الفصل الثامن عشر

كانت الحياة الجديدة هي أصلح حياة لحسن هنداوي. وكأنما تم كل هذا الذي تم ليصبح حسن هنداوي في الذؤابة العليا من القمة، والحقيقة أنه كان يعرف طريقه كل المعرفة، فإذا هو حوت شرس، يحرص كل الحرص أن يمزِّق بأسنانه الحادة المتراكبة كلَّ مَن كان ذا فضل عليه في ماضيه. استطاع أن يزج بفايز إلى السجن أو أوحى إلى مستمعيه أن عدلي لا حديث له إلا الهجوم والتنقص، واعتُقل عدلي ولكنه لم يبت ليلته في المعتقل، فقد أدركه عمه مرة أخرى وخرج بعد عشر ساعات من اعتقاله، فصداقات حفني لم تكن مقصورة على فئة بعينها إنما هي تنداح وتتسع فتشمل كل ذي سلطان في أي وقت. وكأنما كانت شقة حفني مظهرًا لا يكتمل سلطانُ ذي السلطانِ إلا به، فلم يكن عجيبًا أن يكون محاطًا بسياج من الأمان يستطيع أن يصد عنه وعن كلِّ مَن يهتم به أي عادية.

ولكن العجيب أو ربما لم يكن عجيبًا، أن حسن لم يحاول يومًا أن يمد أباه بشيء يعينه على الحياة مع أن المال كان يجري بين يديه سيلًا لم يطُف يومًا بأحلامه، وبعد أن كان يعيش مع الأميرالاي في بيته ابتنى هو لنفسه فيلا خاصة، وطبعًا أقامت فيها زوجته وحدها دون أهلها ودون ابنها، وإنما أقامت معهما ابنته التي أسماها جميلة.

أما حامد فقد فشا هو الآخر واعتلى مكانًا سامقًا، ربما لا يطاول مكانة حسن إلا أنه ليس بعيدًا عنه كل البعد. وقد كان حامد بحاسته وبقدرته الفائقة على النفاق حريصًا أن يجعل حسن راضيًا عنه دائمًا كل الرضا.

•••

كان عدلي جالسًا في سميراميس في انتظار صديقه الصحفي فخري عبد النبي الذي كان يعمل تحت رئاسة حسن. وجاء فخري وهو ملتاع خائف لا يطيق أن يخفي من لوعته أو خوفه شيئًا، ولم ينتظر عدلي أن يسأله، بل عاجله.

– مصيبة سوداء.

– ماذا! قل.

– قرأت اليوم نعيًا لعم حسن هنداوي.

– نعم قرأته.

– أنت أيضًا؟

– وما العجيب في هذا؟

– يبدو أن أحدًا لم يقرأه إلا أنا وأنت.

– كيف؟

– كان من الطبيعي أن أذهب إلى العزاء، كلمت زملائي فإذا هم جميعًا يرفضون الذهاب، منهم مَن يدعي المرض، ومنهم مَن يدعي الشجاعة والعزوف عن النفاق. فقلت أذهب وحدي والأمر الله. البلدة ليست بعيدة عن القاهرة، استأجرت سيارة أجرة وذهبت، ويا ليتني ما ذهبت!

وقال عدلي وطيف ابتسامة يتماوج على فمه: فعلًا يا ليتك ما ذهبت.

– أنت أيضًا تعرف؟

– لو كنت سألتني لأخبرتك.

– أأطلب منك أن تعزيه وأنا أعرف أنه حاول أن يعتقلك؟

– كنت سأرفض الذهاب، ولكن ليس من أجل هذا السبب.

– فلماذا؟

– أكمل حكايتك.

– ذهبت فوجدت العزاء بلا سرادق ولا حتى كراسي، وإنما جلسنا على الأرض وتحتنا شريط من الحصير، وكان أبو حسن يستقبل العزاء وعليه معطف حائل اللون يملأ الرتق جوانبه جميعًا.

