الْفَصْلُ السَّابِعُ

(١) وَاجِبُ الْإِنْصَافِ

كَانَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ يُنْصِتُونَ إِلَى حَدِيثِ أَبِيهِمْ، مَأْخُوذِينَ بِسِحْرِ بَيَانِهِ، وَأَصَالَةِ رَأْيِهِ وَبَرَاعَةِ تِبْيَانِهِ، مُعْجَبِينَ بِصِدْقِ حُجَّتِهِ وَرَجَاحَةِ بُرْهَانِهِ.

وَقَدِ اشْتَدَّ فَرَحُ السُّلطَانِ «مَحْمُودٍ» بِمَا بَدَا عَلَى أَسَارِيرِ ثَلَاثَةِ أَبْنَائِهِ الْأَشِقَّاءِ، مِنْ دَلَائِلِ الِاقْتِنَاعِ بِحُجَّتِهِ، وَالِارْتِياحِ لِبَرَاهِينِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَالتَّسْلِيمِ بِرَأْيِهِ وَمَشُورَتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِإِنْصَافِهِ وَعَدَالَتِهِ.

وَبَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» عَنِ الْكَلَامِ هُنَيْهَةً قَصِيرَةً، رَفَع رَأْسَهُ، وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ، وَاسْتَأْنَفَ مَا بَدَأَ مِنْ حَدِيثِهِ، فَقَالَ: «لَقَدْ وَضَحَ لَكُمْ أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ، الْبَرَرَةُ الْأَوْفِيَاءُ، الْبَرَعَةُ الْفُطَنَاءُ، أَنَّ وَاجِبَ الْإِنْصَافِ يَقْضِي عَلَيَّ أَلَّا أُفَضِّلَ أَحَدَكُمْ عَلَى شَقِيقَيْهِ، وَأَحْكُمَ لَهُ بِالْفَوْزِ دُونَ أَخَوَيْهِ، بَعْدَ أَنْ تَمَّ لَكُمُ النَّجَاحُ، بِفَضْلِ تَعَاوُنِكُمُ الْوَثِيقِ، وَتَحَقَّقَ لَكُمْ مَا كَانَتْ تَصْبُو إِلَيْهِ نُفُوسُكُمْ مِنْ مُرَادٍ بَعِيدٍ، وَهَدَفٍ رَشِيدٍ.

الْحَقُّ — يَا أَبْنَائِي — أَحَقُّ بِالْإِيثَارِ، وَأَجْدَرُ بِالْفَوْزِ وَالِانْتِصَارِ، وَمَنْ لَمْ يُعَوِّدْ نَفْسَهُ قَبُولَ الْحَقِّ خَابَ سَعْيُهُ، وَضَلَّ رَأْيُهُ.

وَأَرَى أَنَّ وَاجِبَ الْإِنْصَافِ يُحَتِّمُ عَلَيَّ أَلَّا أَخْتَصَّ مِنْكُمْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ، وَأُفْرِدَهُ بِالتَّفْضِيلِ وَالِاخْتِيَارِ، لِلزَّوَاجِ بِابْنَةِ عَمِّكُمُ الْأَمِيرَةِ: «نُورِ النَّهَارِ».

وَهَيْهَاتَ أَنْ تَخْفَى عَلَى فِطْنَةِ أَبْنَائِي الْأَعِزَّاءِ، الْمُتَحَابِّينَ الْأَصْفِيَاءِ، مَا تَزْدَحِمُ بِهِ الْحَيَاةُ مِنْ شُئُونٍ كَثِيرَةٍ تُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ فِطْنَةً وَذَكَاءً، وَبَرَاعَةً وَدَهَاءً، لَيَقِفُ أَمَامَ هَذِهِ الشُّئُونِ حَائِرًا بَيْنَ مَيْزَاتِهَا الْمُتَعَدِّدَةِ، عَاجِزًا عَنْ أَنْ يُرَجِّحَ فِيهَا مَيْزَةً — مَهْمَا جَلَّتْ وَعَظُمَتْ — وَيُفَضِّلَهَا عَلَى سِوَاهَا، وَيَخْتَصَّهَا وَحْدَهَا بِالثَّنَاءِ دُونَ أَنْ يَتَعَدَّاهَا.

وَإِنِّي مُذَكِّرُكُمْ — إِذَا شِئْتُمْ — بِنَمَاذِجَ تُوَضِّحُ لِأَذْهَانِكُمْ — عَلَى قِلَّتِهَا وَإِيجَازِهَا — حَقِيقَةَ مَا أَبْغِيهِ، وَتُفَسِّرُ لَكُمْ كُلَّ مَا أَقْصِدُ إِلَيْهِ وَأَعْنِيهِ».

فَأَسْرَعَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ يَقُولُونَ: «هَاتِ مَا عِنْدَكَ مِنْ أَمْثِلَةٍ، فَإِنَّا إِلَيْهَا مَشُوقُونَ».

