فرانز مارك وإلزه لاسكر شولر

figure
صلح.

(صلح)

سيسقط في حجري نجمٌ هائل،
نريد الليلة أن نسهر سهرًا،
أن نتعبَّد بلُغات
قُدَّت من نغَم القيثارة سرًّا،
تعالَ الليلة نتصافى،
وسيغمرنا الله بنِعَم ثرَّة،
قلبي مع قلبك
طفلان اشتاقا للراحة
في حضن النوم الحلو المرهق،
تاقا للقبلات
فلِم تتردد
ولِم الحيرة؟
آه آه يا حبي،
أفلا يتجاور قلبك مع قلبي،
أوَلا يصبغ دمك الفائر
خدِّي حُمرة؟
تعالَ الليلة نتصالح
نتصافى،
لو نتعانق
لامتنع علينا الموت،
وزالت شوكته المُرَّة،
ولَسقط النجم الهائل
في حجري مَرَّة …

الصورة أشبه بانفجارٍ «رياضي» أو «تكعيبي» تتشظى فيه الخطوط المستقيمة المحسوبة مع نثار النجوم والأهلَّة واللوالب، وتغمرها روحانيةٌ صافية شفافة تتجلَّى في أوضاع الأحياء الثلاثة — رجل وامرأة وكلب — الذين يبدون كنُسَّاك متوحدين مستسلمين في خلوتهم الروحية العميقة للسكون والصمت، وبالرغم من هذا الوسط العقلاني والرمزي تسري في الصورة عاطفة تعبيرية لا تخفى على العين والقلب …

والصورة في الأصل لحفر على الخشب للفنان التعبيري — المشهور بلوحاته العديدة المعبرة عن عالم الحصان بتنويعاته الزرقاء البديعة — فرانز مارك (١٨٨٠–١٩١٦م) الذي تأثَّر في بداية حياته — مثل سائر الفنانين التعبيريين — بالحركتَين التأثيرية والتجريدية في فرنسا، ثم الْتقى سنة ١٩١٢م في باريس بالفنان التكعيبي ديلوتاي (١٨٨٥–١٩٤١م) فاتجهَت أعماله الأخيرة — ومنها هذا الحفر على الخشب — نحو التجريد الذي تكسوه مسحةٌ صوفية وكونية تلفُّه في غلالةٍ رمزية وشعرية حالمة، وتبعده عن النزعة الشكلية والهندسية بقوة التعبير وعاطفته الصادقة الكامنة فيه (أضف إلى هذه الحقائق عن عالمه الفني حقيقةً أخرى تستحق أن نذكرها، وهي أنه مات — مثله مثل بعض التعبيريين من الشعراء والرسَّامين — ضحية الحرب العالمية الأولى في معركة فيردون، ويحتفظ متحف ميونيخ للفن الحديث بمعظم أعماله).

أما الشاعرة التي استوحَت هذه الصورة ومجَّدَت مصورها في كتابٍ أسمَته «الملك»، فلها هي الأخرى قصة تستحق منا نحن العرب الذين نعايش قضيتنا المصيرية في فلسطين منذ أكثر من نصف قرن، ونعاني من ظلم واضطهاد الصهاينة الذين حولوا أرض الميعاد التي حلموا بإقامة جنتهم الموعودة فيها إلى جحيمٍ فاشي يحترق فيه إخواننا الفلسطينيون وتهدد نيرانه بالزحف علينا نحن العرب أجمعين.

وُلِدَت الشاعرة والروائية وكاتبة الدراما إلزه — لاسكر — شولر لأبٍ يهودي — كان يعمل مدير مصرف — سنة ١٨٦٩م في البرفيلد، وماتت وحيدة وفقيرة بائسة في القدس سنة ١٩٤٥م بعد أن فرَّت من وجه النازية القبيح إلى سويسرا، وزارت فلسطين عدة مرات قبل أن تستقر في مهجرها فيها ابتداء من سنة ١٩٣٩م حتى موتها.

تحكَّم الحنين الرومانسي — وأكاد أقول الشرقي الأسطوري — إلى مستقبلٍ خيالي يسوده العدل والمحبة والسلام، ومجتمع إنساني واشتراكي تزدهر فيه أشجار الأخوة البشرية وزهورها، تحكَّم هذا كله في حياتها وأسفارها العديدة وأشعارها الرقيقة وكتاباتها الروائية والقصصية المجنحة …

تزوجَت سنة ١٨٩٤م من الطبيب برتولد لاسكر الذي انتقلت معه إلى الحياة في برلين، وهناك تعرَّفَت إلى «بيتر هيله» الذي أثَّر عليها بشخصيته البوهيمية والثورية وحياته المتشردة المتصعلكة، وأشعاره وحكَمه وكتاباته النقدية الاجتماعية المتفجرة بالشوق إلى الحياة في ظل «جماعة إنسانية جديدة» كان قد أسسها صديقاه الأخَوان «هارت» لتنطلق منها دعواتهما الإصلاحية والتبشيرية، فهجرَت زوجها وعاشت فترةً من الزمن مع الشاعر والممثل والمسرحي الممسوس بحلم الخلاص في البيت المخصَّص ليكون مقرًّا لتلك الجماعة الحالمة، ووضعَت عن صديقها وجماعته أول كتابٍ نثري لها، وهو «كتاب بيتر هيله» الذي يصوره في صورة منقذٍ أسطوري أو مخلِّصٍ جديد … وطُلِّقَت من زوجها الأول واقترنت سنة ١٩٠٣م ب. ﻫ. والدين ناشر مجلة «العاصفة» التي كانت من أوائل المجلات المبشِّرة بالحركة التعبيرية، ثم طُلِّقَت منه في سنة ١٩١٢م وأخذَت تتردد على سويسرا وفلسطين حتى فاجأها اندلاع نيران الحرب العالمية سنة ١٩٣٩م أثناء وجودها في القدس، فتعذَّر عليها الرجوع إلى أوربا وعاشت السنوات المتبقية من عمرها — كما سبق القول — في تعاسة وبؤس قاسيَين …

