الملكة اليصابات واللورد روبرت ددلي

الزواج

اشتهر روبرت ددلي بالشجاعة منذ نعومة أظفاره، ولقد أُرسِل ذات يوم في مهمة خاصة؛ هي إخضاع الثورة التي تُعرف في التاريخ الإنجليزي «ثورة كيت»، وفي طريقه إلى مكان الثورة مرَّ بقصر السير جون روبزارت وحلَّ لديه ضيفًا، مع أنه كان لا يعرفه قبل ذلك، ورأى هناك ابنة مضيفه السير روبزارت واسمها «آمي»، فأعجب بجمالها إعجابًا عظيمًا، وصمَّم على الزواج منها مهما كلَّفه ذلك.

ولا شك كذلك أن آمي الجميلة قد أُعجبت هي الأخرى بجمال الشاب روبرت. كانت لأسرة الشاب شهرة عظيمة في تاريخ إنجلترا تفوق شهرة أسرة السير روبزارت؛ لأن والدَه وجَدَّه قد حُوكِما بتهمة الخيانة العظمى، كذلك سمعت الفتاة أن الشاب روبرت كان صديقًا وزميلًا للأميرة إليزابيث منذ صغرها، وكانت إنجلترا بأجمعها قد بدأت تهتم بهذه الأميرة وتتبع أخبارها. وأخذ والد الفتاة السير جون روبزارت يقوم بتحريات دقيقة تتعلق بالشاب الذي تقدَّمَ إليه يطلب يد ابنته للزواج، وكانت آمي سترث ثروةً عظيمة؛ إذ لم يكن لوالدها غيرها وغير ابن آخر اسمه أرثر روبزارت. وكانت والدة آمي أرملة حين تزوَّجت السير جون روبزارت؛ ولذلك كان لآمي أخوان وأختان من أمها يحملون جميعًا لقب أبليارد.

ولما تأكد السير جون أن صلة الحب بين ابنته وبين الشاب روبرت ددلي قد أصبحت وثيقة، وأنها يتمنيان الزواج، زوَّجهما بحضور الملك إدوارد الخامس في حفلة باهرة، وكان سن الزوجة إذ ذاك ثمانية عشرة عامًا، أما الزوج فكان يكبرها بعام واحد.

اشتهر العهد الذي حدثت فيه هذه الواقعة بالقسوة الشديدة، ولم تكن القسوة هي قسوة الإنسان على الحيوان، بل كانت قسوة الإنسان على أخيه الإنسان! كان من السهل إذ ذاك أن يستأجر المرء قاتلًا ليخلِّصه من عدوه، كما كان كل المتصلين بالبلاط يخشون السم، حتى إن الناس كان يحذِّر بعضهم بعضًا من تناول أي شراب لم تعدَّه يدٌ يثق بها وبإخلاصها، وكلما علا مركز الشخص كلما ازداد الخطر على حياته.

وعندما تزوجت آمي من روبرت ددلي الجميل، لم يكن أحدهما يخشى الموت الفجائي؛ إذ على الرغم من سمو مركزهما وصغر سنهما لم يكن هناك من يُكِنُّ لهما شيئًا من العداء أو الحسد. ولما كان السير جون روبزارت يُظهِر الحب لابنته، فقد منحها هي وزوجها قصره في سيدرستون.

بين أحضان السعادة

أخذ الزمن يمر تباعًا، وكانت آمي تزداد جمالًا، وكانت تفوق زميلاتها الجميلات المتأنِّقات في العناية بالملبس. وكانت العناية العظيمة بالملبس، سواء أكانت ملابس الرجال أم النساء، شيئًا عاديًّا في ذلك العهد، كما لم يكن غريبًا أن تحلي المرأة ملابسها بالأحجار الكريمة واللآلئ. وكانت اللادي روبزارت ددلي تصرف مقدارًا عظيمًا من المال سنويًّا على ملابسها دون أن يؤثر ذلك في ماليتها، وما لبث والدها أن تُوفِّي فورثت عنه مالًا وفيرًا، وأصبحت أغنى مما كانت بكثير.

على أن شيئًا واحدًا كان يسبِّب لها الحزن والألم في حياتها، وذلك هو إخفاقها في الحصول على البنين، وكان زوجها يشاركها في ألمها ورغبتها العظيمة في الحصول على ولد.