(٢) اجْتِمَاعُ الْقُوَى

فَشَرَعَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» يَقُولُ: «تُرَى لَوْ سَأَلَكُمْ سَائِلٌ: «أَيُّ الْقُوَى النَّافِعَةِ فِي هَذَا الْوُجُودِ جَدِيرَةٌ أَنْ تَخْتَصُّوهَا وَحْدَها بِثَنَائِكُمْ، وَتُفْرِدُوهَا بِمَوْفُورِ إِعْجَابِكُمْ، وَتَرُدُّوا إِلَيْهَا وَحْدَهَا الْفَضْلَ كُلَّهُ فِي بَقَاءِ الْحَيَاةِ: أَهِيَ الشَّمْسُ، أَمِ الْمَاءُ، أَمِ الْهَوَاءُ، أَكُنْتُمْ تَسْتَطِيعُونَ الْإِجَابَةَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ؟ أَفِي قُدْرَةِ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ أَنْ يُفَاضِلَ بَيْنَهَا، وَيُؤْثِرَ إِحْدَاهَا عَلَى غَيْرِهَا؟ كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ بِحَالٍ!

لِمَاذَا؟ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْقُوَى النَّافِعَةِ مَيْزَتَهَا وَفَضْلَهَا فِي دُنْيَانَا الَّتِي نَعِيشُ فِيهَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى حَيَاتِنَا وَحَيَاةِ غَيْرِنَا مِنَ الْكَائِنَاتِ بِدُونِهَا!

فَإِذَا نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، بَطَلَتْ مَنَافِعُ مَا عَدَاهَا، وَلَمْ يُغْنِ عَنْهَا سِوَاهَا، وَلَوْ أَعْوَزَتْنَا الشَّمْسُ، أَوِ الْهَوَاءُ، أَوِ الْمَاءُ لَانْتَفَتْ أَسْبَابُ الْبَقَاءِ، وَانْتَهَى الْكَوْنُ وَسَاكِنُوهُ إِلَى الْفَنَاءِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَدُومَ الْحَيَاةُ بِغَيْرِ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثِ: مُجْتَمِعَةً، لِإَنْسَانٍ أَوْ نَبَاتٍ أَوْ حَيَوَانٍ!

وَقَدْ رَأَيْتُمْ فِي هَذَا الْمَثَلِ الْوَاضِحِ — عَلَى وَجَازَتِهِ — مَا يُفَسِّرُ لَكُمْ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ تَعَاوُنِ هَدَايَاكُمْ وَنَفَائِسِكُمْ، وَافْتِقَارِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى الْأُخْرَى.

وَقَدْ شَاءَتْ إِرَادَةُ اللهِ — سُبْحَانَهُ — أَنْ يُسَخِّرَ لَنَا الشَّمْسَ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ جَمِيعًا لِخِدْمَتِنَا، وَأَنْ تَكُونَ مَصَادِرَ حَيَاتِنَا، وَصِحَّتِنَا وَقُوَّتِنَا.

ذَلِكَ مَثَلٌ وَاحِدٌ مِنْ قُوَى الطَّبِيعَةِ الَّتِي تُحِيطُ بِنَا، عَرَضْتُهُ عَلَيْكُمْ فِي إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ».

(٣) مَثَلُ الْحَكِيمِ

وَلَمَّا سَمِعَ الْحَكِيمُ «آزَادُ» هَذَا الْمَثَلَ الَّذِي ذَكَرَهُ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» لِبَنِيهِ، عَقَّبَ قَائِلًا: «عِنْدِي مَثَلٌ آخَرُ مِمَّا تُبْصِرُونَهُ بِأَعْيُنِكُمْ وَتَجِدُونَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ، أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ النُّجَبَاءُ.

فَأَنْتُمْ — إِذَا أَنْعَمْتُمُ النَّظَرَ، وَأَعْمَلْتُمُ الْفِكْرَ، وَتَمَثَّلْتُمْ مَا أَبْدَعَهُ اللهُ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ قُوًى جَسِيمَةٍ، وَنِعَمٍ عَظِيمَةٍ — وَجَدْتُمْ ثَلَاثَ آيَاتٍ أُخَرَ، ظَاهِرَةً لِكُلِّ ذِي عَقْلٍ وَبَصَرٍ، وَهِيَ الْجِسْمُ وَالرُّوحُ وَالْعَقْلُ.

فَإِذَا حَاوَلْتُمْ أَنْ تُفَاضِلُوا بَيْنَ ثَلَاثِ الْقُوَى هَذِهِ، وَبَحَثْتُمْ: أَيُّهَا أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِالْفَضْلِ وَالْإِيثَارِ، ضَلَّ مِنْكُمُ الْفِكْرُ وَاحْتَارَ.

