الملك إدوارد الثامن والمسز سمبسون

الميلاد

فكَّر المستر تيكل واليس وارفيلد وهو ينظر باضطراب إلى باب الغرفة المغلق وقال في نفسه: عسى أن يكون ولدًا.

ثم أخذ يتمشى في الحجرة الخارجية ذهابًا وجيئة، ونظر من النافذة يلتمس الهدوء من اضطرابه في منظر تلك القمم الزرقاء اللون التي كانت تحجب عنه الأفق، وكان الناس في الطريق يمرون أمام المنزل في مونتيرى دون أن يهتم أحدهم لشيء مما يجري في الداخل؛ فقد حضروا هم أيضًا للاصطياف على حدود بنسلفانيا وميريلند بين الجبال، وكانت تغطي رءوسَ السيدات قبعاتٌ كبيرة الحجم يُزيِّنها الريش الطويل؛ إذ كانت هذه هي «موضة» القبعات في عام ١٨٩٦.

وفُتح باب الغرفة المغلَق فجأة، وأقبلت الممرِّضة وقد انفرجت شفتاها عن ابتسامة، وأشارت إلى المستر تيكل واليس وارفيلد بإصبعها تدعوه إليها، ثم قالت له بصوت منخفض لما اقترب منها: تعالَ لرؤية ابنتك.

فتاة! شعر تيكل واليس وارفيلد بخيبة أمل، ولكنها خيبةٌ لم تَدُم طويلًا؛ فإنه ما رأى ذلك الملاك الصغير في أرجوحته حتى شعر بالسعادة وبكى، وبدت زوجته — ولم تكن سنُّها تزيد عن ثمانية عشر عامًا — جذَّابة على الرغم من شحوب وجهها.

– أليس.

وأدارت الأم رأسها، ولكن الأب كان منشغلًا بابنته التي أخذت في البكاء، وقال: ستصبح هذه السيدة الصغيرة شخصًا ما في يوم من الأيام.

وأردفت الأم: ستكون جميلة جدًّا.

ولم يكن أحدهما، الأب أو الأم، يُصدِّق كلمةً مما يقول، ولكنه الغرور الوالدي هو الذي كان يدفعهما إلى هذا الكلام.

وسُمِّيت الطفلة «بيسي واليس». أما بيسي فلأن عمتها التي تقطن واشنجتون كانت تُدعى بهذا الاسم، وأما واليس فلأن الوالد تيكل كان يحلم دائمًا بولد يحمل هذا الاسم.

الحفلة الأولى

أعلن الخادم قدومها فصاح: آنسة بيسي واليس وارفيلد.

وتحوَّلت الأنظار كلها نحو السلم الذي بدأت تنزل درجاته أجمل فتاة رأتها عيون الحاضرين.

كان هذا في عام ١٩١٤ وأفكار العالم كلها مضطربة، والحديث لا يدور إلا حول الحرب المرتقبة، ولكن ما ظهرت الآنسة وارفيلد حتى خفتت الأصوات، وانقطعت المناقشات، ولم تستأنف إلا بعد ذلك بمدة، وكان موضوعها مختلفًا هذه المرة؛ فيقول واحد: ما أرشقَها!

ويقول آخر: انظر إلى عينيها، انظر جيدًا!

– من الصعب أن يذكر الإنسان إذا كان لونهما أسود أم رماديًّا أم أخضر.

– على كل حال شعرها أسود اللون.

– وأي سواد!

ومع ذلك كانت الفتاة تتحرك في القاعة دون أن تهتم بما يقال حولها، واتجهت رأسًا إلى عمها المستر دافيز وارفيلد، فقبَّلته بلطف وقادته إلى ركن من أركان القاعة، وهناك قالت له: يا عمي العزيز، كم أنا سعيدة! إنك تُعامِلني بمنتهى الرقة، هل تظن أنني نجحت؟

فقال العم: نعم، أيتها الصغيرة والي؛ إذا كان هذا مبدأ دخولك في الحياة، فهذا يُعتبر دخولًا في الحياة بالمعنى الصحيح. إنك بديعة جدًّا، وإنني لأعرف شخصًا كان يطيب له أن يشهد نجاحك الليلة. إننا لا يجب أن ننساه في هذا المساء.

