زواننا لا قمحهم

لا يكاد الشابُّ تطأ قدمه أرض أميركا ويبدأ العمل في ميدانها الواسع، ولا يكاد يبسم له النجاح حتى يسير مع تيَّار النسيان لما كان عليه مغترًّا بحاضره.

يدخل الشاب السوري ميدان أميركا خائفًا مذعورًا أمام عظمة هذه البلاد وكثرة حركتها، ثمَّ يتدرج فيها، حتى إذا تمَّ له الانخلاط بين مجموع العناصر تصوَّر أنه أصبح بعيدًا عن حالته القديمة.

يقول المثل العربي: «من تعلَّم الألف والباء بلغ أنفه السماء.» وهو مثل ينطبق تمام الانطباق على كثيرٍ من الشبَّان السوريين، يتعلمون الألف من مدنية أميركا فيتوهَّمون أنهم صاروا من أساطينها، وأنهم في ما حصَّلوه منها لا يُشَقُّ لهم غبار، ولو أن الدعوى تقتصر منهم على هذا الوهم لما أضرَّت كثيرًا، ولكنها تحملهم إلى إنكار أصلهم أحيانًا لتوهُّمهم أنه معيب عند القوم الأجانب.

هذه كانت حالة الشاب رفيق المدور بعدما دخل عراك أميركا التجاري، وصار قادرًا على كسب معاشه فيها. كان في بلاده يلبس العباء والمداس، وإذا اشتاق إلى المدينة لبس الطربوش، ولكنه في أميركا كان يخيط ثيابه عند أحسن الخيَّاطين، وكان لا يخلو صندوقه من أربعة طقوم في كلِّ سنة، كل واحدٍ بلون وزيٍّ، وكان يلبَس لكل يوم قبة وربطة وجراباته تماثل ألوانها ألوان الربطة والقميص.

في بلاده كان أصحابه لا يعرفون القراءة والكتابة، ولم يجسر في كلِّ حياته هناك على الانفراد ببنت من البنات، ولكنه في أميركا صار أصحابه في العمل من أجمل الشبَّان هندامًا وأحسنهم تهذيبًا، وكان محبوبًا من عددٍ من البنات الحسناوات، اللواتي كنَّ يتحاسدن على معاشرته.

إلا أن هذا السلوك لم يكن ليَسمح لرفيقٍ أن يتقدَّم في ماليته؛ لأن الأصحاب والصديقات والتنزُّه والتفرج وما يدعونه «سبورتنس» كان ماحقًا لكل ريال يفضل من معاشه بعد نفقاته الخاصة.

وكان أبوه يكثر من الرسائل إليه، طالبًا من الله أن يسعده ليسعد أهله المحتاجين، ويستقطر قلبه تحنُّنًا على عائلة أبيه الكثيرة الأفراد، ويذكِّره أن جارهم الذي رهن البيت عنده لقاء خمسين ليرة قيمة «الناولون» له يشدُّ على أبيه الخناق كلما رآه، وهو يخشى أن يجبره الجار في المحاكم على تحويل البيت لاسمه إذا كان لا يدفع المبلغ مع الفائدة.

كل هذا بالأيام لم يعد بمؤثِّرٍ على ضمير رفيق أيَّ تأثير كان، فكانت أجوبته إلى أبيه مقتصرة على المواعيد إلى فرص أحسن لا بُدَّ أن تصدفه حتى عِيل صبر الوالد، فاضطر إلى بيع الدار والقُدوم إلى أميركا مع العائلة؛ لأنه عرف أن ابنه تأمرك ونسي أصله، وعاف أهله ولم يعد يبالي بحالة ذويه، ماتوا أو عاشوا سواءٌ عنده.

ولما عرف رفيق عزم أبيه على القُدوم مع عائلته كانت رسائله الواحدة تلو الأخرى يوقفه عن هذا الأمر، مدَّعيًا أن أحوال أميركا ليست جيِّدة، وقدومه إليها يجلب لهم وله التعاسة، إلا أن الحالة التي كان يعانيها الأبُ لم تعد محمولة عنده؛ ولهذا بالرغم من تخويفات ابنه باع الدار، فوفَّى ما عليه لجاره منها وأَمَّ أميركا متَّكِلًا على الله؛ لعله يستطيع أن يعوِّض ما خسره بجريرة ابنه البكر رفيق المذكور.

ولما رأى رفيق عناد أبيه هلع قلبه وصار حزينًا لا يطيق عزاءً، كأنما انقضَّت عليه صاعقة غير حاسب لها حسابًا، ولكنه اضْطُرَّ أن يستر الحال ويصبر على بلواه، وكان لا بُدَّ أن ينقطع مدة عن عشرائه وأن يبتعد إلى أمدٍ عن طرق معاشِراته؛ ضَنًّا ببعض المال اللازم له في أول عهد قدوم أهله لما يلزمهم من نفقات بتأسيس بيت وألبسة، إلى ما هنالك.

