النعش

يظهر أنني أملك ما لا يملكه الكثيرون من قدرة على التنبؤ بالغيب؛ فلم أكد أُغلِق باب السيارة ورائي، وأفرغ من محاسبة السائق، وإنزال حقيبتي على الأرض؛ حتى شعرت بأنفاسه في ظهري، كان هو بعينه، هل قلت بعينه؟ أجل بعينه «الوحيدة» التي بقيت له، ينظر بها نظرة جمود وتبلد، فيها المسكنة والخبث والحقد والذل.

– عنك يا بيه.

قلت في صوت يجمع بين السخط والدهشة: أنت!

وأردت أن أُعبِّر عن اشمئزازي من سحنته المُغبرَّة التي قُدِّر عليَّ أن تكون أول ما يطالعني كلما حضرت إلى البلد، وأصرخ في وجهه الداكن السمرة، المُعفَّر بالتراب، الذي يسيل عرقًا مُتسِّخًا في أخاديد وحفر كالشقوق في أرض عطشى؛ وأهتف في غضبي: كيف يمكن أن تنشق عنه الأرض في كل مرة، وهل يملك من دون الناس أنف كلب يشم رائحة صاحبه عن بعد، أو تستطيع عينه «الوحيدة» كأنها عين عراف قديم أن تنفذ وراء ألف حجاب؟

ولكنني لم أقل شيئًا من هذا؛ فقد أحسست أن عينه المسدودة تُشارِك في المؤامرة عليَّ، وترمقني خفْية بلحمها المُلتهِب وفراغها المخيف، الذي يوحي بأن ضياع العين ليس إلا نوعًا من خداع النظر أو الخديعة؛ ولكي أبتعد عن رائحة العرق المُنبعِثة من جلبابه القذر، وأتجنب ابتسامة على زاوية فمه بدَت لي أشبَه بحشرجة ميت، ونظرة من عينه تطق بالشماتة والتبجح والاستهزاء.

قلت في عجلة: دع عنك، ماذا تريد؟

قال وابتسامته المُتبجِّحة لا تزال تُطِل من التجويف المسدود هو الفم المُعوَج: أوصلك يا بيه.

زمجرت غاضبًا: قلت دع الحقيبة في حالها، خذ.

ومددت يدي بورقة من ذات عشرة القروش كانت هي الفكة الباقية معي؛ ولكن يده لم تمتد لأخذها كما توقعت، بل زادت الابتسامة حتى أصبحت لعنة كالحذاء تصدم أذني!

قلت: دائمًا طماع!

قال وهو يرفع وجهه فجأة إلى السماء كأنه يُشهِدها على ظلم فاضح، أو كأنه يراها لأول مرة: لا تكفي يا بيه؛ الولد مات الصبح ومنتظر النعش.

تذكرت لقاءه الأخير معي قبل بضعة شهور، وتبينت الكذبة البشعة فصحت: ابنك، ابنك، هل يموت ابنك مرتين؟

قال في تخاذل: أمر الله يا بيه.

صحت هائجًا لا تذكر اسم الله على لسانك؛ ألم تطلب في المرة السابقة أن تشتري له كفنًا؟ واليوم تريد نعشًا، أيها الكذاب.

قال وابتسامته لا تفارقه: أستغفر الله يا بيه؛ الولد مات الصبح، حتى تعال سعادتك واحكم بنفسك.

قلت وقد ارتفع صوتي كما كان: كذاب، كلكم كذابون، هل تظن أن عندي كنز قارون؟ هيا، غُرْ من وجهي.

وانثنيت لأرفع الحقيبة من على الأرض، ومضيت في طريقي بضع خطوات وإذا به يلاحقني وهو يتوسل: يا بيه ربنا يحنن قلبك، طيب كمل لي على ثمن النعش.

بدأ صوته يتحشرج، وخُيِّل إليَّ أنه يئن كوحش يموت، ولم يكن تأثري هو الذي جعلني أستدير إليه؛ بل رغبتي في التخلص من وجوده البغيض، مددت يدي في جيبي فأخرجت ورقة من ذات الجنيه، ووقفت أمامه وأنا أتميز غيظًا وأصيح: ليكن في علمك أن هذه آخر مرة يموت فيها ابنك، وإذا كذبت عليَّ بعد هذا فسأعرف شغلي معك.