– هذا هو السبب الذي رفض زملاؤك الذهاب من أجله.

– أكلهم يعرفون؟ أليس هناك خائب غيري؟

– وفيمَ خوفك؟

– أن يعرف أنني عزيته.

وضحك عدلي وقهقه ثم انخرط في البكاء في حزن شديد، وأخذ فخري وكأنما خشي أن يكون صاحبه قد أصابه مسٌّ من الجنون.

– الله! عدلي، عدلي ماذا بك؟

وتماسك عدلي وصمت وناوله صديقه كوب ماء وشرب ثم تكلم وكأنما ينعى نفسه.

– أهذه هي مصر؟ يخاف فيه الشخص أن يعرف رئيسه أنه عزاه وعرف أنه سافل مع أبيه وضيع ساقط المروءة. كان من الطبيعي أن يخاف الشخص إذا لم يقم بواجب العزاء، أما أن تخاف — وأنت محق — لأنك قمت بالواجب فواضَيعة مصر! ولا يخاف الشخص الذي لم يقم بواجبه أو ببعض واجبه نحو أبيه أصل وجوده وصاحب اسمه، وتكون أنت يا مَن قمت بواجبك مرءوسًا ويكون الآخر رئيسًا! فلأي شيء صُنع البكاء إذا لم يكن صُنع لهذا الذي ترويه، وهو أهون ما نراه؟

كيف أعيش في مصر؟ لقد جربت أن أنافق وفشلت، لا شجاعة مني، ولكن طبيعة تكويني ترفض أن تتيح لي هذه الميزة التي تتمتع بها الكثرة ممن أعرفهم.

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قمت فيه بمراجعة دفاتر رجل الأعمال الشهير مرجان علوان الذي نجا من التأميم لسببٍ لا يعرفه أحد. ربما كان له الآخر عم كعمي. المهم راجعت دفاتره فوجدت أنه لص من أكبر اللصوص الذين نسمع عنهم، ووقفت أمام دفاتره حائرًا — مكتب الدكتور فكري ليس فيه مثل هذا، وإن كان فيه ما عملت معه، أو لما قبِل هو أن أعمل معه، ولكنني أيضًا لا أستطيع أن أرفض الزبون برأيي المفرد، فهذا قرار يجب أن يتخذه صاحب المكتب نفسه الموجود الآن بالكويت.

كان عليَّ أن ألقى مرجان، وجاء الرجل في الموعد المحدد.

– أنت يا عدلي بك رجل سمعتك مثل الجنيه الذهب.

– ألف شكر.

– وليس هذا غريبًا على مَن له أصلك، واسم أبيك نار على علم.

– ألف شكر يا مرجان بك.

– وأنا والحمد لله رجل لا أقبل مليمًا حرامًا. وأنت اطلعت على دفاتري، ومثلك لا تخفى عليه خافيه ولو كان فيها، لا قدر الله، شيء لا ترضى عنه …

ومضى الرجل يتحدث عن الشرف الذي يتمتع به وعفة اليد، وكيف أنه لا يأكل على الحكومة مليمًا واحدًا، وثبت أنه يملك مع ذمة اللص جرأته على الحق. وعزمت في نفسي أن أؤيد كل كلمة يقولها عن نفسه، وبدأت أرتِّب الحديث. استغفر الله يا مرجان بك، أنت رجل فوق كل الشبهات ولا يجرؤ أحد أن يشك في ذمتك … إلى آخر هذا الحديث الذي تواضع المنافقون على قوله لكل اللصوص، فأنا أعرفه ولست أغباه. كان المهم فقط أن أقوله؛ فأنا لم أقله قطُّ لمن لا يستحقه. ظللت أتمرن على الكلام طوال الفترة التي يتكلم فيها مرجان عن ضميره اليقظ ويده الشريفة وذمته النقية. ولم يكن حديثه قصيرًا، فالفترة التي أُتيحت لي للتمرين لم تكن قصيرة حتى إذا سكت مرجان وجدتني أقول في عفوية وانطلاق دون أي ريث من تفكير: الحقيقة يا مرجان بك إنك أكبر لص التقيت به في حياتي.

