باطن الأرض

فجوة عملاقة تمتد عبر الكوكب من قطبه الشمالي إلى الجنوبي

كيف يتناولُ كلالتوس نظريةَ البحرِ القطبي المفتوح؟
ما يقوله عن تيار الخليج.
حياة أحد المستكشفين من مدينة بروكلين.

***

كان عجوزًا ذا لحيةٍ شعثاء من الشَّعر الرمادي الأشيب، وعينين ترمُقان ما حولهما بنظراتٍ سريعةٍ خاطفةٍ، وشفتين شاحبتين ترتعشان بابتساماتٍ واهنةٍ مرتبِكةٍ، ويَدَيْنِ تفرُك إحداهما الأخرى بقلقٍ محمومٍ أو تتلمَّسان طريقهما لا إراديًّا بحثًا عن إحدى الأدوات المفقودة. كانت ثيابه أسمالًا باليةً خشِنةً، وأحيانًا ما كان يرتعش حينما تهُزُّ هَبَّةٌ شرِسةٌ من الرياح المتجمِّدة النوافذَ المتداعيةَ القذرةَ، بينما يجلس على أحد الصناديق المنخفضة المقلوبة أمام مَوْقِد شبه دافئ. خلفه كانت منضدة نجَّارٍ لها رفٌّ موضوعٌ عليه مجموعةٌ من أدوات النِّجارة المحفوظة بعناية: مِخْرَطة ومجموعة صغيرة من السلالم المكتبية النقَّالة المُنَفَّذة تنفيذًا غاية في الروعة. وعلى الأرض كومةٌ كبيرةٌ من رقائق خشب الجوز الأسود والغبار الناتج عن استخدام مِخْرَطة الخشب، وكان الهواء مشبعًا برائحة الخشب النظيف الجديد. كانت الغرفة التي يجلس فيها تقع تحت السقفِ مباشرةً وتصعد إليها عبر مجموعتين من درجات السلم المتآكلة الشديدة الانحدار والتداعي داخل مبنًى يقع على بُعد ثلاثة مربعاتٍ سكنية من أقصى جنوب القضبان الصغيرة التي تسير عليها صناديق ساراتوجا، المجهزة كالعربات التي يجرها الخيول، من عَبَّارة «فولتون» إلى عَبَّارة «هاملتون».

«لا تذكر اسمي على الإطلاق يا سيدي.» هكذا قال لمراسل صحيفة «صن» الذي جلس أمامه على صندوق متقلقل، «ولا تُعطِهم عنوانَ المكان بالضبط، أرجوك؛ فهناك الكثير من الأشخاص في الجوار يعرفونني وسيضايقونني، وربما يَسخَرُون مني كذلك. يمكنك أن تدعوني «جون كلالتوس»، هذا هو الاسم الذي كنتُ أُعرَفُ به هناك في «تشارلستون» وفي الجنوب كله، وكان يفي بالغرض حينما كنت أعمل هناك؛ لذا يمكنك أن تذكره في هذه المقالة.»

«لديك فكرةٌ علميةٌ عظيمةٌ، فضلًا عن كونك مؤسِّسَ نظرياتٍ علمية جديدة وجريئة، فلماذا إذًا تتوارى بتواضعٍ جمٍّ عن فرصةِ نيلِ التقديرِ العلني والإعجابِ من الجمهور؟»

«لا أرغب في أي شكل من أشكال المجد. لقد أفصحتُ عمَّا لدي؛ لأنني شعرتُ بأن هناك مهمَّةً منوطَةً بي، وربما لم تكن تلك المعلومات لتخرج إلى النور لو لم أفعلْ ذلك، ولكنني قد انتهيتُ الآن. لا يمكنني أن أستمرَّ أكثر من ذلك؛ فأنا عجوزٌ وفقيرٌ، ولا أرغب في أن يزعجني الناسُ أو أن يسخروا مني، ربما. وكما ترى، فأخي وأقاربي وأحيانًا بعضُ الأصدقاء من البحَّارة يأتون لزيارتي؛ لذا أفضِّل أن يُنشر الحديثُ تحت اسم كلالتوس يا سيدي.»

