إريش فريد (١٩٢١–١٩٨٨م)

بعد الريح الموسمية

مدينة المطر،
هناك تبني الريح
قوسًا
للحمام
والغبار،
أبناؤها الثلاثة
سوف يبقَون على قيد الحياة
بعدما ينسحب الطوفان (في المساء)،
ويعقدوا الصلح مع السماء.
وُلاة هذا العالم
غطَّاهم الغبار من جديد،
ومن جديد
قد أصيبوا بالصمم.

مواطنة

أيادٍ بيض،
شعرٌ أحمر،
وعيونٌ زُرق.

•••

أحجارٌ بيض،
(و) دمٌ أحمر،
(و) شفاهٌ زرق.

•••

عظامٌ بيض،
رملٌ أحمر،
وسماءٌ زرقاء.
(عن ديوانه: وفيتنام و… ١٩٦٦م)

اثنان يصرخان

أحدهما تُسمَع (صرخته)
والآخر لا (يُلتفَت إليه)
الأول يسعَون لتهدئته
يُجرون حوارًا معه،
والآخر يصرخ ما زال
فيمضون إليه
وعلى فمهم بسمة.

•••

في البوق ينادُون عليه:
«لِم تفتح فمك لآخِره دومًا؟»
يصرخ: «أنتم تستمعون إليَّ جميعًا!»
فيجيبون: «بل لا نسمع كلمة!»

•••

وتظل تدوي صرخاته،
فيسوقون إليه صاحبه الآخَر،
والصاحب كفَّ وما عاد له صوت يُسمَع،
بل شدقٌ يفتح أو يغلق.

•••

وينادُون على الأول:
«الواجب إطلاق الصرخة،
وبهذا الشكل،
عندئذٍ نسمعها نحن جميعًا،
فتزلزلنا وتهزُّ القلب!»
الأول أخذوه بعيدًا،
والثاني يصرخ ما زال،
وفي الأفق تدوِّي صرخاته،
عندئذٍ سدُّوا الشارع سدًّا؛
كي لا يسمعه أحدٌ أبدًا.

•••

ويجيئون إليه بجريدة
طُبعَت فيها صورته،
ومعها هذا التعقيب
من سطرٍ واحد:
«صائحنا الفاتح فمه وبلا صوت.»

•••

ما زال الآخَر يصرخ
ويحاول أن يرفع صوته،
لكنَّ الآخَر يسقط ميْتًا
فيُكلَّف صاحبه الأول
أن ينعاه همسًا عند الدفن
ولا يطلق صوتًا …
(عن ديوانه: معارك ١٩٦٧م)

بلا دعابة

الصِّبية
يرمون الضفضع
بالأحجار،
وهم يلهون ويتسلَّون
بإطلاق الضحكات.

•••

أما الضفضع
فيموت
الموت الجاد!
(عن ديوانه: معارك ١٩٦٧م)

كذبة السيقان القصيرة

إن سيقان
الأكاذيب الكبيرة
هي في الواقع ليست
دائمًا أو كل حين
بالقصيرة،
إنما الأقصر منها
غالبًا
هي أعمار الذين
صدَّقوها
(غافلين).
(عن ديوانه: سيقان الأكاذيب الكبرى ١٩٦٧م)

علاقات مع قوةٍ عظمى

أن تحيا مع سفَّاحين وقتلة
هي إحدى الرغبات المفهومة
حين تعزُّ على المرء حياته
ويكون القتلة من أهل القوة.

•••

لكن معايشة القتلة
تعني أنك يومًا
ستموت على أيدي القتلة
ممن عشتَ طويلًا معهم.
(عن ديوانه: بين أعداء ثانويين ١٩٧٠م)

في زمن المحنة والإملاق لا يُوجَد أثر للأخلاق

«اليوم
— وهذا شيءٌ مؤسف —
ما عاد لدَينا وقت
لأمور الذوق المرهَف.»