كان من العبث في ذلك الوقت أن يحاول الإنسان أن يحيا حياة هادئة ساكنة حتى إذا كان سعيد الحظ مثل آمي روبزرات؛ ولذلك لم يمضِ على زواجها أكثر من ثلاثة أعوام حتى زُجَّ بزوجها روبرت ددلي في السجن مُتَّهمًا بالاشتراك في تدبير ثورة ضد الملك. ومع أن سن زوجته آمي كان إذ ذاك لا يزيد على واحد وعشرين عامًا، إلا أنها برهنت على شجاعة فائقة ومهارة؛ فقد أدرات أعمال زوجها بنفسها، وأسرعت إلى لندن حيث تمكنت من أن تحصل على إذن بمقابلته في السجن بعد أن صادفتها صعوبات جمة.

وتابعت مساعيها حتى أُفرِج عن زوجها، وعاد الزوجان عقب ذلك إلى الريف حيث عاشا معيشةَ بذخٍ وحب متبادل.

اليصابات

وفي السابع عشر من شهر نوفمبر ١٥٥٨، ارتقت إليزابيث العرش الإنجليزي، وقد خُلِّد هذا اليوم على وجه التاريخ، وبمجرد أن صارت ملكة أظهرت العطف والود لصديق طفولتها وزميلها في ألعابها روبرت ددلي، فأنعمت عليه في بادئ الأمر بلقب فارس، ثم ما لبثت أن أنعمت عليه بنيشان ربطة الساق. وأخذت آمي روبزارت إذ ذاك تلاحظ على زوجها «انشغاله في مهام خطيرة مُلقاة على عاتقه تسبِّب له همًّا كثيرًا»، كما عبَّرت هي بنفسها عن تلك المشاغل. وقد اتضح أن الملكة إليزابيث لا تكاد تتركه يغادر أنظارها. وما لبث اهتمام جلالتها بهذا الشاب الذي كان أجمل شبان القصر شكلًا، وأذكاهم عقلًا، وأصغرهم سنًّا، أن أخذ يلفت أنظار السفراء الأجانب، ويثير غضب النبلاء التابعين للملكة.

أقاويل وإشاعات

وقد سُرَّ السفراء الأجانب إذ وجدوا شيئًا مثيرًا للاهتمام يمكنهم أن يفصلوا خبره في رسائلهم إلى حكوماتهم، وكان أكثر هؤلاء السفراء الأجانب اهتمامًا بهذه المسألة وتتبُّعًا لتفاصيلها ودقائقها هو السفير الإسباني، واسمه كودرا.

كانت الكلفة مرفوعة بين الملكة وروبرت حتى أمام الجموع المحتشدة؛ ولذا بدأ الموجودون بالقصر يستغربون ما يشهدون ويشمئزون منه، وأخذ الناس يتهامسون إذ ذاك فيقولون: إنه لو تمكَّن اللورد روبرت ددلي من التخلص من زوجته، فربما أمكنه الوصول إلى مركز الملك أو نائب الملك.

وكان كودرا السفير الإسباني يُسِيء الظن باللورد روبرت ددلي إلى أبعد حد، حتى لقد وصفه فقال عنه في رسائله إلى حكومته:

«هو أسوأ شاب قابلته في حياتي، فهو بلا قلب ولا روح، كله خيانة وقسوة. وهو يزداد في طغيانه يومًا بعد يوم، ويقولون اليوم إنه ينوي أن يُطلِّق زوجته.»

ولما بلغت هذه الإشاعة آذان شقيق آمي؛ أرسل إلى أحد أصدقائه يقول له:

«يجب أن يقلع اللورد روبرت عن نواياه هذه بخصوص طلاق شقيقتي، وإلا فإنه لن يموت الميتة الطبيعية.»

وبدأت الإشاعات تنتشر في المملكة حتى لقد قُبِض على امرأة وأُرسِلت إلى السجن؛ لأنها سُمِعتْ تتحدَّث فتقول: إن للملكة ولدًا من اللورد روبرت ددلي.