وغنيٌّ عن الشرح أن صبر رفيق فرغ من أول أسبوع لوصول أهله؛ فقد انفجر صدره عليهم انفجارات هائلة، وأسمعهم غليظ الكلام، وشكا دهره لكونه ابنًا لهم وهم بحالتهم كالفلَّاحين، ولم يستحِ أن يقول أمامهم إنه يخجل أمام الغرباء عندما يعرفون أنهم أهله.

وازداد سلوك رفيق هذا سوءًا عندما أعيى بإقناع والده بأن يلبس قبة مكوية وربطة، ووالدته بلبس البرنيطة والفرو؛ فإن والده صرَّح له أنه جاء إلى أميركا لا ليلبس مثل الأميركان بل ليشتغل، ويعوِّض عن خسارته ويقوم بأود صغاره، وأمه قالت له إنها قاربت سن الشيخوخة وإن صباها قد ولَّى، فهي لا تريد أن تشابه السيدات بهيئتها، وعليها واجبات نحو بيتها الجديد والواجب نحو بنيها وزوجها أن تقتصد.

وكان رفيق إذا صدف أحدًا من أهله في الشارع يحاول إما الرجوع بطريقه أو الانتقال إلى جانبٍ آخر؛ لئلا يمرَّ أحد معارفه فيعرف أنه أحد هؤلاء الناس. وكان لا يتكلم مع أحدٍ منهم إلا تحت سقف المنزل.

أمَّا الأَبُ، فعرف بداخله ألا أمل بابنه رفيق؛ ولهذا شمَّر عن ساعد الجد فدخل ميدان العمل مجتهدًا، وكذلك أمه وإخوته الصغار، فالكل كانوا يعملون؛ لكي ينهضوا من عثرتهم، لا يهمهم من شئون البلاد التي حلُّوا فيها إلا العمل، ولما يئس رفيق من إصلاح أهله الخارجي، وضاق ذرعه بهم ودَّعهم إلى إحدى مدن الداخلية.

سبع سنوات مرَّت ورفيق بعيد عن أهله، أمَّا أهله فكانوا قد تناسَوْه للهوهم بالعمل عن الافتكار به بعدما رأوا منه نفورًا عنهم، وسلوكه معهم ذلك السلوك السيئ واستحياءه بهم وهم أهله ولهم عليه فضل ودَيْن.

في هذه السنوات السبع كان أبو رفيق قد حصل على ثروة فاشترى بيتًا لصغاره، وكان يأمل أن يشتري بيتًا ثانيًا في مطلع السنة الثامنة، وأن يفتح محلًّا لبيع البضائع بالجملة على أبناء بلاده حملة الجزادين، وصغاره يتعلَّمون في المدارس العمومية، وهو حاصر كل همه واجتهاده بجعلهم رجال المستقبل، بعيدين عن كلِّ ما اتَّصف به أخوهم الأكبر.

أمَّا رفيق؛ فقد عاش لنفسه بعيدًا عن أبٍ هيئته غير لائقة بمن كان ولده مثل حضرته، وأم تلبس أرخص ممَّا يلبسه الغجر، وإخوة يبيعون الجرائد على قوارع الطرق كأولاد الشحَّاذين.

وقد شكر الله أنه بعيد عن أهله، وإلا فإن حبيبته «مالي» لا مراء تبتعد عنه ألوف الأميال إذا عرَفت من أيِّ الأهل هو.

«مالي» أحبَّها رفيق، وتدرَّج به حبُّها إلى الهُيَام، وقد تعرَّف بها بالصدفة فحاكاها وحاكته، وشاهدها مرة أخرى في الشارع فرفع لها قبَّعته، وهي حيَّته، ثمَّ اجتمع بها فهزَّ يده بيدها وأخذ منها عنوانها، ثمَّ دعاها إلى مناولة غداء معه، فصار يكتب إليها رسائل غرام حتى صارت له حبيبة يُهدِي إليها الهدايا، ويدعوها مرة في الأسبوع إلى التفرُّج على الصور المتحرِّكة أو الملاعب التمثيلية.

كل هذا ورفيق يلحُّ على حبيبته أن تتزوج به، وهي تأبى قائلةً إنها لا ترضى إلا بما يُرضي أباها، وإن أباها إذا عرَف أنها تحبُّ أجنبيًّا يقتلها لا محالة، وقد سألها مرة أن تسمح له بالذَّهاب إلى بيتها ليسأل يدها من أبيها فمنعته، وأخافته بأنه قد يغضب أبوها عليه وعليها وتكون العاقبة سيئة. ولما دعاها إلى الهرب معه زجرته، وكادت تغضب عليه لولا أنه راضاها وسحب كلامه معتذرًا، إذ ذاك صرَّحت له مالي أنها وإن تكن تحبُّه فوالدها كل شيءٍ عندها ورضاه غايتها. ومهما يكن الأمر فخاطره الأول والآخر، وأن الفتاة التي تهرب مع الشاب ليست ببنت أصل؛ فإن الشرفاء لا يأتون بمثل هذا.

