في عالم الألحان

١

لقد أخذ المعهد الموسيقي المصري على عاتقه حملًا ليس بالخفيف، ووضع نصب عينيه غاية محمودة، فلا يسعنا إلا التمني أن «يأخذ الله بناصره» والدعاء له بالعمر الطويل.

قالت صحف الأمس: إن إدارة هذا المعهد ضمت إلى أعضائها حضرة الأب كولانجت وغيره من الملمين بهذا الفن إلمامًا نظريًّا أو عمليًّا، وذلك عين الصواب؛ إذ لا شيء يفيد موسيقانا والولوعين بدرسها مثل احتكاكهم بالموسيقى الغربية والاطلاع على أفكار فناني الإفرنج وأسلوب تمرينهم العقلي واليدوي والاقتباس عنهم.

يعيِّرنا الغربيون أن ليس في الموسيقى الشرقية أفكار، ولا وصف، ولا تصوير، ولا تصور، ولا أوبرا. سبحان الله! وما حاجتنا يا ترى، نحن ذوي الأعصاب الطروبة الذين يشجينا شدو القصب وتنهد النهر ونوح الحمام، ما حاجتنا إلى اشتباك الألحان وضوضائها؟ نحن نتمنى لموسيقانا أن تظل شرقية محضة، تعبِّر بأنغامها العميقة الحزينة عن خفايا القلب الشرقي وحنينه ولوعته، وتلمس نفوسنا بترجيعها البسيط فتهتدي فيها إلى مستودع العواطف الشجية وينبوع العبرات السخينة.

إن الموسيقى الغربية رغم كونها «علمية» في طورها الحاضر تحدث مختلف التأثيرات، شرط أن يكون السامع عليمًا بها أو فاهمًا ببداهته أنغامها، وإلا كانت جلبة وضجيجًا لا يناله منهما غير الصداع الأليم.

على أن أكثر الشرقيين يفهمون موسيقى بلادهم بلا درس ولا استعداد؛ لأن مقاطع ألحانها ساذجة متشابهة، باستثناء المتفرنجين الذين يدعون أن الموسيقى العربية لا معنى لها. وسبب هذا الحكم في الغالب هو تمكنهم من التوقيع — سواء كان ما يوقعون من جيد الموسيقى الإفرنجية أم من رديئها — على البيانو، مع أن تقدير الموسيقى الغربية لا يؤدي إلى إنكار الشرقية، وأصدق برهان على ذلك أن جماعة من كبار الموسيقيين الإفرنج حاولوا اقتباس الألحان الشرقية، وإدخال شيء منها في ما يؤلفون؛ منهم كميل سان سانس الذي ألف لحنًا ممزوجًا من جملة ألحان مصرية باسم «تذكارات الإسماعيلية»، فضلًا عن قطعه الفارسية الكثيرة.

يشعر الإفرنج الذين لم يألفوا ألحاننا بشيء من الغرابة إذ يسمعونها لأول مرة، وقد يتألمون لجدة الأوزان وتنافر الاهتزازات منها وتباطؤ الآهات؛ ذلك لأن السلم في الموسيقى الإفرنجية ينقسم فقط إلى مقامات كاملة وإلى أنصافها، في حين قسم الشرقيون المسافات بين المقامات الأصلية، فكانت عندهم «المسافة الكبيرة» المحتوية على ثلاثة مقامات سموها أرباعًا، و«المسافة الصغيرة» المحتوية على ربعين فقط؛ ومن ثم الاهتزازات الدقيقة التي تزعج السمع الغريب في بادئ الأمر. زد على ذلك أن الأصوات الشاذة عندنا كثيرة، وهي لا تندر بين أكبر ملحنينا. وأقول بصراحة: إني لا أعرف بين الذين سمعتهم من الأموات أو الأحياء إلا اثنين أو ثلاثة من ذوي الأصوات الصحيحة، أما الأموات فأشهد فيهم، بهذه الثقة؛ لأني سمعت صوتهم في الفونغراف.

كذلك يخطئ المغني عندنا في تقسيم أوقات الإنشاد وتوازن الآهات والأدوار، فقد يبدأ بإصلاح أوتاره في الساعة التاسعة، ولا يفرغ من ذلك إلا نحو الساعة العاشرة، فيصرخ «يا ليل يا عين»، ويظل مناديًا ليله وعينه حتى انتصاف الليل، ثم يقضي الشطر الثاني من الجلسة الموسيقية على مقطع أو مقطعين من الدور. وكم يضيق المرء ذرعًا بهذا التطويل، ويكاد يصرخ في وجه المغني: فهمنا يا سيدي! اذكر النشوء والارتقاء وغيِّر هذه الجملة!