•••

تلك عباراتٌ
فاه بها إنسان
كنتُ تعرَّفتُ عليه
قبل سنين طوال،
وعرَفتُ بنفسي
كم هو فظٌّ مُحتالٌ
وجبان.
(عن ديوانه: حرية فتح الفم ١٩٧٢م)

الفن لأجل الفن

(١)

حق الوقوع في الخطأ
الفن
لأجل الفن
خطأ،
يضطر المؤمن به
— كي يدفع عنه أخطاء أخرى
تُرتكَب باسمه —
أن يدخل دومًا في معركة
ليدافع عنه،
لأجل الحرية
ولأجل الحق
ولأجل الفن.

(٢)

لليسار برجٌ عاجي
الفن
لأجل الفن
يهاجم ويدان
لأقصى حدٍّ
ممن يرغب في الثورة
من أجل الثورة.
(عن ديوانه: ظلال الحياة ١٩٨١م)

إدماج

يقال
بأن الشاعر
رجل
يدمج كلمات
في كلمات.

•••

هذا غير صحيح،
فالشاعر
رجل
تدمجه الكلمات
إذا أسعده الحظ،
فإذا ساء الحظ وخان
تمزقه الكلمات
إربًا إربًا.
(عن ديوانه: ظلال الحياة ١٩٨١م)

سؤالٌ صغير

هل تعتقد
بأنك ما زلت صغيرًا
حتى تطرح
أسئلةً كبرى؟
(إن كان الأمر كذلك)
فيستصغرك
الكبراء،
ولن ينتظروا
حتى تكبر
للحدِّ الكافي.
(عن ديوانه: ظلال الحياة ١٩٨١م)

الوضع الراهن

(في زمن سباق التسلح)
من يرغب
أن يبقى العالم
في الوضع الراهن
هو في الواقع
لا يرغب
أن يبقى العالم.
(عن ديوانه ظلال الحياة ١٩٨١م)

الأمر سواء

«ما من شيء ليس جديدًا»
وتقولون
«كل قديم فهو مملٌّ.»

•••

حسن
في يومٍ ما
عاش الناس
أحب الناس
وهبُّوا
مندفعين إلى الثورة.

•••

في يومٍ ما
قلقوا من أجل صغير
أضنَته العلَّة،
خسروا معركة دخلوها
من أجل الحق
ومن أجل الحرية،
هرموا في السن
ولبُّوا داعي الموت.

•••

وإذَن لا جدوى
من أن نحيا ونحب،
لا جدوى من أن نتمرَّد
أن نأمل
أن نقلق
أن نكبر ونشيخ
ويحصدنا الموت،
لا شيء جديد في ذلك كله
إذ يشعركم بالملل القاتل
يشعركم أنتم يا أموات.
(عن ديوانه: البحث عمَّا هو قريب ١٩٨٢م)

بلا تخطيط

(مقتطفات)
أني أكبر منك
كثيرًا في السنِّ،
أو أنك أصغر
مني بكثير،
تلك من الحجج الدامغة
بورش التدريب،
حيث يعيش ويتعلم ناس
أصحاب عقولٍ نيِّرة
أكثر منا،
ويقيسون المستقبل
— مستقبلهم —
حسب مقاساتٍ مضبوطة.
(عن ديوانه: هذا هو حال الواقع ١٩٨٣م)

الواقع

هذا محض جنون،
ذلك هو قول العقل،
هذا هو شأن الواقع،
ذلك هو قول الحب.

•••

شيءٌ مضحك،
ذلك هو قول الكبر.
شيءٌ طائش،
ذلك هو قول الحرص.
شيءٌ مردود ومحال،
ذلك هو قول الخبرة.
هذا هو حال الواقع،
ذلك هو قول الحب.
(عن ديوانه: هذا هو حال الواقع ١٩٨٣م)

سيادة الحرية

من قال:
«هنا الحرية
تحكم وتسود.»
فقد أخطأ
أو كذب على نفسه.