وظنَّ رفيق أن حبيبته من كبار القوم؛ ولهذا لا تحبُّ أن تعمل إلا بإرادة أهلها، وتذكَّر حالة أهله مقابلًا إيَّاها بحالة أهلها كما يتصوَّرهم، فعظم عليه الأمر وهاله، وأكَّد جيِّدًا أنه إذا عرفت مالي أهله لا بُدَّ أن تبتعد عنه، وتندم على حبِّه.

وازداد هيامه بها حتى لم يعُد بقادرٍ على احتماله، وغالَب فكره بالذهاب سرًّا إلى والدها لعلَّه يستطيع إقناعه فيرضى عن زواجه بمالي وينتهي الأمر. وأخيرًا قال: «لنضرب هذه الطينة بالحائط.» وحملته قدماه في ذات ليلة إلى منزل حبيبته لأول مرة، وكان في طريقه خافق القلب، ظانًّا أنه ذاهب إلى سراي أحد الأمراء أو الملوك، إلا أنه شدَّ ما كان عجبه عندما مشى طويلًا وقضى نحو ساعة يسأل المارين والبوليس عن الشارع الذي يسكن فيه ذوو مالي، ولما اهتدى ووصل إلى الرقم الذي يطلبه رأى هناك بيتًا كذَّب ظنونه، فأعاد قراءة الرقم مرارًا، ظانًّا أنه غلطان، ولما قرر الأمر دخل وقد بدأ يشمئزُّ، فدق الباب فخرجت إليه امرأة عجوز بهيئة مخيفة تتوكأ على عصاها، فسألها عن المستر فرتس والد مالي، فقالت له: إنه لم يعُد بعدُ من عمله ولا يعود إلَّا بعد منتصف الليل، ولكنها أدخلته لتعلم من هو، وماذا يريد.

فدخل إلى غرفة ليس فيها إلا سحَّارة عند الباب، وفي صدرها طاولة خشبية لها أربع قوائم عليها صحون وسخة، وبإحدى القراني وجاق للطبخ، وفي داخلها سرير عليه فراش مغطًّى بالوسخ.

– من حضرتك يا مستر؟

– أنا رفيق مدور، وقد جئت لأرى المستر فرتس بأمر.

– المستر فرتس لا تقدر أن تراه هذا المساء، فإذا شئت أن تقول لي حاجتك فلا بأس، فأنا مسس فرتس.

– أأنت مسس فرتس والدة مالي؟

– نعم، أوَأنت الشاب الذي يريد ابنتنا؟

– ما جئت لأتكلم بهذا، ولكني أحببت أن أتعرف عليكم.

وما أنهى رفيق هذه العبارة حتى دخلت مالي، ولما وقع بصرها على بصره رقص قلبها، وكاد يثِبُ من مكانه، ولكنها هدأته بالقوة التي يستجمعها المحتار في ساعة مثل الساعة التي وجدت فيها، ولكن وجهها تلبَّس بالاصفرار وشفتيها تغطتا بالبياض وعينيها تضرمتا بالدم، أمَّا هو فوقف لها ولم تكن حالته بأحسن من حالتها إلا أنه ودَّ أن يختم مهمته بالتي هي أحسن، فقال لها إنه اضطر أن يزور منزل أهلها لأنه ذاهب إلى نيويورك في تلك الليلة؛ إذ بلغه أن أباه حرمه من الميراث وتخلَّى عنه، ولهذا جاء ليودِّعها إلى أن يعود.

وخرج رفيق من ذلك المنزل ويده على أنفه، وأخرى تشقل طرفي بنطلونه لئلا يصل إليه الوحل الكثير، وهو يقمز قمزًا حتى وصل إلى الشارع العريض، فتابع سيره إلى حيث تنفَّس الصعداء.

وحقيقة الحال أنه صدق بذهابه إلى نيويورك في تلك الليلة، وهذا كل ما صدق به من كلامه إلى التي كانت حبيبته قبل تلك الساعة، وقد تذكَّر قصة الابن الشاطر التي أوردها المسيح في الإنجيل، فوطَّن النية على أن يعود إلى حضن أبيه وأمه.

ولما عاد رفيق إلى بيت أهله احتفل به ذووه، ولما سألته أمه رأيه بالزواج وإذا كان يؤثر الأميركية على السورية قال لها: «يا أمي، مثلنا يقول: زوان بلادك ولا قمح الغريب. وأنا إذا أردت الزواج فيجب أن يكون رأيك بالعروس قبل رأيي، ويجب أن أتأكد أولا أنها تعبي أركيلتك قبلما تجلس بجانبي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