تَعَالَوْا فَانْظُرُوا، وَقَدِّرُوا وَفَكِّرُوا، ثُمَّ قَدِّرُوا وَفَكِّرُوا: مَا فَائِدَةُ الْجِسْمِ إِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ؟

إِنَّ الْجِسْمَ إِذَا فَارَقَتْهُ الرُّوحُ يُصْبِحُ — كَمَا تَعْلَمُونَ — جُثَّةً هَامِدَةً، لَا نَفْعَ فِيهَا وَلَا فَائِدَةَ.

وَلَنْ تَتَهَيَّأَ لِلْإِنْسَانِ أَسْبَابُ الْحَيَاةِ وَالْبَقَاءِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ لِقَاءٌ.

ثُمَّ تَعَالَوْا فَانْظُرُوا، وَخَبِّرُونِي بَعْدَ أَنْ تُنْعِمُوا النَّظَرَ، وَتُمْعِنُوا الْفِكْرَ: مَا قِيمَةُ الْحَيَاةِ بِلَا عَقْلٍ؟ وَمَا قِيمَةُ حَيٍّ أُصِيبَ ذِهْنُهُ بِالِاخْتِلَالِ، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْجُنُونُ وَالْخَبَالُ؟

ذَلِكَ مَثَلٌ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَهُوَ — كَمَا تَرَوْنَ — وَاضِحُ الْمَعْنَى، قَوِيُّ الْمَغْزَى. فَتَدَبَّرُوهُ وَاعْتَبِرُوا بِهِ».

(٤) الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ

وَلَمَّا انْتَهَى الْحَكِيمُ «آزَادُ» مِنْ حَدِيثِهِ الرَّائِعِ، قَالَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ»: «لِيَأْذَنَ لِيَ الْحَكِيمُ أَنْ أُضِيفَ إِلَى الْمَثَلِ الَّذِي سَاقَهُ شَيْئًا يُقَوِّيهِ: مَا قِيمَةُ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ وَالْعَقْلِ مُجْتَمِعَةً، إِذَا أَعْوَزَتْهَا الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ؟

خَبِّرُونِي: مَا قِيمَةُ الْحَيَاةِ إِذَا أَعْوَزَنَا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَاللَّمْسُ؟ كَيْفَ تَطِيبُ الْحَيَاةُ إِذَا اخْتَلَّتْ حَاسَّةٌ مِنْ هَذِهِ الْحَوَاسِّ أَوْ تَعَطَّلَتْ؟

وَخَبِّرُونِي أَيْضًا: أَلَا تَرَوْنُ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ إِلَى كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِهِ؟ أَتَرَوْنَ لَوْ نَقَصَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا أَوْ عَطَلَتْ، أَتُغْنِي غِنَاءَهَا الْجَوَارِحُ الْأُخَرُ؟

إِنَّ لِكُلِّ جَارِحَةٍ — كَمَا تَرَوْنَ — جَلِيلُ فَضْلِهَا، وَعَظِيمُ خَطَرِهَا، وَهَيْهَاتَ أَنْ تَتِمَّ سَعَادَتُنَا بِدُونِهَا.

تَأَمَّلُوا حَاجَةَ الْجِسْمِ إِلَى الْكَتِفِ!

وَحَاجَةَ الْكَتِفِ إِلَى السَّاعِدِ!

وَحَاجَةَ السَّاعِدِ إِلَى الْمِرْفَقِ!

وَحَاجَةَ الْمِرْفَقِ إِلَى الذِّرَاعِ!

وَحَاجَةَ الذِّرَاعِ إِلَى الرُّسْغِ، وَهُوَ مِفْصَلُ مَا بَيْنَ الذِّرَاعِ وَالْكَفِّ!

وَحَاجَةَ الرُّسْغِ إِلَى الْكَفِّ!

وَحَاجَةَ الْكَفِّ إِلَى الرَّوَاجِبِ، وَهِيَ مَفَاصِلُ أُصُولِ الْأَصَابِعِ!

وَحَاجَةَ الرَّوَاجِبِ إِلَى الْأَصَابِعِ!

وَحَاجَةَ الْأَصَابِعِ إِلَى السُّلَامَيَاتِ، وَهِيَ عِظَامُ الْأَصَابِعِ، وَافْتِقَارُهَا — بَعْدَ ذَلِكَ — إِلَى الْأَنَامِلِ، أَعْنِي رُءُوسَ الْأَصَابِعِ!

وَحَاجَةَ الْأَنَامِلِ إِلَى الْأَظَافِرِ! وَهَكَذَا …

فَالْجَسَدُ فِي حَقِيقَتِهِ أَجْزَاءٌ يُكَمِّلُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا غُنْيَةَ لِجُزْءٍ فِيهِ عَنْ جُزْءٍ، وَلَا يُسَمَّى الْجَسَدُ جَسَدًا صَحِيحًا إِلَّا بَتَكَامُلِ أَجْزَائِهِ، وَبِتَعَاوُنِهَا فِي أَدَاءِ وَظَائِفِهَا. وَمَتَى أَصَابَ الاضْطِرَابُ جُزْءًا مِنْهَا، اخْتَلَّ النِّظَامُ، وَدَبَّ السِّقَامُ.