•••

الحرية
لا تحكم
لا تتسيد.
(عن ديوانه: أسباب القلق ١٩٨٤م)

بدلًا من التعليق

حتى الذي كتبتُ
في ذمِّ الحياة
كان من أجل الحياة،
حتى الذي كتبت
في مديح الموت
كان ضدَّ الموت.
(عن ديوانه: أمورٌ مستعصية ١٩٨٨م)

قرأتُ اسم هذا الشاعر لأول مرةٍ في حياتي بعد عدَّة شهور من وقوع كارثة النكسة المفجعة. وقعَت في يدي بمحض الصدفة إحدى المجلَّات الأدبية الطليعية التي كان يصدرها المتعاطفون مع اليسار ومع ثورة الشباب والطلاب الألمان والأوروبيين التي كانت في ذلك الحين — سنة ١٩٦٧م — قد بلغَت أوج اشتعالها وعنفوانها للخروج من فك التنِّين البيروقراطي والتسلُّطي … كان اسم المجلَّة الصغيرة الفقيرة — على ما أذكُر الآن — هو «دواة الحبر»، وكان من بين محرِّريها — إلى جانب شباب الكُتاب الذين لم أسمع عنهم — عدد لا بأس به من أصحاب الضمير الإنساني والفني الذين حصل بعضهم بعد ذلك على أسمى الجوائز المرموقة ومنها جائزة نوبل. ووقَع بصري على قصيدةٍ عنوانها «اسمعي يا إسرائيل»، فشعرتُ بأنه ما زال في الدنيا من يرفع صوته احتجاجًا على الظلم والوحشية والهمجية. وضاعف من إعجابي وإكباري لصاحبها أن أعرف بعد ذلك أنه ينحدر من أصلٍ يهودي، وأن ذلك لم يمنعه لحظةً واحدة من الصراخ في وجه أبناء ديانته وجلدته، وإدانة جرائمهم — التي ربما شاهد بعض صورها البشعة في الصحف أو على شاشات التلفاز — على الرغم من تسبيح الغالبية العظمى من المثقفين في بلده وفي أوروبا عامة بحمد إسرائيل، وتبريرهم لفظائعها إلى حدِّ التقديس، وكأن الوقوف في صفها بالحق وبالباطل هو العلامة المسجَّلة على الثقافة والتحضر، وتوجيه أي نقد إليها هو الدليل الدامغ على المروق والكفر …

نقلتُ القصيدة إلى العربية، وقدَّمتُ لها على عجَل ببعض المعلومات الشحيحة التي استطعتُ جمعها عن الشاعر الذي علمتُ أنه يعيش في المهجر في لندن منذ أن كان في السابعة عشرة من عمره وقبل اندلاع نيران الحرب العالمية الثانية بعامٍ واحد. ونشرت القصيدة في مجلة «الأدب» التي كانت لا تزال تكافح بشِقِّ الأنفس للاستمرار في الظهور بعد رحيل مؤسِّسها العظيم أمين الخولي. ولمَّا كانت هذه القصيدة — التي نشرها الشاعر سنة ١٩٦٧م في ديوانه «معارك» وألَّبَت عليه عشرات النقاد وأججَت نيران عداوتهم له — لمَّا كانت في تقديري وثيقةً أدبية وتاريخية حية، وشاهدًا عدلًا على صحوة الضمير الثائر على الاضطهاد والقهر لوجه الحقيقة والحرية وحدهما، فإنني أستأذن القارئ في تقديم نصها قبل الحديث عن حياة صاحبها وخصائص شعره وفكره:

«عندما كنا مضطهَدين، كنتُ واحدًا منكم، فكيف أظل على انتمائي لكم، بعد أن أصبحتم تضطهدون غيركم؟/كان منتهى أملكم، أن تصيروا كالشعوب الأخرى، التي فتكَت بكم، وها أنتم الآن قد أصبحتم قتلةً مثلهم/لقد بقيتم أحياء، بعد أن ذهب الذين قسوا عليكم بضراوة، فهل ما زالت قسوتهم تحيا فيكم حتى الآن؟/ للمهزومين أصدرتم أوامركم: اخلعوا أحذيتكم، ومثل كبش فداء، سقتموهم أمامكم إلى الصحراء،/إلى جامع الموت الكبير/حيث نعال المصلِّين رمال/لكنهم رفضوا أن يوصَموا بالإثم الذي أردتم أن تلصقوه بهم/إن آثار الأقدام العارية على رمال الصحراء، ستبقى حية بعد أن تزول/آثار قنابلكم ودباباتكم …»