كانت عينه «الوحيدة» مُستغرِقة في الورقة الخضراء، وغاظني ألا أجد فيها دمعة واحدة، وقبل أن أمد له يدي سألته مُهدِّدًا: أين تسكن؟

قال وهو يشير بذراعه إلى ما وراء شريط السكك الحديدية: في عزبة الغجر يا بيه، طول عمري هناك.

قلت وقد ازداد سخطي: في أي شارع؟

زادت ابتسامته المُتبجِّحة اتساعًا: شارع؟ والنبي قلبك طيب يا بيه.

صحت وقد نفد صبري: اخرس، أريد أن أعرف العنوان لأستدل عليك، سأزورك لأعرف كذبك.

قال وهو يمد يده ليأخذ الجنيه ثم يقبض عليه في سعادة: تزورني؟ تشرف والله يا بيه، اسأل سعادتك عن ابراهيم الاعور وألف يدلك.

نظرت إليه وأنا أُحِس أن وجهي سينفجر من الغضب، ثم رفعت الحقيبة ومضيت وهو ما يزال يُشيِّعني قائلًا: والنبي تشرف يا بيه، تنور العزبة كلها.

كان ذلك في صباح عودتي إلى البلد في إجازة قصيرة، تشاءمت لهذه البداية التي واجهتني بالشحاذ الأعور وولده الميت ونعشه؛ ولكنني سرعان ما نسيت هذا كله عندما سلَّمت على أبوَي، واطمأننت على الصحة والأحوال، أقول اطمأننت وفي قولي مبالغة؛ فقد كانت أمي طريحة الفراش تُعانِي من الروماتيزم القديم الذي يُهاجِمها دائمًا في الشتاء، أما أبي فلم يكد يراني حتى بدأ يشكو من كساد الحال وغلاء المعيشة ومكر الفلاحين، وقد فهمت من ذلك إشارة خفية بأن عليَّ أن أحمل عنه بعض أعبائه، فأزور الغيط وأحضُر قسمة القمح وأُباشِر نقل المحصول؛ غير أنني لم أكُن على استعداد للمشاركة في شيء، وأفهمت أبي أن وقتي ضيق، وأنني مُكلَّف ببحث هام لا بد من إتمامه قبل نهاية الإجازة القصيرة.

لم أستطع بالطبع أن أقول له شيئًا عن موضوع هذا البحث الذي عزمت على أن أعكف عليه؛ بل مضيت أُفرِغ حقيبتي من محتوياتها، وكانت لا تزيد عن بعض الملابس الضرورية حشرت بينها بعض محاورات أفلاطون، رتبت الكتب على مائدة صغيرة وُضعت في الصالة، وأخرجت المحبرة والقلم والأوراق وتهيأت للعمل، أو هكذا تعمدت أن أفعل؛ لكي يعرف الجميع أنني لا أملك دقيقة واحدة أُضيِّعها، أحضرت لي الخادمة الصغيرة كوبًا من الشاي، رحت أُقلِّب في أوراقي وأنا أسمع صوت أمي تئن من الألم وتدعو لي بالنجاح، أما أبي فقد تناول عصاه وشمسيته وقال قبل أن يغادر البيت: إنه سيسرح الغيط والمعين هو الله.

كان الموضوع الذي يشغلني عن «خلود الروح»، والحل أنني لم أكن في حاجة إلى تقليب الكتب لأعرف مزيدًا عنه؛ فقد عشت الشهور الماضية مع الحكيم الإلهي بكل عقلي ووجداني، وملكت براهينه وحججه عليَّ نفسي؛ حتى صرت أُردِّدها في نومي ويقظتي.

كانت أحاديث سقراط مع أصحابه لا تزال تتردد في أذني وأجد متعة في ترديدها لنفسي؛ حتى خُيِّل إليَّ أنني أنا الذي اكتشفتها ولم يبقَ إلا أن أُقنِع الناس بها؛ بل لقد تيقنت أن خلود الروح أمر واضح وبديهي، وأن الحكيم المتواضع قد أجهد نفسه أكثر مما ينبغي في إثبات شيء لا يصح لإنسان يستحق هذا الاسم أن يُساوِره الشك فيه لحظة واحدة.