وإذ ذاك هدد السياسيُّ الكبير، سيسيل، الملكةَ بالاستقالة إذا استمرت على إظهار الميل لروبرت ددلي بهذا الشكل الفاضح، الذي جعل البلاد كلها تتحدث عن علاقته بها، ومع أن أحدًا لم يتمكَّن من أن يذكر كلمة من هذا في حضرة الملكة، إلا أن الناس في خارج القصر كانوا يتحدثون بصراحة فيقولون إن روبرت ليس هو فقط السيد الآمر في شئون الدولة، بل هو صاحب السلطان على شخص الملكة. وقد صارح سيسيل، السياسي الكبير، سفير إسبانيا فقال له إنه لا يشك في أن الملكة وعشيقها يفكران في القضاء على حياة زوجة روبرت؛ آمي روبزارت. كما راجت إشاعة بأن النية معقودة على التخلص من اللورد روبرت ددلي بواسطة السم. ولم تتردد شقيقة روبرت نفسه في أن تخبر كودرا، السفير الإسباني، بأن السم سيُقدَّم للملكة ولعشيقها مدسوسًا في الطعام في وليمة خاصة تُقام لهما، فكتب هذا السفير يقول:

يمكن أن يتنبأ المرء بسهولة بأن اللورد روبرت ددلي هو الملك المقبل، ولكن يخطئ من يظن أن الشعب الإنجليزي سيوافق على ذلك بسهولة، أو أنه سيشاهد ذلك وهو مكتوف اليدَين؛ إذ ليس هناك رجل أو امرأة يمر بالملكة وباللورد روبرت إلا ويقابلهما بصيحات الازدراء والاستنكار. وأخذت المسألة تزداد سوءًا حتى امتنع اللورد روبرت نهائيًّا عن الذهاب إلى نورفولك؛ حيث كانت زوجته تعيش وحدها شقيةً بائسة بعد أن أهملها.

في قصر كمنور

وفي صيف عام ١٥٦٠، وكان قد مضى على إليزابيث عامان وهي تحكم البلاد، أرسل اللورد روبرت ددلي إلى زوجته يخبرها أنه يرغب منها أن تنتقل إلى قصر كمنور، وهو قصر جميل بالريف بناحية أكسفورد. والظاهر أن آمي روبزارت ذهبت إلى هناك دون أن تساورها ريبةٌ ما، وشعرت بشيء من الرضا والسرور حين رأت جمال قصر كمنور، وعرفت أنه يَفضل بكثير قصرَ نورفولك حيث كانت تعيش من قبل. وقد كان قصر كمنور على الأقل أقرب إلى لندن من أي قصر آخر.

كان القصر جميلًا جدًّا، اشتهر بحدائقه الغَنَّاء، والبِرَك المُعَدة لصيد الأسماك فيه، وكان مِلكًا لطبيب الملكة الخاص، واسمه أوين، حتى اشتراه منه أحد أتباع روبرت ددلي.

الموت

لما كانت آمي روبزرات امرأةً غنية بثروتها الخاصة، فقد عاشت في قصر كمنور معيشة مترفة، وكان لديها الكثير من الخَدَم والحشم، بينهم مَن يُكِنُّ لها إخلاصًا عظيمًا، ولكن إلى جانب هؤلاء كان هناك بعض العيون والأرصاد الذين وضعهم زوجها روبرت في خدمتها لتنفيذ أغراضه، ومن بينهم فورستر وفوني — وقد اشتهرا بدناءتهما ونذالتهما — وكانت بين التابعات زوجةُ أوين، وسيدة أخرى تُدعى أدو ينجسلز، هي في الواقع خليلة فورستر.

بعد ذلك بمدة قصيرة بدأ القلق الشديد يستحوذ على آمي روبزارت؛ إذ سمعت تفاصيل كثيرة عن علاقة زوجها بالملكة، ويقال إن شخصًا ما صارحها بأنها العقبة الوحيدة في سبيل وصول زوجها روبرت ددلي إلى مركز مُلك إنجلترا، وبدأ الحزن العميق يدبُّ إلى قلبها حتى امتنعَت نهائيًّا عن مُقابَلة زوجها.

