أولاف منسبرج (١٩٣٨م–…)

من طمي النيل (قصائد عن مصر)

تابوت في قاعة المومياوات

الكفن على قدِّ الجسم،
والجسم بقايا لحم وبقايا عظم،
منزوع القشر،
أقِف بنصفي العلوي كأني الطير
منتوف الريش بغير جناح،
وبنصفي الآخر وكأن الظهر
مجرَّد لوحٍ حجري،
الراقد في كل مكان
يُوقَف مشدود القامة داخل هذا التابوت
كما تقِف الساعة من عهد الجدّْ،
أرقامٌ سود — من فوق بياضٍ — ليس تُعدّْ،
ترجع لزمان ليس يُحدُّ وما سوَّتها يدْ،
تسند لجدار وإليه تُشدّْ.

الإنسان

وُلِد قديمًا من طمي النيل،
اكتسَت البشرة باللون الأسمر
من طين الأرض،
وامتدَّ العمر ألوف الأعوام،
ذلك ما حدث بكل بساطة …

في هرم خوفو

مثل عبيد الملِك الفرعوني
نصعد بظهورٍ محنيَّة
— وكأنا نرزح تحت الحمل الحجري —
فوق ممرَّاتٍ خشبية،
نحو التابوت المفتوح بعمق الهرم الأكبر
تأخذ أيدينا بأيادي البعض،
ننظر للجدران العارية بحجرة دفن الملك،
وتلفحنا رائحة العرق الممزوج
بإفرازات البشر،
وتأخذ أيدينا بأيادي البعض،
ومعًا نهبط درجات السلَّم
نحو الأفق المفتوح …

الهولي (الإسفنكس)

جاءت في الليل وذهبَت بالليل،
فمتى أبصرت الفم والأنف المكسورَين؟
لا أذكر قط.
ومتى فقدت قسمات الوجه
ومن هي بالضبط؟
لن أعرف هذا أبدًا،
لا عند شروق الفجر
ولا عند غروب الشمس،
وإذا الظل امتدَّ على وجنتها اليمنى
وافترش الذقن المصرية
لن أعرف أبدًا هل تصمد
لهجير الشمس
على الحدِّ الفاصل
بين رمال الصحراء وطمي النيل …

رمسيس في أبي سمبل

من مجلسه العالي ينظر للنيل،
وفي رجليه يعاني من مرض الفيل،
وإبريق فوق الرأس،
وفي أذنَيه دوي حروبه،
ويد كالمخلب نامت فوق الفخذ …

سخريةٌ لاذعة

لا أحد يذكر أجيال عبيد
بنَت المعبد في فيلة والأقصر
أو في الكرنك،
ولماذا يذكرهم أيضًا …
أوَلم يلغ الرق؟
أليس كذلك؟

حتى في الموت

نفق الجمل هنالك في الصحراء
ولم يتبقَّ سوى هيكله العظمي.
حتى بعد الموت
ينيخ الظهر
لكي يركبه السيِّد …

موت المسلمين

وعندما يموت كل حي
يفقد كل شيء،
حتى اسمه القديم
بضربةٍ واحدة
يضيع من يدَيه …

(١)

كثيرون هم الكُتاب والشعراء والمفكرون والعلماء والمصورون والرحَّالة الذين زاروا مصر وكتبوا عنها خلال القرون الأخيرة، ولكن يندر أن نجد بينهم من استطاع أن يخرج من زيارته القصيرة التي لم تزد على ثلاثة أسابيع بديوانٍ كامل عن مصر! والأندر من هذا أن تقلِّب في زهور هذه الباقة الشعرية فتأخذك الدهشة من تنوُّع صورها وألوانها وعطورها، وربما جرحَت أناملك نباتات شوكية مُرة — كالحنظل والصبار — اندسَّت بينها وراحت تجرح عقلك وشعورك ببعض مواقفها الفكرية المتجنية أو وخزاتها الفلسفية القاسية!

مَن إذَن هذا الشاعر الذي لم يستغنِ بوجوده الشعري عمَّا عداه، وإنما وحَّد في كيانه بين المحامي وفيلسوف الفن والجمال وعالِم الأديان المقارنة والناقد الفني والثوري المحبَط وإن بقي على إيمانه بالمستقبل الأفضل والإنسانية الحرة العادلة؟

هو «أولاف منسبرج» رئيس اتحاد الكُتاب في مدينة برلين منذ سنة ١٩٨٩م، ورئيس التحرير المشارك لمجلة النقد الفني التي تصدر في فرانكفورت منذ سنة ١٩٨١م (وهي مجلة الإستطيقا والتواصل) والشاعر الذي صدرَت له أكثر من مجموعةٍ شعرية بالألمانية (مداخل ومخارج، برلين ١٩٧٥م، وأغلق بابي وأبدأ في الحياة، برلين ١٩٨٣م) وبالإنجليزية (سر في هذا العالم بخطى إنسان، لندن ١٩٩١م) والعديد من الدراسات والمقالات، والخواطر الفلسفية والأدبية، واليوميات والمذكرات والانطباعات التي تزوَّد بها من الرحلات التي لا يكاد يرجع من إحداها وفي جرابه عدد من القصائد والأفكار حتى يبدأ غيرها على الفور، وكأن شعره لا يستجيب لقلمه إلا وهو على سفر!

بعد الدمار والخراب الذي خلَّفَته الحرب العالمية الثانية وراءها، هرب الصبي الذي يبلغ اليوم الرابعة والستين من عمره مع عائلته من بلدة جلاديفتس (في ولاية سيلزيا) التي وُلِد فيها سنة ١٩٣٨م، ثم استقر منذ سنة ١٩٦٢م في مدينة برلين التي يعيش فيها منذ أن كانت مقطَّعة الأوصال بعدد الحلفاء الأربعة حتى زوال سورها الكئيب المشهور واحتشادها اليوم لكي ترجع كما كانت عاصمة ألمانيا الموحَّدة وسوقها الثقافية والحضارية الكبيرة … ودرس في جامعة برلين الحرة التي أُنشئَت في القسم الغربي من المدينة بمساعدة الأمريكيين بعد الحرب لمواجهة جامعة همبولت التي تقع فيما كان يُعرَف ببرلين الشرقية.

