أقصر الطرق

لغط الناس ثلاثة أسابيع بحادثة خليل عسَّاف، وهي أنه خطف ابنة مراد البسيط، وقد شغل أهل المخطوفة أسلاك التلغراف والتلفون كل الأسبوع الأول، مفتِّشين على ابنتهم، فلم يفلحوا بخبر عنها وعن الذي خطفها.

بعد الأسبوع الأول صار أقرباء مراد البسيط يلومونه لعدم سماحه لابنته ماري بأن تتزوج بخليل تزوُّجًا عاديًّا؛ فلو أنه رضي بذلك لما عرَّضها للانقياد إلى إرادة حبيبها والهرب من بيت أبيها؛ مما جعل اسم العائلة مضغة في أفواه الناس. أما مراد، فكان يتلقى توابيخ ذويه بصبرٍ عجيب، فعبثًا حاول إقناعهم بأنه لم يَصُدَّ خليلًا البتة، وأنه كان يميل إلى مصاهرته، ولم يُظهر له عدم رغبة فيه ولا مرة، وجُلُّ ما قال له آخر شيء أن يقتصد بمصروفه، وأن يعمل باجتهاد كلي ويصبر على حاله في الأقل سنة أو سنتين لبينما يتوفَّر معه على الأقل مبلغ من المال لنفقات العرس. ولو أنه عرف أن الآخرة ستكون على هذه الصورة لرضي به صهرًا ولم يعرِّضه لخطف ابنته، ولكن ما العمل؟

بعد الأسابيع الثلاثة عاد خليل إلى نيويورك تصحبه عروسه التي زُفَّت إليه في إحدى قرى بنسلفانيا، ولمَّا وصلا إلى المدينة اتفقا على النزول في أحد نُزُل نيويورك؛ لأن العروس خافت أن تظهر أمام أبيها وقد كسرت إرادته وخشيت من العواقب، والعريس أيضًا خاف التسرُّع بالظهور أمام حَمِيه، وحسب أن أهل عروسه لا يزالون نارًا تلتهب غيظًا منه ومن زوجته.

في ذلك اليوم اختلف العروسان على من يوصل الخبر إلى أبي العروس، وإنما كان اختلافًا يتخلله الحب والدلال؛ فإن العروس رفضت بتاتًا أن تذهب إلى بيت أبيها، ولم تعرف بعدُ إذا كان يرضى عنها ويصفح عمَّا أتته ممَّا أقامه وأقعده، وجعله يلزم البيت ثلاثة أسابيع والناس أفواجًا يأتون ويذهبون إلى داره كأنه أُصِيب بفَقْدِ ابنته لا أنه أنعم عليها بزواجها. والعريس قال إن أباها ليس أباه، فهو لا يهمُّه رضي أو لم يرضَ، فإذا كانت عروسه تلحُّ بالصلح، فالأمر متعلق بها نفسها.

وأخيرًا اتفقا على أن يلقيا القرعة على من يكون رسول البلاغ، فوقعت القرعة أوَّلًا على العروس، فلم تذعن واقترحت أن تثني القرعة فرضي الزوج مضطرًّا ووقعت القرعة الثانية عليه، فتردد أوَّلًا وحاول التملُّص من تلك المهمة الصعبة، ولكن نظرات ماري قربته إلى الحيلة، فهبَّ لساعته وتناول التلفون فطلب حماه مرادًا، وخاطبه قائلًا: «أنا خليل، قد عُدت إلى نيويورك وعلمت أنك ساخط عليَّ، فعرفت أني مخطئٌ، وقد قلت لماري أن تعود إلى بيتك فلم تحفل بقولي، وأخيرًا عملت ما يجب عليَّ، فها إني تارك لك ابنتك في نُزُل غراند فتعالوا خذوها، وأنا مسافر إلى محل إقامة أخي في ولاية تكسس بقطار الساعة الثالثة بعد الظهر.»

قال هذا وسكَّر التلفون، ثمَّ تطلع بماري تطلعة جد كسرت قلبها، فأرخت رأسها على صدره وسألته والغصة ملء صدرها: «أصحيح أنك ستتركني يا خليل، رجلي ورجلك، لا أفارقك حتى الموت.»

قالت هذا والدمعة قد قاربت الانحدار من عينيها، ولكن خليلًا صدَّ دموع امرأته بضحكة طويلة أتبعها بقُبلة قوية على عينيها التي قاربت التدميع.

ثمَّ انتبه فجأة وقال: «قربت الساعة، فبعد قليل لا بُدَّ أن يحضر أبوك وجميع أهلك، فماذا نعمل؟»

بعد تردد قليل اتفقا على أن يكملا الدور الذي رفع خليل الستار عنه، فتمَّ بينهما أن تتمسك بأذياله بشدة عندما يسمع وقع خطوات أهلها قرب الباب، وهكذا كان، فلمَّا دخل الأبُ ووراءه امرأته وابنتهما الكبرى شاهد الجميع ابنتهم ممسكة بخليل وهي تهدِّده بقولها: «لا يمكنك أن تخطو خطوة من هنا ما لم يأتِ أهلي ويروك.»

وكان أن مرادًا سمِع العبارة التي قالتها ابنته للذي خطفها فلم يقُل شيئًا البتة، ولكنه أسرع خطاه إلى محل الحادثة، فجذب ابنته عن خليل، ودفعها إلى جانب وقال لها: «ابعدي أنت عنه.» ثمَّ أمسك بيد خليل وخاطبه بصوتٍ حادٍّ متكسِّرٍ بالغصَّات التي كانت قد انزرعت في طريق رئته إلى حلقه: «ماذا تريد أن تعمل الآن؟ إما حياتك وإما شرفي؟ عملت معنا هذا الفصل ومرادك الآن أن تنهيه على حسابي أنا؟ ما هذا الأمل منك يا خليل.»