وفي شهر سبتمبر من نفس ذلك العام ١٥٦٠، أخبرت الملكة أحد السفراء الأجانب أن زوجة اللورد روبرت تعاني أشدَّ آلام المرض، إن لم تكن قد ماتت. مع أن المسكينة كانت في الحقيقة لا تزال مُمتَّعة بتمام صحتها. وأرسل ذلك السفيرُ الخبرَ إلى حكومته بعد أن علَّق عليه بقوله: إنه لا يظن أنه في حالة وفاة زوجة اللورد روبرت تُقدِم الملكة على الزواج من هذا اللورد.

وحدث بعد أربعة أيام من اليوم الذي ذكرت فيه الملكة للسفير الأجنبي أن زوجة اللورد روبرت مريضة جدًّا، أن كانت الزوجة المسكينة مُلقاة في قصر كمنور وقد صعدت روحها إلى خالقها حقًّا، تشكو إليه ظلمَ الإنسان لأخيه الإنسان.

كانت آمي روبزارت في يوم موتها بالذات قد سمحت لكل الخدم بالخروج، على أن بعضهم ظلَّ معها، وتناولت السيدة أوين معها طعام الغداء، ولم يعرف أحد البتة ما حدث بعد ذلك، على أن الخدم بعد عودتهم من السوق وجدوا أن سيدتهم قد قضت نحبها بسقوطها من أعلى السُّلم، وقيل لهم إن قدمها زلَّت فوقعَت برأسها على الأرض وماتت.

وبعد ثلاثة أيام كانت الأخبار قد انتشرت في كل قرية من قرى إنجلترا، وأخذ الناس يتناقشون في الحادث، وكذَّبوا — بسخرية قاسية — نظريةَ وفاة آمي روبزارت بحادثٍ فجائي لم يكن مُتوقعًا، واتهموا روبرت ددلي علنًا بأنه المُحرِّض على موت زوجته.

figure
الملكة اليصابات.

وفي اليوم التالي لموت آمي كان زوجها روبرت ددلي في خدمة الملكة بقصر وندسور حين أخبروه أن خادمًا يدعى «بويز» حضر من قصره الخاص، وأنه يرغب في مقابلته في الحال في أمر عظيم الأهمية.

وغادر الرجل الملكة في الحال، وسمع نبأ موت زوجته من الرسول فلم يُعبِّر عن رعبه وحزنه فقط لدى سماعه الخبر، ولكنه صرَّح لمَن حوله بأنه على ثقةٍ من أن موتها قد دُبِّر تدبيرًا، وأنه سيُتَّهم بالاشتراك في ذلك التدبير.

التحقيق

وظن جميع من بالقصر أنه سيذهب في الحال إلى قصر كمنور حيث ماتت زوجته، ولكنه بدلًا من ذلك أخذ يبعث الرسل تباعًا إلى أهلها وأقاربها في نورفولك، وكتب خطابًا لصديق من أصدقائه يدعى توماس بلونت، طلب منه فيه أن يقوم بالتحقيق في موت زوجته، ورجاه أن يسرع إلى قصر كمنور ويختار عددًا من أنزه القضاة وأمهرهم للقيام بالتحقيق الدقيق في سبب وفاة آمي روبزارت، وأمر كذلك أن تعرض الجثة على المحققين لفحصها.

وطلب من صديقه هذا أن يضع له تقريرًا مفصلًا يقرر فيه إذا كان السبب في الوفاة هو الصدفة السيئة، أم أنه تدبير أثيم مجرم؟! ومهر الخطاب بتوقيع «صديقك المحب المضطرب»، ثم كتب حاشية بأنه طلب من أحد إخوان زوجته من أعضاء أسرة أبيلارد أن يشترك في التحقيق.

من المستحيل الجزم بما إذا كان روبرت ددلي قد كتب هذا الخطاب عن إخلاص وأمانة، أو أنه كان يود أن يُفهم صديقه ما تنطوي عليه كلمات الخطاب من معانٍ مختلفة، ومهما يكن فإن الصديق بلونت بدلًا من أن يذهب توًّا إلى قطر كمنور حط رحاله في فندق بقرية صغيرة حتى يسمع ما يقوله عامة الناس عن الوفاة وأسبابها، وبمجرد وصوله دخل مشرب قهوة وأخذ يستمع لما يقول الموجودون بالمشرب، ولكنهم لم يتحدثوا في هذه المسألة إلا قليلًا، حتى صاحب المشرب صرح له بأن البعض يتحدثون بالخير عن روبرت، بينما غيرهم يتحدثون بالشر.