وتنوَّعَت دراسته بتنوع اهتماماته وطموحاته، كما عبَّرَت عن جوانب شخصيته ووجوه اغترابه؛ فقد بدأ بالحقوق وتخرج محاميًا ليضمن لقمة العيش من مهنة لم يكد يبدأ في ممارستها حتى زاحمَتها دراسات أخرى تشعبَت مسالكها أو متاهاتها بين فلسفة الجمال والدين والأدب الألماني إلى أن حصل على شهادة الدكتوراه برسالة عن الموضوع الجمالي عند كلٍّ من كانط وهيجل وأدورنو (وهو فيسوف الجمال البارز بين أعضاء مدرسة فرانكفورت وأحد مؤسِّسي النظرية النقدية التي عُرفَت بها). ويبدو أنه خلال تلك الدراسة لم يكن بالطالب العاكف المجتهد الذي يتمناه كل معلِّم؛ إذ تجاذبَت «النفوس» المتصارعة في حنايا صدره بين كتابة الشعر، وتدبيج المقالات النقدية والبيانات الثورية، وتنظيم المَعارض الفنية، والعزف على آلة «الكلارينيت» مع إحدى فِرق «الجاز»، والتمثيل في فرقةٍ مسرحية متجولة كونها مجموعة من طلاب الحركة الثورية المعروفة في أواخر الستينيات، وهم الذين أخذوا يجوبون الشوارع والأحياء السكنية والمصانع، ويعرضون ألعابهم التمثيلية أمام جماهير العمَّال وأبناء الطبقة الوسطى التي اكتفَت بالفرجة عليهم والسخرية منهم، داعين في غمرة تلك الثورة الشبابية المحبطة إلى اشتراكيةٍ جديدة حرة، ومحرِّضين على التمرد على الأنظمة التسلطية بكل أشكالها، ومبشرين بإنسانيةٍ عالمية تلغي كلمة الحرب من قاموس البشر، وتحقق الحلم القديم بالأخوة والعدالة والسلام المفتقَد منذ أيام قابيل وهابيل …

ووسط غبار هذه العواصف أخذ الشاعر — منذ سنة ١٩٦٦م وحتى العام الماضي — يتابع كتاباته من خلال رحلاته التي طافت به جهات العالم الأربع؛ من بلاد اليونان وتركيا وإسرائيل إلى بولندا وإيطاليا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى المكسيك ومصر والصين، ثم إلى بلاد اليونان ومقدونيا التي حضر فيها مؤتمر الشعر في الصيف الماضي، وخرج من زياراته المتكررة للمكسيك بأكثر من دراسة عن بعض الفنانين التشكيليين الكبار الذين أصبحوا من أعز أصدقائه ورفاق كفاحه على درب الثورة الإنسانية والعالمية و«اليوتوبيا» (المدينة الفاضلة أو النظام الاجتماعي الأمثل) الواقعية الممكنة المختلفة كل الاختلاف عن «اليوتوبيا» الطوباوية المستحيلة التي عرفها تاريخ الأدب والفكر والضمير منذ العصر البرونزي، بقدر اختلافها الحاسم عن الممارسات الإرهابية التي ارتُكبَت باسمها في الاتحاد السوفييتي السابق وتوابعه أو في الصين لدى «ماو» وخلفائه أو في ظل النظم الباطشة المتخلفة في العالم الثالث كله. وإذا كان قد رفض الإرهاب المنظَّم بكل صوره الشمولية (من شيوعية وفاشية وعسكرية وكهنوتية) وقنع — بعد انحسار ثورة الطلاب التي سبق الحديث عنها — بالعكوف على شعره وتحقيق رسالة حياته عن طريق هذا الشعر الذي يجني ثماره المنظومة والمنثورة كما رأينا من خلال أسفاره، ويدعو فيه إلى تنوير العقول المستسلمة، وإيقاظ المواطن العادي أو «الرجل الصغير» من سبات تزمته وجموده ليختار بنفسه، ويمارس وعيه النقدي الغائب، ويتخذ المواقف المسئولة التي تتحدى صُناع الحروب والفساد والإرهاب والتمييز العنصري والتعصب الطائفي والعقدي وإهدار حقوق الإنسان، بذلك صار الابن الوفي «لآباء» جيله الغاضب من الثوريين الكبار على اختلاف توجهاتهم الفكرية ووجهات نظرهم في الواقع والحقيقة؛ من كانط وهيجل وماركس وفرويد إلى أدورنو وماركوز وبريشت وبنيامين. أضف إلى هؤلاء الآباء أسماء الفنانين المكسيكيين الذين كانوا في نفس الوقت ثوارًا كبارًا (من أمثال خوسيه كليمنته أوروسكو ودييجو ريفيرا) بجانب تعاطفه مع حركة «الخُضر» المكافحة في سبيل حماية البيئة، والحركات النسائية الجديدة، وعمله الدءوب على أن تحافظ مدينته برلين على وجهها الأصيل أمام زحف الغول الرأسمالي بسماسرته ومقاوليه وعصاباته المخربة لكل ما بقي من العالم والزمان الجميل.

هكذا تعلم الشاعر في مدرسة الثورة بمعناها الإنساني الشامل الذي لا يتقيد بالقوالب المذهبية، وتفتحَت عيون أفكاره ومشاعره قبل ذلك في مدرسة أمه التي كانت شاعرةً مثله وصورَت في قصائدها فظائع القهر والجبروت النازي، وضحايا معتقلات التعذيب وأفران الغاز ومحارق الكُتب ومشانق الأحرار … ولذلك تزخر قصائده بصور التعاطف مع الفقراء والمستضعفين، والتضامن مع الضحايا والمضطهَدين (ومنهم الشعراء والمفكرون والفنانون الحقيقيون الذين دهسَتهم عجلات القمع والإعلام وآلاتها الجهنمية …) سواء فيما يُسمَّى بالعالم الأول أو بالعالم الثالث، بجانب الإصرار على بناء عالم بلا سادة ولا عبيد، والإشفاق على البشرية من مستقبلٍ غامض يتهدده العدم النووي، ويلوثه ويزيد من اضطرابه جشع تجار الحروب وصُناع الفساد والخراب والجنون الذي يزحف كالتنين الأسطوري ليبتلع كل القيم والمعايير والمحرمات والمقدسات.

