فصل فيما اخترناه من رسائل أبي العلاء المعري

إنَّ لأبي العلاء رسائلَ كثيرةً في الأدب كأحسن ما كتَب الكاتبون، وقد نحا فيها منحى الشِّعر من الإكثار من التشبيهات والمعاني المُختَرعة وغيرها من المحسنات، وربما أطال القول في بعضها حتى تكون الرسالة الواحدة كتابًا مُستقلًّا، وقد أشار إلى ذلك في آخر رسالة مطوَّلة له كتبها جوابًا عن رسالة مُختصَرة جاءته من بعض الوزراء فقال: «ولا يُنكِر الإطالة عليَّ؛ فإن الخالص من النُّضار العين طالما اشتُري بأضعافه في الزِّنة من اللُّجين.» وقد اخترتُ بعض هذه الرسائل وألحقته بجملة المختار من كلامه لِما تضمَّنه من البلاغة الفائقة والأغراض البعيدة وشرحتُه شرحًا شاملًا يُبيِّن مقاصده ويوضح معانيه، وهذا أوان الشروع في ذكره فأقول:

رسالة المنيح١ كتبها إلى أبي القاسم الحسين بن عليٍّ المغربي:٢
إن كان للآداب — أطال الله بقاء سيدنا — نسيمٌ يَتضوَّع، وللذكاء نارٌ تُشرق وتلمع، فقد فَغَمَنا على بُعْد الدار أرجُ أدبه، ومحا الليلَ عنا ذكاؤه بتلهُّبه، وخوَّل الأسماع شنوفًا غير ذاهبةٍ، وأطلع في سُويداوات القلوب كواكب ليسَت بغاربةٍ؛ وذلك أنَّا معشر أهل هذه البلدة وُهِبَ لنا شرفٌ عظيمٌ، وأُلقيَ إلينا كتابٌ كريمٌ، صدر عن حضرة السيد الحَبر، ومالك أعنَّة النظم والنثر. قراءته نُسكٌ، وختامه بل سائره مِسكٌ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.٣ أُجِلَّ عن التقبيل فظلاله المقبَّلة، ونُزِّه أن يُبتذل فنُسَخُه المُبتَذَلة، وإنه عندنا لكتابٌ عزيزٌ، ولولا الإلاحة على ما ضُمِّن من المَلاحة، والخشية على دُجى مداده من التوزُّع، ونهار معانيه من التشتُّت والتقطع، لعكفَت عليه الأفواه باللَّثم، والمَوارن بالانتشاء والشم، حتى تَصير سطوره لمًى في الشفاه، وخيلانًا على مَواضع السجود من الجِباه.٤
ولولا ما حظَره الدين من القمار، وعابه من رأيٍ الجهَلةُ الأغمار، وأن شريعة الإسلام، اعترَضت دون إجالة الأزلام، لضَربنا عليه بالسبعة الفائزة، والثَّلاثة التي ليسَت لحظٍّ بالحائزة، ومَعاذ الأحلام أن يطمئن خلَدُ المُنافس الشحيح، إلى أحكام النافِس والمنيح، وإنما كانت أولياء سيدنا جعَل الله لشانئه كوكب الرجم، وحاديَ النجم، تَيسِرُ على إقامة الصحيفة في المنازل للأُنس المَطلوب، لا على مقادير السَّحا من ذلك الطرس المكتوب، وأحسبُهم يُوقِعون عليها السهمة الواقعة على كفالة البتول، والحاكمة في السَّفر بين صواحب الرسول.٥ فيا شرفه من صكٍّ بالفخر، يُبجحُ به على النظراء حيري الدهر، موشَّحًا بكل شذرةٍ أعذب من سُلاف العنقود، وأحسن من الدينار المنقود، فجاء كلَوائح البروق، أو يُوحَ عند الشروق.٦ ولم يَزل لوليِّه إلى جنابه جنب الفانية، إلى عيش الغانية، وأنضاء الإعلال، إلى إفضاء الإبلال، ولو أن شَوقه إلى حضرته الجليلة تمثَّل، فمَثَل وتجسَّم، حتى يُتوسَّم، لملأ ذات الطول والعرض، وشغل ما بين السماء والأرض، ولم يَكتفِ حتى يُكلِّف الخَطوة، أن تسع صهوة، والراحة أن تكون مثل الساحة.٧ وبلغ وليَّه السلامُ الذي لو مرَّ بسَلِمَةٍ واريةٍ لأغدقَت، أو سلمةٍ عاريةٍ لأورَقَت. فحمل فؤادي من الطرب على رَوق اليَعفُور، بل فوق جناح العصفور، فكأنَّما رفَعني الفلك، أو ناجاني الملَك، جذلًا بما لو جاز تبدُّل الغريزة، وتحوُّل النحيزة، لنَقلَني من آلي العامة، إلى عالي السامة، نقل الكيمياء، ما خالط من المزأبق الجائز، إلى جملة النضار الممايز.٨
وكدتُ لولا اشتمال المَخاوف على هذه المحلَّة، واشتغال الضمائر بقبس الغُلة، أحسب سلامه السلام الذي ذكَره البارئ جل اسمه في قوله: ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ. أفَبلدتُنا جنانٌ، أم وضَحَ لأهلها الغفران، أم نُشِروا بعدما قُبِروا، أم جُزوا الغرفة بما صبروا، فهم يُلقَّون فيها تحيةً وسلامًا، وإن نالوا بمنِّه أوصاف الأتقياء الأبرار، فقد نزلت بهم خَلةٌ من خلال الأشقياء الكُفار؛ وذلك أنهم بأُسد البلاغة افتُرسوا، وبأسبابها عُقِدت ألسنتهم عن الجواب فخَرسوا، فكأنما قيل لهم هذا يوم لا يَنطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.٩ وإنما غرقوا في لجِّ التَّبانة فصمتوا، وسمعوا صواعق الإبانة فخفَتُوا، فقَلَم كاتبُهم عود الناكت، وجواب بليغهم حيرة الساكت، على أنَّهم قد راموا تصريف الخطاب فصُرفوا، وعرفوا مكان فضله فاعترفوا، وتراءوه من مَبارك العُروج، فلمَحوه في مآرك البروج، واستنهضَتْهم الهمم إلى مداناته فعجزوا، ووعدوا هواجسهم التبلد فأنجَزُوا، ولن توجد آثار النوق، في أوكار الأنوق،١٠ فهم يتأمَّلون وميضَه الآلق، ويحمدون الإله الخالق، على ما منحه سيدهم من الاقتدار، بدقيق الأفكار، على إعادة اليم كالغدير المسمى بالغدر، وإلحاق السهى بالقمر ليلة البدر.١١
ولم يزل الماشي العازم، أسرع من راكب الرازم، فكيف بمَن امتطى عزمه كَتِدَ الريح، وحكم له سعده بالسعي النجيح، وخصَّه بارئه تقدَّست أسماؤه بطبعٍ راض، صعاب الأغراض، حتى ذللها، وأبس بوحوش اللغات فأهَّلها، فصار حَزن كلام العرب إذا نطق به سهلًا، وركيكُه إن أيَّده بصنعتِه قويًّا جزلًا. فمثله مثل جارسة الكحلاء، تسمَح بالمسائب الملاء، تُطعم الغرب، وتجود بالضرب، وتجني مُر الأنوار، فيعود شهدًا عند الاشتيار، وكالهواء في مذهبٍ لا أعتقده، وقولٍ سواي من يُسدِّده يجتذب أجزاء البخار، فيسقي من تحته عذب الأمطار.١٢ ومن لنا بأن اللفظ المَشوف، يُمثَّل عليه التمثيل على الحروف، فتُكلَّف ألبابنا اقتضاب العسير، وركوب ما ليس بيَسير، فعساها تُبلُّ بفقرةٍ زاهرةٍ، أو تظفَر باستخراج لؤلؤةٍ فاخرةٍ.
على أنه من العناء سؤال البَرِم، ورياضة الهَرِم، وهيهات بعُدت محالِّ الغفر الطالع، عن مزالِّ الغُفْر الظالع، وأعجز البارق يدَ السارق، وجلَّت الشُّموس، عن سُكنى الرُّموس، ولو اجتهد الخُزَزُ مدى عمره ما أشبه ضغيبُه زئيرَ الأسد، ولن يصير سوطُ باطلٍ في القوة كالمسد،١٣ ولوددتُ لو رُزِقَ لامُه، ما رُزِقَ كلامُه، لينال خلود الزمان، وتُعطيه الحوادث أوكد أمان. فإنه أولى الناس، بإضاءة النبراس؛ إذ كان في زكاء الهمَّة مغرسه، وبأجذال الحكمة مُذ نشأ تمرُّسه، حتى علا منها سراة المنبر، وركب طالبه أُصول السخبر،١٤
وقد كان فيمن مضى قومٌ جعلوا الرسائل كالوسائل، وتزيَّنوا بالسجع، تزيُّن المُحُول بالرجع، ما رقوا في درجته، ولا وضعوا قدمًا على مَحجَّتِه، لكنهم تعايَنوا فما تبايَنوا، وتناضلوا فلم يَتفاضَلوا، ولو طمعوا في الوصول إلى مثل هذه الفصول، لاختارُوا الرَّتب على الرُّتب، ورضوا اعتسافَ السبيل وارتعاء الوبيل، ليُدركوا بطلبهم ما أَدرَكه عن غيرٍ جِد، واغتَرَفه من بديهِه العِد، وكلهم لو شاهدَه لرضي بأن يُدعى السُّكَّيتُ في حلبةٍ سيِّدُنا فيها سابق الرهان، وتمنَّى أن يكون زُجًّا في قناةٍ هو منها مَوضِع السِّنان.١٥
ولمَّا ورَدت مع عبده موسى تلك الغرائب المؤنسة، والقلائد المُنفِسة، كانت بمنزلة الآيات التِّسع التي ألقاها الرحمن على ابن عمران. أبطلت كيد السحار، وعصَفت بهَشيم الأشعار، وورَد في ألواحه عصوان الميمية، والواوية، فوجد في وطنِه أشباحَ أوزانٍ تُتخيَّل، وأنقاء أذهانٍ تَتهيَّل، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ.١٦ ما خبَّر عبدُه حتى اختَبَر، ولا عبَّر إلا بعدما اعتَبر. شاهِدُنا فيما سمعناه المعنى الحَصير، في الوزن القصير، كصُورة كسرى في كأس المشروب، وتِمثال قيصر في الإبريز المضروب، لم يُزْرِ به ضيق الدار، وقِصر الجدار. إن تغزَّل فحنين العود، أو تجزَّل فهَدير الرعود،١٧ وإنَّ كان أدام الله شرف الدنيا به استصغَر من ذلك ما استَكبرناه، واستنزَر من أدبه الذي استَغمرناه. فالسربُ الوحشي يَعجب من وقوف الأجدل على شرفات المجدَّل، وهو غير حافلٍ بما أتى، ولا مُعتقدٍ أنه استعلى.١٨ وإن كان في وانية آدابنا بقيَّة إرقالٍ، ولآنية أفهامنا خفية صقالٍ، فسوف تَنتفِع، وهو أدام الله عزَّه ذريعة الانتفاع، وتُضيء بما أهدى إليها من الشُّعاع، إضاءة الصفر، بما قابل من النيِّرات الزُّهر.، وقد يُرى خيال الجوزاء على رِفعتها، في أضاة المرآة مع ضعتها، ويورق العود، ببركة السعود، وتَفيض الردهة، عن نوء الجبهة.١٩ ولو تفوَّه بمقالٍ جامدٍ، وهمَّ باختيالٍ هامدٍ، لنشرت المعرَّة صحفَ الافتخار، وسحبَت ذيل العظمة والاستكبار؛ عُجبًا أن فكره يَلحظُها لحظَ السَّاهي السامد، لا يلفظ بذكرها لفظ الحامد العامد،٢٠ وإنما هو في الرحيل عنها كجسمٍ ذي روحٍ، نُقِلَ من الغرقئ إلى اللوح، وهى بعده كقَسيمة الوسيمة ذهَب عطرها، وبقيَ نشرها.٢١ وإنما شرُفت على سواها، وطالت عن البلاد دون ما والاها؛ لإقامته بها في تلك الأيام، وإنامته عن أهلها نواظرَ أزام، فعُرِفت عند ذلك به، ونالت خيرَها من حسبه، كما تنال كل دارٍ يحلها، وإنما المنازل التي يَنزلها كالشهب الشآمية واليمانية، المُوفية على العشرين بثمانية، نزل بها الزبرقان فاشتُهرت، ونسَبت العرب إليها كل سحابةٍ أمطَرَت، وكم في أديم الخضراء من أشباحٍ مضيئةٍ زهراء اجتنبها في السير فخَملت، ولم يُنسَب إليها قَطرُ سحابةٍ همَلَت.٢٢
ورأيُ عبدِه أنَّ ضربة اللازم، على المتأدِّب الحازم، اتخاذُ آثاره — عاش حاسدُه بالخُلق الشَّكِس والجد المُنعكِس — مشاهد للأدب محضورة، ومحافل بالمُذاكرة معمورة، كما يتَّخذ تقيُّ الخلف، مواطئ زكيِّ السلف، مواقف يَتخيَّرها لطهارتها، ومساجدَ يَتديَّرها لأثارتها، وإنما فُضِّلَ الطور بالكليم، والمقام بابرهيم، ولقد سمَونا بمجاورته قبل محاورته، سموَّ اليثربي، بجوارِ النبي.٢٣
ولعلَّ المعرَّة قد نظرت أصح النظر، وفكَّرت فيما لا يُنتقض من الفِكَر، فعلمَت أنه عِقدٌ لا يصلح لمُقلِّدها، وسوارٌ يَرتفع لجلالته عن يدها، وتاجٌ لا يُطيق حمله مَفرقها، وجَونةٌ يشرق بذُرورها مشرقها، وهو — أدام الله تأييده — مثل ما نُقِلَ من المَحار، إلى مفرق الملِك الجبار، ومغانيه الأولى كالشجرة بعد اجتناء الثمرة، والصدفة بغير جوهرة، والكِنانة الخالية من السِّهام، والعَنانة الجالية في الجَهام. ولم يخفَ علينا أن الغيث من الدجون، في مثل السجون، وأن موضع الزهرة، أعلى العبهرة، وأن القمر، لم يُخلق للسمَر، وليس للمُستعير أن يحسب العارية هبة، ولا يظنَّ ردَّها إلى المُعير مثلبة، لكن شرفٌ للصعلوك، العاريةُ مِن الملوك،٢٤ وقد أفادت هذه البقعة الصيت البعيد، وانقادَت لها أزِمَّة الجد السعيد. ليالي أَمِنَتها المكارم عليه، واستودعَتْها البراعة حِدَّة أصغرَيه، فظَعَن وأرَجُه مقيمٌ، وارتحل وللثناء تخييمٌ.، فهي كشهرَي ربيعٍ سُمِّيا مع الشهور، في أوائل الدهور، ثم انتقَلا من الجِدة، إلى الشدة؛ وكان معهما جُماديان فصارَتا بعد الجمد، إلى الومد، وأبَتِ الألقاب، التغيُّرَ بممرِّ الأحقاب، فنفَدت الرسوم، وخلدت الوسوم.٢٥ ولولا جفاء التُّربة والأحجار، عن التخلُّق بأخلاق الجار، لأصبَحت ساحتُها للتأدُّب مختارةً، والفَصاحة من عند أهلها مُمتارةً. فقد قيل إن أصل الطِّيب عند عبَدة الأبداد، أن آدم هبط في تلك البلاد، ولكن أبى الجُلمود، قَبول الطبع المحمود، وعُذِرت الكابية في الهمود، والإنس باجتِذاب الخليقة أخلق، وحواسُّهم بطِلاب الفضيلة أولى وأليق.٢٦ فلولا تنبَّهوا، وقد نُبِّهوا، وأشبهوا المرئي إذ تشبَّهوا، وما همَّ ابن داية، بصيد الجَداية، فكيف يَلتقط القار بالمنقار، ويَستُر القِرواح بالجَناح، أم كيف يُمدُّ الطراف من النسع، ويُقدُّ النجاد من الشِّسع. هذا ما لا يكون، ولا تَسبق إليه الظنون، والظلم البيِّن، والخطب الذي ليس بهيِّن، تكليف القطب النابت، مُداناة القطب الثابت، وإلزام نسر الحافِر، مرام النسر الطائر.٢٧
وإذا غلا المرجل، من عدْو الأرجَل، وخلا الفقير بالوقير، فإنما ذاك اتفاقٌ، لا إحقاقٌ، وغايةٌ ليس وراءها نهايةٌ. وقد ضمَّ المَسانَّ ومهارة ميدان القياس، وشَمَلَ الخشاش وجوارَحه جوُّ المراس، فسُبقَ الغذوي، واقتُنص القمري، وإن قيلَ فلانٌ أديبٌ، وفلانٌ أريبٌ، فإن وِفاق الأسماء، لا يَمنع الفراق عند الرِّماء. العَرادَة سميَّة الجرادة، والذباب سَمي طرف القرضاب، وقد تُدعى الثمامة جليلةً، وبعض الهامة قبيلةً.٢٨ وليس كل مُثوِّبٍ مبشِّرًا، ولا كل مُتثائبٍ مؤشِّرًا، أعرض شأوٌ لا يُتعلَّق بنصَبه، وعنَّ أمدٌ لا يُتعَب في طلبه، وإنما يُحكم بثمر الجبَّار، لمن أصلحه في وقت الإبار، ويَصيد ظليمَ المقَّاء، مَن زهد في ظَليم السِّقاء. نام واللهِ اللاغب، وأدلج الراغب:
تسألني أُمُّ وُهَيْبٍ جملا
يمشي رويدًا ويكون الأوَّلا
فأصبحتُ من ليلى الغَداة كناظرٍ
مع الصبحِ في أعقاب نجمٍ مُغرِّب