«لَكَ ما شِئتَ، كلالتوس إذًا. ولكن فيما يخص اكتشافك، ألم تكن نظرية «سييمز» عن وجود فجوةٍ كبيرةٍ بعمق باطن الكرة الأرضية هي ما ألهمتْكَ الفكرةَ أولًا؟»

رُؤًى جديرةٌ بالذِّكر

«أوه، لا، إطلاقًا! لقد رأيتُها بالكامل في رؤيا قبل أن أسمع عن سييمز بسنوات، كان ذلك منذ أكثر من ثمانية وثلاثين عامًا مضت. كنت حينئذٍ مجرَّد فتًى صغيرٍ في الثانية عشرة من عمري، وكنت مرتعبًا حينما رأيتها؛ كانت رهيبة بالنسبة لي. أعتقد حقًّا، مما رأيتُ، أن الأرض بأكملها كانت داخل شكلٍ من أشكال الضباب أو الغيوم في يومٍ من الأيام. شعرتُ بأنني يجب أن أذهب إلى البحر، وأحاول أن أكتشفَ شيئًا عن هذا الأمر قدْر ما أستطيع كرجلٍ فقير، وهكذا صرتُ بحَّارًا وسافرتُ سنواتٍ، كنتُ أفكِّر دائمًا في الأمر، وأتساءل متى سيتسنَّى لي أن أصيرَ واحدًا من هؤلاء الذين ربما حصلوا على فرصةِ اكتشافِ شيءٍ ما. قبل نحو عامين، ذهبتُ إلى الجنوب، وحاولتُ أن أستقرَّ هناك، ثم رأيتُ الرؤيا مرةً أخرى، ولكنها لم تكن مروِّعةً للغاية كما كانت من قبلُ، وتمكَّنتُ من فهْمها على نحوٍ أفضل. كانت الرؤيا عبارة عن كرة أرضية أو ما شابه، عمقُها حوالي قدمَيْن، وبها فجوة كبيرة تساوي ثلث قطرها ضخامةً. قصصتُ الرؤيا على الناس هناك وقالوا إنني مجنون، قصصتها على رجلَيْن كنت أعمل لديهما — كانا أخوَيْن فرنسيَّيْن — كنت قد صنعتُ لهما طاولةً قابلةً للمد، ورَفَعتُ سقفَ بيتهِما، فقالا: «كيف يُعقل أن تقوم بعملنا بهذه الكفاءةِ على الرغم من أنك لستَ بكامل عقلك؟» فقررتُ أن أمتنع عن قول أي شيء عن الأمر. إليك نموذجًا يشبه ما رأيتُه في الرؤيا.»

كان نموذجًا عبارة عن كرة من خشب الجوز الأسود يبلغ قطرها أربع بوصات ونصفًا، تمتدُّ عبْر عمقها فجوة مستديرة بدا أن قطرها يساوي ثلث قطر الكرة. رُسمتْ حول السطح الخارجي للكرة خطوطٌ باستخدام مِخْرَطة الخشب، وكانت الفراغات الموجودة بينها تبلغ عشْرَ درجاتٍ لكلٍّ منها. وُضِعَت علامةٌ بالطباشير على أحد الجوانب كي تمثِّل مدينة نيويورك. ارتفعت هذه الكرة بين طرفي سلكٍ قويٍّ على شكل حرف «يو» مقلوب، وكانت ترتكز على لوحٍ صغير ليسمح بأن تميل حتى تتغيَّر الزاوية التي تستقر عليها الكرة. ثُبِّتَ طرفا السلك بالقرب من حواف نهايتي الفجوة على الجانبين المتقابلين للكرة الصغيرة حتى يسمحا لها بالدوران؛ ومِن ثَّمَ ترتفع وتنخفض نهايتا الفجوة بالتناوب، ارتكازًا على الأقطاب الكاذبة. وبينما ينتصب هذا النموذج على حاملٍ صغير، حيثما وضعه بحرصٍ شديد، انسل ضوء الشمس عبْر الفجوة، وبينما كان يديرها، ضاقت وتقلَّصت المنطقة المغطاة بأشعة الشمس المباشرة داخل سطح الكرة تدريجيًّا حتى تضاءلت في النهاية بحيث لم يكن ممكنًا أن تمتد إلى الداخل إلا على نحو ضئيل جدًّا؛ وبعد ذلك، بينما كان يواصل إدارتها، اتسعت رقعة الضوءِ مرةً أخرى، وامتدت حتى أضاءتها الشمس بالكامل.