وليس معنى هذا أن شعره مجرد شعرٍ سياسي؛ لأن هذه الصفة لا تكفي لتبرير وجوده ولا تعفيه من الشروط الفنية لكل شعر يستحق هذه التسمية، وإنما هو شعر ينضح بالانبهار بروائع الطبيعة والفن في العصور القديمة والحديثة، وفي كل مكانٍ قريب أو بعيد. ففي هذه الروائع وحدها تتحقق المعجزة التي استحال تحقيقها حتى الآن، وأعني بها «اليوتوبيا» الكاملة التي تمثِّل النموذج المضاد للواقع الناقص بطبيعته، وترفع رايات الأمل ومشاعله فوق رعب الماضي المثقل بالذنوب (وبخاصة الماضي الألماني!) وفساد الحاضر الممزَّق بالحروب والصراعات، وتبشر بالمستقبل الذي تحاصره المخاوف والأطماع وخيبات الأمل من كل ناحية، وتتجه نحو الوطن أو الأرض التي لم تطأها بعد قدما إنسان. ولذلك نجد في أشعاره وانطباعاته تلك «الجدلية» المعبِّرة عن صراع الواقع مع الحلم، والجمال مع الرعب، والحس الحي بلحم الإنسان وطعم الفاكهة وخضرة العشب والشجر وحرارة الشمس وفقر الفقراء وجوع المحرومين … مع التأمل العقلي الجاف والتجريد الذي يشبه الهيكل العظمي اليابس.

(٢)

كيف ارتسمَت صورة مصر على مرآة هذا الشاعر؟ كيف تراءى في عينيه الإنسان، الحيوان، النخلة والصبارة والصفصافة، أهرام الجيزة وأبو الهول الأزلي، طيبة وكتاب الموتى، رمسيس وأبو سمبل وقبور فراعنة الوادي والعمال، ووجوه الأحياء الفقراء؟ كيف تغلغل هذا العالم في الوجدان فنسجَت منه بصيرته الشعرية ثوبًا لحمته الدهشة والحيرة والإجلال، وسداه الحب مع الغضب مع الثورة والإشفاق؟

فلنتصور هذا الشاعر الفارع الطول الممتلئ الجسد كعملاق أشقر عندما وصل إلى بلادنا بغير أن يحمل معه حقيبة أو يحجز في فندق أو يضع على كتفه «الكاميرا» وفي جيبه دفتر الشيكات، لقد حضر إلى مصر مرتَين، إحداهما مع فريق من طلاب فقراء في المال، أغنياء بالشوق والتطلع، والأخرى بدعوة من صديقه الناقد الكبير والمترجم الأمين لبعض روائع أدبنا الحديث إلى لغته، وهو ناجي نجيب (١٩٣١–١٩٨٧م) الذي فقدْناه فجأة، ولم نستوعب حتى الآن مقدار خسارتنا فيه، ولم يفكر أحد من «نُقادنا» المشغولين بأنفسهم ومصالحهم وشللهم في قراءته، ناهيك عن تقييم دَوره العظيم كما فعل هذا الشاعر الذي نعاه في هذا الديوان نفسه بقصيدةٍ رائعة مؤثرة وفي هاتَين الزيارتَين لم يكن مع الشاعر إلا «حدس» اللحظة الخاطفة التي ترفرف فوق الشيء الذي تبصره العين المشتاقة ثم تحط عليه فجأةً كعصفور نزق أو نسر جائع!

وسرعان ما تنضج «الفريسة» المشتهاة على نار الإبداع المتوقِّد بالعاطفة المحبة أو الفكرة المتأملة أو الغضب المتفجر بالسخط والامتعاض، ثم يتخلق في كيانٍ لغوي شديد الدقة والإيجاز، من نوع الحِكم الشعرية المكثفة (الإبيجرام) التي لا تترك مجالًا كبيرًا للاسترسال في التعبير الإنشائي، ولا في الصور الحية الموحية. فعل هذا في كل بلدٍ شد إليه رحاله (ومعذرة عن سخف التعبير الموروث لأنه لم يكن يملك أي شيء يشده معه!) في اليونان التي عاين فيها وجوه الحكماء والأبطال القدماء وآثار معابد الأكروبوليس، وفي المكسيك التي لمس فيها وحدة الفن والثورة، وفي مالطة التي تخيلها فرخ دجاج نتف الغزاة ريشه على الدوام، وفي الصين حيث وقف في ميدان «تيانانمين» الذي اشتعلَت فيه ثورة الطلاب المحبطة، واختلط بالعمال وصغار الموظفين والطلاب ذوي السترات الزرقاء والخضراء، ونظر بعين خياله في عيون شهداء الحرية الذين لا تزال أرواحهم تصرخ من فوق «أسوار الصين»، وفي مصر التي فتح فيها قلبه المتألم وعقله الناقد المتمرد فأقبلَت عليه خارجة من كهف الزمن الذي رقدَت فيه آلاف السنين، وظلَّت مع ذلك تتحدى كل أشكال الموت الذي فُرِض عليها في كل العصور وخنق أنفاسها في قبضة الطغاة من كل نوع ولون. وفي كل هذه البلاد تَهديه «بوصلته» الشعرية في اتجاه الأرض والحرية والسلام والأخوة العالمية نحو شاطئ وطنٍ إنساني لا تفزعه الحروب ولا يذله الجوع ولا يتسلط عليه ويستغله وينهبه الغول الأمريكي أو الأوروبي ولا الدب الروسي.

ويستهل الشاعر ديوانه بشعارٍ مقتبَس من عبارةٍ وردَت في الفقرة الثانية والأربعين من كتاب الموتى على لسان «رع»: «أنا صلب الإله في باطن الطرفاء.» ثم يفتتحه بسطورٍ قليلة تتألف منها القصيدة الأولى عن «الإنسان» في مصر: «وُلِد قديمًا/من طمي النيل/اكتسَت البشرة باللون الأسمر/من طين الأرض/والعمر ألوف الأعوام/ذلك ما حدث بكل بساطة!»

فإلى أي حدٍّ ينبئ الشعار والقصيدة الافتتاحية عن مضمون الديوان؟

(٣)

كان من الطبيعي — كما هي العادة — أن يبدأ السائح بالمتحف المصري في ميدان التحرير، هذا الذي يشبه «السندرة» أو مخزن عادياتٍ قديمًا مات صاحبه فأهمله أبناؤه … ولا بُد أنه تعِب من المشي في الممرات الضيقة المكدسة — في قبحٍ لا نظير له — بالتماثيل والكتل الحجرية الضخمة وصناديق التوابيت و«فاترينات» العرض، قبل أن ينهدَّ على أريكة أو مقعد وتجيش في نفسه هذه الأبيات: «نمشي بأحذيةٍ ثقيلة/ ونجوس في حجرات المتحف المصري/وفي النهاية/نقعد منهَكين/وكأننا تماثيل.»

ويحتمل أن يكون قد تجول في قاعة المومياوات التي تجذب في العادة كل السواح — وإن نسيها ابن البلد أو عجز عن تحمُّل رسم الدخول إليها — ويقف أمام أحد التوابيت فيقول: «الكفن على قد الجسم/بقايا لحم وبقايا عظم/منزوع القشر. أقف بنصفي العلوي كأني الطير/منتوف الريش بغير جناح/وبنصفي الآخر وكأن الظهر/مجرد لوحٍ حجري/الراقد في كل مكان/يوقف مشدود القامة/داخل هذا التابوت/كما تقف الساعة من عهد الجد/أرقام سود من فوق بياض ليس تُعَد/١٣٠٢ أو ٦٢٨٩/ترجع لزمان ليس يحد/وما سوَّتها يد/تسند لجدار وإليه تُشَد.»