وفيما كان يقول لها ذلك لم يتمكن من أن يمتنع عن البكاء، وكانت بيسي تعرف أنه يقصد المرحوم والدها بكلماته؛ فأمسكت بحلية ذهبية تتدلى من عنقها إلى صدرها وفتحتها، فظهرت فيها صورة الأب تيكل واليس وارفيلد بيضاوية الشكل، وكان يبتسم ابتسامة خالدة.

وقال العم وهو يحاول أن يبدد أحزانها: مسكين والي! لم تكن سنك تزيد على ثلاثة أشهر يوم تُوفِّي، ومع ذلك فقد كان يعبدك، ويدعوك مَلِكته، ويُلقِي مختلِفَ الوعود عن مستقبلك، ولكن ها أليس قد أقبلَت.

سليلة بيت مونتاج

وارتمت الفتاة بين ذراعَي أمها التي كانت لا تزال جميلة، والتي كانت تحبها إلى درجة العبادة، وفي تلك الأثناء تقدَّم رجل واقتاد والي إلى حلبة الرقص.

النساء حِسَان، والرجال ظُرفاء، والأنوار مضيئة، والموسيقى شجيَّة. كانت الحفلة قد نجحت نجاحًا باهرًا، وكان العم دافيز وارفيلد، أو العم سول كما كانت تناديه ابنة شقيقه، يفرك يدَيه سرورًا.

وفي ركن من الأركان جلست سيدتان تقدَّمتا في السن تتحادثان، فقالت إحداهما: أليست جميلة؟

– بل فاتنة.

– يا لليتيمة المسكينة! إن والدتها تعذَّبت كثيرًا؛ فقد ترمَّلت وهي في سن الثامنة عشرة، لقد كان هذا مؤلمًا؛ إذ اضطرت أن تذهب لتعيش في بادئ الأمر عند حماتها مسز وارفيلد العجوز التي كانت تحب حفيدتَها بيسي إلى حد كبير.

– أظن أنه في عام ١٩٠٦ افتتحت أليس صالون الشاي.

– نعم، في ذلك العام غادرَت منزلَ الجدة وارفيلد لكي تستقر في منزل بشارع بيدل ببلتيمور، وفي عام ١٩٠٨ تزوجت من المستر جون راسين.

– انظري إلى بيسي، كم هي مهذبة راقية!

– إن هذا بفضل عمها الذي اهتمَّ بتربيتها اهتمامًا خاصًّا، فأرسلها في بادئ الأمر إلى كلية أروندل، ثم إلى مدام ليفيفر.

وبعد، فإن هذه الصغيرة سليلة بيت مجد، فأم بيسي، واسمها الأصلي أليس مونتاج، تنتسب إلى دروجودي مونتكوتو؛ وهو أحد زملاء غليوم الغازي الذي وطئت قدماه أرض الممتلكات البريطانية في فرنسا عام ١٠٦٦. وقد حكم أحد أعضاء هذه الأسرة النبيلة جزيرة مان، وأحدُ أعضاء هذه الأسرة، واسمه بيتر مونتاج، هو الذي هاجَر من أوروبا وأسَّس في عام ١٦٢٣ بولاية فرجينيا الفرعَ الذي تنسب إلي بيسي.

– وأما أسرة وارفيلد فليس هناك ما يَشِينها ما دامت تعود في الأصل إلى بيجان وارفيلد.

وما لبثت أنغام الموسيقى أن ارتفعت فمنعت السيدتين من استئناف المناقشة؛ إذ لم تسمعا بعد ذلك غير أصوات الضجيج.

مقابلة سان دييجو

كانت الموسيقى تعزف نشيد: «يحفظ الله الملِك!» النشيد الإنجليزي الوطني، ولم تكن الآلات العازفة خشبية، وإنما كانت آلات نحاسية، ولم يكن لقب بيسي واليس هو وارفيلد بعد، وإنما أصبح سبنسر، ولم تكن في الثامنة عشرة من عمرها، وإنما كانت في الرابعة والعشرين.