الغاية من النموذج

أردف قائلًا: «يمثِّل ذلك بالنسبة إلى الناس الموجودين هناك داخل باطن الأرض دورةَ النهار والليل. وبالنسبة إليَّ، فأنا مقتنعٌ تمامًا بأن الدوران يحدث عند حوالي عشْر درجاتٍ وعلى بُعد حوالي عشْر درجاتٍ من حافته الخارجية؛ هؤلاء الذين يذهبون إلى هناك سيصلون إلى الجزء المسطَّح بالداخل. وحينما يصلون إلى الدرجة التسعين سيكون ذلك هو القطب الذي كانوا دائمًا يحاولون الوصول إليه. سيكونون قد أصبحوا بالداخل. ثمانون درجة هي أبعدُ ما أمكنهم الوصول إليه حتى الآن، على الأقل هذا هو أبعدُ مكانٍ بلغَه مَن تمكَّنوا من العودة لِيخبِروا عنه. «نقطة بيري» التي تقع شمالًا في هذه القارة هي أبعدُ أرض نجحوا في بلوغها، و«سبيتسبيرجن» تقع على البعد نفسه تقريبًا، ولكن في الجهة المقابلة. أما أبعد مكان بلغوه جنوبًا فقد كان «جزيرة فيكتوريا»، في مقابلة «كيب هورن»، ربما على بُعد ألف ميل من «الكيب»، وهذا يساوي فقط حوالي ثمانين درجة. لديَّ قطعةٌ صغيرةٌ من الحجر هنا تعود إلى جزيرة فيكتوريا أعطاني إياها أحدُ البحَّارة، على أمل أنني قد أتمكَّن من اكتشاف شيءٍ عنها من شخصٍ عالم.»

نهض المستكشِف ومشى ببطء إلى نهاية غرفته، وأخذ حجرًا صغيرًا كان موضوعًا فوق أحد الرفوف، طوله حوالي ثلاث بوصات، وعرضه بوصتان، وسُمْكه ثلاثة أرباع بوصة، ناعمَ الملمس كأنه حجر جيري، ذا لون بني فاتح، ويبدو كأنه قطعة من الخشب المتحجر.

«لا أعلم ماهيته. لا يوجد فيه شيءٌ يثير الفضول، رأيت قِطعًا من أحجار «سنترال بارك» كانت تشبهه كثيرًا، ولكن ليس إلى حد التماثل. حاولت أن أصنع منه حجرَ شحذٍ، ولكنه كان ناعمًا للغاية لدرجةٍ لا تجعله يحتمل عملية الصقل.»

«هل وصلتَ قطُّ طوال السنوات الطويلة التي قضيتها في البحار بعيدًا بما يكفي نحو القطبَيْن لتعثر على أي دليل قد يعضِّد نظرياتك؟»