ويبدو أن رؤية الهرم لأول مرةٍ لم تُثر في نفسه التجربة الرومانسية المألوفة التي يجللها السحر والذهول والإعجاب كما حدث ويحدث كل يوم لكل من يقف أمامه. وأخشى أن يكون قد جاء إلى مصر وفي ذهنه فكرةٌ مسبقة تصور الأهرام قلاع عبودية ومقابر ملوك سخَّروا العبيد لبنائها، وهي فكرة تشدَّق بها الكثيرون وحاولوا أن يوجدوا لها أساسًا ماديًّا يفسرها، وغابت عنهم الروح الدينية التي ألهمَت كل شواهد العمارة والبناء التي يشهقون حين تقع عيونهم عليها. وسواء ندَّت عنه هذه الشهقة أو لا، فقد تحولَت عنده المعجزات المجسَّدة على شكل أهرام إلى ثلاث قبعات سخيفة. وها هو ذا يقول في قصيدة بعنوان أهرام الجيزة: «من وسط الضوء الداكن في الصحراء/تبزغ قبعات ثلاث/تنزلق عليها أشعة الشمس/زاحفة كالجمال/وفي مكان الضوء اللامع/على الأحجار الجيرية البيضاء/من محجر طرة/يعشش الرمل القادم من بعيد/أو يجيء في زيارة قصيرة.»

ولا بُد أيضًا أن تجربة دخول الهرم كانت فوق طاقته، وهي تجربة يشعر كل من مر بها بأنه يُدفَن حيًّا، ويحس عندما يخرج منها سالمًا ويرى نور الشمس ويستنشق الهواء النقي من روائح الصهد والغبار والقدم الجاثم على الصدر، يحس كأنه وُلِد من جديد … ولكن الأفكار المسبقة التي حملها الشاعر معه ترسخَت لديه بعد خروجه حيًّا من عتمة المهجع الملكي، تدل على هذا قصيدته التالية عن هرم خوفو: «مِثل عبيد الملك الفرعوني/نصعد بظهورٍ محنية/وكأنا نرزح تحت الحمل الحجري/فوق ممراتٍ خشبية/نحو التابوت المفتوح/بعمق الهرم الأكبر/تأخذ أيدينا بأيادي البعض/ننظر للجدران العارية بحجرة دفن الملك/وتلفحنا رائحة العرَق/الممتزج بفضلات البشر/وتأخذ أيدينا بأيادي بعض/ومعًا نهبط درجات السلم/نحو الأفق المفتوح.»

وتبلغ فكرته المغلوطة ذروتها حين تسوق إلى فكرةٍ أخرى مخيفة؛ فالأهرام ليست مجرد قبور للفراعنة، وإنما هي نسخٌ حجرية من القبر الأصلي القديم الذي دُفِن فيه المصريون أحياء منذ آلاف السنين قبل أن يجسِّدوه في الأهرام نفسها:

«كانت الأهرامات واقفة في الصحراء/قبل الشروع في بنائها/بأيدي عبيد الفراعنة/وهي لا تزال واقفة في أماكنها/لقد تركَتها الطبيعة لهم/كأنها نسخٌ من قبرهم الأصلي/الذي يرجع عمره لآلاف السنين …» لا شك في أنها فكرة لو أخذناها مأخذ الجد لكان معناها أننا نحن المصريين قد دُفِنا أحياء في مقبرة القهر والظلم الكبيرة، حتى قبل أن نحوِّل الرمز الدال عليها إلى مصاطب وأهرامات … ولا أظن أن أحدًا منا يمكنه أن يسلم بهذه الفكرة مهما بدَت مغرية «للثوريين»، كما أنها «شطحة» يستحيل إيجاد أي سند علمي يؤكدها، ولماذا لا تخطر على الباب أفكارٌ أخرى ترى في الأهرام رموزًا كونية وبناءات روحية تعبِّر عن حنين المصري القديم واتجاهه إلى «العالي» وراء هذا العالم، وعن سكينة الخلود الذي عاشت فيه نفسه وقضَت حياتها في التأهب له بالعمل والتضحية والعبادة والطاعة التي كان بناء الأهرام نفسها أحد مظاهرها؟ وحتى لو رفضنا الفكرتَين معًا بحجة أنهما غير علميَّتَين فسوف تبقى الفكرة التي تضمنَتها السطور السابقة كابوسًا مؤرقًا لكل أجيال المصريين الذين لم تتوقف معاناتهم عبر الزمان، وربما تتحول إلى سدٍّ منيع تتكسر عليه أمواج طموحهم للتغيير والتجديد والتقدم، فتصبح كل جهودهم في هذا السبيل — كما يقول الشاعر نفسه في قصيدةٍ أخرى — أشبه بالأصداء المجوفة للكلمات التي نطق بها أجدادنا في الدولة القديمة ولم تزل تخرج علينا من كهف الزمن وتحاصرنا …

(٤)

هل نلتمس بعض العذر لهذا الأوربي الذي يعترف بأنه ساح في بلادنا مغمَض العينين؟ إن بعض قصائده تنطق باشمئزازه من رموز الموت الحجرية التي يكسوها غيره من السياح هالة من الجلال والجمال والخيال، بينما يراها هو كالخيام التي ينصبها البدوي ثم يطويها. وكأنما يقول لنا بلُغته الشاعرية: لقد آن أن تطووا خيام الموت وتقيموا بيوت الحياة: «على حافة الصحراء/أنصب هرمي كالفراعنة/ وأهبط عدة أمتار تحت الأرض/أسفل السطح المثلث لغرفة الدفن/وأشرب الشاي/ثم أطلع مرةً أخرى على السلالم، محني الظهر كالمعتاد/وأطوي هذا الهرم من جديد …»

وربما توحي القصيدة التالية بهذه المعاني التي يحتمل أن تكون قد دارت في رأس هذا الثوري القديم وعبَّرَت عن سخطه على حضارته وأمله في البعث القادم مع حضارة الحياة والتجدد (وغير ذلك من الكلمات الساحرة الخطرة التي ربما تذكِّرنا بساحر شعرنا الجديد وكاهنه الأسطوري «أدونيس!» …): «أجل، إنه سائح أوروبي بعينَين مغمَضتَين/ بهدوءٍ وقف هناك وعقد ذراعيه على صدره/وأسند ظهره إلى الحائط في غرفة الدفن بهرم خفرع/غاص راجعًا للوراء آلاف السنين/إلى الأسرة الرابعة/بينما لم يتحمل أحدٌ غيره/زخم الهواء الخانق الثقيل/ ورائحة المراحيض المنبعثة من البشر والحيوان …»