وعاد بلونت بعد ذلك إلى قصر كمنور بعد أن فشل في التقاط خبر من أفواه العامة، ومن هناك حرر خطابًا طويلًا لروبرت ددلي لم يحوِ إلا القليل من التفاصيل عن وفاة آمي روبزارت. وقد ورد فيه صلة الخادم فورستر بهذه المأساة للمرة الأولى. والغالب أن فورستر هو الذي قتل آمي روبزارت؛ إذ إنه كان صنيعة لروبرت.

ولقد أعدمت الأوراق الخاصة بالتحقيق فيما بعد، ولكن على الرغم من هذا ظل بعض المحققين يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن فورستر هو القاتل. وقد أعلن أبيلارد فيما بعد أن فورستر قد قتل آمي بتحريض زوجها. وسواء أكان فورستر قد ارتكب الجريمة تلبية لرغبات «روبرت ددلي» أم رغبات الملكة؛ فإنهما أسبغا عليه كثيرًا من النعم بعد ارتكابها.

وبعد انتهاء التحقيق دُفنت جثة آمي روبزارت بهدوء عند كنيسة كمنور، ولكنهم ما لبثوا أن أعادوا دفنها في أكسفورد باحتفال فخم.

حول زواج الملكة

وفي نفس الوقت كانت كل إنجلترا قد بدأت تتهامس احتجاجًا على الملكة وعلى روبرت ددلي، وأخذت الشكوك والريب تتزايد لدى الناس حتى لم يصبح لديهم شك في أن آمي المسكينة زوجة اللورد ددلي قد ماتت مقتولة.

ومع أن الملكة سُرَّت لأن حبيبها قد تخلص نهائيًّا من أسْر الزواج، إلا أن القلق أخذ يتناوبها من جراء الإشاعات التي انتشرت بعد مقتل آمي روبزارت؛ ولذا لم يسعها إلا أن ترسل في استدعاء السفراء الأجانب، وأعلنت لهم في ابتسام أنها لم تعد تفكر بالمرة في الزواج من رجل إنجليزي، ولكنها تنوي أن تختار زوجًا من الأمراء الأجانب حتى يصير ملكًا أو نائب ملك! ولكن لم يصدق أي واحد من السفراء كلامها، وعرفوا جميعًا ما وراءه من خداع، وكتبوا إلى حكوماتهم يقولون: إن أخبار زواج الملكة من روبرت ددلي ستعلن بعد وقت قصير!

وأخذ النفعيون وعباد المصالح الشخصية يتصلون بروبرت ددلي؛ نظرًا لنفوذه، وأخذ يتلقى رسائل العزاء المتتابعة في وفاة زوجته، وكان بينها رسالة مؤثرة من السفير الإنجليزي في باريز، الذي أرسل في نفس الوقت إلى السياسي سيسيل رسالة أخرى يلح عليه فيها أن يمنع زواج الملكة ﺑ «ددلي»، وقال في خطابه: «إنه لو تم الزواج لقلَّت الثقة في حكمنا، وزال نفوذنا، ورحنا ضحية.» ولم يكتف بذلك، بل كتب خطابًا آخر إلى صديقه السفير الإنجليزي بإسبانيا يقول فيه: «إنه إذا كانت إنجلترا تعتقد أن عنق آمي روبزارت قد دُقَّ صدفة، وأنها ماتت ميتة طبيعية، فإن فرنسا تعتقد أن آمي روبزارت قد ماتت قتيلة في سبيل الملكة.» ولكنه مع ذلك لم يذكر في خطابه ما كان يتناقله الناس في البلاط الفرنسي بلهجة التأكيد؛ وهو أن الملكة قد تزوجت سرًّا من اللورد روبرت ددلي عقب وفاة آمي روبزارت.

وقد حدث إذ ذاك أن قابل السير هنري سيدني، وهو شقيق آمي روبزارت، السفير الإسباني كودرا، وأخبره في حديث خاص أنه تأكد تمامًا أن شقيقته آمي قد ماتت ميتة طبيعية، وأن الملكة واللورد روبرت قد أصبحا الآن محبين يرغبان في زواج شرعي أمين، وأعلن له أنه حقق المسألة كلها بنفسه، وأحاط بظروف وفاة اللادي روبرت، فتأكد أنها ماتت بتأثير سقوطها من أعلى السلم.