منذ ٨ نوفمبر من عام ١٩١٦ كانت بيسي قد أصبحت زوجة ملازم الطيران البحري المدعو وينفيلد سبنسر، ونحن اليوم في يوم ٧ أبريل من عام ١٩٢٠، وكانت محطة سان دييجو البحرية تستعد لزيارة ولي عهد إنجلترا؛ البرنس أوف ويلز أو الأمير إدوارد.

كانت قلوب الفتيات في سان دييجو تدق بشدة من أسبوع كامل، من أفقر الفقيرات إلى أغنى صاحبات الثروات، وكانت كل واحدة منهن تتصوَّر في أحلامها أنها قد تكون السعيدة التي تستلفت نظرَ الأميرِ الفاتن في أثناء زيارته، أَوَلم يَرِد في القصص الخيالية أن الأمراء قد يتزوَّجون من بنات الرعاة؟

كانت السيدة بيسي سبنسر تَسخر من صديقاتها الصغيرات، وتَسخر من أحلامهن البعيدة التحقيق، حتى لقد قالت لهن مرة: ولكن الحياة ليست خيالًا أو خرافة.

وردت عليها إحداهن بحياء فقالت لها: إنك أنت نفسك قطعة من الخيال!

وكان هذا حقيقيًّا! فقد كان مظهر بيسي يدل على أنها تتحدى الجمال، وكانت تبدو جميلة في كل الأثواب، أثواب الصباح أو أثواب المساء. رشاقة! سحر! وعينان جميلتان! وغدائر سوداء! لم يكن ينقصها شيء، حتى «أجمل صوت في العالم!» كان الناس يعتبرون زوجة سبنسر ملِكة سان دييجو التي لا ينازعها في مُلكها مُنازِع، ولكن لم تكن ملكيتها تؤثر على الملوك بعدُ؛ إذ إنه في اليوم المحدد لم يقف الأمير الشاب أمامها في حفلة الاستقبال أكثر مما وقف أمام غيرها.

لحظة واحدة تقابلت فيها نظرات العينَين الرماديتين بنظرات العينين الخضراوين، ولحظة واحدة انحنى فيها الرأس ذو الشعر الأصفر أمام الرأس ذي الشعر الأسود، لحظة واحدة.

ومع ذلك فقد كانت هذه اللحظة الواحدة تميز المقابلة الأولى بين ذلك الرجل الذي قُدِّر له أن يرتقي عرش إنجلترا باسم إدوارد الثامن، وبين المرأة التي قُدِّر لها أن تصبح صديقته.

ولكن لم يكن هناك بين الحاضرين، حتى أشدهم اتصالًا بين الاثنين، مَن يعتقد أنه سوف يجيء اليوم الذي تهز فيه السيدة بيسي واليس الجميلة إمبراطوريةً بأسرها، وتُحدِث أزمة حادة تصبح حديثَ العالم بأسره.

مقابلة البلاط

وانفصل سبنسر عن زوجته في عام ١٩٢٥، وكما لم يُحدِث زواجهما ضجيجًا، كذلك انفصالهما مرَّ بسكون.

وتزوَّج المستر سبنسر بسرعة.

أما مسز سبنسر التي عادت فأصبحت مسز وارفيلد، فقد انتظرت أعوامًا ثلاثة تزوجت على إثرها المستر سمبسون، الذي قابلته في أثناء سفرها من أمريكا إلى لندن.

وكان المستر سمبسون زوجها الثاني كندي الأصل، إلا أنه قضى معظم حياته في لندن؛ ولذلك استقر الزوجان؛ المستر والمسز سمبسون، في لندن.

وحدث بعد هذا ما يحدث دائمًا، فقَدِمت المسز سمبسون إلى البلاط الملكي، وانحنت أمام الملك جورج الخامس، ثم انحنت أمام الملكة ماري، وتقابلت نظراتها — للمرة الثانية — مع نظرات ولي العهد، ولكنها كانت مقابلة بين النظرات لم يدرك لها معنى غير النجوم، وغير الأقدار الساخرة.

والحق أن أحد الاثنين؛ ولي العهد أو المسز سمبسون، لم يشعر بأقل تأثير بعد المقابلة الأولى والثانية، ولم يكن هناك مَن يظن أن تلك الأمريكية الحسناء، التي لم يمضِ على قيامها من أمريكا غير أيام قليلة، سوف تلعب بعد ذلك دورًا في حياة ملك إنجلترا وإمبراطور الهند.