(٥)

ويخرج السائح المغمَض العينَين من كهف الزمن الخانق وشواهده الجاثمة على صدره، ولكنه يُفاجأ ولا يملك إلا أن يفتح عينَيه على اتساعهما على اللغز الأبدي؛ على أبي الهول، أو بالأحرى الهولي الرابضة هناك على وشك الوثوب، ذات الفم الذي لا يدري أحد هل يبتسم أو يطبق الشفتين على العزم أو الألم …

«جاءت في الليل وذهبَت بالليل/فمتى أبصرت الفم والأنف المكسورَين؟/لا أذكر قط/ومتى فقدت قسمات الوجه ومن هي بالضبط/لن أعرف هذا أبدًا/لا عند شروق الفجر ولا عند غروب الشمس/وإذا الظل امتد على وجنتها اليمنى/وافترش الذقن المصرية/لن أعرف أبدًا هل تصمد لهجير الشمس/على الحد الفاصل بين الصحراء وطمي النيل …»

ومن حريته داخل الأهرام الثلاثة وأمام الهولي يخرج إلى النيل، فيشاهد على صفحته كتابةً مصرية تتلوى حروفها الهيروغليفية كالثعابين التي يبدو أنها كانت تخايل عينَيه وتهدد بلسْع قدمَيه أثناء تدوين هذه السطور:

«قوارب في النيل/والمجداف على الجانبَين/مدلًّى إلى أسفل/ ثعابين مسطحة/اصطفَّت في خطٍّ واحد/بأجسادها الطويلة/ورءوس كالبرقوق/انتشرَت عليها نقطٌ كثيرة/ودائمًا هذا الشعور/بوجود الزواحف/بمجرى النهر وفي الماء …»

ويكثِّف التجربة التي يحملها في نفسه كما تحمل الأم الجنين الميت، ويضعها على جسده كما هو يُوضَع الثوب المليء بالثقوب، وتتمخَّض التجربة عن قصيدتَين؛ الأولى عن أرض مصر المزدحمة بالأضداد، وإنسانها الذي جُبِل حظه من طمي النيل ومنه بنى بيوته ومساكنه: «إن مصر لا يزيد اتساعها على اتساع النيل/فهذا هو الذي تناقض مع نقطة بدايتي/وأن النيل هو الحياة والصحراء هي الموت/ فذلك شيء لم أتصور أنه أمر ممكن. أما أن مصر الحاضرة بلدٌ فقير/ فشيء لم أصدقه قبل ذلك/ولا قرأتُ عنه في الصحف اليومية …» وبعد هذه القصيدة التي جعل عنوانها «عيوب» تأتي القصيدة الثانية التي تدور في فلكها وتشرب من جرَّتها وعنوانها مصر: «كل شيء هنا من الطين/والمعروف أن طمي النيل الذي تجفف قوالبه في الشمس/قد استُخدِم في بناء البيوت/وأن الإنسان، كما ورد في سفر التكوين في الكتاب المقدس/قد خُلِق من الطين/من هنا بدأَت الأسطورة من صحراء سيناء/من أرض النهرَين ومن بلاد الفرس …»

(٦)

ويواصل الشاعر رحلته إلى الأقصر وأسوان، كما تُواصل الفكرة المسبقة طنينها في سمعه وعقله وكأنها ذبابة الصحراء أو الوسواس المتسلط! فهو يتجول في معبد الأقصر، ويعترف بمجده وعظمته من مجرد ذكر اسمه، ولكنه ينظر إلى الخيول والعربات المحفورة على جدرانه ويلاحظ أنها تظلع في مشيتها، وأن البشر الذين فوقها أو حولها مصابون بالكساح! بل إن التحيز أو سوء الفهم يدفعه إلى حد الزعم بأن المعبد تنسكب منه النظرات المطالِبة بالبقشيش، وهي التي لمحها في كل مكانٍ ذهب إليه في مصر، وسببَت له ولزملائه الضيق والعناء.

ولا يقف الأمر عند ظاهرة البقشيش التي تزعج الأجانب والمواطنين على السواء، وإنما يتعداه إلى زوابع الغبار التي لا ترحم الرئة، ولا تخفف من مضايقاتها رؤية المعابد الشامخة في الكرنك، ولا الرسوم الملوَّنة عن تصوُّرات العالم الآخر على جدران مقابر الملوك في الضفة الغربية لطيبة (الأقصر) ولا تمثالا ممنون العظيمان اللذان استحقا أن يكونا إحدى عجائب الدنيا السبع!

وتحمله الحافلة عبر الصحراء النوبية إلى «أبي سمبل». وتطن الفكرة مرةً أخرى في سمعه وعقله. ويبدو أن رمسيس الثاني وتمثاله المذهل في شموخه وجبروته قد تحدَّاه وسحق كل أفكاره المسبقة تحت قدميه، فلم يسعه إلا أن يقول على لسانه (في قصيدةٍ سمَّاها الخوف من التجاهل – أبو سمبل وأوزيريس): «قبل أربعة آلاف سنة/وضعتُ نفسي في القاعة/ أنا الذي أعاني الارتباك والسمنة/على ارتفاع مائة واثنين وسبعين مترًا/حتى لا تقوى على تجاهُلي/يا من جئتَ من القرن العشرين/ لتنظر فيَّ وتتأملني …» ويحاول الشاعر بدَوره أن يتحدى أعظم ملوك الشرق القديم في عصره وأكثرهم تفاخُرًا بمعاركه وأمجاده، فيرسم له صورة وحشٍ طاغٍ مصاب بمرض الفيل وعلى رأسه تاجٌ هائل كالجرة أو الإبريق:

«ينظر من مجلسه العالي للنيل/وفي رجليه مرض الفيل/وإبريقٌ فوق الرأس/وفي أذنَيه دويُّ حروبه/ويد كالمخلب نامت فوق الفخذ …»

أنقول إن هذه القصيدة تردِّد أصداء القول بأن موسى وقومه طُرِدوا من مصر في عهد رمسيس الثاني؟ أحسب أن هذا الزعم لم يقُم عليه أي دليل أو سند علمي حتى الآن.