•••

يتَّحد الإبداع الشعري والالتزام السياسي والاجتماعي في شخص هذا «الإنسان والشاعر السياسي»١ في وحدةٍ واحدة، لقد وقف على الدوام في صفوف البشر المقهورين والمضطهَدين أيًّا كانت جنسياتهم أو انتماءاتهم، وسواء كانوا قريبين منه أو بعيدين عنه، وذلك لمجرد أنهم بشر ولهم حق في شيء من الحرية والعدل والسعادة والإنصاف في حياتهم القصيرة المهدَّدة على الدوام بالظلم والشر والمرض والموت؛ لذلك كانت حياته معارك متواصلة مع أعداء الحياة والحقيقة، ومواقف صلبة وصريحة في مواجهة المستبدين والمنافقين والمتاجرين بالثورات ومشعلي نيران الحروب والصراعات الزائفة، وفي التصدي كذلك للصامتين الصابرين والمستسلمين الساكتين على زحف الطوافين وحمم البراكين … لا عجب إذَن أن يكتسب عداوة الكثيرين من النقاد، بل من زملائه الأدباء والشعراء، وأن يقضي حياته — التي طالما ابتُليَت بالمرض وضنك العيش — في صراع لا يهدأ لحظة إلا لكي يندلع بعد لحظات، حتى جاءه الاعتراف في السنوات القليلة التي سبقَت موته، وانهالت عليه الجوائز العالمية والقومية التي حفزَت أعداءه السابقين على مراجعة مواقفهم المتجنية وإعادة قراءته وتقييمه بوصفه واحدًا من أهم الشعراء الألمان الذين رَدُّوا — بعد انتهاء الحرب — للقصيدة السياسية اعتبارها، وتسلَّحوا — متأثَّرين ببريشت وأدبه الثوري الساخر — بأسلحة الشك والجدل والنقد الشجاع الذي لا يتردد لحظةً واحدة عن قول الحقيقة؛ لأن التردد ليس له إلا معنًى واحد وهو السقوط …

وُلِد إريش فريد في العاصمة النمسوية فيينا في عام ١٩٢١م. كان هو الابن الوحيد لعائلةٍ يهودية تتألف من أبٍ وأم وجد، ويبدو أن الظروف العصيبة في مسقط رأسه قد فتحَت عينَي الصبي على مآسي العذاب الإنساني، وربما دفعَته منذ تلك السن المبكرة على الانخراط في مشكلات عصره وزمانه حتى آخر حياته، وجعلَت منه ذلك الشاعر المناضل الذي لم يخفت صوته الشعري والنثري أبدًا في مواجهة الأحداث الدامية التي جرَّبها وعاناها واضطرته بعد ذلك إلى قضاء حياته في المهجر. فقد عايش عن قربٍ ذلك اليوم الرهيب الذي سُمِّي يوم الجمعة الدموي لعام ١٩٢٧م، والثورة الأهلية التي اندلعَت نيرانها في عام ١٩٣٤م وقضَت فيها حكومة «دولفوس» بإعدام عددٍ كبير من العمال، وتزايد مشاعر العداء للسامية في النمسا بعد استيلاء النازيين على الحكم في ألمانيا ثم بعد «ضم» النمسا إلى دولة «الرايخ» في الثالث عشر من شهر مارس سنة ١٩٣٨م. وأُلقِي القبض على الوالدَين فمات الأب على أثر استجوابه من قبل الجستابو، وماتت الأم بعد ذلك في أحد معسكرات الاعتقال، واضطُر طالب المرحلة الثانوية وهو في السابعة عشرة من عمره إلى الهرب مع جدته من وجه النازي واللجوء إلى لندن التي لم يغادر مهجره فيها أبدًا بعد ذلك، باستثناء المرات المتقطعة التي كان يسافر فيها إلى ألمانيا أو النمسا أو سويسرا أو الولايات المتحدة الأمريكية؛ تلبية لدعوة أو لحضور مؤتمر أو لمتابعة نشر كتبه ودواوينه. ويروي عنه ناشره الأوحد كلاوس فاجنباخ — صاحب دار النشر المعروفة باسمه في مدينة ميونيخ — أنه هاجر إلى إنجلترا وقد عقد العزم على أن يكون كاتبًا حرًّا، وأنه سُئل من أحد رجال الجمارك أو من أحد أعضاء اللجنة اليهودية للمهاجرين عن المهنة التي سيختارها في المستقبل فأجاب الصبي في ثقة واعتزاز بالنفس: شاعرٌ ألماني …