وقد رد كودرا، السفير الإسباني، على ذلك بقوله: إن كل ذلك قد يكون صحيحًا، على أن اللورد روبرت سيجد صعوبة عظيمة حتى يحمل الناس على تصديق ذلك، وأن آمي روبزارت لو كانت ماتت مقتولة حقًّا فلا شك أن الله سينزل عقابًا رادعًا بمدبري الجريمة. وهنا تحول السير هنري سيدني عن موضوع الحديث بحماقة غريبة، فصارح السفير الإسباني بأن الملكة إليزابيث على استعداد لأن تعيد نشر المذهب الكاثوليكي في إنجلترا لو أن ملك إسبانيا يساعدها على تحقيق رغبتها في الزواج من روبرت ددلي.

وتقدم روبرت ددلي نفسه إلى السفير الإسباني بنفس هذا العرض، وكان ذلك بعد أربعة شهور فقط من وفاة زوجته. وبعد يومين، استدعت الملكة السفير الإسباني إليها، وبدأت حديثها معه بقولها: إنها على الرغم من معرفتها لما يتميز به اللورد روبرت من الصفات الجليلة والفضائل، إلا أنها لم تقرر بعدُ الزواج منه أو من أي رجل آخر، ولكنها مع ذلك تشعر كل يوم بحاجتها إلى زوج مخلص يعاونها في أداء مهمتها الكبرى، وهي تظن أن شعبها يفضل أن تتزوج مليكته من رجل إنجليزي، على الرغم من أن عروض الزواج من أجانب كانت عديدة أمام أنظارها.

ووجد السفير الإسباني الفرصة سانحة لكي تستفيد إسبانيا من رغبة الملكة في الزواج لإعادة المذهب الكاثوليكي إلى إنجلترا، فانتهز خلوته مع الملكة وعشيقها وقال لها: إنه يستغرب لماذا لا تنزع جلالتها عن نفسها نير من يعترض طريقها، وتعيد الدين الحنيف إلى البلاد، وتتزوج بعد ذلك بمن تريد ويشتهي قلبها.

ولكن لم ينفذ شيء من هذه النصيحة، واستمرت الملكة على غرامها بروبرت، وبعد أن كان روبرت يعيش في القصر في غرف بعيدة جدًّا عن غرفها، أمرته في يوم من الأيام أن ينتقل إلى غرف تقع فوق غرفها تمامًا؛ بحجة أن غرفه غير صحية، والحقيقة أنها كانت تريده على مقربة منها.

شهوة الانتقام

وتتابعت الأسابيع والشهور والأعوام، وأخذت النعم تنهال من جانب الملكة على لورد ليستر، ولكنها مع ذلك لم تتزوج منه لكي تصل به إلى مركز يقارب مركز الملك الشرعي، ولم يكن غريبًا بعد ذلك أن يزداد في طغيانه، ومع أنه كان مسرورًا بنفوذه العظيم وجاهه، إلا أنه كان يرغب في الانتقام من كل من يظن أنه قد سبب له الأذى في الماضي أو ناصبه العداء.

وأخذ ينقب عن أشخاص ينتقم منهم حتى أنزل الرعب بقلوب من بالقصر، ولم يكن أحدهم يجرؤ على انتقاد تصرفاته جهرًا، ولكنهم كانوا يمعنون في نقده إذا كان غائبًا عن مجلسهم، حتى قال أحد القضاة الإنجليز إذ ذاك: «لو أنني أمرت بسجن كل من يتحدث بشرٍّ عن لورد ليستر؛ لوجب أن يكون عدد سجون إنجلترا موازيًا لعدد المنازل المعدة للسكنى.»