ومهما يكن رأى الخبراء المختصين في هذا الشأن، فالظاهر أن وسواس التحيز والتعالي الموروث قد أفلَت من صندوق العقل الباطن وطال الجسد أيضًا … إذ أمسكه الجزع لحظات من خناقه فخاف على بشرته البيضاء وشعره الأشقر أن تكسوهما السمرة أو السواد!

ويعترف الشاعر بهذا في لحظة صدق فيقول في هذه السطور القليلة التي وضعها تحت هذا العنون «أوهام أوروبي»: «بعد أسبوعٍ واحد/صرتُ قمحي اللون كمصري/وبعد أسبوعين أصبحتُ أسمر كنوبي/ومضَت ثلاثة أسابيع فإذا بي أسود كأفريقيا!»

(٧)

غير أن هذه الأوهام — لحُسن حظ الأنا الغربية المتمركزة حول نواتها الدفينة في الأعماق منذ أرسطو على أقل تقدير! — لا تلبث أن تتبدد في لحظات صفاء وهناء. فمع كأس من البيرة — ماركة ستيلا التي يحبها السياح الألمان بوجهٍ خاص! — وأثناء جلسةٍ مسترخية في حديقة فندق كتاراكت القديم، يفتح الشاعر عينيه المغمضتَين ويكتشف أنه لم يفقد لونه الأبيض! والظاهر أنه فتح قلبه أيضًا بعد ذلك فنبض بخفقة حبٍّ نادرة خلال تجواله بين مقابر العمال الفقراء في دير المدينة، أولئك الذين بنوا على أكتافهم مقابر الملوك ومعابدهم. وتنسكب منه هذه الأبيات التي تذكرنا بالقصيدة الشهيرة للشاعر الاشتراكي برتولت بريشت (وهي أسئلة عامل أثناء القراءة)، تقول هذه الأبيات تحت عنوان «سخرية لاذعة»:

«لا أحد يذكر أجيال عبيد/بنَت المعبد في فيلة والأقصر أو في الكرنك/ولماذا يذكرهم أحد أيضًا؟/أولم يُلغَ الرق؟ أليس كذلك؟»

وينتقل بين مقابر العمال فيخرق أذنيه دوي نباح كلابٍ شرسة، ولكن قلبه يواصل نبضه الشعري فيتعاطف أيضًا مع هذه الكلاب المهزولة التي تسيل المسكنة من عيونها، وربما ينسكب منها كذلك ذل استجداء البقشيش!

«يصل السياح كقافلة بغال/فتجيبهم بالنباح بقايا الكلاب المتوحشة/التي كانت تعيش مع عمال مدينة الموتى/هذه الكلاب المهجنة التي تقطع نومها فترةً قصيرة/ثم تتجه وهي تواصل عواءها/ إلى ظلال الأماكن التي يرقد فيها سادتها/منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة عام …»

ورغم أن القصيدتين تكشفان عن جمالٍ آسر يشبه الأشعار الصينية واليابانية المركَّزة، ويكاد أن يذكِّرنا بالرسوم والصور الآسيوية المتناهية الرقة والدقة، فإنهما تكشفان كذلك عن شيء من التحيز الذي كنا نتوقع من الشاعر أن يتجاوزه بفكره النقدي الحر. لقد غاب عنه أن نظام الرق لم يكن قد وُجِد بعد، وأن العمال في مصر لم يكونوا عبيدًا يباعون ويشترون في سوق النخاسة، بل مجرد عمال يكدون ويكدحون مقابل أجر معلوم. وقد سجَّل تاريخنا القديم أخبارًا متفرقة عن ثوراتهم الغاضبة لتأخر أجورهم المستحقة. ولست أدري من أين استمد فكرته الباطلة عن رمسيس الثاني الذي زعم أنه كان يشكو من العجز والارتباك والسمنة ومرض الفيل، مع أن مومياءه في المتحف المصري تشهد بسلامة جسده من الآفات، وربما لم ينس القراء بعد قصة نقْلها إلى باريس واستقبالها في مطار ديجول — على ما أذكر — باحتفالٍ مهيب.

ومع ذلك فقد يغفر له هذا التجني الشديد أن الحسد والتحيز ضد الحضارات القديمة في هذه المنطقة من العالم — لا سيما حضارات مصر وبابل وبلاد الفرس — ممتد الجذور في تراثه الغربي نفسه وفي بعض أسفار العهد القديم الذي يمثِّل أحد العناصر الأساسية المكوِّنة لهذا التراث (بجانب العناصر الإغريقية، الرومانية، والمسيحية) وربما نلتمس له بعض العذر أيضًا عن شكِّه في زوال الرق والرقيق في عصرنا الراهن، ولعله متأثر في هذا بإدانة جيله كله لعلاقات القهر والظلم والاستغلال السائدة في المجتمعات الصناعية المتقدمة ومنها مجتمعه نفسه، وهي تمثِّل حجر الزاوية في النقد الذي وجهَته مدرسة فرانكفورت إلى هذه المجتمعات المغتربة والصانعة للاغتراب …

(٨)

لن نستغرب إذَن من الشاعر أن يسحب فكرته المسبقة عن العبودية والعبيد حتى على الأموات من الحيوانات، وكأن كل الظهور في عالمنا الشرقي لم تُخلَق إلا ليركبها السادة! وكأني به يردد ما قاله هيجل عن الشرقيين عامة والصينيين بوجهٍ خاصٍّ من أنهم خُلِقوا ليجرُّوا عربة الإمبراطور، وأن على الغربي أن يحذَرهم وينظر إليهم دائمًا على أنهم عبيد … أنقول إنه نبتةٌ طبيعية من تربته الثقافية التي غرس فيها الكثيرون من قبله بذور التحيز والاستعلاء، وأنه حلقة في سلسلة التعصب الطويلة التي شملَت للأسف بعض كبار الفلاسفة من أرسطو إلى هيجل إلى منظِّري النازية والفاشية والأصولية اليهودية والمسيحية (التي سبقَت ما يُسمَّى اليوم بالأصولية الإسلامية، وكانت أحد العوامل الأساسية في صنعها أو اصطناعها ثم إدانة الإسلام والمسلمين ومعاقبتهم بسببها!) حتى دعاة التعصب القومي والطائفي من صرب البوسنة والجبل الأسود (الذين شهدْنا «أمجاد» مذابحهم التي يغض الساسة الأوربيون والأمريكيون أبصارهم عنها مؤكِّدين بذلك تواطؤهم معها …)؟ إنني لا أريد ولا أحب أن أظلمه أو أقف منه موقف «الضد» الذي يرد على التحيز بمثله أو بما هو أشد منه تشددًا، ولكنني لا أستطيع في الوقت نفسه أن أقبل هذه الأفكار المسبقة من شاعرٍ يلبس مسوح المفكر المستنير والثائر الحقيقي باسم الإنسانية والحرية والوطن العالمي، كما أن حبي لشخصه وتقديري لفكره وشعره وعرفاني بلطفه وفضله كل ذلك لا يمنعني من أن أتخذ منه موقف أرسطو الذي أحب أفلاطون وأصحاب الأكاديمية، ولكن حبه للحقيقة كان أعظم … والواقع أن الأمر يجاوز كل حدود الصبر والاحتمال عندما نراه — كما سبق القول — مصرًّا على إدانة كل المخلوقات من طمي النيل — حتى الموتى! — بالذل والعبودية. وماذا نقول أو نفعل إزاء أبيات كهذه يدمغ فيها الجمل العربي بالذل في حياته وموته: «نفق الجمل هنالك في الصحراء/ولم يتبقَّ سوى هيكله العظمي/حتى بعد الموت/ينيخ الظهر لكي يركبه السيد …»