هَذَا يَا بَنِيَّ شَأْنُ الْحَيَاةِ، قِوَامُهَا التَّعَاوُنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْكَائِنِ الْحَيِّ، وَالْإِنْسَانِ الْفَرْدِ، أَمْ كَانَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْجَمَاعَاتِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْأُمَّةُ، أَمْ كَانَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِالْأُمَمِ الَّتِي يَتَأَلَّفُ مِنْهَا الْعَالَمُ أَجْمَعُ».

(٥) مُجْتَمَعٌ مُتَكَامِلٌ

وَوَاصَلَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» حَدِيثَهُ قَائِلًا: «لَقَدْ تَجَلَّى لَكُمْ — مِمَّا سَمِعْتُمْ — فَضْلُ كُلِّ حَاسَّةٍ مِنْ حَوَاسِّنَا، وَنَفْعُ كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ جَوَارِحِنَا، وَعَلِمْتُمْ شِدَّةَ حَاجَتِنَا إِلَى مُجْتَمَعِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ؛ لأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ — فِي مُجْتَمَعِهَا — فَضْلًا تَسْتَأْثِرُ بِهِ، وَلَا يَنْهَضُ بِعِبْئِهِ سِوَاهَا.

فَنَحْنُ — كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ — لَا نَمْشِي عَلَى أَيْدِينَا، بَلْ نَمْشِي عَلَى أَرْجُلِنَا، وَلَا نَرَى بِآذَانِنَا، بَلْ بِأَعْيُنِنَا؛ وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي كُلِّ حَاسَّةٍ وَجَارِحَةٍ.

فَنَحْنُ لَا غِنَى لَنَا عَنِ الْحَوَاسِّ وَالْجَوَارِحِ كُلِّهَا مُجْتَمِعَةً، كَمَا رَأَيْتُمْ: سُنَّةَ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا».

(٦) مُجْتَمَعُ النَّاسِ

وَبَعْدَ هُنَيْهَةٍ، قَالَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ»: «مَا أَعْظَمَ وُجُوهَ الشَّبَهِ — أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ الْأَعِزَّاءُ — بَيْنَ مُجْتَمَعِ الْحَوَاسِّ، وَمُجْتَمَعِ النَّاسِ!

فَالْمُجْتَمَعُ الَّذِي نَعِيشُ فِيهِ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْجِسْمِ الْوَاحِدِ، يَحْتَاجُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ إِلَى الْآخَرِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُؤَدِّيَ عَمَلَهُ بِمُفْرَدِهِ، دُونَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِمَنْ حَوْلَهُ، كَمَا لَا تَسْتَطِيعُ جَارِحَةٌ مِنْ جَوَارِحِ الْجِسْمِ أَنْ تَعْمَلَ بِمُفْرَدِهَا، دُونَ أَنْ تَسْتَعِينَ بِغَيْرِهَا.

وَتَمَثَّلُوا — بَعْدَ هَذَا — كَيْفَ تُصْبِحُ الْحَيَاةُ جَحِيمًا تَتَّقِدُ وَتَسْتَعِرُ، إِذَا خَلَتْ مِنَ التَّعَاوُنِ الْمُثْمِرِ؟!

وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى مَا أَقُولُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا الْعَدُّ، مَهْمَا يَطُلْ بِنَا نَفَسُ الْقَوْلِ وَيَمْتَدُّ!»

ثُمَّ رَفَعَ السُّلْطَانُ إِصْبَعَهُ السَّبَابَةَ، يُؤَكِّدُ قَوْلَهُ: «هَأَنْتُمْ أُولَاءِ عَرَفْتُمْ أَنْ لَا فَضْلَ لِنَفِيسَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَفَائِسِكُمُ الثَّلَاثِ فِي شِفَاءِ الْأَمِيرَةِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْفَضْلُ إِلَى ثَلَاثَتِهَا مُجْتَمِعَةً مُتَكَامِلَةً.

وَقَدْ كَانَتْ هَدَايَاكُمُ الْقَيِّمَةُ النَّافِعَةُ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِمَا أَسْلَفْتُ لَكُمْ بَيَانَهُ فِي مُجْتَمَعِ الْحَوَاسِّ وَمُجْتَمَعِ النَّاسِ.

كَانَ لَهَا مِنَ الْأَثَرِ مِثْلُ مَا لِلشَّمْسِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، تَعْمَلُ مُجْتَمِعَةً عَلَى بَقَاءِ حَيَاتِنَا وَحَيَاةِ الْكَائِنَاتِ، مِنْ إِنْسَانٍ وَطَيْرٍ وَحَيَوَانٍ وَنَبَاتٍ، فَإِذَا نَقَصَ مِنْهَا عُنْصُرٌ وَاحِدٌ ضَاعَتْ فَائِدَتُهَا، وَبَطَلَ جَدْوَاهَا وَنَفْعُهَا.