«لم أفعل ذلك بنفسي، ولكنني لاحظت أشياءَ تؤكِّد نظريتي. الآن، يوجد «تيار الخليج» على سبيل المثال، ويقولون إنه يوجد تيارٌ يتدفَّق من «خليج المكسيك» عبورًا بأوروبا؛ ولكنني رأيت ما يكفي شخصيًّا في المحيط الهندي الذي عبرْتُه مراتٍ عديدةً، وحول كيب هورن حتى صرتُ مقتنعًا بأن التيار القطبي وتأثير الشمس على الجزء الضيق من الحافة هناك هو ما يسببه. درستُ ذلك في خليج المكسيك؛ حيث يظنون أن ضغطَ تدفُّق الأنهار الكبيرة داخل الخليج هو ما يسببه. لكن إذا كان الأمر كذلك، فسيتسبَّب في ضغط هائل حيثما يندفع عبْر المكان الضيق الذي يقع بين فلوريدا وجزر الهند الغربية التي ستجعل التيار يتجه إلى الجانب الآخر من المحيط، ولكنني لم أرَ هناك أي ضغط يفوق ما رأيته في أي مكان آخَر. ليس لهذه الأنهار أي تأثير يعدو تأثير سكبِ دلوٍ من الماء في الخليج المنخفض الذي تتجمَّع فيه الأنهار؛ إن الحرارة الهائلة للشمس عند الحافة الضيقة هي ما يذيب الجليد — والتيار الذي يتدفَّق خروجًا من تلك الفجوة — وتخلق ما يسمونه «تيار الخليج» في هذا الجزء الذي قد رصدوه منه.»

ما قال بحَّارٌ إنه قد رآه

«هل سبق لك أن التقيتَ بأي بحَّارة يعلمون عن هذا الأمر أكثر مما تعرف أنت؟»

أجاب المستكشف سريعًا: «نعم»، وتوقَّف عن العبث بظفر إبهامه السميك في التجاويف الموجودة بالحجر الناعم، ورفع رأسه بابتسامة مُتحمِّسة قائلًا: «قابلت بحَّارًا في تشارلستون، كان اسمه «تولا» أو «تولاند»، وقال إنه أبحر بعيدًا بما يكفي؛ حيث رأى قوسًا كبيرًا ساطعًا ارتفع من الماء كأنه، فقاطعته قائلًا: «هذا قوسي؛ إنه حافة الفجوة المؤدية إلى باطن الأرض.» كان هناك في تشارلستون ينتظر إحدى السفن، بينما كنت أصنع أنا النماذج. كنا نلتقي كل مساء لنناقش الأمر؛ كان رجلًا واسعَ المعرفة، وكان مهتمًّا بالأمر مثلي تمامًا. رأى هذا القوس كل ليلة لمدة أسبوعين حينما كان على متن السفينة الحربية المرتزقة التي كان يبحر بها، وكل مَن كان معه رآه، ولكنهم لم يتمكنوا من معرفة ماهيته وخافوا منه بينما كانوا يستكشفون مياهًا مجهولة، وفي النهاية عادوا إلى المناطق التي يعرفونها بالمحيط وخرجوا بأسرع ما يمكنهم.» تنهَّد بينما كان يتحدث وأردف: «حسنًا، أحيانًا ما يتفاخر البحَّارة زيفًا بما قد رأوه، ربما لا يوجد شيء ذو قيمة فيما رأوه، ولكن قد يكون العكس صحيحًا أيضًا. كنت أعلم أنه موجودٌ طيلة الوقت؛ لأنني رأيته في الرؤيا ولأنه منطقي. سألته إن كان قد رأى أي شيء خلال النهار أم لا، ولكنه قال إنه لم يرَ أي شيء سوى سحاب وضباب يحيط به من كل الجوانب؛ وهذا يبدو منطقيًّا، فكما ترى، في الليل سيسطع الضوء المنعكس على القوس ويظهره جليَّا؛ ولكنه في النهار، سيكون مرتفعًا وبعيدًا للغاية بحيث لا يمكن أن يرى. كنت آمل أن يكون قد رأى لون الأرض، ولكنه لم يفعل.»

«ماذا تفترض حول طبيعة البلد هناك؟»

«أوه، لا أعلم! ولكن من المحتمل أن يكون هناك جبال وأنهار؛ أعتقد أن معظم المساحة هناك تغطيها المياه على الأرجح، ولكن ربما يكون هناك قدْر كبير من اليابسة أيضًا؛ وربما يوجد ذهب والعديد من الأشياء الأخرى المختلفة التي يندُر وجودها على سطح الأرض.»

