فينوس

figure
فينوس ميلو.

(١)

فينوس
عذريٌّ لم تمسَسْه يد،
منزوع منه الخوف،
وعارٍ حتى الجنبين،
يسطع، يزدهر،
الجسد الرباني
في نور جمالٍ سحري
لا ينطفئ ولا يخمد.
تحت الظل الفتَّان
— المتقلب كتقلُّب نزوة —
للشَّعر المرفوع بخفَّة
صبَّ الفرح أبيًّا،
وانسكب بقوة
في هذا الوجه العلوي!
بافوس١ غمرَتكِ طويلًا
بحنانٍ غامر،
فغدوَتِ كأنكِ زبد البحر
— وفانٍ هو زبد البحر وعابر —
وتدفق منكِ السحر الآسر
والمجد الباهر،
ولهذا رُحتِ تطُلِّين
على الأبد الممتدِّ أمامكِ
(بحثًا عن سرٍّ حائر …)

(٢)

فينوس من ميلو
من أنتِ؟
امرأةٌ أنتِ فحسب؟
أم الربة أفروديت؟
أبدًا لم يأتِ شبيهكِ
من عالي السُّحْب
ولا من زبد البحر.
من رحم الأم — الأرض — وُلِدتِ؛
إذ ضاجعها الفرح البشري
بلَيلة عرس لن ينساها الدهر
(كان الإنسان صغيرًا في مقتبل العمر!)
خالدةٌ أنتِ خلودَ إله،
و«خرونوس»٢ قد عجز عن التأثير عليكِ،
أسألكِ سؤالًا فأجيبيني:
أين تولَّى وإلى أين
محبوبٌ كنتِ ترَين،
ووجهكِ — هذا الوجه الأبيض — يَحمَر؟
ها أنتِ أمامي ذاهلة،
عن هذا العالم.
وجهكِ منكسر،
يرتسم عليه عذابٌ أزلي،
حزنٌ مُر،
أُعلِن حُبِّي فتصمِّين السمع
— أفي أذنكِ وَقْر؟ —
لكن ما من شيء تملكه المرأة:
من فيض حنانٍ أو بِر،
أو من خبثٍ أو غدر،
إلا وتجمَّع فيكِ،
فأنتِ المرأة أنتِ،
صورة حواء،
وما في الأنثى الخالدة
من الخير أو الشر …

تمثال من الرخام المرمري لفينوس ربة الحب والجمال عند الرومان، عُرِف باسم فينوس ميلو نسبة إلى جزيرة ميلوس الإيطالية التي عُثِر عليه فيها سنة ١٨٢٠م، وهو من روائع الفن الإغريقي في عصره الهلِّينستي المتأخر، القرن الأول قبل الميلاد، ولم يتوصَّل العلماء لاسم الفنان الذي نحتَه، ورجَّح بعضهم أن الذراعَين المفقودتَين كانتا في الأصل تحملان درعًا مرفوعة إلى أعلى في اتجاه اليسار، بحيث تتأمَّل الربة المعبودة صورتها المنعكِسة عليه …

تخيَّل نفسك وأنت تتجول في ردهات متحف اللوفر وقاعاته، وإذا بك تفاجأ بالنور الباهر المنبعِث من هذا التمثال، ربما أذهلك النور لحظاتٍ عن قراءة اللوحة أو النقش الذي يحمل المعلومات التي قدمتُها في الفقرة السابقة، ولكنه لن يذهلك بالتأكيد عن طرح هذا السؤال على نفسك: كيف أمكن أن يُوجَد مثل هذا الجمال على الأرض؟ كيف استطاع الفنان أن يسوِّي كل هذا الصفاء والنقاء والبهاء من الحجر؟ وهل اضطُر حقًّا أن يلجأ إلى إزميل أم تجلَّى له الروح الخالص للجمال على هذه الصورة الكاملة وشكَّل المادة بنفسه فلم يحتجْ لأي أداة، ولم يجد ضرورة لتحريك ذراع ولا يد ولا إصبع؟!

ويستغرقك النظر إلى التمثال فتحس بروحك تنصهر مع روحه، وحياتك تندمج في حياةٍ أكثر حريةً وسموًّا وقدسيَّة، وجسدٌ ربَّانيُّ الصنعة يزدهر ويسطع ويشع — كفنارة حية أو شمعة متألقة على هيئةٍ بشرية! — بنور لم ينطفئ بَريقه الساحر المحيِّر بعد مئات السنين التي مرَّت عليه، وبالرغم من ضياع الذراعين وتراكُم ظلال الحزن والعذاب على الوجه، وازدياد الألم الماثل في العينين المتجِهتَين بنظرتهما للأرض من هَول ما تريان فيها وفي حياة الناس من ظلم وفساد وغدر ووحشية وقسوة لم يستطع مَرُّ السنين ولا مواكب الحضارات والفنون والعلوم والأشعار والأغاني والألحان أن تُقلِّم مخلبًا واحدًا من مخالبها …

وتفيق من ذهولك فتتنهد وتهمس: نعم! ما أصغر شأن الحياة التي تخلو من هذا المثل الأعلى، وما أضيع البشر إن لم يضعوا نصب أعينهم على الدوام، ويحلموا ويعملوا في كل لحظة لتحقيق تلك المملكة أو المدينة التي يسكنها مثل هذا الجمال العلوي، وتبدو حياتهم ومدنهم التي يعيشون ويشقَون فيها بالنسبة إليها جحيمًا لا يُطاق وعذابًا وتعذيبًا بلا أدنى أمل …

  • كتب القصيدة الأولى الشاعر الروسي أفاناسي أفانا سييفيتش فيت (١٨٢٠–١٨٩٢م) في سنة ١٨٥٦م، ولم تصدُر في إحدى مجموعاته الشعرية إلا في سنة ١٩٠٩م، ثم تُرجمَت إلى الألمانية، وصدرَت في كتابٍ ضم قصائد الشعراء الروس الذين فاضت قرائحهم إعجابًا بفينوس ميلو ونظموها بوحْي منها، وظهر الكتاب سنة ١٩٦٢م في مدينة مونستر …

  • وأما القصيدة الثانية فهي لصديق مصر والمصريين، والمدافع المنصف الشجاع عن حقهم في الحرية والاستقلال، وهو ويلفريد سكاوين بلنت (١٨٤٠–١٩٢٢م) الذي عُرِف بكثرة أسفاره ورحلاته وكثرة الأشعار والمذكرات التي كتبها عن تجاربه ومشاهداته، (رحل إلى مصر والجزيرة العربية وإيران، واشترى خلال إحدى رحلاته إلى مصر بيتًا في ضواحي القاهرة حيث عاش عيشة شيخٍ عربي!) ظهرَت قصيدته عن فينوس ميلو في كتاب أشعار الرحَّالة الذي نشره الأستاذ ف. أ. إيمونز، وصدر في نيويورك عام ١٩٧٠م ص٨٩.

١  هي مدينة ومملكة على الساحل الغربي لجزيرة قبرص، استوطنها الأركاديون في العصر الميكيني، وازدهرَت فيها عبادة أفروديت (أو فينوس عند الرومان).
٢  محمد مندور، فن الشعر، سلسلة المكتبة الثقافية، العدد ٣٠٥، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٧٤م، ص٣-٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