ويضيف الناشر أن «فريد» كان يتمتع منذ صباه بذاكرةٍ صورية ونصِّية حديدية؛ فقد كانت لديه القدرة الخارقة على استعادة ذكريات صباه وشبابه؛ في المذكرات التي دوَّنَها بكل مشاهدها وتفاصيلها بمنتهى الدقة، كما كان يحفظ عن ظهر قلب عددًا ضخمًا من النصوص الشعرية لشعراء يحبهم، من أمثال هيني وأولاند وهولدرلين وتراكل، فضلًا عن الحِكم والأغنيات الشعبية التي فاضت —كما يقال — من «الفم غير المغسول» للشعب البسيط، بل وصل به الأمر إلى حدِّ أن يحفظ نصوصًا نثرية مطوَّلة، ومن أمثلتها بعض الحكايات الشعبية للكاتب فيلهلم هاوف الذي عُرِف عنه تأثره بالأدب الشرقي وحكايات ألف ليلة وليلة …

ذهب «فريد» إذَن إلى المهجر ومعه التصميم الأكيد على أن يعيش كاتبًا حرًّا ويكرِّس قلمه للدفاع عن المقهورين والمضطهَدين، ومحاربة العنصرية والفاشية والحرب والتسلُّح والظلم من أي اتجاه تهب منه الرياح المسمومة للأنظمة المستبدة والطغاة الكبار والصغار، حتى ولو كانوا من بعض نقاد الأدب الذين هاجموه بعد ذلك بضراوةٍ جارحة، واتهموا شعره بأنه شعر قتلة ومتآمرين، وشعر مهاجرين ملغزين ومخرِّبين …

تحايل اللاجئ الصغير على الحصول على لقمة العيش بطرقٍ شتَّى، بدءًا من العمل في إحدى المكتبات والقيام بأعمال أخرى مساعدة، حتى الانضمام في سنة ١٩٥٢م إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في برنامجها الموجَّه إلى «المنطقة السوفييتية» أو ألمانيا الشرقية السابقة (وقد واصل العمل فيه كمعلِّقٍ أساسي حتى تركه في سنة ١٩٦٨م بسبب اختلاف وجهات نظره السياسية عن وجهة النظر الرسمية لتلك الهيئة) وذلك بجانب المساهمة في الكتابة والنشر بالمجلات التي كانت تصدرها قوات الحلفاء بالألمانية في لندن — مثل المختارات ونظرة إلى العالم — ومتابعة ترجماته منذ بداية الخمسينيات عن الشعر الإنجليزي، وهي التي أثبت فيها موهبته الفائقة بترجمة أشعار ديلان توماس وسيلفيابلاث وت. س. إليوت مع ترجمةٍ جديدة لمسرحيات شكسبير، وقبل هذا كله بقصائده الغزيرة المتوالية (التي كان يكتبها — على حد قوله — كما تلد الأرنبة صغارها، وبلغَت في مجموعها حتى سنة وفاته ثلاثين مجموعة شعرية …) وقد بدأ في نشرها منذ سنة ١٩٤٤م عندما صدرَت «قصائده الألمانية» التي هاجم فيها الفاشية، ثم كان من أهمها وأروجها بعد ذلك مجموعته الشهيرة «وفيتنام و…» التي نُشِرَت متفرقة في صحف ومنشورات عديدة قبل أن تظهر في ديوانٍ مستقل عام ١٩٦٦م وتثير عليه عاصفةً عاتية من النقد الجارح الكاسح — كما سبق القول — الذي لم يمنع خمسة عشر ألف قارئ من الإقبال على قراءته رغم أنه كان مجهولًا أو شبه مجهول في بلده وفي ألمانيا،٢ وربما كان أحد الأسباب التي ساعدَت على شهرة هذا الديوان أنه كشف الأقنعة عن حقيقة تلك الحرب القذرة التي دأب الأمريكيون على تعمية صورتها وإخفاء تفاصيل الفظائع التي ارتكبوها فيها، وأُتيحَ للشاعر أن يطلع عليها أثناء عمله في الإذاعة الإنجليزية السابقة الذكر، كما ساعد كذلك على رواج الكتاب أن الشاعر نفسه قرأ بعض قصائده قبل نشره بسنوات ثلاث في أحد اجتماعات «جمعية ٤٧» الأدبية التي انعقدَت في برينستون بالولايات المتحدة، وذلك تحت إلحاح بعض النقاد والأدباء الأمريكيين، فهُوجِم هجومًا بشعًا من بعض شباب تك الجمعية، وعلى رأسهم الروائي الشهير جنتر جراس الذي كان في ذلك الوقت أمريكيًّا أكثر من الأمريكيين أنفسهم، وترتب على نشر الكتاب أن هاج أعضاء الحزب المسيحي الحاكم وماجوا، ودمغوا «المنشَق عن اليسار» و«الشاعر المزعوم» بأشنع الصفات، وبلغ الأمر حدَّ المطالَبة بإحراق شعره، وحذف قصائده من الكتب المدرسية التي قُرِّرَت على التلاميذ في منطقة بافاريا …