«والناس أيضًا؟»

«لن أتعجب إطلاقًا إذا كان يوجد مَن يعيشُ هناك، أُناس دفعتهم العواصف إلى هناك ولم ينجحوا في إيجاد طريقة للعودة مرة أخرى.»

«ولكن كيف تعتقد أنهم سيتمكنون من إيجاد ما يمكِّنهم من العيش هناك؟»

«ولمَ لا يكون الوضع هناك هو الوضع نفسه بالنسبة إلى من يعيشون في الخارج؟ أليس لديهم هواء وضوء وحرارة ومواسم متغيرة ومياه وتربة تمامًا كما يوجد بالخارج؟ إنه مكان كبير هناك. الدائرة القطبية المفتوحة، وفقًا لحساباتي، يساوي محيطها تقريبًا قطرَ الأرضِ نفسه، وهو ما سيجعل ثلث الأرض مفتوحًا بالداخل. سيحصلون على الضوء والحرارة من الشمس، وربما قدر كبير من الضوء المنعكس والحرارة عبْر الطرف الجنوبي من الفجوة؛ وهذا هو المكان الذي يدخلان من خلاله.»

البشر الذين يعيشون في الداخل

«وما نوع البشر الذي تعتقد أنه يعيش هناك؟»

«أوه! لا أعلم، ربما يوجد أيرلنديون هناك، وربما يوجد هولنديون، وربما يوجد ماليزيون وأنواع أخرى من الناس، وربما يوجد هناك دنماركيون أيضًا — كانوا من البحَّارة الأذكياء الطيبين أيضًا في زمنهم، دائمًا ما يستكشفون مياهًا مجهولة، وربما يكونون انجرفوا إلى هناك ولم يتمكَّنوا من الخروج.»

«ماذا تقصد ﺑ «لم يتمكَّنوا من الخروج»؟»

«لم يتمكَّنوا من إيجاد طريقهم. لا توجد خرائط للمياه هناك، وربما لم تعمل إبرة البوصلة على النحو نفسه هناك، والمكان هناك شاسع حتى إنهم قد يستمرون في الإبحار ولا يتمكنون أبدًا من السير مباشرة أو من إيجاد طريق العودة؛ ربما تكون سفينتهم قد تحطَّمت، ولم تكن لديهم طريقة للخروج. مما لا شك فيه أنه توجد أعاصير قوية هناك، أعاصير رهيبة تأتي من تلك الفجوة بالجنوب؛ «مِنَ الْجَنُوبِ تَأْتِي الأَعْصَارُ» كما يقول الكتاب المقدس، ستجد هذا مذكورًا في «سِفرِ أيوب»، ذلك والعديد من الأشياء الأخرى الخاصة بكوكب الأرض. إنه يتحدَّث عنها كما لو كان يعلم كل شيء عنها، كان يعلم كل شيء عن الفجوة الموجودة بباطن الأرض، وبما أنه لم يكن مع «الخالق» حينما صنعها، فلا بد أنه قد رآها ليعرف كل هذا القدْر الذي يظهره عنها.»

«وعلى الرغم من ذلك …» هكذا غمغم بصوت خفيض وهو ينبش بأظافره شاردًا في قطعة من الطباشير مفتتًا إياها إلى قطع صغيرة، ويتحسَّس البقعة التي تمثل مدينة نيويورك على الكرة الخشبية — «ستجد الكثير من الأشياء التي تتحدَّث عن باطن الأرض في الكتاب المقدس إذا بحثت فيه.»