ومرت في ثوبها الأبيض الطويل، وأخذت عيناها، بما يكتنفهما من غموض، وما ينتاب لونهما من تغيير؛ فهما تارةً في لون الرماد، وتارةً في لون البحر الأزرق، وأخرى في لون الزرع الأخضر؛ نقول: إن عينيها أخذتا في البحث عن عمتها العجوز بيسي التي كانت تقطن واشنجتون، حتى عثرت عليها على ضفاف التاميز، فسعدت بلقائها.

المقابلة الكبرى

وكانت العجلة في هذه الأثناء تدور، عجلة القدر التي قادت بيسي فيما مضى إلى سان دييجو ثم قادتها إلى بهو العرش الإنجليزي، قادتها في مساء يوم من الأيام إلى مسكن ولي العهد الخاص. وكان زوجها هو الذي قادها بنفسه، وأخذ يقص عليها في الطريق كيف أنه عرف الأمير إدوارد في نهاية الحرب العظمى في فرقة حرس الكولدستريم، التي ألحق بها الكندي الأصل.

ولكن واليس زوجته لم تكن تصغي إليه، وإنما كانت تفكر فيما صادفته من النجاح بين الطبقات الأرستقراطية الإنجليزية؛ فتمتلئ بذلك غرورًا، وتشعر بنشوة السرور والفخر. وكانت تتولى تقديمها في الحفلات اللادي كنارد، أرملة السير باخ كنارد، من أعظم أصحاب شركات الملاحة في العالم «خطوط كنارد»، وكانت قد صادقت اللادي تيلما فيرنس، وهي سيدة أمريكية إنجليزية أيضًا، كما أنها شقيقة جلوريا فاندربيلت.

وكانت اللادي فيرنس هي التي دعت المستر سمبسون وزوجته في ذلك اليوم إلى منزل ولي العهد، ولما وصلا إليه كانت هي هناك، فتولت تقديمهما.

هل أتمت العينين ذواتا اللون المتغير المعجزة؟ أم ترى هي خصلات الشعر الأسود، أم أن العينين والخصلات قد اشتركت في إحداث التأثير على البرنس أوف ويلز حتى أخذ في التقرب من المسز سمبسون، فأخذ منذ ذلك اليوم يسأل عنها تليفونيًّا في كل يوم ويواليها بخطاباته، كما لوحظ بعد ذلك أن الزوجين آل سمبسون كثيرًا ما يزوران «فورت بلفيدير»، وهو القصر الذي كان يفضل ولي العهد الإقامة فيه.

وكانت العلاقة كلما توثقت بين الأمير وبين والي كلما ازداد مركز الزوج حرجًا. وتقريرًا للواقع، يجب أن نذكر أن الرجل قد احتمل التجربة مع الاحتفاظ بكرامته وكياسته في وقت واحد.

وماذا كان في وسعه أن يفعل؟ هل يطلب الطلاق فيهاجم أميرة وملكة المستقبل علنًا في المحاكم، وهو ما تحرمه القوانين الإنجليزية؟ كانت الجماهير كلها تجهل كل شيء عن الموضوع، ولم تعرف عنه النزر اليسير إلا في صيف عام ١٩٣٦ لما قام ولي العهد — وكان قد أصبح ملكًا يحمل لقب إدوارد الثامن — برحلته البحرية غير الرسمية.

الرحلة البحرية

كان اليخت «ناهلين» يشق عباب بحر الأدرياتيك وهو يقترب من الشاطئ المرتفع، وقد وقف على ظهره الملك إدوارد الثامن الإمبراطور وقد التصق كتفه بكتف صديقته والي! وكانا ينظران إلى الماء.

لم تكن هناك حاجة إلى الحديث، كانت الأمواج وحركة الباخرة وهي تشقها، وعيون والي والملك وشعره الأصفر، تتحدث كلها في لغة سرية غامضة يفهمها كل العشاق في العالم؛ ولذلك سكت الاثنان وتركا البحر يهزهما وهما في أرجوحتهما، ويسر إليهما بكلمات رقيقة لا يمكن للشفاه الإنسانية أن تنطق بها.

