرها محدودًا أو حتى معدومًا …)

ومن القليلين الذين سمعوا الصرخة فاستجابوا لها بشعرٍ يكاد أن يكون صراخًا خافتًا وحييًّا ولكنه صادق وعميق، من هؤلاء القليلين نجد الشاعرة مارجوت شاربنبرج (١٩٢٤م–…) التي لا شك أنها شاهدَت صورة الصرخة وسمعَتها جيدًا أثناء تجوالها في متحف «مونش» بمدينة أوسلو عاصمة النرويج — الذي يضم أكثر من ألف عمل من أعماله في الرسم والنحت — أو في أحد متاحف الفن الحديث في بلادٍ مختلفة، ولا بُد أيضًا أن تأثرها بروح الشعر الأوربي الحديث وبنيته اللغوية والموسيقية والتخيلية قد انعكس على أبياتها أو بالأحرى أنغامها الموحية التي تنفذ مباشرةً إلى القلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