وكان أن امرأة مراد قد اقتربت من خليل وبين عينيها سيفٌ لامعٌ من الغضب، فأبعدها زوجها وأشار إليها أن تخفض صوتها لئلا يأتي سُكان النُّزُل ومعهم البوليس فتكون الضلالة الأخيرة شرًّا من الأولى.

عندئذٍ نهض خليل ونظره إلى الأرض وقال: «لا تغضبوا ولا تحمقوا، فأنا ما قصدت أن أغضبكم، فقد ظننت أنكم تريدون ابنتكم فأخبرتكم أين تجدونها، وأمَّا وأنتم تريدونني معها فهذا كل ما كنت أشتهيه وأتمنَّاه.»

ولم يخرج القوم من تلك الغرفة إلا وتبدَّلت الحالة من سخط إلى فرح، وكل من الحزبين يظنُّ نفسه الظافر على الآخر. وقد ذهب الجميع إلى بيت مراد البسيط، حيث اجتمع عددٌ من الأهل والمعارف، وفي اليوم التالي ضجت السُّمعة في المدينة أن مرادًا رضي عن صهره وابنته، وأنهما اكتريا الطابق الأعلى في المنزل الذي يسكنه؛ لتكون ماري قريبة من بيت أبويها.

خليل عسَّاف كان مشغوفًا بحب ماري البسيط، وكان أبوها عارفًا بذلك، ولم يكن ما يجعله يميل عنه إلا خلوُّه من المال، ومعلوم أن الزواج يكلِّف نفقات مالية كثيرة؛ ولهذا أبعد أمله إلى سنة أو سنتين لعل في هذه المدة يقوى على توفير المبلغ الكافي. إلا أن خليلًا لم يرُق له التأجيل، وكذلك ماري، ولكنهما كانا أيضًا عارفين تمام العرف بالنفقات اللازمة وأهمها ثمن الخاتم الماسي، وبعد البحث مرارًا بينهما في هذا الأمر اقترحت ماري نفسها على حبيبها أن يهربا وينجوا من المصاريف فيحصلان على متمنَّاهما دون كلفات لا معنى لها، وهكذا فإنهما هربا دون علم أحد ودون أن يعرفا تمامًا إذا كان الأب يمانع بتاتًا عند الساعة الأخيرة.

وعاش خليل وامرأته عيشة هنيئة، وقد نسي الناس كيف كان عرسهما، وبعد سنتين جاء بكرهما فسمَّياه وليم، وكان صورة بالجمال كأنه هبة من ملائكة الله.

أمَّا أحوال خليل بعد الزواج فصارت على جانب من التوفيق؛ ولهذا اشترى بيتًا جميلًا لسكناه، وجعل في بنصر امرأته خاتمًا ثمنه ألفَا ريال، وفي خزائنها ثيابًا فاخرة تحسدها عليها كثيرات من العرائس.

ذات ليلة كان حمو خليل زائرًا في بيت ابنته ماري، وكان وليم يدبُّ على الأرض عند قدمي جده فيستند على رجليه ويد واحدة من يديه، وبالثانية يضرب قدم جده ضاحكًا بملء شدقيه الصغيرين، فيرجع جده قدمه تظاهرًا أمام الطفل بالخوف من ضربه ثمَّ يقدِّمها بسرعة ويعود فيسحبها، وقد ظلَّ يلاعب حفيده الملاك حتى أُفعم قلبه حبًّا فنشله عن الأرض وأقامه على صدره يقبِّله ويشمُّه والطفل يضحك ويملأ البيت سرورًا والقلب ابتهاجًا.

ثمَّ لاحت من الجد نظرة إلى الخاتم في يد ابنته التي كانت تغامز طفلها ليلاعب جدَّه، وقلبها يرقص لكل حركة من حركاته، فقال لها: «أهذا هو الخاتم الذي أخبرتني عنه أمك، أريني إياه باقتراب.»

فنزعت ماري خاتمها وقدمته إلى أبيها، فتأمَّله دقيقة منحيًا بيده الطفل قليلًا، وهو ينظر إلى الخاتم بيده الثانية، فتنهَّد وقال لأول مرة، موجِّهًا الخطاب الجدي إلى ابنته: «يا ابنتي، ما كان أحلاك لو تصبرين إلى هذا الحين فتتزوجين بخليل، ونعمل لك عرسًا ما صار مثله ولن يصير، فيرى الناس هذا الخاتم بإصبعك وأنت عروس!»

فأجابت ماري: «يا أبي، كل ظفر من أصابع وليم من يديه ورجليه يسوى كل الماسات في العالم، فلو صبرت إلى اليوم لبينما يستطيع خليل أن يشتري لي هذا الخاتم لما كان في الوجود هذا الملاك.»

وتطلَّع الجد إلى الطفل ثانيةً، فرآه واضعًا يده في فيه يعلكها، وقد امَّحت من وجهه ابتسامته لميل جده عنه إلى الخاتم، فجذبه في الحال إلى صدره، وكاد يفترسه بقبلة من خدِّه، ولما انتهى منها عاد الطفل يضحك ضحكته العميقة، ويحرِّك يديه ملاعبًا جده.

في تلك اللحظة انضمت ماري إلى الطفل وجدِّه، ولكي تشترك بالدور الذي يمثِّلانه أعطت الخاتم إلى وليم لعله يؤخذ بلمعان ماسته، ولكنه عندما قبض عليه ورآه رمى به إلى الأرض بعنف، واستأنف اللعب مع جده، فنظرت أمه وأبوها إلى ما عمل الطفل، ولما التقى ناظراهما قال لها أبوها: «الحق معه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