«هل سبق لك أن حاولتَ إشراك الحكومة أو المؤسسات الخاصة في التحقُّقِ من مدى صحة نظرياتك؟»

«لا، ماذا يمكنني أن أفعل؟ لم أكن دائمًا سوى رجلٍ فقيرٍ مجتهدٍ وجاهلٍ، رغم ذلك رأيتُ ما رأيتُ في رؤيا، وشعرت بأن واجبي أن أبحث الأمرَ وأُخرِجهُ إلى العلن. ولكني أعتقد أنه إذا أُرسِلَتْ سفينة بخارية ووُضعت على مسارها الصحيح انطلاقًا من مدينة نيويورك، وجُهِّزَت على النحو الذي لا بد أن تكون عليه، وزُوِّدَت بالمؤن كما ينبغي؛ فإنها ستصل إلى هناك في غضون عشرة أسابيع، وستدخل إلى باطن الأرض. لن تتوقف دفاتها عن الدوران إلا حينما تصل إلى هناك؛ لأنه يكمن وراء ذلك ما هو أكثر من الفكر البشري: إنها إرادة الله التي لا بد أن تنفذ، ومُشغِّلها لن يتمكَّن من إيقاف دفاتها إذا كانت تسير على الطريق الصحيح. إلا أنها لا بد أن تُغسَل جيدًا للحفاظ عليها رَطْبةً طوال الوقت؛ لأنه عند الحافة هناك، بالجزء الضيق، تساوي درجة السخونة خمسة أضعاف درجة السخونة عند خط الاستواء. وإذا عينوا بعثة للذهاب إلى هناك، فلا بد أن تكون مسلحة جيدًا أيضًا، فإذا وجدوا الأيرلنديين والدنماركيين هناك فستندلع معركة لأنهم أناسٌ عدائيون؛ أجل، والماليزيون أيضًا. إنهم يجيدون الإبحار بالسفن أيضًا، كما أنهم رجالٌ مولَعون بالحرب وسيُسببون لهم بعض المتاعب.

أجل، لا بد أن تكون البعثة مسلحةً جيدًا.»

عن الضوء

«هل يرى مَن يعيشون بالفجوة القمر والنجوم؟»

«جزئيًّا كما أتصور. يحصلون على رؤية جيدة للقمر حوالي تسعة أيام في الشهر، ويمكنهم أن يروا الأجزاء التي تظهر من السماء عند أطراف الفجوة. هذا كل شيء؛ ولكن الليل هناك لن يكون ليلًا حقيقيًّا أبدًا، حتى حينما تغرب الشمس عن أحد جانبي الفجوة، فسينعكس ضوءُها من جدران الجانب الآخر. كما ترى، تدور الأرض حول الشمس طوال الوقت، لا يعني هذا أنني أعتقد أنها تدور حولها بالطريقة نفسها التي يعتقدها الفلكيون، بل أعتقد أنها تدور على مدارين؛ أحدهما عالٍ والآخر منخفض؛ أي إن جانبًا واحدًا من المدار يرتفع في اتجاه أسفل الشمس، ودائمًا ما تكون على نفس المسافة منها. لا بد لأي كرة تتحرَّك حول الشمس أن يكون لها نفس مقدار العزم والتوازن طوال الوقت حتى تحافظ على الوضع الذي تكون فيه في مواجهتها. تقول نظرية الفلكيِّين إن الأرض تقطع عدة ملايين من الأميال في أوقات معينة من السنة ثم تعود مرة أخرى؛ والآن طبقًا لذلك، لن يكون هناك أي نظام أو اطِّراد، وهو ما يتنافى مع المنطق؛ فإذا كان يمكن للأرض أن تتحرَّك وتدور في كل مكان بحُرية، فسيتسبب ذلك في حالة من الهرج والمرج المستمر الذي لا يتوقَّف. ويوجد شيء آخَر يُثبِت أن العالم مجوَّفٌ من الداخل: لا يمكنك أن تجعل كرة مُصْمَتة تدور من تلقاء نفسها في ضوء الشمس، ولكنها ستدور إذا كانت فارغة. فإذا ذهبتَ وصنعتَ كرةً من الحرير الممتاز وملأتها بالغاز، أو صنعتَ أخرى من الفلِّين ومجوفة من الداخل ووضعتها داخل وعاء زجاجي في الشمس، وفرَّغتَ منه الهواء ورفعت درجة حرارته إلى درجة معينة — حوالي ١٨٠، أو ٢٠٠ درجة ربما، حسبما أعتقد — فإنها ستدور في وجود الشمس، ولكن المصمتة لن تدور. ومن ثمَّ منطقيًّا، فالأرض مجوفة من الداخل حتى تتمكَّن من الدوران في وجود الشمس. لقد حاولتُ تنفيذَ هذه التجربة في متجري أثناء الحرب، ونفَّذتُها بشكل جيد، ولكنها ليست موجودة الآن؛ إذ سُرِقَ متجري قبل ثلاث سنوات ففقدتها إلى جانب العديد من الأغراض الأخرى وكل أدواتي، كما نُهِبَ النموذجُ الذي صنعتُه لتقديمه إلى مكتب براءات الاختراع أيضًا.»