وَأَنْتُمْ — أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ الْأَذْكِيَاءُ — شَأْنُكُمْ عِنْدِي كَشَأْنِ هَذِهِ النَّفَائِسِ الثَّلَاثِ، وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ أَعْضَاءِ الْجِسْمِ، وَقُوَى الطَّبِيعَةِ، وَعَنَاصِرِ الْكَائِنَاتِ. لِكُلٍّ مِنْكُمْ بِمَا قَدَّمَ لِابْنَةِ عَمِّهِ الْأَمِيرَةِ، مَنْزِلَةٌ مَذْكُورَةٌ، وَمَكْرُمَةٌ مَأْثُورَةٌ. وَلَوْ أَنِّي قَرَّرْتُ أَنْ تَكُونَ ابْنَةُ عَمِّكُمْ لِأَحَدِكُمْ دُونَ أَخَوَيْهِ الْآخَرَيْنِ، لَكُنْتُ فِي الْحَقِّ ظَالِمًا لِهَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ، وَأَنْتُمْ لَا تَقْبَلُونَ مِنِّي أَنْ أَكُونَ لِأَحَدٍ مِنْكُمْ ظَالِمًا، وَقَدِ اتَّخَذْتُمُونِي بَيْنَكُمْ حَاكِمًا.

لَمْ يَبْقَ أَمَامِي — بَعْدَ هَذَا — إِلَّا أَنْ تُشِيرُوا عَلَيَّ بِمَا تَخْتَارُونَ، وَتَقْتَرِحُوا مَا تَشَاءُونَ؛ فَلَنْ أَرُدَّ لَكُمْ مَطْلَبًا، وَلَنْ أُخَيِّبَ لَكُمْ مَأْرَبًا».

فَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ» بِاسْمِهِ وَبِاسْمِ أَخَوَيْهِ: «لَا رَأْيَ لَنَا يَا أَبَتَاهُ، إِلَّا مَا تَرَاهُ، وَلَا مَأْرَبَ لَنَا فِي سِوَاهُ. فَقَرِّرْ مِنَ الْأَمْرِ مَا تَشَاءُ، وَلَكَ مِنَّا السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَعَلَيْنَا أَلَّا نُهْمِلَ تَنْفِيذَ أَمْرِكَ وَاتِّبَاعِهِ».

(٧) اقْتِرَاحُ السُّلْطَانِ

فَقَالَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ»: «بَارَكَ اللهُ فِيكُمْ وَهَدَاكُمْ وَحَقَّقَ آمَالَكُمْ وَسَدَّدَ خُطَاكُمْ. وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ أَسْلُكَ — فِي الْحُكْمِ بَيْنَكُمْ — طَرِيقًا أَرْجُو أَنْ تُحَقِّقَ رَغَبَاتِكُمْ وَتُرْضِي أُمْنِيَّاتِكُمْ».

فَابْتَدَرَهُ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»: «كُلُّ مَا يَرَاهُ الْوَالِدُ حَسَنٌ جَمِيلٌ، لَا نَحِيدُ عَنْهُ — قِيدَ شَعْرَةٍ — وَلَا نَمِيلُ؛ فَاقْضِ فِي أَمْرِنَا بِمَا تَرَاهُ، فَلَنْ نَخْتَارَ رَأْيًا سِوَاهُ».

فَقَالً السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ»: «أَنْتُمْ أَمْهَرُ أَهْلِ عَصْرِكُمْ فِي فُنُونِ الصَّيْدِ وَالرِّمَايَةِ، وَأَكْثَرُهُمْ خِبْرَةً بِهَا وَأَوْفَرُهُمْ دِرَايَةً. وَفَضْلُكُمْ فِيهَا مَشْهُورٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ، مَذْكُورٌ عَلَى كُلِّ لِسَانٍ.

وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ يَذْهَبَ ثَلَاثَتُكُمْ إِلَى حَلْبَةِ السِّبَاقِ، وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قَوْسُهُ وَسِهَامُهُ، ثُمَّ يُطْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ سَهْمًا، لِنَرَى: أَيُّكُمْ أَشَدُّ عَزْمًا، وَأَبْعَدُ مَرْمًى؟

فَأَيُّكُمْ تَفَوَّقَ فِي الرِّمَايَةِ عَلَى أَخَوَيْهِ، وَقَعَ الِاخْتِيَارُ عَلَيْهِ، وَأَصْبَحَتِ الْأَمِيرَةُ مِلْكَ يَدَيْهِ.

فَمَاذَا تَرَوْنُ — أَيُّهَا الْأَبْنَاءُ الْفُضَلَاءُ — فِيمَا أَرَاهُ لَكُمْ؟

وَكَيْفَ تَقُولُونَ فِيمَا أَقْتَرِحُهُ عَلَيْكُمْ؟»

فَقَالَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ، بِلِسَانِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»: «مَا أَحْكَمَ التَّفْكِيرَ، وَأَعْدَلَ التَّدْبِيرَ!