يقول عنها الشاعر التعبيري وأحد رُوَّاد التجديد الحداثي في الشعر الألماني وهو جوتفريد بِن (١٨٨٦–١٩٥٦م) إنها أعظم شاعرة عرفَتها ألمانيا … ومع أن العبارة تنطوي على مبالغةٍ شديدة التطرف ولا يمكن التسليم بها، فإن هذا لا يقلل من أهمية شعرها ولا من صدق تجربتها الشعرية وتنوعها وتطور أساليبها من مرحلة إلى أخرى إلى أن سيطر عليها الأسلوب التعبيري الذي أثَّر على جيلها كله، وإن لم يستطع أن يغرقها في شلاله الجارف فبقيَت محتفظة باستقلالها و«أساطيرها» الخاصة بها (التي صوَّرَت لها أنها أميرةٌ شرقية (طينو البغدادية) أو أنها قد تقمَّصَت دَور أمير من طيبة أو دَور سيدنا يوسف عليه السلام …)

لم تكُن الشاعرة إذَن تعبيرية خالصة، وإن كانت أحلامها الخيالية وتطلعاتها الإنسانية والمستقبلية (أو اليوتوبية) تمثِّل نُقطَ تماسٍّ مؤكَّدة مع التعبيريين، دون أن تفقدها استقلالها أو تجردها من عالمها الذي شاءت أن ترتدي فيه ثيابًا أسطورية وشرقيةً ملائمة لها …

ليس هذا مكان الحديث التفصيلي عن شعرها ونثرها، يكفي القول إنها لم تتخلَّ عن ولائها لتراثها الألماني ودينها اليهودي (اقتربَت من الروح الدينية في ديوانها ألحان عبرانية) ودارت قصائد ديوانها الأخير — بياني الأزرق — حول استحالة الشعر في عالمٍ فظ وغليظ، وحافظَت في كل شعرها على أنغامها الأساسية التي تنزف بالألم والحزن والوحدة والخوف من الحياة القلقة في مهجرها الأخير الذي يقال إنها عانت من فظائعه؛ فهل نفهم من نهايتها المأسوية أنها عاصرَت جرائم العصابات الصهيونية التي ارتكبَتها — بعد أن فتح لها الانتداب البريطاني باب الهجرة على مصراعَيه على حساب السكان الأصليين — في حق الفلسطينيين؟! هل خاب حلمها في الجنة الموعودة التي تمنَّتها لشعبها الذي اكتشفَت أنه شعب القتلة واللصوص والسفاحين؟ وهل سمعَت في تلك الأعوام التي سبقَت اغتصاب فلسطين وتأسيس الدولة العبرية على الظلم والباطل، هل سمعَت عن مقاوَمة أصحاب الأرض الأصليين للعصابات المتدفقة المتآمرة وما جرى لهم على أيدي شعبها؟ ترى ماذا كانت ستقول عن فظائع عصرها لو قُيِّض لها أن تعيش حتى تشهد المذابح المتتالية من دير ياسين وكفر قاسم وغيرهما إلى صبرا وشاتيلا؟ وهل كان ضميرها الإنساني والشعري سيسكت على المجازر التي يقترفها — بوقاحة الخنزير الوحشي وقذارته — «ملك اليهود» المعاصر شارون وبقية «جنود الرب» السفاحين؟! أسئلةٌ كثيرة لا جدوى منها — لكن قلبي — الذي لمسَته نبضات شِعرها الحالم الحنون — يحدِّثني بأن ضميرها الإنساني والشعري لم يكن ليسمح لها أبدًا بأن تقف متفرجةً خرساء، وأنها كانت ستضم صوتها إلى أصوات القليلين النادرين من اليهود الأحرار (مثل مواطنها في اللغة الشاعر النمسوي الحر إريش فريد الذي احتجَّ على المذابح التي قامت بها إسرائيل في الأيام الستة المنكوبة واغتالت فيها الآلاف من المصريين والسوريين …)

كل هذه افتراضات وتخمينات لا تقلِّل من هول الحقيقة التي تواجهنا وستواجه أجيال أبنائنا وأحفادنا؛ نحن لا نملك أمام «شعب الله» السفاح الغادر إلا أن نكون أقوياء، وأن نلجأ لكل أسلحة المقاوَمة، وثقافة الحرية والتحرر هي الثقافة الوحيدة الممكنة والضرورية لمن فُرِض عليهم أن يواجهوا الخطر الداهم المؤكَّد، وأن يقفوا سدًّا أمام طوفان الدم والخيانة الذي يراد لنا أن نغرق فيه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