وكانا في تلك الأثناء يقتربان من الشاطئ، فأخذا يسمعان صيحات العمال وهتاف الجمهور. وفي اللحظة التي نزلا فيها إلى البر أشارت والي إلى فوج من المصورين مقبلين وقالت: إنهم يأخذون صورتنا.

واكتفى الملك بأن هزَّ كتفيه.

وفي أثناء تلك الرحلة كلها، سواء كان ذلك في طرقات مدن بلاد البلقان، أم على شواطئها، أم في غاباتها، لم يتمكن المصورون مرة واحدة من التقاط صورة الملك منفردًا.

في كل مكان كان إدوارد الثامن يُشَاهد ممسكًا بيد مسز سمبسون وعلى وجهيهما طابع البراءة والطهر الذي يحمله وجها أي عاشقين.

لم يكن الملك يهتم بالهرب من الطفيليين، بل كأننا به على العكس من ذلك، كان شديد الرغبة في أن يعرف العالم كله حبه لرفيقة سفره، ومنذ ذلك الوقت فقط، صيف عام ١٩٣٦، بدأ العالم كله يعرف والي.

الصحافة

بدأت مسز سمبسون منذ ذلك الوقت تحتل الصفحات الأولى من الجرائد الأمريكية، وكانت صحف هيرست أسبق الصحف إلى نشر أخبارها، ثم تبعتها بقية الصحف الأمريكية، وقد لوحظ أنها تقدم أخبار مسز سمبسون على أخبار رئيس جمهورية الولايات المتحدة؛ المستر روزفلت، وعلى أخبار الثورة الإسبانية.

figure
مسز سمبسون.

أما الصحف البريطانية فإنها لم تنشر شيئًا عن الموضوع، ولم تشر إليه بحرف واحد، فزاد ذلك من اهتمام الصحافة الأميريكية، وأخذت تتهم الصحافة الإنجليزية بأنها مراقبة من الحكومة التي حرمت عليها نشر أخبار الملك إدوارد والمسز سمبسون.

وأما السفارة البريطانية في واشنطون فقد وقعت في حيرة شديدة، ولم يسعها إلا أن تجمع جميع ما كتبته الصحف الأمريكية في هذا الموضوع وترسله إلى وزير الخارجية الإنجليزية. ولم يكن هذا العمل سهلًا؛ إذ بلغ عدد المقالات التي نشرتها الصحف والمجلات الأمريكية في يوم واحد أكثر من ثلاثة آلاف مقال كلها عن الملك إدوارد والمسز سمبسون.

وبدأ الصحفيون في أمريكا يضايقون الزائرين الإنجليز العظماء الذين كانوا يقضون عطلتهم في أمريكا، حتى اضطر كثير من هؤلاء إلى اختصار مدة إقامتهم في أمريكا؛ رغبة في التخلص من جيش الصحفيين الأمريكيين الذي كان يجتمع كل يوم عند أبواب غرفهم؛ ليسأل كل واحد منهم رأيه في غرام ملكه إدوارد الثامن بالأمريكية الحسناء المسز سمبسون، ورأيه في احتمال زواج الملك منها.

حكاية سيندريلا

وفي تلك الأثناء أصبح مركز المسز سمبسون حرجًا للغاية، إذ صار افتراقها عن زوجها بعد كل تلك الضجة أمرًا مُحتَّمًا، وأمام تلك الضرورة الملحة وجد الزوج الكندي حلًّا يدل على النُّبل، إذ ترك والي زوجته تتقدم إلى المحاكم طالبة الطلاق من زوجها؛ بحجة أنها فاجأت زوجها أرنست سمبسون مع حسناء يطلقون عليها: «الزرار الذهبي»، وتركها فعلًا تفاجِئُه مع الشهود حتى تحصل على الطلاق بسهولة.