لَا رَأْيَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، وَلَا قَضَاءَ إِلَّا مَا قَضَيْتَ إِنَّنَا لَهَذِهِ الْمُبَارَاةِ قَابِلُونَ، وَبِنَتِيجَتِهَا رَاضُونَ».

(٨) فِي حَلْبَةِ السِّبَاقِ

ثُمَّ خَرَجَ الْأُمَرَاءُ الثَّلَاثَةُ إِلَى حَلْبَةِ السِّبَاقِ يَتَقَدَّمُهُمُ السُّلْطَانُ، وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِمْ سَوَادُ الْأَهْلِينَ صُفُوفًا مُتَرَاصَّةً، لِيَشْهَدُوا الْمُبَارَاةَ فِي الْمَيْدَانِ.

ثُمَّ أَطْلَقَ ثَلَاثَةُ الْأُمَرَاءِ، سِهَامَهُمْ فِي الْفَضَاءِ؛ بَعْدَ أَنْ حَرَصَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَنْطَلِقَ سَهْمَهُ إِلَى أَقْصَى مَدًى؛ فَكَانَ سَهْمُ الْأَمِيرِ «عَلِيٍّ» أَبْعَدَ السِّهَامِ مَرْمًى.. وَاسْتَحَقَّ بِذَلِكَ دُونَ أَخَوَيْهِ زَوَاجَ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ».

وَهَكَذَا كَانَ ظَفَرُهُ بِابْنَةِ عَمِّهِ نَتِيجَةً لِكِفَايَتِهِ، وَثَمَرَةً لِمَهَارَتِهِ، وَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا عَفْوًا بِوَسِيلَةِ الْقُرْعَةِ الْعَمْيَاءِ، أَوْ بِمُسَاعَدَةِ الْحَظِّ الْمَجْهُولِ. وَخَيْرُ الْجَوَائِزِ وَأَعْدَلُهَا مَا كَانَ ثَمَرَةً لِلتَّنَافُسِ الْكَرِيمِ.

figure
الْإِخْوَةُ يَتَبارَوْنَ فِى إِطْلاقِ السِّهامِ.

(٩) نَصِيبُ الْأَخَوَيْنِ

وَرَضِيَ الْأَمِيرَانِ الشَّقِيقَانِ بِفَوْزِ أَخِيهِمَا عَنْ جَدَارَةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ، وَهَنَّآهُ بِمَا أَحْرَزَهُ مِنْ فَوْزٍ مَجِيدٍ، وَدَعَوا اللهَ أَنْ يُبَارِكَ لَهُ فِي زَوَاجِهِ السَّعِيدِ.

وَالْتَفَتَ السُّلْطَانُ إِلَى وَلَدَيْهِ الْأَمِيرَيْنِ «حُسَيْنٍ» وَ«أَحْمَدَ»، فَابْتَدَرَهُمَا قَائِلًا: «بَقِيَ عَلَيَّ الْآنَ أَنْ أُخَيِّرَ وَلَدَيَّ الْعَزِيزَيْنِ، بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَيُّكُمَا يُحِبُّ أَنْ يَتَوَلَّى الْمُلْكَ بَعْدَ أَبِيكُمَا؟ وَأَيُّكُمَا يُفَضِّلَ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِمَا ظَفِرَ بِهِ الْإِخْوَةُ الثَّلَاثَةُ مِنْ ثَلَاثَةِ الْكُنُوزِ؟

فَلْيُوَازِنْ كِلَاكُمَا فِي تَفْكِيرٍ وَرَوِيَّةٍ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَلْيَخْتَرْ مَا شَاءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ».

فَقَالَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» لِأَبِيهِ السُّلْطَانِ: «سَعِدْتَ أَيُّهَا الْوَالِدُ الرَّحِيمُ، وَطَالَ بَقَاؤُكَ. لَقَدْ أَرَدْتَ أَلَّا يَسْتَأْثِرَ الْأَمِيرُ «عَلِيٌّ» بِالسُّرُورِ، لِظَفَرِهِ بِزَوْجَتِهِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ النَّهَارِ»، وَهِيَ كَنْزٌ مَعْنَوِيٌّ؛ فَأَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ لَنَا مِنَ السُّرُورِ مِثْل مَا لَهُ، فَعَرَضْتَ عَلَيْنَا خِلَافَةَ الْمُلْكِ، وَالْكُنُوزَ الثَّلَاثَةَ. وَأَنْتَ بِحِكْمَتِكَ وَنَافِذِ بَصِيرَتِكَ، أَقْدَرُ عَلَى أَنْ تَخْتَارَ لِكُلٍّ مِنَّا مَا تَرَاهُ الَأَصْلَحَ وَالْأَوْفَقَ».