يا لهذه الروح البسيطة الصافية الجميلة! إنها عربة ذات جوادين مُجنَّحين، يقودها سائق له جناحان، تصعد وتصعد وتصعد، مُخترِقة السحب والنجوم والشموس؛ حتى تمتزج بالمثل وتتآلف هي ونفوس الآلهة والملائكة والعباقرة؛ أليس هذا كله من نصيب الفلاسفة الذين يقهرون عناصر الاضطراب والجموح في نفوسهم، ويرتفعون بها إلى موكب زيوس العظيم؟ أليس من حقي أن أكون سعيدًا إذ أرى نفسي وهي تسوق جواديها المُجنَّحين وتركض هناك فوق السحب والأفلاك، وفوق الغيط والمحصول والفلاحين الذين يغشَون أبي، وفوق الروماتيزم والكبد وكل ما يجعل أمي الآن تُرسِل أنينها الذي يُزعِج تأملاتي؟

انتبهت على صوت الخادمة تُنادينني، لم أكن قد سمعتها وهي تفتح الباب الخارجي، فرفعت رأسي عن أوراقي وسألتها عما تريد. قالت: إن أبي يريد أن أسرح الغيط. صرخت فيها: إنني مشغول، ورحت ألعن وأسب لأن أحدًا لا يُقدِّر أهمية إثبات خلود الروح؛ ولكنها وقفت عاجزة أمامي، واكتفت باسترعاء انتباهي إلى رأس كان يُطِل من الباب، ويبدو أن صاحبه يقف هناك في انتظاري، وبجانبه حمار يهز أذنيه ويُطِل هو أيضًا من خلال الباب.

لا أدري لماذا تذكرت «الأعور» فجأة عندما وضعت قدمي على عتبة الباب؟ لم أتذكره هو نفسه في الحقيقة؛ بل خطر على بالي ابنه الذي قال لي: إنه مات في الصباح، أو على الأصح ذلك النعش الذي أراد أن يشتريه له، بالطبع لم يكن في منظر الفلاح الذي أرسله أبي ولا في الحمار الذي كان معه ما يثير هذه الصورة في نفسي؛ فلعله إحساس مُباغِت بالندم أو الحزن اعتراني حين وضعت قدمي على أرض الشارع، وجعلني أتهم نفسي بأنني قد ظلمت ذلك الأعور، لا بل ظلمت جثة صغيرة لا ذنب لها سوى أن هذا المُتسكِّع قد تسبب يومًا في خروجها إلى الحياة، ثم في خروجها منها.

سرت إلى جانب الفلاح أُدمدِم بكلمات عن الصحة والأحوال ومحصول السنة والعيشة في مصر، وغيرها مما لا يمنع الإنسان من التفكير في الخلود، كانت إحدى محاورات أفلاطون في يدي، ولم أشأ أن أركب الحمار الذي بدا لي مسكينًا وهزيلًا إلى حد مُخيف، وقضيت ساعات في الحقل، قضيتها بجسدي وحده، لا بروحي التي كانت تنطلق مرة بعربتها المُجنَّحة في موكب الآلهة، وترقد أخرى عند جثة طفل مُمدَّد على فراش قذر في بيت حقير أمام أب كريه وأم لا أعلم عنها شيئًا! لا أدري الآن كيف استطعت أن أتخلص بسرعة من أبي والفلاحين والمحصول، وأعود وحدي على الطريق المُوصِّل إلى عزبة الغجر؟ كان الإحساس الحزين قد انعقد كالسحابة الكثيفة في نفسي؛ حتى أصبح نوعًا من الشعور بالإثم يزيدني مع كل خطوة رغبة في التكفير عنه بأي ثمن، وكيف لا يُعذِّبني هذا الشعور وأنا الآن أجوس خلال طريق قذر بين بيوت قذرة، وأحاول أن أتصور بين الروح الصغيرة التي غادرت الجسد الصغير وراحت تُرفرِف بجناحيها الصغيرين؟ ها أنا ذا أقترب من العزبة المجهولة، وأسأل أناسًا مجهولين عن بيت مجهول يضم جسدًا مجهولًا!