(٩)

ويرجع الشاعر إلى القاهرة بعد الزيارة المعتادة لصعيد مصر. والظاهر أن برنامج الرحلة لم يتسع لزيارة كل المعالم الإسلامية في «أم الدنيا» أو «أم المدن» كما سمَّاها بعض الرحالة الأوروبيين، دع عنك الإحساس بأهلها والنظر في عيونهم والاستماع لكلامهم. وكانت حصيلة البقية الباقية من السياحة الشعرية ثلاث قصائد عن مقابر المسلمين والمدافن المملوكية؛ فهو يشاهد مقبرةً ريفية صغيرة من نافذة الحافلة التي أقلَّته وزملاءه على طريق العودة إلى القاهرة: «صفوف تلال رملية صغيرة/وعند حافة الرأس/حجرٌ مثني ومدبَّب/كأنما وجد في موضعه بمحض الصدفة …»

وتحمل القصيدة الثانية عنوانًا ينتهي بعلامة استفهام تثير هي نفسها أكثر من علامة استفهام «موتٌ إسلامي؟»: «وعندما يموت كل حي/يفقد كل شيء/حتى اسمه القديم/بضربةٍ واحدة يضيع من يديه …»

وفي القصيدة الثالثة لا يلفت انتباهه من المدافن الإسلامية غير الجانب المادي الاقتصادي الذي تقوم عليه «طبقية» الموت في بلادنا، وقدرة الأغنياء على شراء موتهم المريح كما اشترَوا حياتهم المترفة … «القادرون يمولون الحياة/حتى بعد الموت/بحوش وبيت يترددون عليه بين حين وحين/لقضاء الليل مع الحبيبة! …» ومن الواضح أن مثل هذه الأبيات يفتقد الحد الأدنى من المعرفة بعالم الإسلام أو بجلال مفهوم الموت فيه. ومن العبث أن نحاول مناقشتها أو التعليق عليها؛ لأنها ببساطة لا تستحق هذا العناء …

(١٠)

وأخيرًا تأتي القصيدة التي اختتم بها الشاعر ديوانه تحت هذا العنوان المثير للشجون والأحزان «آه يا قاهرة» … ولا بُد أنه تجوَّل في شوارع القاهرة وميادينها وبعض أحيائها المتخمة أو المعدمة مع مضيفه المرحوم ناجي حبيب (الذي ضاعف من كرم ضيافته عندما زار أديبنا الكبير صاحب العصا والقنديل، يحي حقي رحمه الله، وكان ذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر مارس سنة ١٩٨٦م، وأسفر الحوار الخصب الممتد بينهما عن قصيدةٍ بديعة).

من الصعب إن لم يكن من المستحيل، أن يتسع المجال لأبيات هذه القصيدة التي تربو على المائة … ومن الظلم للشعر أيضًا أن نحاول تلخيصه أو الاكتفاء بإيراد أفكاره ومعانيه. ولكن ربما يشفع لنا قليلًا أن مثل هذا الشعر المرسل لا يقيم وزنًا كبيرًا للوزن والإيقاع وجرس الكلمات وموسيقاها؛ لأنه يصدر في الأغلب عن عقل يصوغ أفكاره شعرًا. قد لا يخلو من الصور الفنية الجميلة، ولكنه الجمال البارد المجرد الذي لا يكاد يجمعه شيء بالجمال الذي ألِفناه في شعرنا العربي القديم أو في النماذج الجيدة من شعرنا الجديد.

والقصيدة أشبه بمحاكمةٍ شعرية «لأم المدن» التي يعلم أبناؤها أكثر من غيرهم مدى ظلمهم لها وتشويههم لوجهها الطيب العريق، وعقوقهم لكل عهود الوفاء نحو الأم التي أصبحوا يتنافسون في رجمها بأحجار الإهمال والارتجال والقذارة والتلوث والضجيج الذي يكفي لقتل مدن العالم كله …

ويبدأ الشاعر بالتأوه من خبرته الأليمة بالقاهرة وإطلاق آهاته الحبيسة على لسان القاهرة نفسها: «فسد هواؤك يا قاهرة/من الغبار والدخان والأبخرة/المتصاعدة من أنابيبك المستهلكة/ولن ينجيك من هذا الوباء الخانق/أن تهربي تحت الأرض/بعد الانتهاء من إقامة مترو الأنفاق (وقد توافَق هذا مع العمل فيه سنة ١٩٨٦م) إن سائقي السيارات في شوارعك بهلوانات/يتحايلون كل يوم على الزحام/ويرجعون إلى بيوتهم سالمين/لكن من يضمن ألا يختنقوا معك في هذا الوباء؟ آه يا قاهرة!»