ولما حصلت والي على الحرية وأصبحت مطلقة جُنَّتْ أمريكا، وجُنَّتْ صحافتها، وبدأ البحث يدور حول موضوع واحد هو زواج الملك منها، بعد أن كان الحديث قبل ذلك حديث حبه لها، وغرامه بها! وبدأ استفتاء الرأي العام بواسطة الصحف عما إذا كان يوافق على زواج ملك إنجلترا من المسز سمبسون أم لا. وكان الملك معروفًا جيدًا ومحبوبًا جدًّا في أمريكا؛ ولذلك أطلق احتمال زواجه من والي خيال الأمريكيين.

زواج مثل زواج سيندريلا في قصتها المشهورة! ذلك هو الحلم الخالد في أمريكا، وهو غذاء ثلاثة أرباع الأشرطة السينمائية التي يخرجونها في هوليود مدينة السينما، وها هو ذا الحلم يصبح حقيقة! وفوق ذلك هي أمريكية ستخلد على صفحات التاريخ للمرة الأولى، وترتقي سلم العرش! فلا شك أن هذا مما يملأ النفوس غرورًا، ويشعر العزة القومية بالرضا. بدأ ١٢٨ مليونًا من الأمريكيين يتمنون من صميم قلوبهم أن تتم المعجزة، حتى ترى عيونهم للمرة الأولى ملكة أمريكية، وتتحدث ألسنتهم عن المسز أرنست سمبسون التي أصبحت فيما هو أشبه بالخيال «الملكة والي».

ما أثقله!

ما أبعدنا اليوم عن مدينة المياه المعدنية في ١٩٠٠ وعن جبالها الزرقاء! كان الأب تيكل وارفيلد قد قال وهو يشهد ابنته للمرة الأولى: سوف تصبح شخصًا له أهميته.

ولقد أصبحت شخصًا.

هي جالسة في ركن من أركان الصالون بقصر فورت بلفيدير إلى جانب النار، وأمامها الملك يفكر وقد نظر إلى لهيب النار! ووراء النافذة لا يوجد غير الضباب، والنور في الصالون ضعيف يبعث على الحزن والكآبة، وعلى أرض الغرفة توجد الأكوام البيضاء هنا وهناك؛ تلك هي الصحف.

كانت الصحف معظمها أمريكية من التي لا يراها الرعايا الإنجليز، فقد كانت الحكومة تمنع بيعها، أو تمزق الصفحات التي يرد فيها ذكر الملك. أما الملك والمسز سمبسون فقد كان مسموحًا لهما بقراءتها.

والملك يحاول في هذا النضال الغريب، الذي قد يناضله أقوى الملوك العصريين للدفاع عن غرامه، أن يفهم حقيقة رأي العالم! وهو يقدِّر فوق هذا العبء الثقيل الذي يجب أن يحتمله كتفه بسبب التقاليد، وبسبب المملكة، وبسبب الإمبراطورية.

وهو يعرف كذلك أنه يحب تلك المرأة التي تجلس أمامه، وأنه يحب عينيها الخضراوين المتحولتين، وهو يحب ذلك الصوت «أجمل صوت في العالم»، الذي سوف يهمس في أذنه عاجلًا أم آجلًا، فيقول له بظرف: «كم تبدو منشغل الفكر يا حبيبي!» فماذا يصنع؟

إنه يمسك بالتاج الذي يجب أن يضعه على رأسه في يوم تتويجه ويقيسه، فما يلبث أن يقول وهو يرفعه بسرعة: ما أثقل وزنه!

أما والي، وكأنها تقرأ أفكاره بجلاء ووضوح، فإنها تمسك بيده وتضغط عليها بخفة. هي الأخرى قلقة.

موقف الوزارة

كان رئيس الوزارة الإنجليزية المستر بلدوين قد قابل الملك إدوارد في يوم ٢٠ أكتوبر من عام ١٩٣٦، وحادثه للمرة الأولى في موضوع المسز سمبسون وما تكتبه الصحف الأمريكية عنها، وعن صلتها بالملك، وعن الخطر الذي يهدد البلاد لو فتحت الصحف الإنجليزية هذا الموضوع بدورها وبدأت تتحدث عنه. وقد وافق الملك على كلام رئيس وزرائه وأخبره أنه سيفكر في الموضوع.