ليس كل الغناء في اللحن فقط، بل إن معنى الكلمات عامل أولي في حمل الأعصاب على الإذعان لسلطة الموسيقى؛ فلينوع الموسيقيون إذن ألفاظهم ما استطاعوا، ولينشدوا كل أدوارهم وليس كلمات منها فقط، وليتركوا الليل مصغيًا لآهاتهم المطربة والعين مغرورقة بدموع الحزن والسرور، والآهات مؤثرة، شرط أن لا يكثروا منها إلى حد يمل عنده السمع وتسأم النفس.

ليس على المعهد الموسيقي الاحتفاظ بالموسيقى العربية ونشرها بين الغواة فحسب، بل عليه — وفي هذا أهمية موقفه — أن يعنى بإصلاحها وحذف ما علق عليها من الشذوذ والإفراط في المرادفات، وأن يبث فيها نسمة الإنعاش.

نرجو أن يعنى المعهد بذلك، وما أشد شكرنا له يوم نراه قد أدخلنا في سفر التكوين!

أعني بلا ضحك، سفر التكوين الموسيقي.

٢

كان المعهد السابق ذكره يشتغل خلال الحرب، ويظهر أنه هو الآخر استبد به المقدور المتحكم في كثير من مشروعاتنا، فكان «شعلة قش وانطفأت»، ولعلي أجهل مصيره وهو ما زال حيًّا يُرزَق ويرزِق؟ حبذا الخطأ في مثل هذه الحال وفي كل حال تشبهها!

على أننا لسنا في جمود موسيقي صرف، ولا يسعنا إلا تقدير جهود أساتذة الموسيقى وهواتها في وسط ما زال من هذه الجهة في سبات، ولم يستيقظ منه إلا الأفراد القلائل.

لا يخفى أن الموسيقى الشرقية جمدت عصورًا طويلة بعد أن وصلت عند المصريين والآشوريين والعبرانيين إلى درجة الإتقان المتناهي، بشهادة الآلات المنقوشة صورها على الآثار، ولم يتغير السلم الموسيقي الشرقي أصلًا رغم انحطاط الفنون كل هذه المدة. وأهم ما يلاحظ في الأعوام الأخيرة من قبيل التجديد هو ضبط الألحان بالعلامات الإفرنجية، بعد أن كانت الألحان تنتقل بالتواتر والتدوال من جيل إلى جيل شأن الألحان الشعبية القديمة في أوروبا.

فكتابة الموسيقى إذن أصبحت غربية يزيد عليها العلامات المحتم زيادتها؛ لأن ليس في الموسيقى الغربية ما يقابلها وهي أرباع المقامات. ويساير هذا التجديد محاولة إدخال العنصر الغنائي الغربي وإدماجه في النغم الشرقي على نحو ما فعل ملحنو الغرب، الذين استوحوا الموسيقى الشرقية وأفاضوا من عنصرها على مبتكراتهم، إلا أنهم أبرع منا في الاستحياء؛ لأنهم فازوا بثقافة موسيقية وفنية راقية. أما نحن الذين كان لنا آلات موسيقية تمتعت بكمال لم تصل إلى بعضه آلات الإغريق في مجدهم، ونشأت عندنا ذوات الأوتار كالعود والقانون والقيثار التي دخلت أوروبا عن طريق إسبانيا — فضلًا عن سائر الآلات المذكورة في التوراة — فما نحن اليوم إلا في دور الثغثغة.

وفي هذا صعوبة موقفنا وكثرة ارتباكنا وتهافتنا أحيانًا على ما هو بالإعراض أحرى، في حين نطرح الطرفة الفنية المنيلة قوتًا وتثقيفًا وصقلًا.

٣

في فصل الشتاء تكثر عندنا الحفلات الموسيقية الوترية والغنائية، ولقد حضرت أخيرًا حفلة كانت كلها مكرَّسة لتوقيعات كلود دبسي الشاب الذي أبدع في الموسيقى الفرنساوية العصرية، وهو اليوم مع ملحني الروس رائج بين هواة الموسيقى، لا سيما منذ وفاته؛ لأنه بعد أن سكب شبابه الغض أنغامًا مضى، فهو يمثل في نظري الدور الذي مثله كيتس أو شلي في الشعر الإنجليزي.