«أين ذهب فنُّك المعروف في تنسيق الحدائق والمنتزهات الخضراء، والميادين البديعة والنافورات؟ أتريدين أن تُحظَري على النخيل والدِّفلى أن تدخل إليك وتنمو على أرضك؟ وإذا كنت لا تريدين هذا، فلماذا تقضين عليها وتحاصرينها بالمزيد من المباني القبيحة والكباري البشعة والطرق السريعة؟ ومن ذا الذي يصبر على الإقامة فيك بينما تتفجَّرين وتمزِّقين كل خيوط ردائك، وأبناؤك يلجَئون إلى مقابرك بحثًا عن مكان بجوار الموتى، أو يأوون إلى أكواخ الصفيح بين مقالب الزبالة وجبال الدبش، أو يقيمون بين محارق الفخار أو قمائن الطوب الميتة، وها أنتِ يا قاهرة تبنين وتبنين، ومع ذلك تتركين مخلفات المباني في مكانها، ويتحرك الملايين الجدد متجهين إليك، فتختنقين بالزحام في شوارعك — لا من أثر الحر وحده — ويتحير الإنسان لماذا يجري كل هذا فيكِ أنتِ دون عواصم العالم؟ لا بُد من وجود خطأ ما، شيء زلزل تاريخك وغير مسارك، لا أقصد أسراب الماعز التي تتجول في ضواحيك، ولا صراخ أبواقك بيب بيب وتيت تيت وإن كانت تتلف أعصابي، إنما أقصد يا قاهرة أنني لم أستطع أن أرى الشمس وهي تغرب في الأصيل؛ إذ حجبَتها عن نظري سحب العادم. أعترف لك مع ذلك بأني لم أتعود أن أكترث لحظةً واحدة بهذه المعجزات الطبيعية التي تحدث كل يوم حين أكون في إحدى العواصم الكبرى، ولكن صدِّقيني إذا قلت إن الذهول قد شلَّني أكثر من مرة، وأنه لم يصبني فحسب عندما وقفتُ مدهوشًا في مدخل محطة السكة الحديدية الرئيسية بالقرب من تمثال رمسيس.

وآه يا قاهرة … لن يُبحَّ صوتي من إطلاق صرخاتي — رغم أن العادم والغبار يجلد حنجرتي ويتسرب كدبيب الهرم إلى عظمي — ولن أتوقف عن مصارحتك بأن الأمريكان ليسوا وحدهم الذين جعلوك تتأوهين، ولا هم السوفييت الذين لم تخلُ وعودهم بمساعدتك من طمع فيك، حتى قررت بحزم وأدب أن يرجعوا إلى بلادهم، فعليك أنت وحدك يا قاهرة تقع مسئولية هدم الأحياء الفقيرة القذرة، والخلاص من القمامة والغبار والضوضاء … وفي إمكانك يا قاهرة أن تبدئي العمل صباح الغد، ويقيني أنك قادرة على النهوض به، لكن هل يصل إلى أذنيك ندائي؟!»

(١١)

هكذا تنتهي السياحة الشعرية التي صحبنا فيها هذا الشاعر المفكر الطموح إلى تغيير العالم، بما فيه مصر التي رسم صورتها من طمي النيل (وربما لم يسمع عن مشكلة احتجازه خلف السد العالي، ولا عن الأخطار المخيفة التي يقال إنها ستنجم في المستقبل أو التي برز بعضها بالفعل نتيجة انقطاع زيارته الأزلية المباركة، بينما لم نبدأ نحن حتى الآن في مواجهتها بالأسلوب العلمي الجاد والحوار الشعبي الحر اللذين يتحتم اللجوء إليهما عند مواجهة المصير).

ربما يكون القارئ قد شعر من بعض ما قلته على لسانه من شعره أو من تعليقي عليه أنه واحد من «الآخرين» الذين يعرضون صورتنا في مراياهم المشوهة، وربما تبادر إلى ظنه أيضًا أن هذا الشاعر الواسع الثقافة والأمل غير بريء من التحيز الذي قلتُ إنه كامن في جذور ثقافته — دع عنك تاريخه الاستعماري الأسود كله! — والذي يتسرع البعض منا بإدانة «الآخر» الغربي به والصراخ في وجهه بالاتهامات المضادة التي لا تقِل تطرفًا وتحيزًا. والواقع — في تقديري — أن كلا الطرفَين يقع بذلك في خطأ كبير، وربما أوقع نفسه أيضًا في فخ الصراع والجدل الأجوف الذي يتخبط فيه المتشنجون عندنا بوجهٍ خاصٍّ (لأن الآخر المزعوم مشغول عن الثرثرة بالعمل والإنجاز).

والحق إن ما قصدتُ إليه ببساطة هو أن هذا الآخر الغربي لا يستطيع بسهولة — مع افتراض الإخلاص للحقيقة والصدق الذي لمسناه في كثير من القصائد السابقة وفي القصيدة الأخيرة بوجهٍ أخص — أن يتجرد من الأفكار المسبقة المغلوطة — والموروثة من تراثه نفسه كما قلت — نحو الشرق عامة بما فيه حضارتنا القديمة وعالمنا العربي والإسلامي، وهو باختصار لن يتخلص منها حتى نساعده نحن على ذلك (على نحو ما فعلَت بعض الشعوب الآسيوية التي نضرب بها الأمثال ليل نهار دون أن نتعلم منها شيئًا!) أعني أن نتحمل بشجاعةٍ مسئوليتنا نحن عن تخلفنا، وننهض بواجبنا، ونقدِّم صورتنا المشرفة في مرآة التحضر والتقدم التي تفرض عليه احترامنا وتزيح صورتنا الأخرى التي تكونت لديه على مر العصور بأشكالٍ مختلفة (ولم نقصِّر حتى اليوم في أن نضيف إليها تشويهًا على تشويه) وبدلًا من صب اللعنات على الآخر المغتر بعلمه وتقنيته وهيمنته وتفوقه على كل المستويات — بدلًا من إضاعة الجهد والوقت في إثبات تآمره علينا والثرثرة حول مشكلاتٍ وهمية من صُنعنا — علينا أن نسأل أنفسنا: وتآمرنا نحن على أنفسنا؟ وتدميرنا لذواتنا بتدمير بعضنا لبعض وكأننا أعدى أعدائنا؟ — ليقُل الآخر ما يقول — أليست لنا عقولٌ تعي وتنقد كما لهم عقول؟ ألسنا رجالًا وهم رجال؟ ولم الجزع والوقوع في قبضة وسواس الاضطهاد، ولم يمنعنا أحد من أن نعمل ونبدع، وأن نصلح بيتنا بأيدينا ونثق بقدراتنا المعطلة أو المهدرة؟ عندئذٍ لن نخشى أن يأتي هذا السائح أو غيره إلينا، وأن يقول ما يقول فننقده وندخل في حوار معه. وحين يعكس واقعنا على مرآته فما الضرر أن ننظر فيها نظرة الأحرار فنزداد معرفة به وبأنفسنا ونفرز الحق من الباطل، هنالك يجد نفسه مضطرًّا لكسر مرآته المشوهة، وحتى إذا أصر عليها فلن نخسر من ذلك شيئًا. ألا يقول لنا العلم الإنساني بمختلف فروعه إن الذات لا تعرف نفسها إلا من خلال الآخر أو في مرآته؟ أليس من الممكن أيضًا أن يأتي يوم ينظر فيه هذا الآخر إلى مرآتنا فيرى نفسه أيضًا، ويحل لغز أبي الهول أو الهولي الأزلية، فيعرف أخيرًا معنى الإنسان؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