ثم عاد المستر بلدوين فقابل الملك في ١٦ نوفمبر من العام نفسه في قصر بكنجهام — وكان حكم الطلاق قد صدر في قضية المسز سمبسون — فصارحه برأيه وقال له: لا أظن، يا مولاي، أن هذا الزواج ينال موافقة البلاد؛ إذ يترتب عليه أن السيدة التي تتزوجها تصير ملكة. إنني قد أكون من بقايا رجال العهد الفيكتوري القديم، ولكني لا أقبل أن يقول عني ألد أعدائي إنني لا أعرف رد الفعل الذي يحدثه في الشعب البريطاني اتخاذ خطة معينة للعمل، إنني واثق من أن هذا لا يمكن أن ينفذ عمليًّا.

وأوضح المستر بلدوين في هذه المقابلة الثانية للملك أن مركز زوجة الملك يختلف عن مركز زوجة أي فرد آخر في البلاد. وهذا هو جزء من الثمن الذي يدفعه الملك؛ فزوجته تكون ملكة، وملكته ملكة للبلاد؛ ولذا يجب أن يكون صوت الشعب مسموعًا ما دام الأمر يتعلق باختيار ملكته.

واستمع الملك لحديثه، ثم قال له: إنني سأتزوج المسز سمبسون، وأنا على استعداد لأن أذهب.

وكانت مفاجأة شديدة الوقع على رئيس الوزراء، إلا أن الملك كان مصممًا على تنفيذ إرادته، فأخبر أمه الملكة الوالدة في مساء ذلك اليوم، ثم أخبر أشقاءه: دوق يورك، ودوق جلوستر، ودوق كنت في اليوم التالي.

الزواج غير المتكافئ

وفي خلال تلك المدة عرض الملك على رئيس الوزراء بطريق غير مباشر اقتراحًا جديدًا؛ هو أن يسن البرلمان قانونًا يتمكن الملك بواسطته من الزواج بدون أن تصبح زوجته ملكة، ويُكتفى بأن تكون زوجة الملك! وقابل المستر بلدوين الملك في ٢٥ نوفمبر، فسأله الملك عن رأيه، فصارحه رئيس الوزراء بأنه يعتقد أن البرلمان لن يصادق على قانون كهذا، ولكن الملك أصر على ضرورة عرض الاقتراح على مجلس الوزراء، وعلى رؤساء وزارات الأملاك المستقلة، فوعد المستر بلدوين بعمل ذلك في يوم ٢ ديسمبر.

وقبل أن ينتهي المستر بلدوين من جمع آراء الجميع طلب الملك منه أن يحضر لمقابلته، ولما حضر سأله الملك عن رأيه في الموضوع، فصارحه رئيس الوزراء بأن ما وصل إليه إلى ذلك الوقت كان يدل على أنه ليس هناك أي استعداد في إنجلترا، أو في الأملاك المستقلة، للموافقة على القانون الذي يقترح جلالته سنه.

ولم يدهش الملك لهذا الجواب، ولم يعد بعد ذلك إلى الحديث في الموضوع بالمرة.

وبدأ النضال الحاد الذي استمر أسبوعًا كاملًا في نفس الملك.

التاج أم الحب؟

استمر النضال مدة أسبوع كامل من يوم ٢ ديسمبر إلى يوم ٩ ديسمبر سنة ١٩٣٦، ولكن الملك كان قد استقر رأيه منذ أول الأمر، ولم يكن ليتراجع في كلمته التي قالها لرئيس وزرائه عندما ذكر استعداده لأن يذهب.

وقد حاول أفراد الأسرة، وفي مقدمتهم الملكة الوالدة ماري، إثناء الملك عن عزمه، ولكنه لم يتحول، وأخذ في تلك الفترة يستعد للرحيل بعد أن سبقته المسز سمبسون التي سافرت بمجرد أن انتشر خبر الأزمة في البلاد، حيث استقرت مُدةً في كان.

وقد فضَّل الملك أن يظل مدة الأزمة في قصر فورت بلفيدير، وصرح لرئيس الوزراء بأنه لا يعود إلى لندن ما دام النزاع قائمًا، وذلك حتى لا يتعرض لجماهير الهاتفين من الشعب؛ إذ إن كثيرين من أفراد الشعب كانوا قد فهموا الأزمة في مبدئها على غير حقيقتها، إذ أُشيع أن الوزارة تريد أن تفرض إرادتها على جلالة الملك، وأنها تستعجل جوابه، إلى غير ذلك من الأقوال المثيرة.