في موسيقى دبسي تهب حينًا بعد حين لفحة من جوِّنا، أو تئن روح الشرق الحزينة، وقد بدا بعض ذلك في قطعة موسومة باسم «سهرة في غرناطة» سمعتها في الحفلة المذكورة موقعة على البيانو أحكم توقيع. لم يخلد الملحن في كل تأليفه هذا إلى جو الأندلس الذي تلاقت في بيانه الفني أرواح الغزاة من: العبرانيين، والقلت، والفينيقيين، واليونان، والقرطاجنيين، واللاتين، والقوط، والعرب، ولا تغلَّب على شتيته المنظم النغمات ذلك الطابع الشرقي ذو الحماسة الكئيبة الذي نستجليه في معظم ما نسمعه من الموسيقى الإسبانية، بل هو استسلم لأثر الموسيقى الأوروبية المتعارضة أنغامها بالعناصر الوصفية والذهنية والتصويرية في تساوق الألحان harmonie لمسايرة اللحن الأساسي وهو بنغم mélodie. استسلم لذلك وعبر عنه بأسلوبه الأركستري بعد تكييفيه بطبيعته الفنية ونبوغه الطروب، إلا أنه ظل يعود دوامًا ويعود أبدًا بعد كل وثبة وكرة وفرة إلى ذلك القرار، الذي تئن فيه كآبة الشرق السحيق، وتتنغم منه الزفرات والآهات على وقع خرير المياه من نوافر المرمر الشفاف، في ليل قصر الحمراء المثقل جباه الملوك والأمراء بوسم المجد وأحلام الغرام.

أظن أن من أنفع ما يستوحيه ملحنونا الشرقيون هو هذه الحفلات الموسيقية تعزف فيها ألحان الغربيين الذين بين أرواحهم وبين الروح الشرقية قرابة.

لأن هذه القرابة موجودة في الفن والأدب والموسيقى والفلسفة. فإن إدجر آلن بوو مثلًا، وموسه وبايرن ودانتي وهايني وشكسبير كذلك، أقرب ما يكونون إلينا، بينا ملتن وتاين ولافونتن وكاردوتشي ورسكن وأوهلند أبعد ما يكونون. بتلك القرابة نستوحي الموسيقى التركية والفارسية والأرمنية واليونانية الحديثة والبلقانية، لا سيما الهنغارية التي يسهل الاقتباس منها مباشرة، ففيهن جميعًا شيء من ذلك الحثِّ المهيج تلازمه النهفة الحزينة الجوهرية في الروح الشرقية، ونجد مثل ذلك في الموسيقى الروسية؛ كموسيقى: روبنشتاين، وجلنكا، ورخمانينوف، وأرنسكي، وليادوف، وجريج النروجي. فعند هؤلاء وغيرهم نجد من الانفعال والشجن والبث والكآبة ما يجعلنا وإياهم في جو واحد من الطرب.

ولكن صونوا كرامة الطرب أيها الأساتذة، ولا تسجلوا علينا أشباه حكاية الكوكاين. لا تجدد لموسيقانا بهذه الدندنة التي تدعى Musiquetté، وحاشا للمحترف أو الغاوي أن يفسد ذوقه وثقافته الفنية بالاستماع إلى مثل هذه الألحان التافهة. ليست الغاية من التجدد نقل الألحان الغربية على ما هي، وإنما التجدد بالاستيحاء؛ كأن مثلًا ترى شيئًا جميلًا، أو تسمع لحنًا مطربًا، أو تقف على فكرة رائعة فلا ترسخ في حافظتك على ما هي بلا زيادة ولا نقصان، بل هي تشعرك بوجود كنوز كثيرة وراء ما تدرك، وتفتح لك منافذ على آفاق لم تأبه لها من قبل، فتنظر فيها ومنها تستمد.

أكبر قيمة البيان الفني وقيمة الحياة الأدبية في ما تفسح من أفق وتشعرنا بوجوده من مجهول، لا بما تؤديه من المعاني المحدودة. كل قيمتها في حثنا على تناول أعلى مثال من الجمال، وبما تبسطه من أبدية لا يلمسها الحس إلا لدن يحاذي الوحي، رغم كون الأبدية كامنة في هذا الحس كما يشتمل عمر الشخص الواحد على سلسلة من حلقات التجدد والفناء، والأثر الفني قمين بالخلود على قدر ما يحدِّث عن تلك الأبدية التي تتعاقب في الأجيال، وما عمل الأجيال إلا أن تمر في رحابها وتنقضي.

٤

بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب فرق أساسي؛ فهي في الغرب علم، تمثل في تأليفها وتوقيعها مأساة الجهاد والكفاح بين العواطف والذكاء.

أما في الشرق فكل الموسيقى عذاب وشجو وأنين.

هي صوت القلب وخلاصة التعبير الوجيع، يتجسم فيها دون غيرها معنى الامتثال اليائس والصبر المرير؛ فتسمعها أبدًا منشدة على لحن واحد «ميلودي». وكل إنعاشها يجب أن يأتي عن هذه الطريق، وليس عن طريق إدخال التساوق «الأرموني» فيها؛ فتساوق الألحان أخص خواص الموسيقى الغربية.

قال لسنج مرة: إنه يعتقد بأن رافائيل قد كان يكون مصورًا عظيمًا حتى ولو ولد بدون ذراعين. والموسيقى الشرقية تستطيع أن ترتقي دون أن تتبدل طبيعتها إذا هي تعهدها الحذق الفني والحاسة الموسيقية الدقيقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