«ولكن دعنا نَعُد إلى فجوتنا. بغض النظر عمَّا أخبرك به البحَّار، أليس لديك أي شيء آخر سوى نظرية مجرَّدة؟»

«ليس تمامًا؛ توجد آثارٌ للحياة في أقصى الجنوب إلى ما هو أبعد مما ذهب إليه أي شخص نعرفه حتى الآن. قرأت في أغسطس الماضي في إحدى الصحف أن قبطانًا إنجليزيًّا قد أبحر بعيدًا بما فيه الكفاية إلى الجنوب حتى وصل إلى مياه دافئة، وأنه قد التقط من هناك قطعة خشب كانت لا تزال تنجرف من أقصى الجنوب، وكانت مثبتة بها مساميرُ وبها آثار فأس، وقد أحضر قطعةَ الخشب هذه معه إلى إنجلترا، وهي هنا الآن. لقد قرأت ذلك في صحيفة على أي حال، ولكن …»، تحدَّث بنبرة حزن وأسف قائلًا: «تثير هذه الصحف العديد من الموضوعات والأفكار المثيرة للفضول حتى لا تصير متأكدًا دائمًا من صحَّة ما يقولون؛ إلا أن بحَّارة آخرين غير ذلك القبطان قد وجدوا أن المياه تصبح أدفأ، وكان لديهم أسبابٌ تدفعهم للاعتقاد بوجود بِحارٍ مفتوحةٍ عند القطبين. وبالإضافة إلى ذلك هناك شيء آخَر يبرهن على وجود حياة داخل باطن الأرض، ألا وهو الأنياب والعِظام الكبيرة للحيوانات التي توجد بعيدًا في منطقة سيبيريا، وهي ضخمة لدرجة أنها لا يمكن أن تكون جزءًا من التكوين الجسماني لأي حيوان على الأرض أو أن يقوى على حملها. أتت هذه الحيوانات من باطن الأرض، ليس لديَّ أدنى شك، وانجرفت مع الجليد الذي تصدَّع هناك حينما انهارت كتل الجليد العائمة المنجرفة تحت تأثير الشمس، وانجرفت في أحد تيارات المياه القطبية.»

مجوَّفة بكل تأكيد

«أنت تعلم، بالطبع، أن لدى الكثيرِ من الناس نظريةً تقول إن باطن الأرض في حالة من الانصهار، بينما يقول آخرون إنه توجد بِحارٌ داخليةٌ شاسعةٌ تؤثِّر أمواجُها على المواد الكيميائية الموجودة بالأرض، وينتج عنها احتراق تلقائي وزلازل وبراكين، أليس كذلك؟»

«نعم، وما المانع! القشرة الأرضية التي توجد بين باطن الفجوة والسطح الخارجي يعادل سمكها ما يقرب من ثلاثة آلاف ميل، وفي وسط كل ذلك هناك متسعٌ بكل تأكيد للعديد من الأشياء الغريبة. ولكني متأكدٌ أيضًا، كما أنا متأكد من أن كلينا على قيد الحياة، من أن الأرض مجوَّفةٌ من الداخل، وأنه يوجد داخلها بلدٌ ضخمٌ يمكن للناس أن يعيشوا فيه، وأنا متأكد من أن هناك مَن يعيشون فيه بالفعل، وفي يوم من الأيام سيُزاح الستار عن ذلك كله وسيُكتَشَف.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