وجاءت بعد ذلك، وبعد مشاركة الشاعر في ثورة الطلاب والشباب في أواخر الستينيات، وهجومه على السياسة الإسرائيلية بعد نكسة يونيو، واستنكاره لمواقف الشرطة الألمانية من مجموعات الإرهابيين والفوضويين في أوائل السبعينيات (مثل جماعة بادر ماينهوف وغيرها)، وهجماته الجدلية الساخرة على اليساريين الحرفيين، الذين اعتبروا أنفسهم الورثة الوحيدين لنصوصٍ قدَّسوها ودأبوا على ترديدها والمحافظة عليها شأن حراس الجثث والمومياوات، بعد كل ذلك النشاط الذي لا يكلُّ ولا ييأس جاءت في سنة ١٩٧٩م مجموعته الشعرية «قصائد حب» التي لقيَت نجاحًا مذهلًا وبِيع منها — كما قال ناشره الأوحد — ثلاثمائة وخمسون ألف نسخة، على الرغم من الحملات النقدية الشرسة التي وصفته — كما سبقَت الإشارة إلى ذلك — بالمهاجر الملغز وشاعر القتلة … هل كان السرُّ في نجاح هذا الديوان هو خراب الساحة العاطفية في تلك الفترة القاسية المشحونة بثورات الشباب والفوضويين والدعوة لإعادة التسلح والهجوم الضاري على الاشتراكية أثناء الحرب الباردة؟ لن نستطيع أن نحدد سببًا واحدًا؛ فالأهم من ذلك أن الشاعر السياسي قد قدم في قصائد الحب مجموعة من أرقِّ وأصدق أشعار الحب في الأدب الألماني كله …

«إن المهمة الكبرى للفن هي محاربة الاغتراب …»

والواقع أن أي محاولة لتبسيط فن «فريد» الشديد التركيب، الدائب النقد والمراجعة لذاته ولعصره المتوتر، الممعن في تجاربه وألعابه اللغوية — لا سيما للغة الحياة اليومية إلى حد نحْت كلماتٍ عجيبة لاذعة — والمستفيد من تيارات عصره وجمالياته الشعرية الحديثة (كما تجلَّت في الشعر المجسَّم أو الملموس، والشعر الملغز أو الهيرميتيكي، والقصيدة الوثائقية، وتضمين النصوص الكلاسيكية والحديثة (على طريقة المونتاج) ومعارضتها باستمرار) الواقع أن كل هذا يمنعنا من حصر دَوره الفني في إطار الشعر السياسي الملتزم وحده بدلًا من وضعه بكل تجلياته النثرية والشعرية في دائرة ما أُحب أن أسمِّيه «شعر المقاومة» بالمعنى الشامل الرحب لهذه الكلمة المعبرة عن مهمة الشعر والأدب الحقيقي منذ أن وُجِد شعر وأدب …