وكان للورد ليستر معرفة تامة بأنواع السموم، ويرجح أنه هو قاتل السفير تروكمورتون — وكان تروكمورتون هو السفير الذي كتب له خطاب عزاء مؤثر عند وفاة زوجته آمي، ولكنه حرر في نفس الوقت خطابين آخرين إلى السياسي سيسيل، وإلى سفير إنجلترا في إسبانيا يعترض فيهما على زواجه من الملكة — ولقد توفي هذا السفير بعد أن تناول طعام الغداء مع اللورد روبرت، ولما عاد إلى منزله شعر بآلام داخلية حادة؛ فاستدعى أهل منزله وأعلن إليهم أنه يرجح أن الرجل الذي تناول معه الطعام في ذلك اليوم قد دسَّ له السم، ووصفه لهم بأنه أكثر الرجال شرًّا وخطرًا.

النساء

وقد أخذ كثيرون ينتظرون وفاة اللورد روبرت حتى يذكروا رأيهم فيه بصراحة. وبدأ هو بعد ذلك يشغل بالنساء، وكان يوفق في الحصول على أجملهن دون مجهود كبير، كما كان مركزه السامي يذلل العقبات التي تعترض رغباته. وكثيرًا ما راح بعض الأزواج ضحايا لنزواته، فأحب اللورد روبرت زوجاتهن، ووفق في الحصول عليهن، وكانت سلطته قد تضخمت تضخمًا عظيمًا، كما أنه سئم الملكة وتسويفها الزواج منه وخداعها له؛ ولذلك تزوج سرًّا بسيدة تدعى لتيس ديفيرو، ووشي به أحد أعدائه فحمل الخبر إلى الملكة، التي اشتد غضبها حين سمعت به حتى هددت بإرساله إلى السجن، ولكنها قنعت أخيرًا بطرد السيدة لتيس من القصر.

دولة ليستر

ولم تكن الأقدار غافلة عن الملكة وحبيبها، فبعد أربعة وعشرين عامًا من وفاة آمي روبزارت طبعت في بلجيكا رسالة عنوانها: «دولة ليستر» كان ملؤها المطاعن والمثالب، ويقال: إن كاتبها كان كاهنًا فرنسيًّا، وإنه كتبها بتحريض السياسي سيسيل، وكانت مقدمة الرسالة هذه الجملة فقط: «ستكشف السماء عن فجوره وتثور الأرض ضده.»

وتمكنت بعض نسخ هذه الرسالة من الوصول سرًّا إلى إنجلترا حيث قرئت باهتمام عظيم، حتى اضطرت الملكة إلى أن تصدر منشورًا تستنكر فيه كل ما ورد في الرسالة، وتعلن امتلاءها بالكذب والبهتان. ومع أن شواطئ إنجلترا كلها روقبت بدقة إلا أن الرسالة كانت تنتشر باستمرار، وما لبثت أن ذاعت في البلاد، وأخذ الناس ينقلونها بخط أيديهم، ولا تزال بعض هذه النسخ الخطية باقية إلى اليوم.

كانت الرسالة قوية جدًّا في حملتها على ليستر، فلم يوصف فيها بأنه شخص كله خداع وخيانة وكذب وفجور وجبن وكفر فقط، بل اتهم صراحة بأنه قاتل زوجته.

وقد فصل الكاتب المجهول قصة وفاة آمي؛ فذكر أن ليستر كان يريد في أول الأمر أن يدس لها السم بإغراء فوني خادمه على تنفيذ الخطة الموضوعة، وقد طلب مساعدة الطبيب تيلي في ذلك، ولكن الطبيب رفض الاشتراك في مثل هذه الجريمة المروعة. وأخيرًا ترك ليستر طريقة تنفيذ القتل لحنكة القاتل.

وذكر كاتب آخر أن آمي قد خنقت في فراشها أولًا ثم ألقيت بعد ذلك من أعلى السلم فدُقَّ عنقُها؛ حتى يعتقد الناس بأن موتها كان من جراء عثرة قدمها وسقوطها من أعلى السلم.

ورد أحد أقارب ليستر على رسالة «دولة ليستر» يدافع عن ليستر، ولكن رده لم يحدث أثرًا حتى إنه لما أعيد طبع «دولة ليستر» بعد مائة عام من صدورها لقيت رواجًا كبيرًا.

وقد خلد الروائي الإنجليزي المشهور السير ولتر سكوت صورة آمي روبزارت في روايته «كنيلورث» لملايين القراء، وتناقل عنه الكتاب الأجانب بعد ذلك هذه الصورة، وجعلوها بطلة من أبطال كثير من القصص في فرنسا وإيطاليا وألمانيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