وليس حُسن الظاهر للمتظاهر، ولا البهار بالباهر، ومن الزُّور ادِّعاء المشاء للنَّزور، وإن جُنَّت الرياض في الأنواض، واعتم العقيق بالشقيق، فإن الأبا رِق، لم تُبسَط بالنمارق، والقريَّ لم يُفرش بالعبقري.٢٩ ونحن على شحط المعانِ، واعتراض السهوب دوننا والرعان، لا نعدم من قِبَله تثقيف المائل، والإرشاد إلى المنار الماثل، بكِتاب حكمةٍ يُوفده، وعهد بصيرةٍ يعهده، والمشتري والزهرة وإن نأيا، يُبلِّغان المَحابَّ مَن توَلَّيا، في زعم المنجمين، وبعض الفلاسفة المُتقدِّمين. نعوذ بالله من هذه المقالة، ونَستكفيه الإيغال في طرق الجهالة، ولكن المثل مضروبٌ، والخلق مدبَّرٌ مربوبٌ.٣٠ وإن ضرب أرواق التئية بمصر، واستخفَّ من الأشغال السنية كل إصر، فمزالفنا بإذن الله مما يرعاه، ومزارعنا أحدُ ما يَكلؤه ويتولاه. فالسيار الفرد عندهم يشتمل بولايته على الأقطار المُتنائية، وينتظم بها أقاليم ضد المتساوية.٣١ وكلُّ خالص السام، وقديمِ سُمَى الحسام، وأخي حشاشةٍ من اللب يَستنجدها، وفراشةٍ من التمييز يسترفدها، مُذ رأى ريق سامِه، واجتلى بالتدبُّر رونقُ حسامه، كالسرطان في انقطاع الصوت النابس، وزحل في المزاج القارس. فعِيُّهم أطول من رداء العروس، ووَعيُهم أبكأ من در الخروس. فليتهم كذوات الأَصوات المُتنصِّفة، والناطقين بأَسَلٍ مُنحرِفة. فإن العُجمة لأسهل من البُكمة، والحُبسة أقل ضررًا من الخرسة، وتمنِّي الفائت، كمُحاوَلة إحياء المائت، ومَن يجعل الربوة روبةً، والسبت عَروبةً، وضائعٌ أداءُ الفروض قبل دخول الأوقات، والإحرام بعد مُجاوَزة الميقات،٣٢ وإن كان ما اختُلسَ منهم لا قيمة له في النقيمة، ولا إشارة إليه مِن أهل الشارة، فارتياح اللاقطة بساقطة النقد، كارتياح الماشطة بواسطة العِقد، ولا يُزيِّن لأُمِّ السمجة، مِقَتَها حُسنُ البهجة، ولكن تحنو عليها طول الحياة، وتحزَن لفقدها عند الممات.٣٣ وجَورٌ نَحرُ الأَفيل، إذا لم يَستقلَّ بعبء الفيل، وهدم سخيفات الدور، إذا فرعتها منيفات القصور، وكسر المِرماة، لقِصَرها عن القناة، ودفنُ الناب، إذا لم تَلحَق بالشَّوابِّ. ولولا ذلك لوجَب ترك النَّغم، إلا ما كان كلا ونعم، يُخبَر به عن الإرادة، ويُمنَع قليلُه من الزيادة، ولحَرُم إجلالًا لِما قال سجع الكلمتَين، وتقفية البيتين.، وقد كانت المُتحمِّسة في جاهليتها، وسدنة الأوثان على أوليتها، لا تتَّخذ بيتًا مربعًا، إجلالًا للكعبة وتورُّعًا.٣٤ وهل طالب ذلك سواه إلا كمُفني الشبيبة في نسج السبيبة، ومُضيع الشرخ في التماس البَرَم والمَرخ، والسحم لا يقطع الوحم، والنَّشم لا يُحسب من الرشم، وكلُّهم غيره يُنفق من رأس مالٍ نزر، ولا يُحكم على مدِّه بالجَزر. لكن ينفد الثغب، بالنغب، ويَفنى الشمع، بخفيات اللمع.٣٥ وهم في هذا الصقع، كأسنان المسارح، ونواجذ القمر القوارح، تنكَّبُهم الفوائد تنكُّبَ السَّهم العائر، والركب الجائر:
بناحيةٍ أما العدوُّ فنازلٌ
مطيفٌ بها في مثل دائرة المُهرِ
يحُول فيها الجريض، دون القريض، والحذار دون أداء الاعتذار. فقد أدمى الخف، وطءَ القف، وذهب الخارب، بذي الغارب، وإنما هو رفقٌ ثم اقتسارٌ، وليس بعد السلب إلا الإسار. فهم يَتوقُون كفة الحابل، ويتوقَّعون رشق النابل. على أن القارب، أخو الشارب، والهُبَع، طريد الرُّبَع. ما أقرب طسمًا من جديس، وأدنى البازل من السديس!٣٦ لا يزالون يُمارسون جابة، تنفي النجابة، نفْيَ الدَّبَر، للوبر، والسَّبُع، لابن الضَّبع، ويَبين الزلل، فيهم من خوف الثَّلل، كما بان القَلَح، مِن وراء الفَلَح، فقليل العلم منهم يُستطرَف، ويُستغرَب ولا يكاد يُعرف، كالشنوف، على الأنوف، والحِقاب، في وسط العُقاب، والودع، في عنق الصدع، والفور، بين أهل الكفور. لأنَّ سالمهم هامة اليوم أو غد، وإن لم يكن ما خاف فكأن قد.٣٧ ولو رحلوا قبل أن يُوحَلوا، وتوكلوا على الله في المسير قبل أن يوكلوا، لنفع الفِرار الفُرَّار، واستراح الفَقَار إلى وَضعِ الأوقار، وكم مُصابرة الذرع، لابس الدرع، والبِر، الهر، وإن كان دون كسب العتاد، ممارسة خرط القتاد، فقَتَدُ المالع، أوطأ من العتد ذي القالع، والمرقد، جافٍ على ابن أنقَد.٣٨ وإنما يَشدو بالترنُّم شاديهم، ويَغدو في أُولى الدعوى غاديهم، بين أُناسٍ يقظة أحدهم أقصر من لحظته، وسِنته أطول من سَنتِه، وحِليَة الدواة، لديه أحلى الأدوات، وحُسن اليراعة، أحسن البراعة. فإذا جاء بعضهم بسمارٍ، ومارى بتفضيله مُمارٍ، فقد سجَد السَّفساف، لإساف، وأُهدي الهنم، للصَّنَم، والسُّرفة تَتَّخذ لمنفعتها الغُرفة، وربما عنتِ القرارة، بالعرارة، وجُعِلَ الخمار على وجه الحمار، وليس الضريع، بالمَرعى المَريع. على أن التفكير، قبل التكبير، والخِطبة، ثم الخُطبة. فأما بحضرة سيدنا — بقيَ ووُقي حتى يَلِبَ الهَجر، إلى ضياء الفجر، وُلوب صلاة العصر، من القَصر — فما يسعهم غير الاستماع، والتسليم بعد الإجماع.٣٩ فإن ذُكِرَ له أدام الله تأييده أن حافر القليب، أنبط المَحض من الحليب، وأن الرَّسَل، حُلِب العَسَل، وأن نجلًا من راحٍ، ظهر في هَجلٍ براحٍ. فعارِضَته أعلم بالمعارضة، وأُربَة أُرْبَته أقدر على المناقضة، حسب التربة نطفةٌ، تَشفي الكربة، والناقة، علبةٌ عند الإفاقة، والجُمجمة النِّيابة عن السحابة المُثجِمة.٤٠ وذِكرُه عبدَه بما يُشبه مِنَنَه صنيعةٌ يضيق عنها باع الشكر، وأُبعَث وهي مني على ذُكْر. غرسَت السرور في سريرتي، وعلَّمت النفاسة نفسي، وخلَّدت الغِبطة في خلَدي، إلى أن أُمسي خبيَّ الرامس، ونجي هند الأحامس. هضَبَ حسِّي بعدما نضب، وبَغَش نسيسي، وقد نسَّ فانتعش، وعرتني الأريَحيَّة، المُشتقة من الرياح العريَّة، فملأت الصدر، وأمَرَتني بمُجاوَزة القدر. لأن الجنوب، تُهيِّج نقع الجبوب، والشمال، تُحرِّك ساكن الرِّمال. حتى عاتبت الضمير، والتفتُّ إلى السر الخمير، فقلت السِّمة، في القسمة، أزيَن من الأشر، للبشر، وطالَما عصف النسيم فقصَف، ولن أكون كالغبار ثار من الملاطس، فزار المَعاطس. أسكرانٌ أنا، أم هكران؟ إن كنت انتشيتُ فالثَّمَل يُقوِّي الأمل، أو أغفيتُ فالوَسَن، يُري الحُلم الحسن.٤١ هذا مع إحاطة اليقين أنَّ الغذمة، لا تُشدُّ منها الوذمة، وأن البرق، لا يَستحِقُّ كسوة السرق، وأن البديع، لا يُملأ من رِسل الصَّديع، تزيد المَرارة، بسقيا المُرارة، وريُّ المَقر، لا يَخلع عليه لون الشَّقِر، ومَن أنا حتى يَصفني بالنقال، ويزن بي الثقال. البرير، يُسوِّد فم الفرير، وأنى بالنئور للنوار، وصوار الطِّيب للصوار. هل أدبي في أدبه إلا كالقَطرة، في المطرة، والنَّحلة، عند النَّخلة، وإنما صاحب الدرهمين غنيٌّ عند صاحب الدرهم، والأفطس أشم في تخيُّل الأكشم. فأما شدَّاد بن عاد، وعاقر الجياد، فالبَدِيُّ توهُّمهما الثراء، اليديَّ عند جالب العَضَد، وبائع الخَضَد.٤٢ فضاق ذرعي في جزاء ما تطوَّل به ضيق ذرع النملة، باتخاذ الشملة، والحَمنانة، بثقب الجمانة. فليتَه أدام الله عزَّه اطَّلع من عبده على كنين الاعتقاد، وجنين السواد، فيعلم أنَّ الروع، وجوانح الضلوع، مُفعمة له بالإعظام، مُترَعة بمحبَّته إتراع الجام، لا لأنَّه جعَل حصاتي كثبير، وخلَط عثيري بالعبير، ولا لأن سيدنا الرئيس الأجلَّ والده، أدام الله سلطانه سبق، من الإفضال بما ربق، وقدَّم منه ما كان نشره السدم ولكن لما أُوتي أقاليد الحوار، ونطق بفرود حضار، وعلمت أنه في صاغية الأدب، كتُبَّعٍ في طاغية العرب. لهجَتْ بحبِّه لهج السوقة، بحب المليك الرُّوقة؛ إذا أخذ بالفضل، وحكم بالقضاء الفصل.٤٣ ونصحتُ له نصح الهدهد لسليمان، وشيَّعتُ ما أذكُر من نُبله بالأيمان. أصف وكلَّ وصفي صحيحٌ، وأَحلف وحلفي تسبيحٌ، حتى استجهَلني الذي لا يعلم، وتكلَّم في تضليلي من تكلَّم؛ لأني ما اقتنعتُ بتفضيله على الأحداث، دون سكان الأجداث، ولا غلَّبته على الغابر، دون الكابر، ولكن وجَّبت الشخير، ورجَّبت الطرف الأخير، وليس النَّصر، بقِدم العصر، ولا التجويد، بذهاب أبد الأبيد، الرويُّ بعد التوجيه، وأخدَر أقدم من الوجيه، وإن كانت السِّيَر، بغَير غِيَر، والخبر، فاقدًا للحَبَر، فالحبَّة بعد الحبة، والضياء تالي الكُهْبَة.٤٤
وما جحَد أحدٌ ضُحاه، ولا وَحى مخلوقٌ مثل ما وحاه، ولكن للمُهَج بالفارط لهجٌ، والإحادة عن العادة، تخلط المور بالتأمور، وتُباشر ظلام اللُّوب، بظلام القلوب، وقد أنكر من أعظم العزى واللات، ما جاء به محمدٌ من الآيات. فلم أفتأ واللهُ شهيدٌ أصبغ الأفق بالشفق، وأدبغ الأديم بالسديم، حتى أُصبح اليافع النافع، والهمَّ المدرهم، ومن بينهما من وارفٍ في السن، وكهلٍ مقسئن، أحد رجلين: إما عالِمٌ، فهو من الجَهل سالمٌ، وإما بليد، اهتدى بالتقليد.٤٥ وهو أدام الله قدرته الفرعُ الذي نبع من أصلٍ زاكٍ، فسمَق إلى السماك، وحفظ التُّوم، قبل أن يلفظ بالمكتوم، ولم يَزل ضبُّ الآفِن، لعب الصافِن، وإهواء الرادس، لإرواء القادس، حتى الْتأمت اللامة من الزَّرَد، وتألَّفت الغمامة من القَرَد.٤٦
ولقد هممتُ باستِرفاد حضرته البهية من بدائعه ما يَفضُل المال، ويكون الجمال، فعداني عن ذلك إعظامي له واستحقاري نفسي، وارعوَت بي الهَيبة إلى إرمامي وكفِّي، وأبى الله أن يكون التفضُّل إلا مِن قِبَله، فوعد التشريف بما سنَح من المنثور والمنظوم، فلِلقلوب إلى وعده هيام الظامية، إلى النطفة الطامية، ولا تزال تَقتضيناه اقتضاء المُدنفِ العافيَة، والبيتِ القافية، ومَن للعَفر بالذَّفر، والقَفْر بإلمام السفْر.٤٧ وأقدمت على خدمة حضرته بالمكاتبة لأُنهي إليها ما أنا عليه لا تكثُّرًا برَصفِ المنطق عنده، وهل أبلغ أن أُدعى في تأليف القول عبده، وقد تُقبل صلاة الأمي، ويُسمَع دعاء الأعجمي، ونَقدُه — أدام الله تأبيده — يَكبُر عن تصفُّح أمري، وتجاوُزُه يَستر زللي وعثري. لأن المُدية، لا تصل إلى ضبِّ الكُدية، إلا بعد التبريح، بذوات التسريح، والإتيان على مال الفتيان، والله أَستجير من كلمةٍ، كطَوق العكرمة، يُحسَب لها كالزينة، وكأنه من حِداد الحَزينة، فقَد حلَّيتُها بعبقُر، وخليتها تُرعِد من القُر، من دونها يظهر الضِّفدع، تحت الشِّبدع، ويُحكم بالجلسام، على الأجسام، والعناية، بجارم الجناية، تَمنع الرَّواجب، من البتِّ بالحُكم الواجب.٤٨ وأُتبع قولي لِما مضى، وأُشيعه إذا انقضى، بأن أقول إن كنتُ أوطأتُ نفسي في تفضيلِه عشوةً، أو بَغيتُ على إظهار الحق رشوةً، فمُنيتُ بالحاصب، والعذاب الواصب. ليل الخرص، أنعم من ليل المتخرِّص، ونهار الكاذب، أبأس من نهار العاذِب، وغِناي في تقريظه عن المين، ومُساواة القين، غناء الوصيف، عن لُبْس النَّصيف، والغلام، عن الاختضاب بالعُلام.٤٩ وأنا على إسهابي كخابط الظلماء، وباسط اليد الجذماء، ولو جئتُ من الزَّرَق بكُرٍّ، ما كافأت على الفريدة من الدر، وليس سرب القطا وإن كثُر، بمُقاوم البازي ولو لطُف وصغُر، ومن الغباوة مُباهاة الشمس بسراج، ومواهاة عطالة بالزجاج، وإن أدبي ليَنظر إلى أدبه نظر جرباء العنوق، إلى جرباء العيوق، وأين الماء، من السماء، وموقع السيل، من مطلَع سُهَيل، والنعائم الشاردة، من النَّعائم الصادرة والواردة، وتالله أُساجِل بثمدي بحره، ولن يَهلك امرءٌ عرف قدره، والسلام.٥٠

نسخة رسالته المعروفة برسالة الإغريض إلى أبي القاسم المغربي لما أنفذ إليه مختصر إصلاح المنطق الذي ألَّفه، وفيها وصفُ المُختصَر، والثناء بفضله، والتنبيه على كثرة فوائده:

بسم الله الرحمن الرحيم. السلام عليكِ أيتها الحكمة المَغربية، والألفاظ العربية. أيُّ هواءٍ رقَّاك، وأي غيثٍ سَقاك، برقُه كالإحريض، وودقُه مثل الإغريض، حللتِ الرَّبوة، وجللتِ عن الهَبوة؛ أقول لك ما قال أخو نُميرٍ، لفتاة بني عميرٍ:

زكا لك صالحٌ وخلاك ذمٌّ
وصبَّحك الأيامِنُ والسُّعودُ

لأنا آسَفُ على قربك من الغراب الحجازي، على حُسن الزي، لما أقفر، وركبَ السفَر، فقدِمَ جبال الروم في نوٍّ، أنزل البِرس من الجو، فالتفتَ إلى عطفه، وقد شَمِط فأسي، وترك النعيب أو نسي، وهبط إلى الأرض فمشى في قيد، وتمثَّل ببيت دريدٍ:

صَبا ما صبا حتى علا الشَّيبُ رأسه
فلمَّا علاه قال للباطل ابعدِ