وَقَالَ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «لِكُلٍّ مِنَ النَّصِيبَيْنِ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، لَا يُنْكِرُهَا ذُو رَأْيٍ صَائِبٍ، وَمَنْزِلَةٌ جَلِيلَةٌ لَا يَجْحَدُهَا مَنْ لَهُ نَظَرٌ ثَاقِبٌ، وَإِنَّا بِاخْتِيَارِكَ رَاضِيَانِ، وَلِرَأْيِكَ مُنْفِذَانِ؛ فَلْتَكُنِ الْخِيرَةُ وَالرَّأْيُ لَكَ يَا أَبَتَاهُ».

فَقَالَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» لِلْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»: «أَنْتَ — كَمَا تَعْلَمُ — أَصْغَرُ أَوْلَادِي، وَلَكَ شَبَابٌ مَرْجُوُّ الْمُسْتَقْبَلِ. وَالشَّبَابُ رَبِيعُ الْعُمْرِ، وَذَخِيرَةُ الْغَدِ، وَهُوَ فُسْحَةُ الْأَمَلِ، وَعُدَّةُ الْجِهَادِ وَالْبِنَاءِ وَالْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ أَخْتَارُ لَكَ يَا بُنَيَّ أَنْ تَخْلُفَنِي عَلَى وِلَايَةِ الْبَلَدِ وَقِيَادَةِ الْأُمَّةِ، لِيَكُونَ لِلْوَطَنِ الْعَزِيزِ مِنْ شَبَابِكَ قُوَّةٌ وَفُتُوَّةٌ، وَهِمَّةٌ وَعَزْمَةٌ».

وَالْتَفَتَ السُّلْطَانُ إِلَى الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» قَائِلًا: «أَنْتَ أَكْبَرُ الْإِخْوَةِ، وَأَنَا أَخْتَارُ لَكَ ثَلَاثَةَ الْكُنُوزِ، لِتُحْسِنَ الِانْتِفَاعَ بِهَا مَا اسْتَطَعْتَ، بِمَا أُوتِيتَ مِنْ وُفُورِ عَقْلٍ، وَبُعْدِ نَظَرٍ، مُتَوَخِّيًا فِي كُلِّ عَمَلِكَ، مَصْلَحَةَ النَّاسِ مِنْ حَوْلِكَ».

(١٠) مَشُورَةُ الْحَكِيمِ

ثُمَّ قَالَ السُّلْطَانُ لِبَنِيهِ الثَّلَاثَةِ: «مَا كَانَ لَنَا، وَقَدْ رَأَيْنَا الرَّأْيَ، وَأَعْمَلْنَا فِيهِ الْعَقْلَ وَالتَّدْبِيرَ، أَلَّا نَسْأَلَ حَكِيمَنَا «آزَادَ»، لِيُبْدِيَ لَنَا مَشُورَتَهُ فِيمَا ارْتَأَيْنَاهُ.. وَمَا خَابَ مَنِ اسْتَشَارَ، وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ!»

فَقَالَ الْأَشِقَّاءُ الثَّلَاثَةُ، بِلِسَانِ أَخِيهِمُ الْأَكْبَرِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ»، كَمَا تَعَوَّدُوا — بَأَدَبِهِمُ الْجَمِّ — أَنْ يُنِيبُوهُ عَنْهُمْ فِي التَّكَلُّمِ بِلِسَانِهِمْ: «إِنَّ الْمَشُورَةَ يَا أَبَتَاهُ كَسْبٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ عَوَّدَنَا الْحَكِيمُ «آزَادُ» أَنْ يُسْدِيَ إِلَيْنَا النُّصْحَ الثَّمِينَ، فَلَهُ عَقْلٌ وَتَجْرِبَةٌ، وَهُوَ يَتَأَمَّلُ فِي الْأُمُورِ تَأَمُّلَ عَارِفٍ خَبِيرٍ».

وَلَمَّا سُئِلَ الْحَكِيمُ «آزَادُ» فِيمَا رَآهُ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» مِنِ اخْتِيَارِ ابْنَهِ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ»، لِيَخْلُفَهُ عَلَى وِلَايَةِ الْحُكْمِ، وَإِيثَارِ ابْنِهِ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» بِثَلَاثَةِ الْكُنُوزِ، مَسَحَ الْحَكِيمُ «آزَادُ» جَبْهَتَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السُّلْطَانِ «مَحْمُودٍ» قَائِلًا: «لَقَدِ اجْتَهَدْتَ فِي التَّفْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ، حَتَّى هُدِيتَ إِلَى خُطَّةٍ حَكِيمَةٍ، وَاخْتِيَارٍ مُوَفَّقٍ، وَهَذَا كُلُّ مَا فِي وُسْعِكَ، وَغَايَةُ مَا فِي ذَرْعِكَ. وَلَكِنْ لِي كَلِمَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَخُصَّ بِهَا وَلَدَيْكَ».