وسكت الرجل لحظة ثم انفجر ضاحكًا بأعلى صوت له، ووجدتني أقول: ولكنني لا أمزح يا مرجان بك.

وازداد ضحك الرجل، حتى إذا هدأ به الضحك قال: العجيبة أن هذه هي الحقيقة، ولكنني أسمعها لأول مرة، وقد كنت أفكر ماذا أنا صانع إذا جابهني بها أحد.

ولم أجد شيئًا أقوله، وكان الرجل غاية في الذكاء، فقد سرعان ما استرد وجهه ملامح الجد.

– إن الحكومة التي تسرق الأفراد لا بد أن يسرقها الأفراد.

– الحكومة شخصية معنوية تمثِّل الشعب أجمع، وأموالها أموال عامة لا يجوز لأحد أن يسرقها، والذين تتكلم عنهم يمثلون أنفسهم ولا يمثلون مصر. وعلينا نحن أن نؤدي واجبنا نحو بلدنا حتى لو كان هناك مَن لا يؤدي هذا الواجب.

– إذن فأنت ترفض الدفاتر.

– أنا شخصيًّا لن أكون مسئولًا عنها، أما رفْضها أو قبولها فمن حق صاحب المكتب الدكتور فكري وحده.

– أنا أعرف مكانتك عنده، وما دمت أنت رفضتها فهو أيضًا سيرفضها، فدعني آخذها ويا دار ما دخلك شر.

– هذا إليك.

– أتصدقني إن قلت لك شيئًا؟

– هذا يتوقف على ما ستقوله.

– أنا معجب بك غاية الإعجاب.

– ألف شكر.

– ولكني لا أتمنى أن تعمل معي ولا أن تعمل لي.

– الآن صدقتك.

ولم أعجب من الدكتور فكري حين رد على رسالتي التي قصصت له فيها ما كان من أمر مرجان، ووجدته سعيدًا بموقفي كل السعادة، ولكن الدكتور فكري في الكويت. فكيف أعيش أنا في مصر. ومع من أستطيع أن أعمل؟ بل مع من أتكلم؟ كلام الناس في مصر همس، بل لقد انقطع الهمس خشيةَ أن تشي النفس بالنفس. مع من أعيش؟ مع زوجتي، وابني وأمي، ولكن الحياة لا تستقيم إلا مع الحياة. إذا لم أُرَ إلى الناس وأجلس إليهم وأعيش حياتي كما ينبغي لإنسان في مجتمع أن يعيش فما الحياة، هذه مصري أنا وهي مصر كل إنسان فيها، فكيف تنحسر ملكيتها وتصبح مقصورة على عمي حفني ومن يذهب إلى شقته في خوافي الظلام الذي لا يخفي شيئًا؟

كيف أعيش في مصر؟ وإذا أنا استطعت فما مصير حلمي؟ إنه الآن في العاشرة من عمره وستلقفه في غد هذه الحياة، فأي الطريقين سيسير فيه؟ وأي النجدين سيهتدي إليه؟ أهو سائر في طريقي وطريق جده أم هو آخذ سمته إلى طريق عمي؟ إن الدماء التي في عروق حفني هي الدماء التي في عروقي، وهي نفسها التي في عروق ابني حلمي، ففي نفسه فجورها وتقواها.

إن البيت الذي نشَّأ أبي ونشَّأني هو البيت الذي نشَّأ حفني وهو نفسه الذي سيُنشَّأ في أجوائه وتعاليمه حلمي الحفيد فما مصيره؟

وإذا كان عمي حفني قد اختار طريقه والحياة في مصر فيها الجانبان، فما مصير حلمي وهو لن يجد إلا جانبًا واحدًا، هو جانب عمي حفني ورواد لياليه؟

•••

جاءني عدلي وعرض عليَّ حيرته تلك ووجد عندي الصمت المطبق؛ فقوله كله حق. والله وحده يعلم مصائر الناس، ولا أستطيع أنا ولا أعتقد أن غيري يستطيع أن يطمئنه. ولم أجد شيئًا أجيب به حيرته إلا أن أسأله: ماذا تتوقع؟

– في أي شأن؟

– في شأن مصر.

