الفصل الحادي والثلاثون

نموذج ييل الجديد للتكهنات

هل زالت لعنة إرفينج فيشر؟

لا يزال الناس في كثيرٍ من بقاع العالم يثقون بشكلٍ مفرطٍ بأن سوق الأسهم، وسوق الإسكان في أماكن عدة، سوف تحقق أداءً بالغ الروعة، وهذه الثقة المفرطة يمكن أن تؤديَ إلى عدم الاستقرار.

روبرت شيلر (٢٠٠٥)1

يُعَدُّ إرفينج فيشر (١٨٦٧–١٩٤٧)، الأستاذ بجامعة ييل، رائد الاقتصاد النقدي ويعتبره الكثير من الاقتصاديين (مثل جيمس توبين وميلتون فريدمان) أعظم الاقتصاديين الأمريكيين الذين وُجدوا على الإطلاق. وُلد فيشر في عام ١٨٦٧ في نيويورك لأبٍ يعمل كاهنًا، وتفوَّق في الرياضيات وكان أول خريجي دفعته بجامعة ييل. تحت تأثير الدارويني الاجتماعي ويليام جراهام سمنر، نمَّى لديه اهتمامًا بعلم الاقتصاد، مكرِّسًا بقية حياته لدراسة المال، والأسعار، والاقتصاد. وبعد حصوله على درجة الدكتوراه من جامعة ييل، تزوج وأنجب واستقرت به الحال على عيش حياة الأستاذ الجامعي والكاتب. ألَّف عشرات الكتب عن الاقتصاد النقدي، والحياة الصحية (بعد نجاته من الالتهاب الرئوي)، والاستثمار في سوق الأسهم. وفي عام ١٩١٨، انتُخب رئيسًا للجمعية الاقتصادية الأمريكية، وساهم فيما بعدُ في تأسيس جمعية الاقتصاد القياسي.

ونظرًا لما حُبِيَ به من عقليةٍ إبداعية، اخترع نظامًا للبطاقات المفهرسة (المعروفة اليوم ببرنامج رولوديكس)، وقام ببيعه مقابل سهمٍ في شركة رمينجتون راند. وفي ذروة انتعاش سوق وول ستريت، قُدِّرت قيمة سهمه من الفئة «أ» الذي يمتلكه في رمينجتون بعشرة ملايين دولار. بالإضافة إلى تدريس علم الاقتصاد بجامعة ييل، أصبح فيشر مستشارًا ماليًّا وصار معروفًا بأنه «عرَّاف وول ستريت»، وكثيرًا ما كان يُستشهد بأقواله في الإعلام المالي.

كان فيشر من متفائلي «العهد الجديد» الذين لا يتزحزحون عن موقفهم؛ إذ كان يؤمن بأن «العشرينيات الصاخبة» سوف تؤدي إلى عالمٍ جديدٍ وأفضل. وكان مؤيدًا بشدةٍ للسوق الصاعدة في وول ستريت. ومع سيطرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي على المنظومة النقدية، كان فيشر على قناعةٍ بأن دورة الأعمال قد أُلغيت. ومع استقرار الأسعار في عقد العشرينيات، لم يكن يبالي ﺑ «صخب المضاربة» في وول ستريت، على الرغم من أن أسعار الأسهم قد زادت ثلاثة أضعافٍ في المتوسط خلال سبع سنواتٍ فقط حتى عام ١٩٢٩.

حين حذَّر المستشار المالي روجر بابسون، بمدينة بوسطن، المستثمرين من انهيارٍ وشيكٍ في مطلع سبتمبر من عام ١٩٢٩، استنكر فيشر هذه النبوءة المخيفة بعبارته السيئة السمعة: «لقد وصلت أسعار الأسهم إلى ما يشبه هضبة مستقرة الارتفاع.»2 وخذلته نظرياته النقدية تمامًا، وانهارت سمعته ومكانته في الثلاثينيات. ولم يتعافَ مطلقًا مما ألمَّ به، ومات كسيرًا محطمًا في عام ١٩٤٧.

لم تتجاوز جامعة ييل الخزيَ الذي خلَّفته نبوءة فيشر الشهيرة، ودائمًا ما كانت تنبؤات الاقتصاديين يُنظر إليها بريبة. وكما علَّق بول صامويلسون ذات مرةٍ مازحًا: «لقد تنبأ الاقتصاديون بسبعٍ من أزمات الركود الثلاث السابقة!»