اقتربت من العزبة التي تبدو من بعيد ككومات من القمامة رُصَّت بعضها بجانب بعض، وتزكمني رائحة العفن والمرض والجوع والهوان، أسأل العابرين فيبتسمون في تعجُّب وإشفاق، وتغوص قدمي في الوحل والعفونة وحفر الماء الآسنة وبقايا الصغار والكبار، وتغوص عيني في البيوت أو ما يمكن تسميته البيوت؛ أبواب مفتوحة كأفواه كهوف، أو وحوش منقرضة تُفضي إلى ظلام في الداخل لا يظهر منه إلا أشباح آدميين، أمهات وآباء في خِرَق قذرة مُمدَّدين كالموتى في انتظار الأكفان واللحود، وأطفال تجري أو تصرخ أو تلعب في التراب والطين أو تأكل لقمًا غطتها أسراب من الذباب، والنساء والشيوخ والرجال تداخلت أجسادهم وأطرافهم، واختلطت وجوههم حتى بدت وجهًا واحدًا يصرخ بالمرض والذل، تحاول بالأصوات العالية أو الضحكات المغتصبة أو الكلمات البذيئة؛ أن تذود عن نفسها سأم الفقر والموت بالاحتناق. وأنا أسأل ولا أكف عن السؤال عن بيت إبراهيم الأعور، وكلما وجدت أحدًا لا يعرفه سألت عن مأتم صبي أو طفل صغير مات في الصباح، الجميع يُشفِقون عليَّ ويبتسمون في وقت واحد! أيتها الجثث الحية، هل تعرفين شيئًا عن خلود الروح؟ أيتها الحفر الطينية التي لم يدخلها كتاب تُشرِق عليك الشمس كل يوم؛ لكن لا يدخلها النور، تهب عليك نسمات المساء؛ ولكن لا تعرفين الراحة، تُطِل عليك النجوم؛ ولكن لا يُبدِّد ظلامَك الحجري شعاع نجمة ولا قمر ولا مصباح. وأنت يا طفلي المسكين الذي ظلمته في أول النهار، هل تعلم أنني أجوس في مملكتي السفلى عالَمك الذي نسيه التاريخ، وفي يدي كتاب يطوي كل البراهين التي تحبها عن خلود الروح؟ أيتها الروح الصغيرة التي تركت هذا العالم منذ ساعات، أين أنت الآن؟ وإلى أين تُرفرِفين؟ هل ستنضمين بعربتك الصغيرة إلى موكب الأرواح وتركضين بجواديك الصغيرين المُجنَّحين إلى جانب الشعراء والأولياء والقديسين؟ أو يا تُرى ستنْزوِين هناك أيضًا في عزبة حقيرة، وحارة حقيرة، وبيت حقير، يملؤه الذباب والعفن والفقر والخوف في كل لحظة من الجوع والفضيحة؟

هل ستنْسَين الأب المُتسكِّع والأم المريضة، ورفاق اللعب المَنسيِّين من الأرض والسماء، واللقمة القذرة بلا غموس والحجرة المظلمة التي علمت جسدك طعم القبر؟

أيتها الروح المسكينة، يقولون: الخلود هو الانتصار على الموت في أثناء الحياة وبعد الحياة؛ لكن الموت انتصر عليك والبؤس قهرك وانتقم منك، من يجرؤ أيتها المسكينة الصغيرة مع كل هذا البؤس أن يفكر في خلود البؤس نفسه؟

أيتها المحاورات الغادرة في يدي، يا براهين الخلود الكئيبة، يا براهين الخلود المُستحيلة، أنت أيتها الكتب الذليلة جميعًا، ماذا بوسعك أن تفعليه أمام هذا البؤس كله، كل هذا البؤس الذي يصدم عيني، ويزكم أنفي، ويُخجِل جسدي، ويُذِل روحي؟

ها أنا ذا أقترب من بيت الأعور، إنه في نهاية هذه الحارة، أول بيت على يمين كما أشار لي الحمال العجوز الذي سألته الآن، أيكون من حظي أن أجدك يا طفلي المسكين حيًّا لا تزال، أم مُسجًّى على الفراش القذر أو على الأرض الباردة؟ وماذا لو وجدت النفَس يتردد في صدرك وعينيك تُطِلان عليَّ؟ ماذا أفعل؟ سأتقدم منك يا طفلي الحزين، سأتولى عنك الصراع مع الملاك، سأقول لك انهض، انهض يا لعازر الصغير، لست أنا السيد ولا أستحق أن ألثم أظفار قدميه؛ لكنني سأقول لك: أنت حبيبي الذي نام وأنا جئت لأُوقِظك، سأطرد أباك المُتسكِّع وأمك الوقحة، سأسوق عربتك المُجنَّحة إلى بلد أخرى يُضيئها الحب والنور والحياة، سأخر راكعًا عند نعشك، وأغسل قدميك بدموعي وأقول لك: انهض وهلم خارجًا من هذا البيت! انهض يا أمل بلدك يا فارس أهلك! انهض انهض هلم خارجًا من هذا العالم القذر، هذه البلدة القذرة، هذه الحارة القذرة، هذا الجحر القذر الملعون، ها هو ذا بيتك يقترب؛ فهل يا تُرى ستسمع صوتي الباكي؟ هل ستنهض من نعشك الصغير، أو أن أباك لم يشتر نعشك، أو لم يجد المال الذي يكفي ليشتريه؟

