لامرتين في طريق النضوج

١٨٠٨–١٨١٦

عندما ترك لامرتين مدرسة بيللي كان له من العمر سبع عشرة سنة وثلاثة أشهر، فراح يطمح إلى مركز في العالم؛ والمراكز في ذلك العهد كانت منوطة بنابوليون، ولم يكن نابوليون سوى مختلس في نظر أسرة لامرتين الأريستوقراطية.

ما العمل؟ لم يكن بدٌّ من التريُّث إلى أن يحدث انقلاب ما في الجو السياسي. على أنه لم يكن يرجى انقلاب في ذلك العهد؛ لأن نابوليون كان قابضًا على زمام فرنسا بيدٍ من حديد، ولم يكن مرَّ على معاهدة تلسيت سوى بضعة أشهر. وهذه المعاهدة التي جرت بين فرنسا وبروسيا وروسيا، كانت قد سلخت عن بروسيا جميع مقاطعاتها البولونية، فلم يجد لامرتين بدًّا من ملازمته داره، حيث انصرف إلى المطالعة والكتابة.

ومرَّت الأيام على عزلته، وكان كلما مرَّ عامٌ أحسَّ بالشاعرية تنضج في روحه على مصابيح الشعراء، رفاقه في عزلته. وكان قد التهم التوراة، وهوميروس، وأفلاطون، وشاتوبريان، ومدام ده ستال، وأوسيان، وروسو، وفولتير، وكثيرًا من الشعراء والروائيين الإنكليز، والطليان، واللاتين كفرجيل، ودنتي، وملتون، وأوفيد، وشكسبير وغيرهم. أما الشعراء الألمان فقد أحبَّ منهم غوتي، وتأثر بفرتر التي قرأها مرارًا عديدة إلى درجة أنه أوشك أن ينتحر تمثُّلًا ببطلها.

غرامه الأوَّل وسفره إلى إيطاليا

ما كاد الشاعر يبلغ العشرين من عمره، حتى تعرَّف إلى فتاة جذابة تُدعى هنرييت بوميه، وُلدت في أول نوَّار عام ١٧٩٠، فكان عمرها يزيد ستة أشهر عن عمر لامرتين، وكانت تجيد الرقص إجادة تامة؛ إذ إن أمها كانت تود أن تهيئها لتكون «أرتيست» في الأوبرا.

قال لامرتين يتكلَّم عنها في المذكرات التي كتبها بعد خمسين سنة على ذلك العهد: «إن قامتها النحيفة، ومشيتها الرشيقة، وجمال ذراعيها، وتناسق أعضائها، وسكبة قدميها، ولطافة جيدها، وابتسامتها الجذابة، كانت كلُّها تدلُّ على أنها ستكون نموذجًا للراقصة العصرية.» أجل، ونموذجًا لعروس الشعر العاطفي أيضًا؛ إذ إن جمالها المفكر الجذاب كان يحمل خيالًا من الحزن والألم.

وفي مساء أحد الأيام، بعد أن رقص لامرتين مع هنرييت بوميه، وسمعها تعزف على «البيانة» سقط في شَرَك غرامها وآلى على نفسه أن يتزوجها، إلا أنَّ ثمة عراقيل كانت تحول بينه وبين تحقيق هذه الرغبة؛ فلامرتين الفارغ الجيب، الذي لا مركز له، لم يكن يستطيع أن يجعل فتاة فقيرة لزامًا في عنقه، فهام على وجهه تائهًا في الحقول مع كلبه، باكيًا مع الشعراء أوسيان ويونغ وشكسبير! وما عتَّم الأمر أن أطلع أهله على رغبته في طلب يد هنرييت، فثار ثائر والده وعمه، ووقفا عثرة في وجهه. عند هذا غضب لامرتين الفتى، وصحَّت عزيمته على الانخراط في سلك الجندية «فإما أن يُقتل، وإما أن يحصل على رتبة عالية تضمن حياته وحياة زوجته.» زوجته؟ هكذا كان الشاعر يدعو الآنسة بوميه؛ لأنه كان يعتقد أن لا قوة في العالم تستطيع أن تفصله عنها.

لا قوة في العالم؟ هذا وهم محض … فلم يمرَّ شهران حتى عدل لامرتين عن عزمه، وراح يفكِّر في سفرة إلى إيطاليا، في سفرة طويلة تُنسيه هنرييت بوميه.

وصل لامرتين إلى روما في أول تشرين الثاني ليلًا، ونزل ضيفًا على أحد أقربائه هناك، ولكنَّ الوحدة ما لبثت أن أصبحت ثقلًا عليه، فجنح إلى نوادي القمار. وفي الثاني والعشرين من كانون الثاني ١٨١٢ كتب إلى صديقه فيريو يقول: «لم أكن أملك فِلسًا، لو لم أربح أمس أربعين غرشًا، ولكن سأخسرها هذا المساء. لعنة الله على كل شيء!»

ولم تمضِ مدة قصيرة حتى قدم إليه صديقه فيريو؛ ذلك الصديق الذي بقي وفيًّا له حتى يومه الأخير.

أإلى هذا العهد ترجع هذه القصة التي خلَّدها لامرتين في روايته «غرازييللا»؟ إذا شئنا أن نصدِّقه، فنرى أنه صرف أيامًا عديدة في كوخ أحد الصيادين في جزيرة بروسيدا حيث عَلِقتْ به فتاةٌ بريئة طاهرة تدعى غرازييللا، ورفضت من أجله أن تتزوج من الصياد بيبو، الذي كان قد خطبها من والديها، ونرى أيضًا أن رحيله من الجزيرة أوقع الفتاة في يأس عظيم، فماتت بعد أيام بداء التلاشي والانحلال.

ولكن يغلب على الظن أن غرازييللا هذه فتاة خيالية، تصوَّرتْها مخيلة الشاعر في السنة ١٨٣٠، وذكرها في«مطارحاته» في العام ١٨٤٩.

العودة إلى باريس وإلى عرائس الشعر

ولما عاد لامرتين إلى باريس — وكان صديقه فيريو قد عُيِّن قبله كاتم أسرار في السفارة الفرنسية في البرازيل — شعر بثقل الوحدة يضغط على نفسه، ويزداد ضغطًا من يوم إلى يوم، فترامى بين أذرع العرائس الشعرية، وراح ينظم القصائد الكئيبة، التي أكَّد الشاعر فيما بعد أنه أحرقها كلها.

على أن هناك بضعًا من القصائد يرجع عهدها إلى ما قبل العام ١٨١٦ تُرى مدرجة في ديوانَيْه «التأملات» و«االتأملات الجديدة»، وهي قصائد ملؤها العاطفة الكئيبة، التي لازمت الشاعر إلى آخر حياته، وقد يكون استوحاها من حبِّه لهنرييت بوميه، التي أيقظت في قلبه أولى جذوات الحب.

ولا بدَّ هنا من القول أن لامرتين لم يستوحِ جميع القصائد التي نظمها قبل العام ١٨١٦ من امرأة واحدة شاء أن يطلق عليها اسم «إلفير»، بل هو قد استوحى كثيرًا منها من تذكُّره جميع النساء اللواتي استطاع أن يحبهن في مراحل شبابه الأول، أو اللواتي حاول أن يحبَّهن ولم يستطع إلى ذلك سبيلًا.

وكان بودِّه أن ينشر هذه القصائد قبل العام ١٨١٦، قال: «سأطبع أربعة دواوين شعرية صغيرة، فإذا نجحتُ كنتُ رجلًا عظيمًا، وإلا فتكون فرنسا قد أضافت إلى دجَّاليها دجَّالًا آخر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