وفي مساء يوم ٩ ديسمبر سنة ١٩٣٦ تقرر أن لا بد أن تهيئ صحف الصباح الرأي العام لكي يتلقى الصدمة، فما أصبح يوم الخميس ١٠ ديسمبر سنة ١٩٣٦ حتى كان الناس يشعرون بأن حدثًا يوشك أن يحل بعد أن استمر قلقهم طويلًا وهم يأملون أن يبقى لهم ملكهم المحبوب.

الصاعقة

وأخيرًا خرج بائعو الصحف يحملون الطبعات الخاصة من الصحف التي نشرت إعلان تنازل؛ تنازل الملك عن العرش، وأقبل الناس على شرائها بالألوف، وأخذوا يتجمعون حلقات في الطريق يقرءون ويعيدون ما يقرءون، كما لو كانوا لا يصدقون أن الملك إدوارد الثامن الذي كانوا يجزلون له الحب من كل قلوبهم قد تنازل عن العرش حقًّا، وغادرهم من أجل سيدة.

واجتمع مجلس النواب الإنجليزي في منتصف الساعة الرابعة بعد الظهر، ودخل رئيس الوزراء في الساعة الثالثة والدقيقة ٣٥، وقدم لرئيس المجلس الرسالة التي تخلى بها الملك عن عرشه، تلك الرسالة التي جاء فيها:

إنني أعتقد أنني لا أحيد عن واجبي الذي يقضي بتقديم مصالح الشعب، عندما أصرح بأنني لم أعد بعد اليوم قادرًا على القيام بتلك المهمة الشاقة على ما يجب أو ما يرضي ضميري.

وقد استأنف البرلمان جلساته في اليوم التالي ١١ ديسمبر سنة ١٩٣٦، فأقر قانون التنازل في المجلسين، ثم أمضاه الملك في اليوم نفسه. وفي الساعة التي أمضاه فيها — وكانت الأولى والدقيقة ٥٢ — لم يعد ملكًا.

العشاء الأخير

وفي مساء ذلك اليوم، اجتمع حول المائدة الملكية في قصر وندسور: الملك السابق، والملكة الوالدة، والملك الجديد، والملكة الجديدة، والبرنسس رويال «شقيقة الملك»، والدوق جلوستر.

وقد اتخذ العشاء في تلك الليلة شكل وداع للملك إدوارد الثامن، وكانت الترتيبات التي اتخذت مؤثرة للغاية؛ إذ أشرفت الملكة الجديدة، دوقة يورك السابقة، بنفسها على اختيار ألوان الطعام التي يحبها الملك السابق؛ لأنها كانت تعرف ميوله من قبل.

وفي الساعة العاشرة قام الملك السابق من مكانه، وتحدث من القصر نفسه إلى شعبه عن طريق اللاسلكي حديثًا سمعه العالم أجمع، وقد جاء فيه:

إنني وجدت من المستحيل علي أن أقوم بأعبائي دون معاونة المرأة التي أحبها. أما القرار الذي اتخذته فهو قراري وحدي. وأما الشخص الآخر فقد حاول أن يقنعني باتخاذ خطة أخرى.

وبعد ذلك الوداع المؤثر للأمة، ودَّع الملك أفراد الأسرة كلها، واستقل سيارة إلى ميناء بورتسموث اجتازت المدخل دون أن يقفها أحد؛ إذ كان البوليس على علم بشخصية راكبها، وسارت السيارة إلى مسكن الأميرال فيُشِر، القائد العام للأسطول، وحادثه الملك برهة ثم استقل مدمرة انسلت من ميناء بورتسموث في ظلام الليل.

وبقي الملك السابق على ظهرها يتطلع إلى أنوار الميناء وهي تغيب عنه وراء حجاب كثيف من ظلام الليل، ولعله كان يسائل نفسه عن الزمن الذي قد يمضي قبل أن يرى تلك الأنوار ثانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