لم أجد ضرورة لطرق الباب؛ فقد كان مفتوحًا، يُطِل على ممر طويل يكفي الضوء القليل الذي يتسرب إليه من الشارع ليكشف عن قبحه ويبين للعين المُدقِّقة عن بعض الأجساد المُمدَّدة فيه. تصنَّتُّ قليلًا قبل أن أُصفِّق بيدي؛ فلم يكن هناك أثر للصوات، ولا حتى لبكاء صامت، أو دمدمة بآيات من القرآن! وقبل أن أُصفِّق بيدي أو أُنادي سمعت خلف ظهري صوتًا عاليًا يقول: ضيوف يا أولاد، كلم سعادة البيه يا ابراهيم. كان هو الحمال العجوز يلهث من الجري، وقد سبق خطواتي الحريصة المُترقِّبة، وجاء يُعلِن الخبر لسكان البيت.

وما هي إلا لحظة حتى رأيتني وجهًا لوجه أمام إبراهيم، كانت قصبة الجوزة في فمه، والدخان الأسود يخرج من أنفه، ويحجب عني وجهه اللعين!

– سعادة البيه؟ خطوة عزيزة والله.

قلت باشمئزاز: جئت أقول البقية في حياتك.

ناول الجوزة يدًا لم أتبينها في ظلام الجحر الملعون، وأقبل عليَّ يبتسم ابتسامته التي تُشبِه حشرجة ميت: تفضل يا بيه، تفضل، هاتي الحصيرة يا فاطمة.

قلت مُحاوِلًا أن أُحافظ على اتزاني وأن أشكره في الوقت نفسه: جئت أعزيكم. هل كفت الفلوس؟

رفع يديه إلى السماء في حركة أثارت سخطي، ومد ذراعه يبحث عن يدى ليقبلها، فسحبتها متضايقًا وأنا أقول: أين النعش؟

قال مُتعجِّبًا (وظهرت امرأة طويلة نحيلة وراء ظهره لاحظتُ شعرها الأشعث الذي تُحاول أن تُغطيه بشال قذر): نعش؟ الله يعمر بيتك يا بيه، تفضل نعمل شاي.

زاد غصبي لبروده ووقاحته، وحدثتني نفسي أن أصفعه على وجهه: أنا جئت للمأتم لا لشرب الشاي!

تدخلت المرأة الطويلة الشاحبة التي ظهرت على عتبة الباب، وقالت في صوت واحد مع الحمال العجوز: مأتم؟ مأتم إيه لا سمح الله يا ابراهيم!

عرفت الآن أنني وقعت في فخ حقير، وتبين لي بما لا يقبل الشك أن هذا الأعور قد كذب عليَّ مرة أخرى.

رفعت يدي التي كانت لا تزال تقبض على محاورة أفلاطون قائلًا في صوت كالرعد: كذبت عليَّ يا أعور؟ هكذا تسرق الناس يا كلب؟

رفع صوته الأجش وهو يعوي ككلب مجروح، وجثا يُقبِّل ركبتي وقدمي، فزادني هذا سخطًا على بشاعة موقفي ومهانته.

صحت: سأبلغ عنك، الليلة تبيت في السجن.

عاد يعوي: في عرضك يا بيه، أنا غلبان والله، كلنا غلابة.

صرخت في وجهه: كذاب، كذاب، قل هذا في المركز.

واستدرت غاضبًا بعد أن خلصت قدمي ويدي منه.

كان صوته الغليظ ما يزال يتبعني وهو يقول: كلنا على باب الله يا بيه، وشرف سعادتك لو قلنا الحق نجوع، يعني يرضيك نكذب ولا نجوع؟

(١٩٦٨م)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