الأمر المثير أنه في عام ١٩٨٨ قام ثلاثة من علماء الاقتصاد القياسي من جامعتَي هارفارد وييل بمراجعة النموذج النقدي والبيانات التي استخدمها إرفينج فيشر للتنبؤ بالاقتصاد. وباستخدام سلسلةٍ حديثةٍ من التحليلات، قاموا بتطبيق تحليل الركود والأساليب الاقتصادية القياسية الأكثر تطورًا لِيرَوْا إن كان بوسعهم التنبؤ بالانهيار والكساد. وتوصَّلوا إلى الاستنتاج الرائع من أن فيشر «كان لديه ما يبرر ما أبداه من تفاؤلٍ بشأن الاقتصاد قُبيل الأشهر التي أعقبت الانهيار وفي غضونها» لماذا؟ ليس لأن نموذج فيشر كان معيبًا، ولكن لأن انهيار البورصة والكساد العظيم في عام ١٩٢٩ كانا «غير قابلَين للتنبؤ!»3

لم يكن في قراءة هذه الورقة البحثية من قِبل ثلاثةٍ من صفوة علماء الاقتصاد القياسي أي عزاءٍ أو راحةٍ في ضوء المخاوف الأخيرة من الانعدام المتزايد لاستقرار الاقتصاد القياسي بسبب فقاعات البورصة والعقارات التي قد تثير الفوضى في العالم المالي.

نموذج كلي جديد في ييل

ولكن بينما كنت متوجهًا إلى جامعة ييل في خريف عام ٢٠٠٦، راودني شعور بالتفاؤل إزاء مستقبل التكهن الاقتصادي؛ وأن الأمور ربما لم تكن بالسوء الذي تخيلته؛ فقد الْتقيت هناك روبرت شيلر، أستاذ علم الاقتصاد الذي قام بتأليف واحدٍ من أفضل الكتب بيعًا بعنوان «الوفرة اللاعقلانية»، وقد نُشر عام ٢٠٠٠ في ذروة تصاعد السوق في أسهم التكنولوجيا. في الواقع، صدر الكتاب في مارس من عام ٢٠٠٠، وهو الوقت الذي شهد الطفرة الكبرى لسوق ناسداك. في هذا العمل التنبُّئي، تنبَّأ شيلر بأن «البورصة الحالية تظهر عليها السمات الكلاسيكية ﻟ «فقاعة متوقعة»»، وحذر من أن المستقبل المتوقع للأسهم «من المحتمل أن يكون هزيلًا نوعًا ما، وربما حتى خطيرًا.»4 وقد كان محقًّا تمامًا، ليس فقط بشأن اتجاه الأسواق، بل بشأن التوقيت أيضًا.

بالنظر إلى الوراء، أتذكر أنني اعتقدت للوهلة الأولى أن نموذجه التنبُّئي كان مصادفةً أكثر منه علمًا، ولكن بعد ذلك وفي أواخر عام ٢٠٠٥، أصدر الطبعة الثانية من كتاب «الوفرة اللاعقلانية». وفي هذه الطبعة الجديدة، أضاف فصلًا جديدًا عن سوق العقارات الأمريكية؛ حيث أشار بوضوحٍ إلى تأثيرٍ «صاروخيٍّ» غير مسبوقٍ وغير مستديمٍ في قيم المنازل بدءًا من عام ١٩٩٧. وأعلن أن «شعورنا بالقلق والخطر يتزايد»، محذرًا المستثمرين من «فقاعة سوقية» مشابهة يمكن أن تكون بمنزلة استثمار «محفوف بالمخاطر». وفي خلال عام، وصلت أسعار العقارات في أكثر الأسواق سخونةً (خاصة فلوريدا، وكاليفورنيا، ونيفادا) إلى أعلى معدلاتها، لينتهيَ الأمر بانخفاض الأسعار، وارتفاع المعروض، وانهيار في قروض الرهانات العقارية في عام ٢٠٠٧.

حين حاورت البروفيسور شيلر، كان أول سؤال طرحته عليه هو: «في ضوء نجاحك المذهل في التنبؤ بالقمم في الأسهم والعقارات، والعائدات المذهلة التي حققها ديفيد سوينسن من إدارته لصندوق ييل للهبات، هل زالت لعنة إرفينج فيشر أخيرًا عن جامعة ييل؟» وجاءت إجابته متفائلة؛ إذ أجاب وعلى وجهه ابتسامة عريضة: «حسنًّا، أعتقد ذلك.»