وَسَكَتَ سَكْتَةً قَصِيرَةً، ثُمَّ وَجَّهَ نَظَرَهُ إِلَى الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» وَالْأَمِيرِ «أَحْمَدَ» قَائِلًا لَهُمَا: «لِكُلِّ مِنْكُمَا التَّهْنِئَةُ بِمَا نَالَ، وَلَكِنْ عَلَى كُلٍّ مِنْكُمَا أَنْ يُثْبِتَ جَدَارَتَهُ وَكِفَايَتَهُ، حَتَّى يُحَقِّقَ حُسْنَ الظَّنِّ بِهِ، وَصِدْقَ الْأَمَلِ فِيهِ».

فَقَالَ لَهُ الْأَمِيرُ «حُسَيْنٌ»: «أَمَّا أَنَا فَأُعَاهِدُ أَبِي وَأُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ أَصُونَ الْكُنُوزَ الثَّلَاثَةَ مِنَ الْعَبَثِ، وَأَحْفَظُهَا مِنَ الضَّيَاعِ، وَلَا أَسْتَخْدِمُهَا إِلَّا فِي سَبِيلِ الْخِدْمَةِ الْعَامَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ نَفْعِ النَّاسِ جَمِيعًا، وَلَا أَسْتَغِلُّهَا لِمَغْنَمٍ شَخْصِيٍّ، أَوْ مَأْرَبٍ غَيْرِ شَرِيفٍ».

فَرَبَّتَ الْحَكِيمُ «آزَادُ» كَتِفَهُ، وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَثْلَجْتَ صَدْرِي بِمَا أَسْمَعْتَنِى إِيَّاهُ، وَعَلَيْكَ أَنْ تَفِيَ بِوَعْدِكَ، وَلَا تُفَرِّطَ فِي عَهْدِكَ».

وَقَالَ الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ»: «وَكَذَلِكَ أَنَا أُعَاهِدُ أَبِي وَأُعَاهِدُكَ، أَيُّهَا الْحَكِيمُ الْمُوَقَّرُ، عَلَى أَنِّي إِذَا وُلِّيتُ الْحُكْمَ، جَعَلْتُ الْعَدْلَ مِيزَانِي، وَتَوَخَّيْتُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْجَمِيعِ؛ حَتَّى تَتَحَقَّقَ بَيْنَ أَهْلِ الْوَطَنِ كُلِّهِمْ مُسَاوَاةٌ وَكَرَامَةٌ، وَيَشْعُرُ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّ جُهْدَهُ لِوَطَنِهِ، وَأَنَّ خَيْرَ وَطَنِهِ لَهُ، وَيَحْيَا الْجَمِيعُ فِي وِئَامٍ وَسَلَامٍ».

فَقَالَ الْحَكِيمُ «آزَادُ»: «بُورِكْتَ — أَيُّهَا الْأَمِيرُ «أَحْمَدُ» — مِنْ فَتًى شَهْمٍ هُمَامٍ، وَأَرْجُو أَنْ يَبْلُغَ بِكَ الوَطَنُ آمَالَهُ الْجِسَامَ»

وَشَكَرَ السُّلْطَانُ «مَحْمُودٌ» لِلْحَكِيمِ «آزَادَ» مَا أَسْدَى مِنْ نُصْحٍ عَظِيمٍ، وَإِرْشَادٍ كَرِيمٍ.

وَطَابَتْ نَفْسُ الْأَمِيرِ «أَحْمَدَ» بِأَنْ يَخْلُفَ أَبَاهُ فِيمَا يَتَوَلَّاهُ مِنْ مُهِمَّةِ الْحُكْمِ فِي الْبِلَادِ.

وَقَرَّتْ عَيْنُ الْأَمِيرِ «حُسَيْنٍ» بِأَنْ تَكُونَ الْكُنُوزُ الثَّلَاثَةُ فِي حَوْزَتِهِ، يُصَرِّفُ اسْتِخْدَامَهَا بِحِكْمَتِهِ.

وَهَكَذَا فَرِحَ كُلٌّ مِنَ الْأُمَرَاءِ الْأَشِقَّاءِ، بِمَا ظَفِرَ بِهِ مِنْ نَصِيبٍ، وَكَانُوا يَتَنَاصَرُونَ فِي الْخَيْرِ، وَيَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ، وَيَتَبَادَلُونَ أَخْلَصَ الْحُبِّ وَأَعْمَقَهُ، وَأَجْمَلَ الْوُدِّ وَأَصْدَقَهُ، وَتَحَقَّقَتْ لَهُمْ أَسْعَدُ الْآمَالِ، فَقَضَوْا حَيَاتَهُمْ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ وَأَهْنَإِ بَالٍ.. وَصَفَتْ لَهُمُ الْأَوْقَاتُ، وَحَالَفَتْهُمُ الْبَهَجَاتُ وَالْمَسَرَّاتُ، فَعَاشُوا أَيَّامَهُمْ فِي ثَبَاتٍ وَنَبَاتٍ، وَخَلَّفُوا الصِّبْيَانَ وَالْبَنَاتِ، وَوَفَّقَهُمُ اللهُ فِي الْغَدَوَاتِ وَالرَّوْحَاتِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