لقد حدد «فريد» منذ البداية مهمة حياته في السيطرة على مشاكل عصره وأوهامه وأكاذيبه عن طريق الكتابة، أو بالأحرى حتمية الكتابة، ضد الرعب والظلم والتعصب والكذب والاضطهاد والاستبداد … وعانى هو نفسه في سبيل ذلك ألوانًا من الظلم والتعذيب لم يكن أقلها وطأة ذلك الهجوم النقدي الشرس الذي تعرض له طوال حياته المنتجة، وكم عبَّر عن ألوان العذاب وسوء الحظ التي لقيها خلال رحلته الطويلة التي قضاها في مطاردة الظلم، بطريقةٍ تمزج بين دمعة العين وابتسامة الشفتين، ولكنها لا تتخلى أبدًا عن الإحساس بالرضا وبتأكيد الأمل أو بالأحرى رده إلى الذين يئسوا من الأمل …

اسمعه وهو يقول عن أنواع العذاب وعن عجزه حياله من قصيدة له بهذا العنوان (١٩٧٧م):٣

«هذا يتعذب بنجاحه وثرائه، وذاك يتعذب بقوته وسلطته، وأنا أتعذب بالنظر إليهما كما يتعذب النهار بزحف الليل. هذا يتعذب بسبب حبه، والآخر يتعذب ببؤسه وفقره، وأنا أتعذب بالتفكير فيهما كما تتعذب الحياة بالموت الوشيك. هذا يتعذب بجشعه وطمعه، وذاك بتلذذه واستمتاعه، وأنا بعجزي عن مساعدتهما، كما يتعذب القلب بالقفص الصدري …»

لقد عاش «فريد» وأبدع لهدفٍ واحد هو تحقيق مهمة حياته، وقوام هذه المهمة كما حددها في قصيدة بهذا العنوان (١٩٨٣م) هي مطاردة الظلم حيثما أحس بوجوده:

«أن تلهث وتتعثر وأنت تطارد الظلم كما أفعل، شيء يمكن أن يملأ نفس أي إنسان بالرضا العميق، ولمَّا كنتُ أحس به دائمًا في الجو وأضعه على الدوام نصب عيني، فقد يساعدني ذلك على اتِّقاء شره في الوقت المناسب، أضف إلى ذاك سمعتي الطيبة التي اكتسبتُها كواحد من طلائع المكافحين للظلم، هذه السمعة الطيبة هي في الحقيقة شيء له قيمته ووزنه، وسوف تظل مرتبطة باسمي لوقتٍ طويل، ولهذا فأنا أشعر شعورًا حقيقيًّا بأنني مدِين للظلم بالشكر الجزيل، وماذا كان يمكنني بدونه أن أفعل بالبقية الباقية من حياتي؟»

هل كان من سوء حظه أم من حُسنه أن يلقى ما لقي من ظلم واضطهاد وهو يطارد الظلم والاضطهاد؟ لا شك أنه قد استطاع — بلغة الجدل — أن يقوم «برفع» سوء الحظ عن طريق التعبير عنه بكلماتٍ شعرية مفهومة ومتسقة ومؤثرة على كل من يقرؤها، ولا بد أنه اكتشف في النهاية أن التعبير عن سوء الحظ تعبيرًا شعريًّا جميلًا ومؤثرًا هو في حد ذاته نوع من الحظ السعيد …

١  يمكن في تقديري أن يُوضَع إريش فريد عن جدارة في صف شعراء المقاومة، بالمعنى الواسع والشامل لهذه الكلمة عند غيرنا أو عندنا: إلوار وأراجون وناظم حكمت ونيرودا، وإبراهيم وفدوى طوقان ودرويش والقاسم وزياد وأمل دنقل والبردوني والمقالح والوقيان …
٢  لم تستطع هجمات النقاد أن تؤخر الاعتراف الدولي والمحلي بشعر فريد وأدبه؛ ففي عام ١٩٧٧م تلقى الجائزة الدولية للناشرين، وفي الثمانينيات انهمرَت عليه الجوائز الأدبية لمدينة بريمين ودولة النمسا وجائزة بوشتر المرموقة …
٣  راجع لاريش فريد، قصائد، نشرها وعلَّق عليها ناشره الأوحد كلاوس فاجنباخ، دار كتاب الجيب الألمانية، ميونيخ، الطبعة التاسعة، ٢٠٠١م، ص٥٨، ١٠٣، ١٠٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