هناك تشابه بين شيلر وفيشر من ناحيةٍ ما. فإلى جانب كونه أستاذًا جامعيًّا بدوامٍ كامل، فإن شيلر اقتصادي ورجل أعمالٍ ورائد أعمال. وقد أسس مؤخرًا شركة تُسمَّى «ماكرو ماركيتس المحدودة»، تساهم في خلق أسواقٍ جديدة، من ضمنها «صناديق المؤشرات المتداولة»، لتوسيع نطاق إدارة المخاطر. وساعد في إنشاء سوقٍ للعقود الآجلة والاختيارات في «بورصة شيكاجو التجارية» للعقارات السكنية الأمريكية (على قمة السوق). لمزيدٍ من المعلومات عن شركته، زُرْ موقع www.macromarkets.com.

على صعيدٍ أخطر، ما الذي يميز نموذج شيلر التنبُّئي عن النماذج الاقتصادية القياسية القديمة التي فشلت في توقع التغيرات في اتجاهات الأسهم والسندات والعقارات؟ إن كتابه «الوفرة اللاعقلانية» هو دراسة في السلوك البشري وسيكولوجية المضاربة في الأسواق المالية. وقد أخبرني قائلًا: «الاقتصاد السلوكي والمالي يكتسبان الكثير من الزخم، وهو الشيء الأكثر إثارةً الذي يحدث في علم الاقتصاد الآن. ولكن هذا غالبًا ما يحدث في كليات الأعمال.»

يعمل شيلر مع علماء آخرين في الاقتصاد السلوكي، مثل ريتشارد تالر بجامعة شيكاجو، وكارل كايس بكلية ويسلي، وينظِّم ورش عملٍ في التمويل السلوكي في «المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية» لدراسة فقاعات السوق في الأسهم، والسندات، والعقارات، والسلع، وكيف تصبح الأسواق مقدرةً بأكبر أو أقل من قيمتها بفضل تأثيرات الإعلام، والسياسة الحكومية، و«أرواح الحيوانات»، تلك العبارة الشهيرة لكينز للتعبير عن غريزة القطيع. ويعلِّق شيلر قائلًا: «ها نحن أخيرًا نتعلم كيف نتنبأ عن طريق النظر إلى وقائع الماضي.»5 فحين تتحرك الأسواق خارج الاتجاه الطبيعي الطويل المدى، على كلا الجانبين، لا يعني هذا بشكلٍ مؤكدٍ أن التحركات الأخيرة في الأسعار غير مستديمة، وأنها لا بد أن تعود إلى الاتجاه الطويل المدى، ولكنه يعني أن الوقت قد حان للحذر. وفي ذلك يوضح قائلًا: «إن منهجي في الاقتصاد السلوكي يكمن في البحث عن رؤًى، وليس مجرد البيانات؛ فلا بد أن ينظر المرء إلى أوسع صورةٍ ممكنةٍ ليرى ما يدور. لا بد أن يستخدم المرء ملكاته الحدسية، ويدرك الأنماط.»

ووفقًا لشيلر، يمكن للمراقب الفَطِن أن يُبليَ بلاءً حسنًا في الأسواق المالية: «إنه مجال عملٍ تنافسي، ومعظم المديرين الاستثماريين لا يستطيعون التغلب على السوق. ولكن ثَمَّةَ مكافأة للبحث السليم الذكي. إن الاستثمار الناجح يتطلب إلهامًا، وجهدًا خاصًّا لتكريس الوقت والجهد، والانتباه والتركيز. ولعل أحد الأسباب وراء وقوع المستثمرين في أخطاءٍ هو عدم كفاية ما يولونه من انتباهٍ للأمر. إن الناس قادرون على إظهار ذكاءٍ فوق العادة، ولكنهم غالبًا ما لا يعرفون أين يطبقونه، فتنتهي بهم الحال باتباع القطيع والعزوف عن التفكير بشكلٍ مستقل. إنها ليست مسألةَ ذكاءٍ فقط؛ إنها مسألة قدرةٍ على الاحتفاظ بالاهتمام.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