وصمت قليلًا وقال: لم يبقَ إلا الكارثة.

وذُهلت وأكمل: لكل أمر مستقر، ولكل فورة نهاية. وما دامت الأمور قد بلغت هذا المدى فلا بد أن تنكشف عن قمة الهاوية إذا جاز هذا التعبير.

– أهذا ما تتوقعه؟

– لا بد للسائر أن يقف، ولا بد للصاعد أن يبلغ القمة أو يهوي، ونحن صاعدون قُدُمًا على جبل من أوهام وفساد، وليس للفساد قمة إلا الهاوية.

وما لبثت أن جاءت ٦٧ تحمل في طواياها كلَّ ما تنبأ به عدلي. وكان ابنه حلمي قد تخطى الحلقة الأولى من حياته. ولكن عدلي لقيني والدموع في عينيه وهو يقول: إنها ليست على مصر الحاضر وحدها، وإنما على مصر الغد أيضًا.

– أعوذ بالله.

– لو رأيت حلمي ابني وكيف أُصيب في سنه هذه الباكرة بانهيار عصبي!

– كل الشباب كذلك.

– الشباب نعم لأنهم شهدوا غير ما كانوا يسمعون، ورأوا عكس كل ما كانوا يتوقعون. أما حلمي فهو لم يصبح شابًّا بعد، فما مصير جيله إذا أشرقت حياتهم على الحروب وافتتحوا مستقبلهم بالخراب.

•••

لست أدري أي الأسباب كان هو الأقوى عند عدلي حين قرر أن يسافر إلى الكويت.

فقد حدث أن أُصيب الدكتور فكري بأزمة قلبية في الكويت، وحين شُفي منها قرَّر أن يعود إلى مصر وعرض على عدلي أن يقوم هو بأعمال مكتب الكويت.

– يا بني يا عدلي أنا ليس لي أولاد، ومكتب الكويت يدر مكاسب طائلة وحرام أن أقفله دون أن تستفيد منه، فلماذا لا تذهب تقوم بشأنه ويكون لك نصف الأرباح والنصف لي طول حياتي حتى إذا اختارني الله إلى جواره تكون أنت قد تعرفت على الناس هناك، وبارك الله لك في المكتب جميعه. وفي مكتب مصر أيضًا.

وقبِل عدلي. هل قبِل من أجل المال؟ لقد كان عنده ما يكيفه. أكان يريد أن يهرب من مصر، أم يريد أن يهرب من نفسه في مصر؟ ولكنه سيلقى مصر ونفسه في الكويت أو في أي مكان. ولو كان استشارني ما نصحت له بالذهاب، ولكن الإنسان لا يستشير إلا إذا كان مترددًا، فهو إذن لم يتردد وغادر مصر إلى الكويت وتركني أنا أقول لعله كان يريد أن يعمل أي شيء غير السكون والصمت والجمود. فليس هناك سبب واحد يجعله يترك مصر وزوجته وابنه وأمه إلا أنه كان يريد أن يصنع أي شيء، أي شيء حتى ولو كان هذا الشيء ترْك نفسه إلى ما لا يدري. لعله كان يريد أن يبحث عن نفسٍ أخرى لا تضيِّق عليه الخناق ولا تلهبه بعذاب القلق.

ربما هرب من الترجح بين الأمل واليأس إلى إحدى الراحتين. مسكين عدلي فما كان يعرف إلى الهدوء سبيلًا. ولو كان على غير ما هو عليه لكان الهدوء مِلك يمينه ورهن إشارته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