وأراد الإياب، في ذلك الجلباب، فكره الشمات، فكمدَ حتى مات؛ ورُبَّ وليٍّ أغرق في الإكرام، فوقع في الإبرام، إبرام السأم، لا إبرام السَّلم.٥١ فحرس الله سيدنا حتى تُدغم الطاء في الهاء، فتلكَ حراسةٌ بغير انتهاءٍ؛ وذلك أن هذَين ضدان، وعلى التضاد مُتباعدانٍ، رخوٌ وشديدٌ، وهاوٍ وذو تصعيد، وهما في الجَهر والهمس، بمنزلة غدٍ وأمس؛٥٢ وجعل الله رُتبته التي كالفاعل والمبتدأ، نظير الفعل في أنها لا تَنخفِض أبدًا. فقد جعلني إن حضرتُ عُرِفَ شاني، وإن غبت لم يُجهل مكاني، كَيا في النداء، والمَحذوف من الابتداء؛ إذا قلتُ: زيدُ أَقبِل، والإبلُ الإبل، بعدما كنتُ كهاء الوقف إن أُلقِيتُ فبواجبٍ، وإن ذُكِرت فغير لازبٍ.٥٣ إني وإن غدوتُ في زمنٍ كثير الدَّد، كهاء العَدد، لزمَتِ المُذكَّر، فأتَت بالمنكر، مع إلفٍ يراني في الأصل، كألف الواصل، يَذكرني بغير الثناء، ويطرحني عند الاستغناء، وحال كالهمزة تُبدل العين، وتُجعل بينَ بين، وتكون تارةً حرف لينٍ، وتارةً مثل الصامت الرصين، فهي لا تَثبُت على طريقةٍ، ولا تُدرك لها صورةٌ في الحقيقة، ونوائب ألحقت الكبير بالصغير، كأنها ترخيم التَّصغير، ردَّت المُستحلِس إلى حُليس، وقابوسًا إلى قُبيس. لأمُد صوتي بتلك الآلاء، مد الكوفي صوتَه في هؤلاء، وأُخفِّف عن حضرة سيدنا الرئيس الحبر، تَخفيف المدني ما قدر عليه من النبر. إن كاتبت فلستُ مُلتمسَ جوابٍ، وإن أسهبتُ في الشكر فلستُ طالب ثوابٍ، حسبي ما لديَّ من أياديه، وما غمر من فضل السيد الأكبر أبيه،٥٤ أدام الله لهما القُدرة ما دام الضرب الأول من الطويل صحيحًا، والمُنسرِح خفيفًا سريحًا؛ وقبَض الله يمين عدوهما عن كل معنٍ، قبض العَروض من أول وزن، وجمع له المهانة إلى التقييد، كما جُمِعا في ثاني المديد، وقُلِمَ قَلْم الفسيط، وخُبِلَ كسباعي البسيط، وعصب الله الشر بهامة شانئهما وهو مخزوٌّ، عصب الوافر الثالث وهو مجزوٌّ، بل أضمرته الأرض إضمار ثالث الكامل، وعداه أمل الآمل،٥٥ وسَلِم سيدانا أعزَّ الله نصرهما ومَن أحباه وقرَّباه سلامة متوسِّط المجموعات، فإنه آمِنٌ من المروعات؛ فقد افتَننتُ في نِعَمهما الرائعة، كافتنان الدائرة الرابعة؛ وذلك أنها أُمُّ ستةٍ موجودين، وثلثةٍ مَفقودين، وأنا أعد نفسي مراسلة حضرة سيدنا الجليلة عِدة ثريا الليل، وثريا سُهيل، هذه القمر، وتلك عمر، وأُعظِمه في كل وقتٍ، إعظامًا في مقةٍ وبعض الإعظام في مقتٍ؛ فقد نصَب للآداب قبةً صار الشأم فيها كشامة المَعيب، والعراق كعراق الشعيب؛ أحسب ظلالها من البردَين، وأغنَت العالم عن الهِندَين، هند الطيب، وهند النَّسيب، ربة الخمار، وأرباب قِمار، أخدان التَّجْر، وخدينة الهَجر.٥٦ ما حاملة طوقٍ من الليل، وبُرْدٍ من المُرتبع مكفوف الذَّيل، أوفتِ الأشاء، فقالت للكَئيب ما شاء؛ تُسمعه غير مفهوم، لا بالرَّمل ولا بالمزموم؛ كأن سجيعها قريضٌ، ومراسلها الغريض؛ فقد ماد لشَجوِها العود، وفقيدها لا يعود؛ تندب هديلًا فات، وأُتيح له بعض الآفات، بأشوَق إلى هديلها مِن عَبدِهِ إلى مناسمة أنبائه، ولا أوجد على إلفها منه على زيارة فنائه، وليس الأشواق، لذوات الأطواق، ولا عند الساجِعة، عَبرةٌ مُتراجِعةٌ، إنما رأت الشرطَين، قبل البُطين، والرشاء، بعد العِشاء، فحكَت صوت الماء في الخرير، وأتت براءٍ دائمة التَّكرير، فقال جاهلٌ فقدتُ حميمًا، وثكلتُ ولدًا قديمًا، وهيهات يا باكيةً أصبحتِ فصدَحتِ، وأمسيتِ فتناسَيتِ، لا همام لا همام، ما رأيتُ أعجبَ من هاتف الحمام: سَلِمَ فناح، وصمَت وهو مكسور الجناح؛ إنما الشوق لمن يدَّكر في كل حينٍ، ولا يُذهله مُضيُّ السنين.٥٧ وسيدنا أطال الله بقاءه، القائل النظم في الذكاء، مثل الزهر، وفي البقاء، مثل الجَوهر، تحسب بادرته التاج. ارتفع عن الحَجاج، وغابَرَتْه الحِجل، في الرِّجْل؛ يجمع بين اللفظ القليل، والمعنى الجليل، جمع الأُفعون في لعابه بين القلَّة، وفقد البلة؛ خشُن فحسُن، ولان فما هان؛ لين الشَّكير، يدلُّ على عتق المحضير، وحرشُ الدينار، آية كرم النِّجار. فصنوف الأشعار بعده كألف السَّلم، يُلفظ بها في الكلام، ولا تَثبُت لها هيئةٌ بعد اللام، خلص من سبك النقد خلوص الذهب، من اللهب، واللجين، من يد القين، كأنه لآلٍ، في أعناق حوالٍ، وسواه لطٌّ في عنق ثَطٍّ، ما خانَته قوة الخاطر الأمين، ولا عِيبَ بسنادٍ ولا تضمينٍ، وأين النثرة، من العثرة، والفرقد، من الغرقد! والساعي في أثره فارس عصا بصيرٍ، لا فارس عصا قصيرٍ.٥٨ وأنا ثابتٌ على هذه الطوية ثبات حركة البناء، مقيمٌ تلك الشهادة بغير استِثناء، غنيٌّ عن الأيمان فلا عدم، مُقسمٌ على ما قلتُ فلا حنث ولا ندم، وإنما تُخبأ الدرة، للحَسناء الحرة، ويُجاد باليمين، في العِلق الثمين. ما أنفسه خاطرًا امترى الفضة، من القضة، والوصاة، من مثل الحصاة، وربما نزَعت الأشباه، ولم يُشبِهِ المرء أباه؛ ولا غرو لذلك: الخضرة أم اللهيب، والخمرة بنت الغربيب، وكذلك سيدنا ولَّد من سحر المُتقدِّمين، حكمة للحنفاء المُتديِّنين؛٥٩ وكم له من قافيةٍ تَبني السود، وتَثني الحَسود، كالميت، من شُرب العاتقة الكُميت: نشوره قريبٌ، وحسابه تثريبٌ. أين مُشبِهوا الناقة بالفدن، والصحصَح برداء الرَّدن، وجَب الرحيل، عن الرَّبع المُحيل. نشأ بعدهم واصفٌ، غُودروا له كالمَناصف، إذا سمع الخافِض صفتَه للسَّهب الفسيح، والرَّهب الطَّليح، ودَّ أن حشيَّته بين الأحناء، وخَلوقَه عَصيم الهِناء، وحَلَم بالقُود، في الرُّقود، وصاغ بُرَى ذواتِ الأرسان، من بُرَى البِيض الحِسان، شنفًا لدر النحور، وعيون الحور، وشغفًا بدرٍّ بكيٍّ، وعينٍ مثل الرَّكي، وإعراضًا عن بدورٍ، سكَن في الخدور، إلى حُول، كأهلة المُحْول؛ فهنَّ أشباه القِسِي، ونَعام السِّي.٦٠ وإن أخذ في نَعتِ الخيل فيا خيبة من شبَّه الأَوابد بالتقييد، وشبَّه الحافر بقعب الوليد، نعتًا غبطَ به الهَجين المنسوب، والبازي اليعسوب؛ إذ رُزِقَ من الخير، ما ليس لكثيرٍ من سباع الطير؛ وذلك أنه على الصِّغَر، سَمِي بعض الغُرر؛ وقد مضى حرسٌ، وخَفَت جرسٌ؛ وللقالع، أبغضُ طالع، والأزرق، يُجنِّبك عنه الفَرَق. فالآن سلمَتِ الجبهة من المَعض، وشمل بعضَها بركاتُ بعض، فأيقن النَّطيح، أن ربه لا يُطيح، والمهقوع، نجاء راكبه من الوقوع، فلن يُحرَب، قائد المُغْرَب، ولن يُرجل، سائس الأَرجُل، والعاب، وإن لحق الكِعاب، ناكبٌ، عن ناقلات المراكب، وقالت خيفانة امرئ القيس: الدباءة، لراعي المَباءة، والأُثفية، للقِدر الكفيَّة، نقمًا على جاعل عُذرها كقرون العروس، وجبهتها كمُحذَّف التروس، وأنى للكندي، قوافٍ كهجمة السعدي:
إذا اصطكَّت بضيقٍ حجرتاها
تلاقى العسجدية واللطيم
فالقسيب في تضاعيف النسيب، والشباب في ذلك التشبيب؛ ليس رويُّه بمقلوب، ولكنه من إرواء القلوب.، وقد جمع أليل ماء الصِّبا، وصليل ظماء الظبا؛ فالمصراع كمرآة الغريبة، حكت الزينة والريبة، وأرت الحسناء سناها، والسمجة ما عناها.٦١ فأما الراح فلو ذكرها لشفَّت من الهرم، وانتفت من الكرْم إلى الكرَم، ولم ترضَ دنان العُقار، بلباس القار، ونسج العناكب، على المناكب، ولكن تُكسى من وشيٍ ثيابًا، ويُجعل طلاؤها زريابًا، ولقد سمعتُه ذكر خيمةً يغبط المِسك جارها من الشيام، ويود سعد الأخبية أنه سعد الخيام.٦٢ ووقفتُ على مختصر إصلاح المنطق الذي كاد بسمات الأبواب، يُغني عن سائر الكِتاب، فعجبتُ كل العجب من تقييد الأجمال، بطلاء الأحمال؛ ونقل قَلْت البحر، إلى قَلْت النَّحر، وإجراء الفرات، في مثل الأخرات؛ شرفًا له تصنيفًا شفى الريب، وكَفى من ابن قُريب، ودلَّ على جوامع اللغة بالإيماء، كما دلَّ المُضمَر على ما طال من الأسماء. أقول في الإخبار: أمرتُ أبا عبد الجبار؛ فإذا أضمرته، عُرِفَ متى قُلت: أمرته؛ وأبلَّ من المرض والتمريض، بما أسقط من شهود القريض؛ كأنهم في تلك الحال، شهدوا بالمُحال، عند قاضٍ، عرف أمانتهم بالانتقاض، على حقٍّ عَلِمه بالعيان، فاستغنى فيه عن كل بيان،٦٣ وقد تأمَّلتُ شواهد إصلاح المنطق فوجدتُها عشرة أنواعٍ في عدة إخوة الصدِّيق، لما تظاهَروا على غير حقيقٍ، وتزيد على العشرة بواحدٍ، كأخٍ ليوسف لم يكن بالشاهد، والشعر الأول وإن كان سبب الأثَرة، وصحيفة المَأثَرَة، فإنه كَذوب القالة، نموم الإطالة، وإنَّ قِفَا نبكِ على حُسنها، وقِدم سنِّها، لتُقرُّ بما يُبطِل شهادة العدل الرِّضى، فكيف بالبَغي الأُنثى؟! قاتلها الله عجوزًا لو كانت بشَريةً، كانت من أغوى البرية،٦٤ وقد تمادى بأبي يوسف رحمه الله الاجتهاد، في إقامة الأشهاد، حتى أنشد رجز الضب، وإن معدًّا من ذلك لجدُّ مُغضبٍ؛ أعَلَى فَصاحته يُستعان بالقَرض، ويُستشهد بأحناش الأرض. ما رُؤبة عنده في نفير، فما قولك في ضبٍّ دامي الأَظافير؟٦٥ ومن نظَر في كتاب يَعقوب وجده كالمهمل إلا باب فَعْلٍ وفَعَلٍ، فإنه مؤلفٌ على عشرين حرفًا: ستةٍ مُذلقةٍ، وثلثةٍ مطبقةٍ، وأربعةٍ من الحروف الشديدة، وواحدٍ من المزيدة، ونفيثين: الثاء والذال، وآخر متعالٍ، والأختين العين والحاء، والشين مضافةً إلى حيز الراء. فرحم الله أبا يوسف لو عاش لفاظ كمدًا، أو احفاظَ حسدًا؛ سبَق ابن السِّكِّيت ثم صار السُّكَيت، وسمَق ثم حار وتدًا للبَيت. كان الكتاب تبرًا في تراب معدن، بين الحت وبين المتَّدِن؛ فاستخرجه سيدنا واستَوشاه، وصقَله فكرُه ووشَّاه، فغَبطه النيِّرات على الترقيش، والآلِ النَّقيش؛ فهو محبوبٌ ليس بهَيْن، على أنه ذو وجهَين؛ ما نمَّ قطُّ ولا همَّ، ولا نطَق ولا أرمَّ، فقد ناب في كلام العرب الصميم، منالَ مرآة المنجم في علم التنجيم؛ شخصُها ضئيلٌ ملمومٌ، وفيها القمران والنجوم.٦٦ وأقول بعدُ في إعادة اللفظ: إنَّ حكم التأليف في ذكر الكلمة مرَّتين، كالجمع في النكاح بين أختَين: الأولى حِلٌّ يُرام، والثانية بَسْلٌ حرام. كيف يكون في الهودَج لَميسان، وفي السَّبة خميسان! يا أُمَّ الفتيات حسبُكِ من الهنود، ويا أبا الفِتيان شرعُك من السعود؛ عليك أنت بزينب ودعدٍ، وسَمِّ أيها الرجل بسوى سعدٍ؛ ما قلَّ أثيرٌ، والأسماء كثيرٌ. مَثلُ يعقوب مَثلُ خَوْدٍ كثيرة الحُليِّ ضاعفته على التراق، وعطَّلت الخصر والساق.٦٧ كان يوم قدوم تلك النُّسخة يوم ضريبٍ حشر الوحش مع الإنس، وأضاف الجنس إلى غير الجنس؛ ولم يحكم على الظِّباء بالسِّباء، ولا رمى الآجال بالأوجال؛ ولكن الأضداد تَجتمع، فتَستمِع؛ وتنصرف بلذاتٍ، من غير أذاةٍ، وإن عبده موسى لقيني نِقابًا، فقال: هلَّم كتابًا؛ يكون لك شرفًا، وبموالاتك في حضرة سيدنا أطال الله بقاءه معترفًا. فتلوت عليه هاتين الآيتين: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى، وأحسبُه رأى نور السُّؤدد فقال لمُخلَّفيه ما قال موسى عليه السلام لأهله: إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى، فليت شِعري: ما يَطلُب؟ أقبَسَ ذهبٍ، أم قبَسَ لهبٍ؟ بل يُتشرَّف بالأخلاق الباهرة، ويُتبرَّك بالأحساب الطاهرة:
باتت حواطب ليلى يَقتبِسنَ لها
جزلَ الجِذى غير خَوَّارٍ ولا دَعِرِ
وقد آب من سفرته الأولى ومعه جذوةٌ من نار، إن لُمِست فنارُ إبراهيم، أو أُونِست فنارُ الكليم؛٦٨ واجتنى بهارًا حيَّت به المَرازبة كسرى، وحُمِلَ في فكاك الأسرى، وأدرك نوحًا مع القوم، وبقيَ غضًّا إلى اليوم؛ وما انتجَع موسى إلا الروض العميم، ولا اتَّبع إلا أصدقَ مُقيم.٦٩ وورد عبده الزهيري من حضرته المُطهَّرة كأنه زهرة بقيعٍ، أو وردة ربيعٍ، كثيرة الورق، طيِّبة العَرَق؛ وليس هو في نعمته كالرِّيم، في ظلال الصَّريم، والجاب، في السَّحاب المنجاب؛ لأنَّ الظَّلام يُسفِر، والغمام يَنسفِر؛ ولكنه مثل النون في اللجة، والأعفَر تحت جربةٍ،٧٠ وقد كنتُ عرَّفتُ سيدنا فيما سلف أنَّ الأدب كعهودٍ في أثر عهودٍ، أروت النجاد، فما ظنُّك بالوهود؟ وأني نزلت من ذلك الغَيث ببلدٍ طسمٍ، كأثر الوسم؛ منعه القراع، من الإمراع. يا بؤس، بني سَدوس، العدو حازبٌ، والكلأ عازبٌ؛ يا خصبَ بني عبد المَدان؛ ضأنٌ في الحُرْبُث وضأنٌ في السِّعدان. فلما رأيتُ ذلك أتعبْتُ الأظَل، فلم أجد إلا الحنظَل، فليس في اللبيد، إلا الهَبيد؛ جنيتُه من شجرةٍ اجتُثت من فوق الأرض ما لها من قرارٍ. لبن الإبل عن المُرار مرٌّ، وعن الأراك طيبٌ حُرٌّ. هذا مَثَلي في الأدب،٧١ فأما في النشب، فلم تزَل لي بحمد الله تعالى وبقاء سيدنا بُلْغَتان: بُلغة صبرٍ، وبُلغة وفرٍ، أنا منهما بين الليلة المَرعية، واللقوح الربعية، هذه عامٌ، وتلك مالٌ وطعامٌ، والقليل، سُلَّمٌ إلى الجليل، كالمصلِّي يُريغ الضوء، بإسباغ الوضوء، والتَّكفير، بإدامة التعفير، وقاصد بيت الله يَغسل الحوب، بطول الشحوب، وأنا في مُكاتَبة حضرة سيدنا الجليلة، والميل عن حضرة سيِّدنا الأجلِّ والده — أعز الله سلطانه — كسبإ بن يَعرُب، لما ابتهل في التقرُّب، إلى خالق النور، ومُصرِّف الأمور، نظَر فلم يرَ أشرق من الشمس يدًا، فسجَد لها تعبُّدًا.٧٢ وغير ملومٍ سيدنا لو أعرض عن شقائق النعمان الربعية، ومدائحه اليربوعية؛ مللًا من أهل البلد المُضاف إلى هذا الاسم؛ فغير مُعتذِرٍ، مَن أبغضَ لأجلهم بني المُنذِر، وهم إلى حضرته السَّنية رجلان: سائلٌ، وقائلٌ؛ أما السائل فألَح، وأما القائل فغير مُستملَح،٧٣ وقد سترتُ نفسي عنها ستر الخَميص، بالقميص؛ وأخي الهتر، بسجوف السِّتر، فظهر لي فضلُه الذي مثله مثل الصبح إذا لمع تصرُّف الحيوان في شئونه فخرج من بيته اليربوع، وبرز الملِك من أجل الربوع، وقد يُولع الهجرس، بأن يُجرس، في البلد الجرد، قدام أسدٍ وَرد، وإني خُبِّرت أن تلك الرسالة الأولى عُرِضت بالوطن الكريم، فأوجب ذلك رحيلَ أختها، متعرضةً لمثل بختها؛ وكيف لا تنقع، وفي اليم تقع، وهي بمقصد سيدنا فاخرةٌ، ولو نُهِيت الأولى لانتهَت الآخرة.٧٤
وكتب إلى بعض أولياء السلطان يشفع في صديقٍ له كان عاملًا يُعرف بالحُسَين بن عنبسة بن عبد الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

كتابي أطال الله بقاء سيدي الأستاذ مالكًا خزائم الأُمور، واطئًا أعناق الدهور، عن حالٍ تُشكَر، ونِعمةٍ لا تُنكَر، أنا معهما بالتقصير عن واجباته مُقرٌّ، ولشرف أخلاقه مُظهرٌ ومُسِرٌّ، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على صَفوته المُنتخَبين.٧٥ وأحلف بالقسم العازم، والنَّذر اللازم، ما ذات طَوق لا تَنزعه، وبُرْدٍ من الربيع ليسَت تَخلعه، جاد الوسمي لها فأرنَّت، وبكَت شجوَها لا تغنَّت؛ عاليةً ذؤابة فننٍ غضٍّ، فهي لا في السماء ولا في الأرض، تُكرِّر القيل، وتَنطِق الخفيف والثَّقيل، بأشوق إلى هَديلها منِّي إلى مُشاهدته، ولا آسَف على خليلها من قلبي على فائت خِدمته،٧٦ وإن عققتُ نفسي بترك المكاتبة، عقوق الضبِّ ولدَه، والسارق يدَه، فإنَّما ذلك لهمٍّ واغلٍ، وخَطْبٍ شاغلٍ، وتوخيًا للتخفيف، وتنكُّبًا عن التكليف، وإني لَأصبو إلى لقائه صبابة العود إلى وطنه، وذي الشجَن إلى شجنه، وأحنُّ في خلال ذلك إلى مناجاته، حنين الشوارف إلى السقاب، والهوائف إلى وُرود النقاب.٧٧ إذ كان ضيفُه لا يَبيت مبيت القفر، وغير جاره مُرادسًا خلب الجفر، وأنتشي أخباره الطيبة انتشاء الزهر، وأستافها كل عشيٍّ وسفرٍ، ولي بها وجد الصادية، بماء الغادية، لا يَزال يُبهِجني بها باكرٌ مع الشارق، وآئبٌ إياب الطارِق، جعَلها الله أبدًا ضاحكة البشير، سارَّةً للصديق والعشير.٧٨ وإني لأشتهر بمودته اشتهار الأبلق العَقوق، وأستدلُّ بمعرفته استدلال شائم البروق، ولو كتمتُها نمَّ بها الخلد نميمة الزُّجاج بالراح، والنخلة بنفسها في البراح، وكيف يَستَتِر من قاد البازل، ويَستسر من طوى المنازل، والنظرة من ذي علق كافيةٌ، والنَّهلة بعد طلقٍ شافية،٧٩ وقد علمتُ أن الثاوي بساحته لا تَسنح له الظباء، ولا يُهتك عليه الخباء، ولا يُصادفه وِرْد نطاة، ولا الشافعة لدائرة اللطاة؛ لكن يَنام لأمنه نوم الجارية، عن سوم السارية، ويطَّرح الهموم فكرة اطِّراح الآبق إبالته، والمُخفِق حبالته، وأن نُزيل غيره كالأشقر إن تقدَّم نُحِرَ، وإن تأخَّر عُقِرَ.٨٠ وكان سيدي أبو فلان لا يَفتأ لهجًا بما أولاه سيدي الأستاذ أدام الله عزَّه، وإنه بعنايته سَلِمَ، بعدما كُلِمَ، واستُنقذ، بعدما وُقِذَ؛ ولولا ذلك لعُدَّ جناة الرائد، وحصاة الذائد، ولسُقي بكدرٍ، وتُرِكَ على مثل ليلة الصَّدَر. فأنجاه الله جلَّ اسمه على يدَيه من صَفَر الإناء، ومعرِّ الفناء، فأضاف الله له الأجر الآجِل، إلى الشكر العاجل. فقد منَعه أن يُجذ جذَّ الصِّليانة، ويُقترف اقتراف الصربة، ويسقط سقوط ناب المُخلف، ويلتمع التماع شُفافة السُّعن البديع؛ وتلك عُرًى انعقدت، وأسباب توكَّدت. لما كانت عناية سيدي أيَّده الله منه على طرف الثُّمة، ودون القمَّة، فآنِسه بين سمع البيد وبصَرِها، ومَراشِح العين لجآذِرِها، شرابٌ بأنقاع، مُوقدٌ نارُه باليفاع:
تؤنسه دائرةٌ لا تَفزَع
عند اللقاء وخطيبٌ مِصْقَع
سواءٌ عليه أيَّ حينٍ أتيتَه
أساعة بؤسي تُتقى أم بأسعَدِ٨١

وفي كل ثلاثٍ تَرِد كُتُبه محيطةً من شكر مِنَنِه بالأَوقار، متَّصلةً بذلك ذات المرار، وهل جرى على غريب شاكلةٍ، أو سار في دارس محجَّةٍ، إنما اتَّبع طريقًا لأُسرته، كقرا الثعبان وباري الصَّنَاع:

وهل يُنبت الخطيَّ إلا وشيجُه
وتُغرس إلا في منابتِها النَّخلُ

وغير ملومٍ من عشق الثناء لأنه أحسن حبيبٍ مَزُورٍ، وأبقى مُنفِسٍ مذخورٍ، وأوفاك مُثنٍ ما أسديت، وجزاك معترفٌ الذي أوليت.، وقد بث أهل أبي فلان الدعاء في كل ريعٍ، ورجوه رجاء الربيع:

لِزُغبٍ كأولاد القَطا راثَ خلفُها
على عاجِزات النَّهضِ حُمْرٍ حَواصِلُه٨٢
فأنا أطال الله بقاء سيدي وهذا الرجل فَرْعا سَمُرَةٍ، وقَضيبا أراكةٍ، وطائرا وكرٍ، وأليفا وادٍ، تَنصُرنا الغمامة الواحدة، وتُضيء لنا اللمعة الفاردة. بل نَزيد على هذا التمثيل، فنكون بنانَي يدٍ، وريشتَي جناحٍ، وشعبَتي غصنٍ إذا أماله النَّسيم مِلت، وإن اعتدلَ له اعتدلت؛ فلساني يَنطِق عن ضميره نُطقَ المزمار عن فم القاصبة، والأوتار عن أنامل الضاربة.، وقد كنتُ عجزت عن أداء حق سيِّدي عجز روق الفناة، دون إدراك القناة، وضمين الوَجذ المورود، عن تغمير نعمٍ مطرودٍ. فما تُراني الآن أقول على أي صِرْعيَّ أقع، وفي أي وجهٍ أبقَع. حيَّاك من خلا فُوه لا أُحدِّث عريبًا، ولا أسئل مُجيبًا. حسْب اللسان تَقريظ المُنعم، والجنان مِقة المُتفضِّل المُكرم.٨٣ ولستُ أدع امتراء كرمِه وإن كفى، ولا اختفاء دُرِّ مناقبِه وإن طفا، وإتمام الصنيعة إتْباع الفَرَس لجامها، والناقة زمامها، وإسعاد أبي فلان باللفظة وراء اللفظة، والمشورة تلي المشورة، حتى يُقدم على أطفاله، فهم لغيبته مبتئسون، وبشئونه كلَّ وقت يتساءلون، سؤال المجدب بالكلإ، والمُستوحِش من الوحدة عن الملإ، ويَرقُبون طلوعه عليهم، ترقُّب مخلفات السِّرب، موافاة الأمهات بالشَّرب، وبقاؤه الحاجة العظمى، والنِّعمة ليس مثلها نُعْمَى، وإن كانت له شهلاء شرَّفني بذكرها ونقع غُلتي بالخدمة فيها مُتطوِّلًا إن شاء الله.٨٤
وكتب إلى أبي طاهرٍ المشرَّف بن سبيكة وهو ببغداد يَذكُر له أمر شرح السيرافي وما جرى فيه من التعب:
بسم الله الرحمن الرحيم. لله الحمد، ما أُحصي خطاءٌ وعمدٌ، وصلى الله على محمدٍ ما التأم شعب، وعلا كعبًا كعب.٨٥ شوقي إلى سيدي الشيخ، شوقَ البلاد المُمحلة، إلى السَّحابة المسحلة؛٨٦ وانتفاعي بقُربه، انتفاع الأرض الأريضة، بالأمواه الغريضة، وتشوُّفي لأخباره، تشوُّف راعي أنعامٍ، أجدب في عامٍ بعد عامٍ، لبارقٍ يَمانٍ، هوله مُرتقبٌ مُمانٍ،٨٧ وأسفي لفقده أسفٌ وَحشيَّة، رادت بالعشية، فخالَفها السِّرْحان، إلى طَلًا رادَ فحان، فهي تطوف حول أميلٍ، وترى صَبرها ليس بجميلٍ،٨٨ وتذكُّري لأوقاته تذكُّر الفطيم ثديَّ الوالدة، والمُقسم بالمِلْح لبني خالدة، وانتظاري لقُدومه انتظار تاجر مكة وفد الأعاجم، وربِّ الماشية ظهور النبت الناجم،٨٩ وفزعي إلى نجدتِه، فزع الغَرِق إلى سيفٍ دانٍ، والفَرِق إلى سيفٍ ليس بددانٍ، واعتذاري من التَّثقيل عليه اعتذار الورقاء من الغَدر، وأبي جهل من حضور بدرٍ،٩٠ وثقتي بمكارمه ثقة راكب الماء بالعامة، والحرِث بالنعامة، وشكري على أياديه حبيسٌ ليس بمحتبسٍ، بل يَتجدد مع النفس.٩١ وفي هذا اليوم، وهو يوم كذا وصَل كتابه فسُررت به سرور الظمآن ورد نميرًا، والساهر صادف سميرًا؛ وكأن ما ضُمِّنه من سلامته، بُشرى لها تخفُّ الأحلام خفَّة القائل ولا يلام: يا بُشراي هذا غلام، والله يمُنُّ باجتماع، ليس بعده من إزماع.٩٢ وفهمت ما ذكره من أمر النُّسخة المُحصَّلة، وهو أدام الله عزه الكريم المُتكرِّم، وأنا المُثقَل المُبرَم. جرى في التفضل على الرسم، وألححت إلحاح الوسم، فأما الشرح إن سمح به القدر، وإلا فهو هدر، وقد كنتُ قلتُ في بعض كُتبي إلى سيدي إن كانت الخطوط مختلفةً، والأبواب مؤتلفةً، فلا بأس يُغني عن لُبْس السرق، ثوبٌ جُمِعَ من شتى خِرَقٍ، ما عدا خطِّ عليِّ بن عيسى؛ فإنه رجلٌ اتكل على ما في صدره، فتهاون بإحكام سَطرِه، وإنما رجوت ببركته أن يتفق أُناسٌ كما قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ، فأما أنا فلا أقول أبدًا عسى أن يَنفعنا أو نتخذه ولدًا.٩٣ وأما ما ذكره من فساد الناس فأَحلِفُ ما حَلِمَ الأديم، وإن ذلك لداءٌ قديمٌ، النَّمِرَة بنتُ النَّمِرة، والقتادة أختُ السَّمُرة، وهو أدام الله تأييده من المَلامة، في أحصَنِ لامة، فلا يَبعثُه تعذُّر الحاجة، على اللجاجة. أهو الكتاب المكنون، الذي لا يمسُّه إلا المطهرون! إنما هو أبا طيل إياةٍ، وتعلُّلٌ في أيام الحياة، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.٩٤ فأما سيدي الشيخ أبو عمر ثابتٌ فإن اسمه وافَق آيةً، بلَغت بفألها النهاية، وهي قوله جلَّ اسمه: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، وأنا والجماعة نُهدي إلى سيدي الشيخ وإلى جميع أصدقائه سلامًا تأرَّج الكُتب بحملِه، وتُروَّض المُجدبة من سيله، وحسبي الله.
وكتب إلى صديق له سأله أن يَنقُصه في ترتيب المكاتبة:
كتابي أطال الله بقاء الرئيس الفاضل بلا استثناء، والمُشتمِل بحُلة الثناء، من المستقر المأنوس، بحُسن ذكره، المأهول بحملة شكره، عن قلبٍ يعوم في ولائه عوم الحجاة في الغدير، والقطرة في حوض الصبير، والحمد لله ربِّ العالمين، وصلواته على خيرته المُنتخَبين، وشوقي إلى حضرته السعيدة كرحيقٍ إذا عَتُق جاد، وراوي أثرٍ كلما قدُم ساد؛ شوقٌ لا تُحسنه باكية هديلٍ، ولا ناميةٌ إلى جديلٍ.٩٥ وكان كتابه لما ورَد كطائر بشارةٍ وقع، وماء سرارةٍ فوجئ فنقَع، والإطناب في صفة ما عُرِفت حقيقته خُلُقٌ مُجتنَبٌ، وترك البيان لِما ظهر أجدر وأوجب، وفضضته عن عتائر اللطيمة، ومقاطر الأطيمة، وعظُمت نعمة الله جلَّ اسمه عليَّ لِما ذكره من أن السلامة عليه جلبابٌ، والنعمة له منزلٌ وجنابٌ. لأني جعلتُه أدام الله عزَّه الجُنة الواقية، والعُدة الباقية، وإذا تضوَّع لمكارمه أرجٌ، واتصل من أغصان مناقبه حرجٌ. أظهرتُ المَرح، وأضمَرتُ القرَح، كالأَمة تَفخر بحدجِ ربَّتها، والمُعزِّبة بنَعَم أهل بيتها،٩٦ وقد علمتُ أن تأخير الجواب، إنما كان لإلحاق حسِّ الشر بأُسِّه، وردِّ غائلة الغلط على نفسه، لأني كتبتُ بعدما حَلِمَ الأديم، وبليَ الرديم، وأبطأ الغروب، أملؤها من شفاء المكروب، والعِشار الهِجان، أثقل ما زجَره الفتيان، وقد أيقنتُ أن رِسْل نصيحته ليس بسمارٍ، وأن صواب رأيه عن غير ائتمارٍ، ولم أَكتُب في أمر أبي فلانٍ إلا مُتشكِّرًا، ثم ثنَّيت باسترفاد المعونة مذكِّرًا. إذ كان أدام الله عزَّه لا يُشير لسائله إلى الأفد البعيد، ولا يَضرِب لراجيه رءوس المواعيد:
أرخِ يدَيك واسترخْ
إن الزناد مِن مرخ
فأما تَدارُكه ما جرى من الوهم، فإذا أُعطِيَت القوس باريها، والخيل فوارسها، والقناة مُصرِّفها، دحضت قدم الباطل بثَبات الحق، وزالت حنادس المين بإشراق شموس الصدق، وما استنَد أبو فلان إلا إلى هضب مُتالعٍ، واعتصَم بغرز جوادٍ غير ظالعٍ، ما هزَّ نابيًا، ولا أرسل إلى الغاية كابيًا، ولولا عنايته لاعتمد على اليرمع بكفَّيه، واتَّبع اليلمع بناظرَيه، ولقي أُمَّ الرُّبَيق على أُرَيْقٍ.٩٧ ولو لم يُتعَب سيدي أنامله بالمكاتبة، وقلمه في الإجابة، لكانت دلائل صنائعه ناطقةً، ومَخايل إحسانه مخبرةً صادقةً. يُريك بشرٌ، ما أحار مشفرٌ، كفى بضيائها هاديًا، وبنشرها مناديًا، وأما تجميله أمر الجماعة بحَضرة الرئيس أبي فلانٍ فنعمةٌ ولِيَت نِعمًا، وكرمٌ أردف كرمًا؛ وتلك حضرة يَألَفُها الخير إلف الإبل السَّعدان، والمَحَار العَدان، والجماعة أولياء فضلها، وغراس أهلها.٩٨ وأما الفصل في ترتيب الخطاب، فلا غروَ لمَن نزل إلى درجاتٍ، أن أَرتفِع إليه درجةً، ولمن سلَك نحوي المشبَّهات، أن أسلك نحوه المحجَّة؛ وذاك فعل مُدِلٍّ، وجُهد مقلٍّ. فأنا حينئذٍ كمن قام ليتلقَّى الغمام، شوقًا إلى عذب ماء، قطَع إليه ما بين الأرض والسَّماء. وقد والله العظيم أردتُ سؤاله في الرجوع إلى مَرتبته في المُكاتبة، وإجرائي على مقداري في المناجاة والمُحاوَرة، فخشيتُ أن يَسبق إليَّ ظنٌّ أنَا منه بريٌّ، وبسواه جديرٌ حريٌّ، وكان التأخُّر عن ذلك زلةً، والترك لتنجُّزه غفلةً؛ لأنه كلفني إقلاق ثبيرٍ، ولحاق البدر المنير، فما بال العلاوة بين الفودَين، والبنانة بعد اليدَين. لا مَعتبة إنْ جازيت ببكي الفطر، عن زكي القطر؛ هو بدأني بما لا أَستحِق، فأجبتُ بما أَوذَمَه عليَّ الرِّق، ولم أكن كعاقر الرَّمل، أُمطَر فلا أُروِّض، وكحَفير الميت أُعوَّض ولا أُعوِّض. لا أقلَّ من كوني مثل وذيلة الغريبة، وزلفة المُضِرِّ الأريبة، يَطَّلع فيها ذو الوجه الجميل، فتَجتهِد له في التمثيل، ولابتدائه على مكافأتي شف الطلعة البهيَّة، على صورتها في المرآة الجلية. فإذا راعَ في لفظه إلى اليفاع وعدَل في الكلام فاعتدل، آضَ وليُّه فلزم الانخفاض، وفاء فأخذ اللفاء.٩٩ وسيدي أبو فلان فرقدُ حندسي، وكوكب ربيعي، وروضة أملي، ولما كان هو وسيدي قمرَين في طُفاوةٍ، وشمسَين في هالةٍ، وبُشْرَيين في كلمةٍ، اقتصرت على الكتاب إلى أحدهما دون الآخر، وأنا أُهدي إلى حضرتهما ثناءً مِسكيًّا، وسلامًا زكيًّا، يبقيان ما رسا العلم، وأورق السَّلم، إن شاء الله.
(انتهى الكتاب)

هوامش

(١) المنيح ثامن سهام الميسر وأحد الثلاثة التي لا نَصيب لها.
(٢) أبو القاسم الحسين بن علي هذا هو المعروف بالوزير المغربي، وقد كان أحد الدهاة الفحول المُقدَّمين في النثر والنظم. وله من الكتب: كتاب إصلاح المنطق، وكتاب أدب الخواص، وكتاب المأثور في ملح الخدور. وقد هرَب من مصر في سنة أربعمائة لما قتَل الحاكم أباه وعمه وأخوَيه، فتوجه إلى الحجاز وأطمع صاحب مكة وهو الحسن بن جعفر العلوي في مُلك مصر وبايَعه بالخلافة ودعا الناس إليه ولقَّبه بالرشيد، ولو لم يتدارك الحاكم الأمر ويَتلافاه بدهائه لمَلَك الحسن بن جعفر مصر واستتبَّ أمره. فلما لم ينجح أبو القاسم في مقصده هذا توجَّه إلى العراق، وكانت له فيها وقائع وحوادث كثيرة، وقد وزر فيها للقادر بالله العباسي. وتُوفي سنة أربعمائة وثماني عشرة بميافارقين، وحُمل إلى الكوفة بوصية منه ودُفن بها في تربة مُجاوِرة لمشهد الإمام علي رضي الله عنه. وقد بسط القول عن تاريخه الإمام المقريزي في خططه عند الكلام على بساتين الوزير.
(٣) التضوُّع تحرُّك الطِّيب وانتشاره، وهو مأخوذ من ضاع يَضوع، يُقال ضاعه ذلك الأمر إذا حرَّكه، قال بشر بن أبي خازم:
يضوعُ فؤادُها منه بغام
وفَغَمه الطيب ملأ خياشيمه. والشنوف جمع شنف وهو القُرط، شبَّه كلمات ذلك الكتاب بالشنوف. وما زال الأدباء يُشبِّهون الألفاظ الحسنة والكلمات النفيسة بالأقراط في الآذان. قال قائلهم:
لقد عشقَت أذني كلامًا سمعتُه
رخيمًا، وقلبي للمليحة أعشَقُ
ولو عايَنوها لم يَلوموا على البكا
كريمًا سقاه الخمرَ بُدرٌ مُحلِّقُ
وكيف تناسى مَن كأنَّ حديثَه
بأُذني وإن عُنِّيتُ قرطٌ مُعلَّق
والسويداوات جمع سويداء وهي حبَّة القلب. وقول أبي العلاء: وأطلعَ في سويداوات القلوب كواكبَ ليست بغارِبة، يُشبِه قول أبي تمام:
وكأنَّما هي في القلوب كواكب
(٤) وقوله أُجلَّ عن التقبيل. يقول إن هذا الكتاب لا يُقبَّل وإنما يُقبَّل ظلُّه، وأن نسخته التي بخط الوزير لا تُبتَذل ولا تتناولها يد، وإنما يُبذَل ما نُسِخ من صُوَرها لتتداولها أيدي القراء والأدباء. والإلاحة الإشفاق. والمَوارن جمع مارن وهو الأنف وما لان منه. والانتشاء الشم. واللَّمى سُمرة في الشفتَين، والعرب تَستحسِنه، قال ذو الرمة:
لَمياء في شفتَيها حوَّة لعس
وفي اللثاة وفي أنيابها شنَبُ
يقول لولا أننا نخشى أن تمحوَ القُبَل سطورَ هذا الكتاب لأخذنا في تقبيله وشمِّه حتى يَعلق مداده بالشفاه والجِباه فيَكون في الشِّفاه لَمًى وفي الجباه خيلان.
(٥) حظَر: أي منع. والقمار كان في الجاهلية بقداح الميسر وغيرها وكانوا يَفتخرون به. قال الأعشى:
فقد أخرج الكاعب المُسترا
ةَ من خِدرها وأشيَع القمارا
وقال آخر:
نُباهي بها أكفاءنا ونُهينها
ونشرب في أثمانها ونُقامِرُ
فلما جاء الإسلام حرَّم القمار وعُطِّلت قداح الميسر. والأغمار الأغبياء الجهلاء. والإجالة الإدارة. والأزلام هي سهام المَيسِر، وهي عشرة: سبعة لها أنصباء وهي التي عناها بالسبعة الفائزة، وثلاثة لا نصيب لها وهي المَعنية بقوله: ليسَت لحظٍّ بالحائزة. وتفصيل ذلك أن أهل الثروة والمروءة والسَّخاء من العرب كانوا يَشترون جَزورًا ويُجزِّءونها ثمانية وعشرين جزءًا ثم يَتساهمون عليها بعشرة أقداح ويُقال لها الأزلام والأقلام، سبعة منها لها أنصباء وهي: الفذ وله نَصيب واحد، والتوءم وله نصيبان، والرقيب وله ثلاثة أنصباء، والحِلس وله أربعة أنصباء، والنافس وله خمسة أنصباء، والمسبل وله ستة أنصباء، والمُعلَّى وله سبعة أنصباء، وثلاثة منها لا أنصباء لها وهي المنيح والسنيح والوغد. ثم يجعلون القداح في خريطة تُسمى الربابة ويَضعونها على يدَي عدلٍ منهم يُسمى المجيل والمفيض والياسر والضريب، ثم يجيلها (أي يُحركها) باليد ثم يُدخل يده فيُخرج باسم رجل رجل قدحًا قدحًا، فمَن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعيَّن له، ومن خرج له قدح مما لا نصيبَ له لم يأخذ شيئًا وغرم ثمن الجزور. وكانوا يدفعون تلك الأَنصِباء إلى الفقراء والأيتام والأرامل ولا يأكلون منها ويَفتخرون بذلك ويذمُّون مَن لا يدخل فيه ويُسمُّونه البرم، والبرم اللئيم العديم المروءة، وقد قيل:
وفارقَ الناس داءُ البُخل وانبعثَت
إلى المكارم نفسُ النكس والبَرِمِ
ومعاذ مصدر عاذ يَعوذ إذا التجأ، ومنه معاذ الله. والأحلام جمع حلم وهو العقل، يُقسم بالعقول لأنها عظيمة، والعرب لا تُقسم إلا بالعظيم عندها، ومنه: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ونحو ذلك. والخلد القلب. والنافس القدح الخامس. والمنيح القدح الثامن. وأولياء سيدنا: أي أصحابه الذين يَلونه ويليهم. والشانئ المُبغض. وكوكب الرجم يعني الشهاب. وحادي النجم هو الدبران وهم يتشاءمون به، قال القائل:
إذا دبران منك يومًا لقيتُه
أؤمل أن ألقاكَ يومًا بأسعد
وقال بعضهم، وأظنُّه طُفيل الغنوي:
أما ابن طوق فقد أَوفى بذمَّته
كما وفَى بقلاصِ النَّجمِ حاديها
وتَيسِر من يَسِر الرجل إذا لعب بالقداح المارِّ ذكرُها. والسَّحا واحدته سحاة وهي القِطعة تسحى من القرطاس. والسُّهمة الاستيهام بالأزلام وهي القرعة. وقوله كفالة البَتول المراد مريم عليها السلام وقد كانوا اقتَرَعوا على كفالتها؛ وذلك بأن ألقَوا الأقلام التي كانوا يَكتُبون بها التوراة في اليمِّ، وقالوا كلُّ من جرى قلمه على عكس جرْي الماء فالحق معه فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك فسلَّموا له الأمر وكفَلها صلوات الله عليهما، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في القرآن الكريم فقال عز من قائل: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وقول أبي العلاء: والحاكمة في السفر بين صَواحِب الرسول، إشارة إلى ما كان يفعله من الاقتراع بين أزواجه إذا أراد سفرًا أو غزوة، وكانت القُرعة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في غزوة المريسيع، وبسببها نزل آية التيمم حين فقَدت عقدها كما هو مُبيَّن في محالِّه.
والمعنى: يقول لولا أن الإسلام حرَّم القمار لضَربْنا على هذا الكتاب بالأزلام لأنه لنفاسته لا يُسلمه كلٌّ منا لصاحبِه حتى يَحظى بشرفه دونه، ويقول معاذ الله أن يَرضى المُنافِسون في هذا الكتاب بأحكام الأزلام وهي لا تُعقَل. ويقول ولو لم يُحرِّم الإسلام إجالة الأزلام كنا نَيسِر على إقامة الصحيفة في المنازل للأُنس والاستفادة بقراءتها، فأينا فاز قدحُه أُقيمَت في منزله دون سواه لا أنَّنا نَيسِر على مقادير سحاها أي قطَعها، فمَن خرج له قدح له نصيب واحد أخذ منها قطعة، ومن خرج له قدح له نصيبان أخذ قطعتين كما كان يُفعل ذلك في الَجزور الذي يُقترع عليه في الجاهلية. ثم يقول وأحسب أولياء سيدنا يَستَهِمون على هذه الصحيفة كما كان النبي يَستهم بين أزواجه إذ لم يُمكنهم أن يَيسِروا عليها لحظر الإسلام ذلك.
(٦) الصك الكتاب. ويُبجح يفخر. والنظراء المماثلون. وحيرَي الدهر: أي مدة الدهر. ويوح الشمس، وحكاه يعقوب بوح، وكان ابن الأنباري يقول هو بوح بالباء وهو تصحيف، وذكَره أبو علي الفارسي في الحلبيات عن المُبرِّد بالياء المجمة باثنتين، وكذلك ذكَره أبو العلاء المعري في شعره فقال:
وأنت متى سفرتَ رددتَ يوحًا
ولما دخل بغداد اعتُرض عليه في هذا البيت فقيل له: صحفته وإنما هو بوح بالباء واحتجُّوا عليه بما ذكَره ابن السكِّيت في ألفاظه، فقال لهم: هذه النُّسَخ التي بأيديكم غيَّرها شيوخكم ولكن أَخرِجوا النسخ العتيقة فأخرجوا النسخ العتيقة فوجَدُوها كما ذكره أبو العلاء. وقال ابن خالويه: هو يوح بالياء المعجمتَين باثنتَين، وصحَّفه ابن الأنباري فقال: بوح. وجرى بين ابن الأنباري وبين أبي عمر الزاهد كل شيء حتى قالت الشعراء فيهما، ثم أخرجنا كتاب الشمس والقمر لأبي حاتم السجستاني فإذا هو يوح بالياء المعجمة باثنتين. وأما البوح بالباء فهو النفس لا غير.
(٧) جنب الفانية إلى عيش الغانية: أي شوق المرأة الفانية إلى رجوعها للصِّبا. وأنضاء الإعلال إلى إفضاء الإبلال: أي شَوق المرضى إلى الشفاء والبُرء. وذات الطول والعرض يعني الأرض. والصهوة المطمئن من الأرض تأوي إليه ضوالُّ الإبل. والمعنى أن الشوق إليه لو تجسم لملأ الأرض والفضاء ولم يَكتفِ بذلك حتى يكلف كل ذي ضيق منهما أن يَحمل من ذلك الشوق ما يحمله ذو السعة. ومن هذا المعنى قول أبي تمام:
وأنفسٌ تسعُ الأرض الفضاء فلا
يرضون أو يُجشموها فوق ما تسع
(٨) السلمة الصخرة. والسلمة الشجرة المعروفة. وعارية لا ورق لها. وروق اليعفور: أي قرن الغزال. ويُريد بذلك القلق والاضطراب كما قال:
وبلدة مثل ظَهر الظبي بتُّ بها
كأنَّني فوق رَوق الظبي من حَذِر
وقال امرؤ القيس:
ولا مثل يوم في قداران ظَلتُه
كأني وأصحابي على قرنِ أعفرا
وقال المرار الفقعسي:
كأنَّ قلوب أدلائها
معلَّقة بقُرون الظِّباء
والجذل الفرح. والنحيزة الطبيعة. وآلي العامة، الآلي المُقصِّر، يريد مقصري العامة. والسامة الخاصة من الناس. والمُزَأبق الدرهم المَطلي بالزِّئبق. والمعنى أنه لو جاز أن الطبيعة تتبدَّل والغريزة تتحوَّل لنقَلَني من العامة الذين أنا منهم وصيَّرني من الخاصة، كما تُحوِّل الكيمياء النحاس إلى ذهب.
(٩) خَلة: أي صفة. والمعنى أنه لما جاء ذلك الكتاب إلى بلدتنا عَظُم أمره عند أهلها حتى ظنوا سلامه السلام الذي ذكَره الله في القرآن خطابًا لأهل الجنة، وظنوا أنفسهم فيها حيث إنهم يخاطبون به، إلا أنهم وإن نالوا أوصاف أهل الجنة بذلك فقد أشبهوا أهل النار في شيء آخر، وهو الخرس والعي عن جواب ذلك الكتاب حتى كأنما قيل لهم: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ.
(١٠) التبانة: الفطانة. والناكت الذي يَبحث الأرض بعود أو قلم وإنما يَفعل ذلك لحياء أو شغل قلب. قال الشاعر:
لا يَنكُتون الأرض عند سؤالهم
لتطلُّب العلات بالعيدانِ
والأنوق طير لا يَسكُن إلا أعالي الجبال. والعَروج جمع عرج وهو الجملة من الإبل. والمعنى أنهم راموا أن يأتوا بمِثل ما أتى به من الأدب والبلاغة فلم يمكنهم. وقوله: تراوءه من مَبارك العروج، يريد أنهم رأوه قريبًا في أعينهم فالتمسوه فوجدوه في بروج السماء بعدًا. وقوله: ولن تُوجد آثار النوق، يُريد كما أنه يَستحيل أن ترقى الإبل إلى أوكار الطير كذلك يَستحيل على هؤلاء أن يرقوا إلى منزلته.
(١١) وميضه: أي لمعه، يُقال: ومَض البرق يَمض. قال امرؤ القيس:
أصاحِ ترى برقًا أُريك وميضه
كلمع اليدَين في حَبِيٍّ مُكلَّل
والآلق اللامع. واليم البحر. والغَدير هو ما يُغادره السيل، وقيل إنه سُمِّي غديرًا لأنه يغدر بأهله؛ وذلك أنه ينقطع أشد ما تكون الحاجة إليه، ويشهد له المثل: أغدر من الغدير، وقال الكميت:
ومن غدره نَبَزَ الأوَّلون
بأن لقَّبوه الغديرَ الغديرا
ويروى لغيره:
لي في بطون اليَعملات مزادة
تروي إذا غدَر الغديرُ الطامي
السُّهى نجمٌ خفيٌّ في بنات نعش. والمعنى أنه أتى بالمعاني الكثيرة في ألفاظٍ قليلة، والمعاني الخفية واضِحة كالبدر.
(١٢) العازم المَجد الذي لا يردُّه شيء. والرازم من الإبل الذي لا يقوم من الهزال. والكَتِد ما بين الكاهل إلى الظهر. وراضَ: أي ذلَّلَ. وأبس، يقال: أبس بالناقة إذا دعاها للحلب. قال امرؤ القيس:
لنعمَ الفتى تعشو إلى ضَوءِ نارِه
طريف بن مالٍ ليلةَ الجوع والخَصرِ
إذا البازل الكَوماء راحَت عشية
تَلاوَذَ من صوتِ المُبسِّين بالشجرِ
ويريد بوحوش اللغات غريبها ووحشيَّها. والجارسة النحلة. قال ابن السكيت: جرست النحل الأزهار إذا أكَلته. والكحلاء نبت مرعى النحل. وتسمح بالمسائب الملاء: أي تجود بأوعية العسل الملاء. والغرب نبت ضعيف مر ينبت على الأنهار. والضرب العسل. والاشتيار، يقال: اشتار العسل إذا جَناه من الخلية. والمعنى أنه للطافته وحدَّة ذهنِه يَردُّ الألفاظ الوحشية المهملة إنسية مستعملة. يعني لحذقه يستعمل اللغة الغريبة فيُقرِّبها من الأذهان بحيث تألفها الطباع، فمثله في ذلك مثل النحل الذي يأكل المر من النبات ثم يلقيه عسلًا، وقد نظم هذا المعنى أبو العلاء فقال:
ردَّت لطافته وحدَّة ذهنه
وحشَ اللغات أوانسًا بخطابه
والنحل يَجني المرَّ من نَور الربى
فيعود شهدًا في طريق رضابِه
ومثَّل لذلك أيضًا بالهواء الذي يَجذب ماء البحار وهو ملح ثم يُمطره على الناس غيثًا عذب المزاق. وهنا أذكر عبارةً لطيفة، وهي أن جلال الدين الرومي صاحب كتاب المثنوي المشهور كان يُملي على تلامذته كلَّ ما نظمه من ذلك الكتاب يومًا فيومًا فاتَّفق أن مضت عليه أيام لم يتيسَّر له فيها نظم شيء منه فألحَّ التلامذة في الطلب فقال لهم شعرًا معناه: «مهلًا، فلا بد من برهة من الزمن حتى يستحيل الدم إلى لبن.»
(١٣) المشوف المجلوُّ البليغ. واقتضاب العسير، يقال: اقتضب الناقة إذا ركبَها قبل أن تراض. والعسير الناقة التي لم تتمَّ رياضتُها، استعارها للكلام المُمتنع. وتُبلُّ تشفى. والبَرِم الضَّجِر. ورياضة الهَرِم في أمثال العرب من العناء. رياضة الهرم والغفر منزلة من منازل القمر. والغُفر ولد الأروية وهي أنثى الوعول. والظالع الأعرج. والبارق البرق. والخُزَزُ ولد الأرنب. والضَّغيب صوت الأرنب. وسوطُ باطل هو الذي تُسمِّيه العامة حبل الشمس؛ وهو ذلك الضوء الضعيف الذي يدخل من الكُوَّة فيُرى فيه شيءٌ كالهباء، وفي المثل: أرق من خيطٍ باطل. والمسد حبل مَتين من ليف. والمعنى يقول لو كان لفظه البليغ يقبل أن يمثل عليه ويُقلَّد كما يقلد الخط الحسن والحروف الجميلة لكلفنا أنفسنا تقليد ذلك عسانا أن نَظفر بإنشاء جملة لطيفة وعبارة منسَّقة تُشبه عبارته، ثم قال ولكن ذلك لا يكون أبدًا ومَن حاوله يكون كمَن حاول مالًا من بخيل أو رياضة الهرم. وقوله: بعدت محالُّ الغُفر الطالع، يقول إننا لا نتساوى في المنزلة؛ فهو في الثريا ونحن في الثرى. وقوله: ولو اجتهد الخُزَز مدى عمره، يريد أننا لا نكون مثله أبدًا كما لا يكون صوت الأرنب مثل صوت الأسد.
(١٤) لامُه: أي شخصه، قال الراجز:
مُهرية تخطر في ذمامِها
لم يُبقِ منها السيرُ غير لامِها
والنبراس المصباح. وسراة المنبر أعلاه. والسخبر ضربٌ من النبت يطول ثم يَنثني من أصوله، فيُقال للذي تغيَّر عن عهدِه ركبَ أصول السخبر، وقال حسان يَهجو الحارث بن عوف المري من غطفان:
إن تَغدِروا فالغَدر منكم شيمة
والغدر يَنبُت في أصول السَّخبر
والمعنى يدعو له بأن يَخلد جسمُه كما خلد اسمه وكلامه في الدنيا؛ لأنه أولى الناس بالبقاء ودوام الحياة، وعبَّر عن ذلك بإضاءة النبراس.
(١٥) جعلوا الرسائل كالوسائل أي جعلوها ذرائع يتوسَّلون بها إلى طلب المال، والمُحول الأراضي المجدبة. وبالرجع: أي بالمطر. والأرض الهامدة إذا نزلت بها الأمطار أخذت زخرفها وازينت، وقال تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. يريد أن هؤلاء سجَعُوا في كلامهم بأسجاعٍ أرادوا أن يَتزيَّنوا بها كتزيُّن المُحول بالرجع. والرَّتب الشظف والشدة. والوبيل، يُقال: وَبُل المرتع أي صار وخيمًا. والعِد الماء الذي له مادة لا تَنقطع. والسُّكَّيت العاشر من خيل السباق. والزج الحديدة التي في أسفل الرمح. وتعايَنوا: أي تناظروا. وتناضلوا تعارضوا بالكلام والأشعار. والمعنى يقول لو طمعوا أن يَصِلوا إلى أدب الوزير وبلاغته لبَذَلوا كل مُرتَخص وغالٍ ليدركوا من ذلك أقل شيء.
(١٦) الآيات التِّسع هي: العصا، واليد البيضاء، والطوفان والجراد، والقُمَّل، والضفادع، والدم، وفلْق البحر، وتفجُّر الصخرة. وابن عمران هو موسى عليه السلام. ويُريد بالعصوان قصيدتان. والأنقاء الرمال. يُريد وجَد أذهانًا سيالة ذكية.
(١٧) المعنى: الحَصير المقصود به المعنى الواسع الكبير. وصورة كسرى المقصود بها الصور التي كانت تُصوَّر على كئوس الشراب، وكانت عادة الفرس أن يُصوِّروا عليها صور ملوكهم، وقد أشار إلى ذلك أبو نواس في قوله:
تدار علينا الكأس في عسجدية
حبَتْها بأنواعِ التَّصاوير فارسُ
قرارتها كِسرى وفي جنباتها
مهًا تدريها بالقسيِّ الفوارسُ
وتمثال قيصر المُراد به صورته على الدينار، وكانت الدنانير التي تستعملها العرب في العصر الأول رُومية ثم ضرَبها المسلمون، وقد صوَّر بعض ملوك المسلمين صُورته على الدينار. قال الثعالبي في اليتيمة: حَكى ابن لبيب غلام أبي الفرج الببغاء أن سيف الدولة أمَر بضرب دنانير للصلات في كل دينار عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته، فأمر يومًا لأبي الفرج منها بعشرة دنانير، فقال ارتجالًا:
نحن بجودِ الأمير في حرمِ
نرتع بين السعود والنِّعَمِ
أبدع مِن هذه الدنانير لم يجـ
ـرِ قديمًا في خاطر الكَرمِ
فقد غدَت باسمه وصورته
في دهرنا عَوذة مِن العدمِ
وقوله: لم يُزْرِ به، أي أن ضيق الكأس وقِصَر الدينار لم يُنقِصا شيئًا من صورتَي كسرى وقيصر بل وَسِعاهما تمامًا. فالمعنى أنَّ الوزير قادر على صَوغ المعاني الكثيرة في الألفاظ اليَسيرة فتدل عليها تلك الألفاظ وتُمثِّلها للعيان كما دلَّت الصورة على الملك ومُلكه.
(١٨) السرب جماعة الغزلان. والأجدل الصقر. والمجدَّل القصر. والمعنى: إن كان الوزير يرى فضلَه العظيم يَسيرًا فلا عجب، فمثله مثل الصقر الذي يَقِف على قَنن الجبال وشرفات القصور، فتراه الغزلان وهي بأدنى الوادي فتعجب لذلك وهو لا يَعجب من نفسه ولا يرى أنه أتى شيئًا يُتعجَّب منه ولا ارتقى رقية سامية.
(١٩) الوانية المتأخرة. والإرقال نوع من السير. والصُّفر النحاس. والأضاة الماء. والسعود يُريد سعود النجوم. والردهة الحفرة يَجتمع فيها الماء. والجَبهة مَنزِلة من منازل القمر. والمعنى: يقول إن كان بقيَ عندنا ذهن يَقبل التثقيف والتلبيب فسوف نَنتفع بما تُرسله إلينا من كُتبك وفصاحتك ونتعلَّم منها الأدب وتُضيء بها أذهاننا كما يُضيء النحاس ويلمع إذا قابَلَته الشمس. وقوله: وقد يُرى خيال الجوزاء إلى آخره، يُريد لا عجب أن تَبعث في نفوسنا بعضًا من فصاحتك وأن يَظهر فينا شيء من أدبك؛ فقد يُرى خيال الجوزاء على رفعتها في المرآة على ضِعتها، وقد تَفيض الردهة مما يُسكب عليها من المطر النازل من منزلة من منازل القمر.
(٢٠) يقول لو أنه ذَكر اسم المعرة في حديثه ولو غير مصحوب بمدح وتقريظ أو أنها خطَرت على باله مرةً لطارت المعرَّة؛ فرحًا بذلك وافتخارًا بأنها خطَرت على باله وجاء اسمها ضمن أقواله، ولو لم يتعمَّد ذلك أو يَصحبه بالثناء عليها.
(٢١) الغِرقئ الغلالة التي بين قشرة البيضة وبياضها، وفي المثل: أرقُّ من غرقئ البيض. واللوح الجو والفضاء. والقَسيمة جُونة العطر. والوسيمة المرأة الجميلة. والمعنى: يقول إنَّ رحيل الوزير عن المعرَّة وانتقاله إلى بلده كانتقال الفرخ من البيضة إلى فضاء الدنيا، ويقول إنَّ المعرة بعده كحقَّة العطر التي نفَد منها العطر ولم يبقَ بها إلا نَشره؛ يريد ما خلفه الوزير بها من حسنِ أحدوثته وطيب ذكره.
(٢٢) أزام هي السنة الشديدة، قال الشاعر:
أهان لها الطعام فلم يَضَعْه
غداة الرَّوع إذ أزمت أزامُ
ويُريد بالشهب الشامية واليمانية منازل القمر الثمانية والعشرين. والزبرقان القمر. وقوله: نسَبَت العرب إليها كل سحابة أمطرت، يُريد ما تذكره العرب من قولها: أُمطرنا بنوء الجبهة، أو الغفر، أو السِّماك ونحوه. والخضراء السماء. والمُراد بأشباح مضيئة زهراء النجوم الأخرى التي ليسَت منازل للقمر. والمعنى أن المعرَّة شَرُفت على جميع الأمصار بكون الوزير حلَّها برهة من الزمن، وكذلك كلُّ دار يَحلُّها تَشرُف على غيرها وتتميَّز عن سواها فمِثل الوزير مثل القمر الذي لما نزَل في منازله الثمانية والعشرين المعروفة شهرت ونسبَت إليها العرب نزول المطر، وغيرها من النجوم التي لم يُنزلها هُجرت ولم يُنسب إليها شيء.
(٢٣) الخُلق الشكس: أي العَسِر. والجِد الحظ. ويتديَّرها يتَّخذها دارًا. ولأثارتها: أي لشرفها وفضلها. والمعنى: يقول يَجب على المُتأدِّبين أن يتَّخذوا منازله التي نزلها أسواقًا للأدب يجتمعون فيها ويتذاكرون فيفعلون بذلك مثل ما يفعل الناس من احترام الأمكنة التي نزلها الأنبياء والصالحون كمقام إبراهيم، وهو الحجر الذي كان يقوم عليه حين كان يَبني البيت.
(٢٤) المُقلَّد مكان القلادة من العنق، قال القائل:
ضخمٌ مُقلَّدها، عبلٌ مَقيدها
والجَونة الشمس. ويَشرق من شَرِق بريقه: أي غُصَّ. والذُّرور من ذرت الشمس أي طلعت. والمَحار الصدف. ومَفرق الجبار يريد تاج الملك. والعَنانة السحابة. والجالية الواضِحة. والجَهام السحاب الذي هَرَق ماءه. والدجون جمع دجن وهو الغَيم. والمعنى: قوله مثل ما نُقل من المحار؛ يُريد أن انتقال الوزير من المعرة إلى بلده كانتقال اللؤلؤة من الصدف إلى تاج الملك. وقوله: ومغانيه الأولى كالشجرة بعد اجتناء الثمرة، يريد أنه لما ترك المعرَّة ورحل عنها بقيت بعده كالشجرة بلا ثمرة. وقوله: ولم يخفَ علينا أن الغيث من الدجون، لما قال إن المعرَّة بعد الوزير كالغمامة بلا ماء، قال ولم يخفَ علينا أن ماء الغمامة كان فيها كأنه في سجن؛ وذلك أنه لا يُنتفع به إلا إذا خرج من الغمامة، ومادام فيها فلا فائدة منه. وقوله: وأن القمر لم يُخلق للسمر، يقول إنَّ القمر خُلِق لمنافع كثيرة ولم يُخلق لمجرد السمر في ضوءه، وكذلك الوزير لم يُخلق لمجرَّد انتفاع أهل المعرة بوجوده عندهم، وإنما خُلِق للعالم أجمع يَنتفعون به على وجوهٍ شتَّى. وكما أن القمر لما لم يَكُن للسَّمر فهو يغيب في بعض ليالي الشهر، فكذلك لا غرو إذا غاب الوزير عن المعرَّة. وقوله: وليس للمُستعير أن يحسب العارية هبةً؛ أي ليس لأهل المعرة أن يَحسبوا أن مروره عليهم وتشريفهم بالنزول عندهم برهة من الزمن إقامةً ولا يَجزعوا من رحيله عنهم. وقوله: وأن موضع الزهرة أعلى العبهرة، يريد كما أن زهرة النرجس أو الياسمين لا تنبت إلا في طرف الغصن وأعلاه ولا يكون محلُّها في وسطه أو أدناه فكذلك محل الوزير إنما هو مدينته التي يسكنها وليست المعرة.
(٢٥) الصيت بُعد الذِّكر ومسيره في الأرض. وأصغراه قلبُه ولسانه. والجمد الشتاء. والومد الحر. والمعنى أنه وإن ارتحَل الوزير عن المعرَّة إلى غيرها فإنَّ اسمه وذكرَه مُقيم بها؛ وذلك كشهرَي ربيع؛ فإن العرب سمَّتهما كذلك لوقوعهما إذ ذاك في أول الربيع، وهو حلول الشمس برج الحمل، ثم انتقل هذا الزمن إلى غيرهما من الشهور وبقيَت التسمية لهما مع انتقال الصفة عنهما وكذلك الجمادايان.
(٢٦) ممتارة من الميرة. والكابية النار المُغطاة بالرماد. والهود الانطفاء. وعبدة الأبداد أي الأصنام. وقوله: إن أصل الطيب، هذا مِن المزاعم المشهورة. قال ابن الأثير في تاريخه ما نصُّه: وقيل إنَّ آدم عليه السلام حجَّ من الهند أربعين حجةً ماشيًا، ولما أُنزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنَّة، فلما وصل إلى الأرض يَبس فتساقط ورقه فنبتَت منه أنواع الطيب بالهند. والمعنى أنه لو كان للأرضين والبلدان قابِلية التخلُّق بالأخلاق الفاضلة لأصبحت ساحة المعرَّة موطن الأدب بحلوله فيها كما أصبحَت الهند موطن الطيب بحلول آدم عليه السلام فيها، ولأصبح أهل المعرَّة أهل فصاحة وبلاغة، ولكن أبَتِ المعرة ولها العذر؛ فإنه ليس للمدائن ونحوها من الجمادات التخلُّق بالأخلاق الفاضلة، وإنما كان الأولى بالأنيس الذي فيها وهم سكانها أن يتخلَّقوا بأخلاق الوزير وصفاته فيُصبحوا جميعهم فُصَحاء أدباء.
(٢٧) المرئي المفعول من رأيت الشيء فهو مَرئي. وابن داية الغراب. والجداية الغزالة. والقار الآكام. والقِرواح الناقة الطويلة القوائم. والطراف قبَّة من الأدم. والنسع حزام الناقة. والنِّجاد نجاد السيف. والشِّسع سير النَّعل. والقطب النابت شجرة صغيرة. والقطب الثابت النجم المعروف. ونسر الحافر ظُفر الجواد. والنسر الطائر نجمٌ من منازل القمر. والمعنى: يقول لولا تنبُّه أهل المعرة وأشبَهوا الوزير في أدبه وفضله، ثم قال وكيف يكون ذلك وما همَّ الغراب بأن يَصيد الغزالة، فكيف يلتقط الآكام ويَرفعها بمنقاره، يريد أن أهل المعرة ليس لهم من الأدب حظٌّ يسير فكيف يكون مبلغهم منه مبلغ الوزير.
(٢٨) المرجل القِدر. والأرجَل الفرس الذي في إحدى رجلَيه بياض وهم يَتشاءمون منه. يقول إنَّ لحق هذا الفرس المشئوم الصيد فجيء به وطُبخَ على المرجل. والوقير القطيع من الغنَم يكون فيه كلبُه وحماره، قال أبو النجم:
تَنبحه الحيات في كسورها
نبحَ كلاب الحي في وقيرها
يريد: إن وُجد عندنا خَلة من خلال الأدب فليس ذلك من كسبنا، وإنما وُجد عندنا اتفاقًا كما يتفق للراعي الفقير الذي لا يَملك شيئًا أن يكون بين يدَيه قطيع من الغنم يتولاه، فمن رآه كذلك فلا يحسبنَّ أن ذلك له، وإنما هو شيء وُجد بين يدَيه اتفاقًا، أو أنه يريد أن يقول: إذا وُجدَ عندنا شيء من الأدب فهو نزرٌ حقير كوَقير الراعي الفقير. والمَسان جمع مُسنٍّ من الخيل. والمهار جمع مُهر. ويُريد بميدان القياس ميدان السباق. والخَشاش من الطير ما لا يصيد منها. والغذَوي يريد الصغير من الخيل. والرمِّاء الزيادة. والعرادة اسم فرس كانت في الجاهلية لهُبيرة بن عبد مناف أحد بني عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة وهو الذي يلقب بالكلحبة، والعرادة اسم للجرادة وهم يُشبِّهون الفرس بها كثيرًا، ويروى:
وأدَرك إبقاء العرادة ظلعها
وقد تركتني من حُزيمة إصبعا
وقال الكلحبة في فرسه:
تُسائلني بنو جشم بن بكر
أغرَّاءُ العرادةُ أم بَهيمُ
كُميتٌ غيرُ مُحلِفة ولكن
كلَون الصِّرف عُلَّ به الأديمُ
والذباب معروف. وطرف القرضاب وهو السيف يُسمى ذبابًا أيضًا. والجليلة الثمامة، ويُقال للثمام الجليل. والقبيلة إحدى قبائل الرأس وهي القِطَع المشعوب بعضها إلى بعض. والمعنى: إنْ وجدنا شيئًا تافهًا من الفصاحة فجمَعنا بذلك والوزير ميدان الأدب فليس ذلك بشيء فقد يَجمع الميدان الواحد بين المُسنِّ من الخيل وبين المُهار ويجمع فضاء الجو بين جوارح الطير وبين خشاشه فتسبق المهار ويُصطاد الخشاش فلا يُشرفها ويعليها كونها جُمعت مع ما هو أعظم منها في خطة لأنها لم تكن فيها إلا مغلوبة مقهورة. وكذلك إن شاركناه في لفظ الأديب فليس لنا به فخر فقد يُطلَق اللفظ الواحد على مُسمَّيَين متباينين في الرفعة والانخفاض، أحدهما في الثريا والآخر في الثرى كالذباب الذي يُطلَق على حد السيف ويُطلَق أيضًا على الطير الضعيف الحقير المعروف، وكذلك فرس الكلحبة والجرادة يشتركان في اسم العرادة والفرق بينهما عظيم.
(٢٩) المُثوِّب، يقال: ثوَّب الرجل أي أشار بثَوبه، وأكثر ما يكون ذلك للتبشير بفَتح ونحوه، وقد يُثوِّب الرجل لغير ذلك فيكون لطلب الإغاثة ونحوها كما قال:
وخيرٌ نحن عند الناس منهم
إذا الداعي المثوِّبُ قال يالا
أي قال يا لفلان. والمؤشِّر الذي في أسنانه أشرٌ وهو تَحزيز في أطرافها وهو مُستحسَن عند العرب. وقوله: وليس كل مثوِّب مبشرًا، يقول ليس كل من يدَّعي الأدب ويتحلى بشارته يكون أديبًا. والجَبَّار من النخل ما فات اليد، قال القائل:
سوامق جبَّار أثيثٌ فروعها
وعالَين قنوانًا من البسر أحمرا
والإبار تلقيح النخل وإصلاحه. والمقاء الأرض الواسعة فظَليمها ذكَر النعام، وظَليم السقاء لبن يُشرب قبل أن يروب، قال الشاعر:
وقائلة ظلمتُ لكم سقائي
وهل يخفى على العَكد الظليم
واللاغب التعب. والمعنى أن للوزير في الأدب مرتبةً لا يُبلغ إليها، وكيف يَبلغ إليها أحدٌ ولم يعمل في الحصول عليها ما عمل الوزير ولا سار في إدراكها مسراه بل تخلَّف وتوانى، وهل يَحظى بثمر النخل إلا من لقَّحه وأصلحه دون غيره، وهل يصيد الظباء إلا من طلَبها ولم يُقعِده عنها طلب الراحة وحب الكسل، فما مثل من يريد أن يكون في مرتبة الوزير على تخلُّفه وعجزه في الأدب وتوانيه في الطلب والدأب إلا كمثل أُم وهيب، ومثل من أراد ذلك أيضًا كمثل ما قال الشاعر:
فأصبحتُ من ليلى الغداة كناظر
مع الصبح في أعقاب نجم مُغرِّب
أي: فاته الغرض وبعُد عليه مُتناوله بُعد النجوم. وقوله: ليس حسن الظاهر للمُتظاهر، يُريد ليس الحُسْن للمتظاهر بالحُسن وإنما هو لمن عنده الحسن حقيقةً وطبعًا، أي ليس كل من يدَّعي الأدب أديبًا. وقوله: ومِن الزور ادعاء المشاء للنَّزور، أي من الباطل أن يُوصَف الجاهل بالعلم. والمشاء كثرة الولد. والنَّزور المرأة القليلة الأولاد. ويقال: جنَّ النبت والروض إذا طال وقيل إذا أزهر. والأنواض جمع نوض وهو المسيل من الغلظ إلى السهل. والعقيق الوادي. والأبا رق جمع أبرق وهو غِلَظ من الأرض فيه حجارة ورمل وطين. وتُبسط تُفرش. والنمارق الوسائد. والقريُّ مسيل الماء. والعبقري البسط. والمعنى أنه وإن وُجد عندهم شيء من الأدب فهم ليسوا موضعًا لأن يوجد فيهم نفيسُه وغريبُه.
(٣٠) المعان المنزل. والرعان رءوس الجبال. والمُشتري هو السعد الأكبر، والزهرة السعد الأصغر، ويقول المُنجِّمون إنه إذا حصل بينهما اتصال كانا سببًا في التحابب. والمعنى: يقول وإن بعُد الوزير عنا فلا يَزال ينفعنا بعلمه كالمشتري والزهرة اللذان يُسبِّبان في الناس التحابب وإن بَعُدا عن الناس، ثم استعاذ من هذه المقالة التي أتى بها للتمثيل؛ وهي أن الزهرة والمشتري يُسبِّبان التحابب بين الناس؛ لأن ذلك من أضاليل الأولين والمُنجِّمين الأقدمين الذين كانوا يَجعلون للكواكب تأثيرًا على هذا العالم.
(٣١) ضرب أرواق التئية بمصر: أي حلَّ مصر ونزلها. والإصر الثقل. والمَزالف هي المنازل التي تقرب من الريف. والسيار الفرد أحد الكواكب السَّبعة. والمعنى: يقول كما أن السيار الفرد عند المُنجِّمين يكون تأثيره على الأقاليم جميعها قريبها وبعيدها، كذلك السيد يَرعى أهل المعرَّة ويَحوطهم وهو بمصر.
(٣٢) السام الذهب. والسُّمَى الصيت والشُّهرة. والحُشاشة البقية. والفراشة أصلها الماء القليل، واستُعيرت في هذا الموضع. وريق كل شيء أفضله. والسَّرَطان حيوانٌ من خلق الماء لا صوتَ له. وأبكأ: أي أقل لينًا. والدر اللين. والخَروس هي البكر إذا وضعت البطن الأول، والبكر إذا وضعت كانت أقلَّ الناس لينًا. وذوات الأصوات المتنصِّفة يريد العجماوات. والناطقون بأَسَل منحرفة العجم. والأسل الأَلسُن. والربوة ما ارتفع من الأرض، والرُّوبة ما انخفض منها. وعَروبة يوم الجمعة. والمعنى: يقول كل أديب عندنا كان معروفًا بالفطنة طائر الصيت في الأدب لما رأى أدب الوزير بهَره فطاش لبُّه وحُبس كلامه وجمد لسانه وجسمه. ثم قال: وإن هذه الحالة التي أصابت أدباءنا أقبَحُ من حالة العجماوات والأعاجم؛ فإن العجمة التي في الحيوان خير من البكمة التي تعتري الإنسان. وقوله: وتمنِّي الفائت، يقول إنه لما جاء كتاب الوزير حُبسوا عن الكلام وحُصروا عن الإجابة عنه، فمحاولتهم ما فاتهم من الكلام وغاب عنهم من البيان كمُحاولة إحياء المائت وكمحاولة من يجعل المرتفع منخفضًا والمنخفض مرتفعًا والسبت جمعة وهكذا. وقوله: وضائعٌ أداء الفروض قبل دخول الأوقات، يقول إنه لما جاءهم كتاب الوزير عجزوا عن الإجابة عنه وحُبسوا، فتظاهُرهم بالأدب وانطلاق ألسنتهم بالكلام قبل هذا الوقت الذي كان ينبغي إظهار الأدب فيه والاقتدار على الفصاحة، وتظاهُرُهم بعد ذلك أيضًا بالأدب حين يمضي هذا الوقت وتفوتُ تلك الفرصة باطل وعبث وعمل ضائع لضياع أداء الفروض قبل دخول الأوقات والإحرام بعد مُجاوَزة الميقات.
(٣٣) النقيمة من قولهم وقع ذلك في نقيمتي أي في نفسي وخلدي، وكان أصل ذلك من قولهم: نقمتُ الشيء إذا أنكرتُه وغضبت منه، سُمي الموضع الذي يَقع فيه ذلك نقيمة بالمُجاوَرة. وأهل الشارة هم الأدباء الأكياس. واللاقطة الآخذة الشيء من الأرض، وفي المثل: لكل ساقطة لاقطة. والمعنى أنه وإن يكن ما غاب من كلامهم وشرَد عنهم من ألبابهم لا قيمة له في الحقيقة، إلا أنهم يرتاحون إليه ويَعتدونه شيئًا، ولا عجب في ذلك؛ فإن فرح اللاقطة الفقيرة بما سقَط على الأرض من النقد المَنثور على رأس العروس كفرح الماشطة بواسطة العقد، وكذلك أُم الفتاة السَّمِجة لا تَحملها محبتها للجمال ورؤيتها الحسن في الوجوه الحسان أن تَقتُل بنتها، بل تُحبها على سماجتها وتُشفق عليها وتصون مهجتها.
(٣٤) الأفيل الصغير من الإبل. والمِرماة سهم صغير. والناب الناقة المسنَّة. والشواب النوق الفتية. والنغَم يريد الكلام. والمتحمِّسة قريش ومن يَنتسب إليهم كبني عامر بن صعصعة وغيرهم. والمعنى: يقول من الجور أن يذمَّ الناس أهل المعرَّة لأنهم لم يبلغوا مبلغ الوزير في العلم والأدب كما أنه من الجور أن يُقتل الجمل الصغير إذا عجز عن حمل ما يَحمله الفيل، وأن يُكسر السهم لأنه أقصر من القناة. ثم قال: ولولا أن الأمر كذلك وأن المرء لا يكلف بما هو فوق طاقته لوجب إجلالًا لقوله ترك الكلام بالكلية إلا ما كان ضروريًّا لقضاء الحاجات ككَلِمتَي لا ونعم. وضرب لذلك مثلًا بالعرب في زمن الجاهلية؛ إذ كانت لا تتخذ مسكنًا مرَّبعًا تعظيمًا للكعبة لأنها مربعة.
(٣٥) السبيبة هي الشقة من الثياب. والشَّرخ عنفوان الشباب. والبَرَم ثمرُ العَضاة. والمرخ شجر كثير النار. والمعنى أن من يطلب الأدب غير الوزير لا يَحصل منه إلا على شيء تافه ويكون مثله كمثلِ مَن أفنى عمره في التماس البَرَم والمرخ، ومن أفنى زمن الشباب في نسج شقة من الثياب، ومن فعَل ذلك فقد حصل بعد الكدِّ والكدح على شيء تافه. والنشم شجر تُعمل منه القِسيُّ. والرشم أول ما يظهر من النَّبت. والسحم ضرب من النبت. والوحم الشهوة، وأكثر ما يُستعمَل ذلك في المرأة الحامل إذا اشتهَتِ المأكولات، وقد يُنقل هذا اللفظ إلى الرجال، قال الراجز:
أزمان سلمى عام سلمى وحمي
والثَّغَب غدير في غلظ من الأرض. والنَّغَب جمع نغبة وهي الجرعة. والمعنى: قوله: السحم لا يقطع الوحم، يُريد أن من يطلب أن يبلغ أدب الوزير لا يَحصل منه على شيء يقمع شهوته أو يُرضيه. وقوله: والنشم لا يُحسَب من الرشم، يريد أن نسبة الوزير إلى غيره كنسبة كبار الشجر إلى صغار النبت. وقوله: ولا يُحكم على مده بالجزر، يريد أن الوزير بحر لا جزر له عظيم لا تنفد مادته وأن غيره كجدول تفنيه الجرع أو شمع يفنيه اللمع.
(٣٦) الصقع الناحية. والمَسارح الأمشاط، ويُقال للقوم المُستوين في الذمِّ هم كأسنان المشط وهم كأسنان الحمار. والقُمْر القوارح هي الحمير. والجريض الريق الذي يُغصُّ به. والقُف الغلظ من الأرض. والخارب الذي يسرق الإبل. والغارب ما قدام السنام. والقارب السائر الذي لم يبقَ بينه وبين الماء إلا ليلة. والرُّبَع الفصيل الذي يُولد في أول النتاج. والهُبَع الفصيل الذي يُولد في آخره. والاقتسار الإكراه. وطسم وجديس قبيلتان من العرب العاربة. والبازل من الإبل الذي ظهَر نابه، والسديس أصغر منه بسنة. والمعنى: يقول إنَّ أهل المعرة في بلد قد أحاط به العدو من كل جانب، فلا تصل إليهم فائدة علم ولا نكتة أدب بل تحيد عنهم كما يَحيد الرَّكب الجائر عن الطريق، فهم لذلك في حالةٍ قد حال فيها الجريض دون القريض، يُريد أن أهل المعرة لاشتغالهم بقِتال الروم الذين يُهاجمونهم في كل يوم منصرفون عن العلم والأدب. وقوله: فقد أدمى الخفُّ وطءَ القف، يريد أنهم نُهبت آبالهم فهم يَمشون على أقدامهم حتى نُقبَت. وقوله: ذهب الخارب، يريد أن العدوَّ قد سلب أمتعتَهم وإبلهم وليس بعد هذا السلب إلا الإسار، وأن يذهبوا فريسة له فهم يتوقَّعون في كل آنٍ أن يظفر بهم وإن لم يقع لهم الهلاك بعد فليسوا منه ببعيد، ثم ضَرب لذلك أمثالًا فقال إنَّ القارب الذي بينه وبين الماء ليلة كأنه الشارب من ذلك الماء لقربه منه. والهُبَع طريد الرُّبَع: أي بُعده قريب منه. وكذلك طسم وجديس متقاربتان، والبازل والسديس مثلهما. وهذه كلها أمثال للأشياء المتقاربة يريد بها أن الهلاك قريب من أهل المعرَّة وإن لم يُصبهم بعد فكأن قد.
(٣٧) الجابة المَعيشة الغليظة. والدَّبَر جرح في ظهر الإبل ولا يَنبت في موضعه شعر. والثلل الهلاك. والقَلَح صُفرة الأسنان. والفَلَح شق في الشَّفة السُّفلى. والشنوف جمع شنف وهو القُرط. والحِقاب شيء مُحلَّى تضعه المرأة على وسطها. والصدع الوعل. والفور الظباء. والكفور القُرى. ويقال: فلان هامَة اليوم أو غد، أي قَرُب موته. ويقال للشيء الذي قد قرب كونه: كأن قد، أي كأنه قد كان. والمعنى أن أهل المعرَّة في عيشة جافية لا تؤهلهم للعلم والحكمة، بل تنفي النجابة عنهم كما ينفي الدَّبَرُ الوبَر. وقوله: فقليل العلم منهم يُستطرف، يريد أنهم لكثرة المَخاوف عندهم ووقوف الأعداء لهم بالمرصاد لم يَنصرفوا إلى العلم وطلبِه بل شغلوا بأنفسهم عن ذلك فإذا وُجد بينهم من عنده شيء قليل من العلم صار كالطرفة لغرابته. وضرَب لذلك أمثالًا بالشنوف على الأنوف، والحِقاب في وسط العقاب، إلى غير ذلك؛ أي كما أن هذه الأمور إذا حصَلت كانت مُستغرَبةً فكذلك وجود ذي العلم بين أهل المعرَّة يُستغرب.
(٣٨) الفِرار ولد البقرة الوحشية. ووكم: أي قمع. والذرع ولد البقرة الوحشية أيضًا. ولابس الدرع الذئب. والبِر الفارة الصغيرة. والقتَدُ واحد أقتاد الرَّحل. والعتد الفرس الموثَّق الخلق. والقالع دائرة تكون في ملبد الفرس وهي مكروهة. وابن أنقد القنفذ. والمعنى: يقول لو أن أهل المعرَّة هجروها ورحلوا إلى غيرها من البلدان قبل أن يُصيبهم البلاء لنفعهم ذلك كما ينفع الفرار ولد البقرة الوحشية إذ يَنجو به من الصائد. وقوله: وكم مصابرة الذرع لابس الدرع، يقول إن مصابرة ولد البقرة على الجري والهرب صد عنه الذئب إذ أبعده عنه فلم يبطش به، وكذلك حال هرب الفار عن أن يبطش به الهر. وقوله: وإن كان دون كسب العتاد ممارسة خرط القتاد فقتَدُ المالع أوطأ من العتد ذي القالع. يقول إن كان لا بد للعيش من عمل وجهد فالقيام على النوق والتقلُّب بها في المجالات والتعيُّش من ذلك كما تفعل العرب خير وأهون من القيام على ظهور الخيل لمقاتلة الروم في الثغور. وقوله: والمرقد جافٍ على ابن أنقد، يقول إنَّ المقام في المعرة لذلك صعب جاف.
(٣٩) يقول إنَّ أهل المعرة أناس قليلو البضاعة في العلم حسب أحدهم منه أن تكون له دواة مُحلَّاة وقلم مزخرف. والسمار اللبن المَمذوق بالماء، والمراد هنا الشيء التافه. وإساف اسم صنم. والهنَم التمر. والسرفة دويبة تتَّخذ بيتًا من حطام العيدان. وعنت الأرض بالنبت إذا أخرَجَته. والقرارة الأرض المطمئنة. والعرارة واحدة العرار. والضريع نبت يَنبُت على وجه الماء لا يُنتفَع به. والخِطبة هي طلب الزواج. والخُطبة هي خطبة النِّكاح. ويَلِب يَدنو. والهجر نصف النهار. والقصر آخر النهار. والمعنى: يقول إن اتفق لبعض أهل المعرَّة أن يأتي من الأدب بشيء تافه ووجد من أهل بلده مَن يُفضله ويُعظمه فلا عجب؛ فقديمًا سجد الرجل السفيه للصنم وأهدى إليه التمر. وقوله: والسُّرفة تتخذ لمنفعتها الغرفة، يقول كما أن للسُّرفة غرفة على قدرها تلائمها كذلك لأديب المعرة أدب على قدره. وقوله: وربما عنت القرارة بالعرارة، يريد إن اتَّفق لأديب المعرة أن يأتي بشيء من الأدب فلا عجب؛ فقد يتَّفق أن تنبت العرارة في القرارة، أي يظهر هذا النبت النفيس في هذا المحل المُنحط. وقوله: وجُعل الخمار على وجه الحمار، مثل المعنى المتقدم. وقوله: وليس الضريع بالمرعى المريع، أي أن هذا الأدب الذي يوجد عند ذلك الأديب هو كالضَّريع الذي لا يُنتفع به في رعي أو غيره. وقوله: على أن التفكير قبل التبكير والخِطبة قبل الخُطبة، يقول كيف يدَّعون الأدب وهم بعد ما حصَّلوا آلته وهل تكون خُطبة النكاح إلا بعد الخِطبة وهي طلب النكاح والاتفاق عليه. وقوله: فأما بحضرة سيدنا، يُريد إذا حضر سيدنا فما يسعهم إلا التسليم بفضله والإجماع على ذلك. وقوله: حتى يلب الهجر إلى ضياء الفجر، هذه جملة دعائية يريد بها أن يبقى الممدوح إلى أن تدنو الهاجرة من الفجر دنوَّ وقت العصر من آخر النهار وهو ما لا يكون أبدًا.
(٤٠) القليب البئر. وأنبط بلَغ الماء واستخرجه. والمحض الحليب: أي اللبن الخالص. والرسل الإبل. وقوله: نجلًا من راح، أي نبعًا من خمر. والهجل مطمئن من الأرض سهل. والبراح المتَّسَع. والأُربة الفِطنة. والعلبة إناء يُحلب فيه. والإفاقة الراحة بين الحلبتَين. والجُمجمة بئر في غلظ من الأرض. والسَّحابة المثجمة الدائمة المطر. والمَعنى: يقول مخاطبًا للوزير إن مدَحني عندك مادح ووصفني بما ليس فيَّ من العلم والفضل فلا تُصدِّقه. وضرب لذلك جملة أمثال وهي قوله: إن ذُكر له أن حافر القليب أنبطَ المحضَ الحليب إلى آخر ما قال، يريد كما أنك لا تصدق مَن يُخبرك بأن حافر البئر استُخرج منها لبنٌ لا ماءً، وأن حالب النوق حلَب منها عسلًا، وأنه ظهر نبع خمر في الأرض؛ فكذلك لا تصدق من يصفني لك بالعلم، فإنني لست بمعونه وأهله. وقوله: حسب التربة نطفة تشفي الكربة، يريد أن كثيرًا من الأرض لا يخرج منها الماء فكيف يُطلب منها فوق ذلك.
(٤١) إلى أن أُمسي خبي الرامس، أي إلى أن أُقبر. والرامس الدافن. ويقال: لقيَ فلان هند الأحامس إذا مات. والنجيُّ الذي يناجى بالقول أي يراجع فيه على قرب مكان. وهضبت حسي، من قولهم: هضبت السحابة إذا أمطرت. وبغش، من قولهم: بغَشه المطر إذا أصابه منه شيء ليس بكثير. ونسيسي بقية نفسي. والأريحية خفة تدرك الإنسان إذا فرح. والعرية الريح الباردة. والجبوب الأرض الغليظة. والخَمير المستور. والسمة أثر الكَي. والقسمة الوجه. والأشر البطر. والملاطس جمع ملطس وهي فأس تُكسر بها الحجارة. والمعاطس الأنوف. والهكران الناعس. وانتشبت سكرت. والثمل السكر. والمعنى: يقول إن مدحك لي أيها الوزير نعمة منك يَضيق عنها شكري ويقصر عن نعتها كلامي؛ فقد ملأت قلبي سرورًا، وأودعت صدري حبورًا، وأنهضت حسي وأنعشت نفسي ودخلني منها أريحية حملتني على الإعجاب بأمري، وأمَرْتني بمجاوزة قدري. ويقول: حيث إن الأريحية مشتقة من الرياح وأن الرياح من شأنها أن تهيج ما مرَّت عليه من رمل ونقع فلا جَرم أن هيَّجَتني وحرَّكَت ساكن نفسي وأثارت العجب والفخر الكامن في رأسي. وقوله: حتى عاتبت الضمير، يُريد أنه لما حصل له ذلك عاتب نفسه على هذا البطر. وقوله: طالما عصف النسيم فقصف، يُريد أن الشيء إذا تجاوز حده ضر. وقوله: لن أكون كالغبار ثارَ من الملاطس، يريد لن أضع نفسي في موضع لا أستحقه. وفي اللزوميات:
قد يرفع الله الوضيع بنكبة
كالنقع زار معاطسًا بملاطِسِ
فاذهب لشأنك في الأمور ولا تَبِت
كالنِّكس يَجنح من حذار العاطس
وقوله: أسكران أنا أم هكران، يريد أن الأريحية لما جعلَتْه يرى نفسه بالمنزلة العليا والمَرتبة السامية التي كانت فوق أمانيه وآماله، قال: لا بد أن أكون قد سكرتُ أو حلمتُ حتى رأيت نفسي بهذه الحالة التي هي فوق قدري ومنزلتي؛ وذلك أن السكران يرى نفسه أكبر الناس كما قال:
شربتُ الخمر حتى خلتُ أني
أبو قابوس أو عبد المدان
وقال آخر:
إذا ما نديمي علَّني ثم علَّني
ثلاث زجاجات لهنَّ هديرُ
خرجتُ أجرُّ الذيل تيهًا كأنني
عليك أمير المؤمنين أميرُ
والنائم ربما يرى نفسه قد صار ملكًا وسلطانًا واستتبَعَ حاشية وأعوانًا.
(٤٢) الغَذَمَة واحدة الغذم وهو ضربٌ من النبت. والوَذمة واحدة الوذم وهي سيور تُشد في عُرى الدلو ثم تُعقد في عراقيها. والبرق الحمَل. والسرق شقق من الحرير. والبديع السقاء الجديد. والرسل اللَّيِّن. والصديع القطيع من الظباء. والمرارة واحدة المرار، وهو ضرب من النَّبت مُر. والمقر الصبر. والشَّقِر شقائق النعمان. والنقال ضرب من سير الخيل. والبرير ثمر الأراك وإن أكلته الظباء تسودُّ أفواهها. والفرير الظبي الفتي. والنئور دخان الشحم، وكانت النساء تستعمله في الوشوم وتسويد اللثات. والنوار الظبية النَّفور من الوحش. وصوار الطِّيب العطر. والصوار قطيع بقر الوحش. والأكشم المقطوع الأنف. وشداد بن عاد هو باني إرم ذات العماد. وعاقر الجياد هو سليمان عليه السلام، قال تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ. والبَديُّ العجب. واليديُّ الواسع. والعَضَد ما يُقطع من الشجر. والخضد ما يؤخذ من أطراف العيدان الرطبة. والمعنى: يقول قد أخَذني الإعجاب بنفسي مع علمي بأنَّ الغذمة لا تشدُّ من الوذمة، يريد مع علمي بأني لا أَصلُح أبدًا لبلوغ درجة الفضل والعلم. وقوله: تزيد المرارة بسُقيا المرارة؛ أي إن هذا النبت المر كلما سُقي الماء العذب نما وطاب، وحيث إن طبيعته المرارة فهي تزيد فيه كلَّما طاب ونما، ويريد بهذا أن طبعه غير قابل للفضل فكلما زاد طلبًا له زاد بلادة وخلوًّا منه. وقوله: وريُّ المقر لا يخلع عليه لون الشقر، يقول إن سَقي هذا النبت وتعهُّده لا يغيِّر لونه حتى يصير كلون الشقيق، ويريد به الغرض المُتقدِّم ذكره. وقوله: ومن أنا حتى يَصفني بالنقال، يريد من أنا حتى يصفني الوزير بالتقدُّم في العلم والأدب ويُشبهني بكبار العلماء وفحولهم ويَزِنَهم بي؟ وقوله: البرير يُسوِّد فم الفرير، يريد أنَّ ظبي الفلا إنما يُسوِّد لثاته بأكل هذا النَّبت البري لا بالنئور الذي تستعمله النساء في تسويد اللثاة لاستِحسان العرب ذلك، فإن ذلك أرفع من قدره ولا تَصِل يده إليه، يُريد أن أدب المعرِّي أدب يَسير على قدره، يُناسب حاله لا كأدب الوزير وفُضَلاء الناس، فإن ذلك لا تَصِل يده إليه كما لا يصل الظبي إلى النئور، ولا الصوار إلى العطر. وقوله: وإنما صاحب الدرهمَين، يريد: إني أُعَدُّ أديبًا بالنسبة لأهل المعرَّة لا بالنسبة للوزير وأمثاله. وقوله: أما شداد بن عاد، يقول: أما هذان العظيمان فمِن العجَب توهُّمهما الثروة والغنى عند من يبيع الخضد ويَجلب العضد.
(٤٣) الشملة كساء صغير. والحمنانة الصغيرة من القراد. وجنين السواد ما يُخفيه سواد القلب. وثَبير جبل. والعثير الغبار. والعبير الزعفران. وربق، من قولهم: وربقت البَّهم إذا جَعلت في أعناقها حبلًا. ويريد أنه جعل الإحسان في عنقِه كالحبل أو كالطَّوق، ومنه قول أبي الطيب: ومَن جعل الإحسان قيد تقيَّدا. ويُقال: كان ذلك سدمي، أي دَيدني. يُريد أن أباه قدَّم إليه من الإفضال ما كان نشرُه وإذاعته في الناس عملَ المعري وشغله مدة حياته. والأقاليد المفاتيح. والحوار مصدر حاورتُ أي راجعت القول. وفرود حضار كواكب، وحضار اسم كوكب يُشبَّه بسهيل، قال الشاعر:
أرى نارَ ليلى بالعقيقِ كأنها
حضار إذا ما أعرَضَت وفرودها
وصاغية الأدب: أي أهل الأدب. والسوقة عامة الناس. والرُّوقة الشاب الحسن.
(٤٤) والغابر الباقي. ووجبَت يريد حقرت وأسقطت. والشَّخير يُريد به الحمار. ورجَبت عَظُمت. والطرف الفرس. والتجويد تصْيير الشيء جيدًا. وأبد الأبيد أي طولُ الزمان. والرويُّ الحَرف الذي تُبنى عليه القصيدة كالميم والدال وغيرهما من الحروف. والتوجيه حركة ما قبل ذلك الحرف في الشِّعر المقيَّد كقول النمر بن تولب:
سلام الإله وريحانُه
ورحمتُه وغيوثُ درِّه
فالراء الآخرة هي الرويُّ وفتحة الراء هي التوجيه. وأخدَر حمارٌ أهلي توحَّش فنزا على الأتن الوحشية فنُسبَ إليه حمير الوحش. والوجيه فرس من خيل العرب. يُريد بهذا أن الفضل ليس بقِدَم الزمان وإنما هو بقيمة الإنسان، وضرَب على ذلك مثلًا بالوجيه الذي هو فرسٌ جاء في زمن بعد أخدر على أنه أفضل منه بقدر فضل الفرس على الحمار. والحَبَر مثل الوَسَخ ويريد به الكذب في الإخبار. والحبة يريد حبة القمح، والحبة بذور العُشب مما لا يُزرع وإنما يَنبت بالطبع. وقال بعضُ نقَلة الأخبار أنَّ القمح لم يكن يُعرَف في الدهر الأول، وقال بعضُهم إنَّ الله خلَق الحيوان غير الناطق وخلق له النبات ليَرعاه ثم خلَق الناطِقين فأنبَت لهم الحبوب كالحنطة والشَّعير ونحوها. وإلى هذه الروايات أشار المعريُّ بقوله: وإن كانت السِّيَر بغَير غِيَر والخبر فاقدًا للحبر، يريد: إن صدق المؤرخون فيما قالوه فقد كان العُشب النابت من نفسه متقدمًا في الزمن على القمح الذي هو من أنفَس الأنبِتَة وأنفعها فلم يضرَّه تقدُّم غيره عليه في الزمن أن يكون هو أشرف منه. وقوله: الضياء تالي الكُهبة، الكُهبة الظلمة، ويُشير بذلك إلى ما ينقله بعض أصحاب القياس من أن النور حدث بعد الظلمة.
(٤٥) ووَحى: أي كتَب. والمور التراب. والتامور دم القلب. واللوب جمع لابة وهي الحرة: أي الأرض التي تَركبها حجارة سود. واللات طاغوت كان بالطائف لثقيف. والعُزى صنم. والأفق جمع أفيق وهو الأديم ما دامَ في الدباغ. والسديم الضَّباب. واليافع الغلام المُرتفع، والنافع صِفة له. والهم الشيخ. والمُدرهِمُّ الساقط من الكِبر. والزارف الزائد. والمُقسِئن الذي قد اشتدَّ وكبر. يريد أن هؤلاء الأربعة وهُمُ اليافع والهم والزَّارف في السنِّ والكهل أحد رجلَين. والمعنى: يقول قد فضَّلت الوزير على المتقدمين ولي الحق في ذلك؛ فإنه لم يأتِ أحد منهم بمثل ما أتى به من الفضل والعلم. وإن رأى بعضُهم غير ما رأيت فليس ذلك لأنه يُنكر فضل الوزير الباهر، ولكن تلك عادة الناس في شغَفهم بالقديم وتفضيله على الحديث كما فضَّل الجاهلية دين آبائهم القديم على دِين النبي . وقوله: الإحادة عن العادة، يقول وحملُ الناس على أن يَحيدوا عما أَلِفوه واعتادُوا عليه أمر صعب تتكدَّر له نفوسهم وتُظلم منه قلوبهم، بل يُقاتلون دونه حتى يراق دمهم فيختلط بالتراب. وقوله: فلم أفتأ أصبغ الأفق بالشفق، يريد: لم أفتأ أجهد نفسي في عمل شاق مُستحيل الحصول؛ إذ الأُفق لا يُصبغ بالشفق. وقوله: من أهل الجهل سالم؛ أي لا يرى ما يراه أهل الجهل. والمعنى أنه ما زال يُثني على الوزير ويُثبت فضله على المتقدِّمين والمتأخِّرين رغمًا عن المنكرين حتى أصبح الناس مجمعون على فضله فأُولوا العلم عُرفوا فضله بالعلم وقلَّدهم الجاهلون في ذلك فعرفوا فضله بالتقليد، وهذا من قول البحتري:
وذووا الفضل مجمعون على
فضلِكَ من بين سيِّد ومَسُودِ
عرف العالِمونَ فضلك
بالعِلم وقال الجُهال بالتقليدِ
(٤٦) سمق علا. والتُّوم كبار اللؤلؤ: أي حفظ كلامًا مثل الدرر. والضبُّ الحلب بكلتا اليدَين. والآفن الحالب الحاذق الذي يَستقصي اللبن فلا يدع منه شيئًا في الضرع. والعب الشرب. والصافِن الفرس يَصفِن وهو الذي يقلب سنبك حافره ويقوم على ثلاث، وربما قالوا الصافن القائم، قال الشاعر:
ألِفَ الصُّفون فما يزال كأنه
مما يقوم على الثلاث كَسيرا
والإهواء الإلقاء. والرادس رامي الحجَر في حوض الماء ليَعلو الماء. والقادس حجر يقسم به الماء بين الإبل في الحوض كتقاسُم الناس بالحصاة، يريد لإرواء إبل القادس. واللامة الدرع. والزرد الحلق. والقَرَد جمع قَرَدة وهي قطعة من السَّحاب صغيرة. والمعنى أن هذا الوزير حفظَ منذ صغره مُلَح النَّظم والنثر الذي أجاد حَوكه وصناعته الفُصَحاء من المُتقدِّمين أو المُتأخِّرين. وقوله: ولم يزل ضب الآفن لعب الصافن. يُريد أنهم نظَموا هذا النظم فجاء هذا الوزير وحفظه، فكأنما جُعل له ونُظم من أجله كما أن الصافن يشرب اللبن الذي يَحلبه الآفِن لأجله. ومثل هذا قوله: وإهواء الرادس لإرواء القادس، وقوله: حتى الْتأَمت اللامة من الزرد. يقول إنه ما زال هذا الوزير يُغذَّى بلبن العلم والمعرفة شيئًا فشيئًا وقطعة فقطعة حتى تمَّ علمًا وحكمة كاللامة التي يتمُّ شكلها من مجموع حِلَقها الصغار.
(٤٧) ارعوَت رجعت. والإرمام السكون. والعفر التراب. والذفر الرائحة الطيبة. يقول إن الوزير وعَدنا أن يرسل إلينا جملةً من نظمِه ونثره، فقلوبنا هائمة بهذا الوعد وهي تَطلبه منا طلب المريض العافية وطلبَ البيت القافية إذ لا يتم إلا بها. وقوله: ومن للعفر بالذفر، أي أنى للتراب أن يكون له رِيح طيب؟ وأنى لنا أن يكون عندنا نظم الوزير ونَثرُه.
(٤٨) المُدية السكينة. والكدية الأرض الغليظة. والتبريح، من قولهم: برح به إذا صنع به أمرًا شاقًّا. والتسريح، من قولهم: سرحت الغنم أو الإبل إذا أرسلتَها في الرعي. والمعنى: يقول إن الوزير يَكبر عن انتقاد مثلي لأنَّ له في أقوال العلماء والفضلاء شغلًا عن البحث والفحص في كلامي، وضرب لذلك مثلًا بأنَّ الرجل لا يأكل الضب إلا إذا أتى على ذوات التَّسريح التي هي النوق والغنَم فأفناها. والعكرمة الحمامة. والعبقُر البرد. والضِّفدع شيء يظهر تحت اللسان. والجلسام البرسام. والرواحب بطون الأصابع وظهورها. والمعنى: يقول إنه يَستجير من كلمة أي قصيدة أو رسالة مثل ما فيها من زينة الصناعة اللفظية والمَعنوية كطوق الحمامة الذي هو يُحسَب أنه من الزينة وهو بالحِداد أشبه؛ لأنه أسود ولأنها دائمة النَّوح، ويقال إن ما فيها من الحلي والزينة إنما هو بمنزلة البرَد — بفتح الراء — الذي يُشبه اللؤلؤ وبينهما بَون بعيد في القيمة وأنها ترعد من القُر حياءً من ذلك. ثم يقول إنَّ من أتى بمثل هذه الرسالة يُحكم عليه بأنه مُبرسم يهذي ولكن العناية تمنع بتَّ هذا الحكم.
(٤٩) يقال أوطأتَه عشوةً إذا غررتَه وغشَشتَه. والحاصب الرِّيح التي تحمل الحصباء. والواصب الدائم. والخرص الجائع الذي يَجد البَرَد. والمُتخرِّص الذي يَكذب ويفتري. والعاذب المُمسك عن الطعام والشراب. والقين حداد يَضرِبون المثل بكذبِه. والنصيف الخمار. والعُلام الحناء.
(٥٠) الإسهاب الإكثار من القول. والجذماء اليد المَقطوعة. والزَّرَق ضرب من الخرز لا قيمة له. والكر مكيال. ومُواهاة مفاعلة من وَهى الشيء أوهيتُه إذا كسرته أو خرقته أو فعلت به فعلًا يُضعفه. وعطالة اسم جبل. والعنوق جمع عناق، والعناق الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول. وجرباء العيوق هي السماء، والعيوق اسم نجم. والنعائم الشاردة هي التي في القفار، والنعائم الصادرة والواردة هي منازل للقمر. والثمد الماء القليل.
(٥١) الإحريض العصفر، والعرب تُشبِّه البروق به، قال الراجز:
مُلتهِب كلهب الإحريض
يزجي خراطيم غمام بِيض
والإغريض الطَّلع. والودق القطر، وأصل الودق الدنوِّ، وإنما قيل ودق السحاب إذا جاء بالمطر الكثير لأنه يدنو من الأرض. والرَّبوة ما علا من الأرض. والهبوة الغبار. وأخو نُمير هو الراعي الشاعر، واسمه عبيد بن حصين، وإنما قيل له الراعي لأنه كان يُكثر وصف الإبل في شعره. وفتاة بني عمير امرأة يُشبِّب بها يقال لها هند، وفيها يقول:
ألا يا هندُ هندَ بن عمير
أرثٌّ حبلُ وصلكِ أم جديدُ
زكا لكِ صالح وخَلاك ذمٌّ
وصبَّحكِ الأيامنُ والسُّعودُ
وأقفر إذا صار في قفر من الأرض. والنو عندهم من الأضداد، يُقال: ناء النجم إذا طلع وناء إذا سقَط، وكانت العرب تَنسِب الأمطار إلى سقوط النجوم فيقولون: مُطرنا بنوِّ السماك ونوِّ الذراع ونحو ذلك. والبرس القطن، والمراد به ها هنا الثلج لأنه يُشبَّه به. والعطف كلُّ موضع ينعطف من الجسد، ويقولون: جاء فلانٌ ثاني عطفه أي ثاني عنقه من الكبر، ويقال للإبط عطف وكذلك للجنب؛ لأن الإنسان يميل عليه إذا أراد. وشمط أي خالط سواده بياض الشيب. المعنى أن هذا الوزير المُرسلة إليه هذه الرسالة كان في المعرَّة ثم رحل عنها، فالمعريُّ يُخاطب حكمته وعلمه وأدبه ويأسف على نأيها عنه. وقوله: أي هواء رقَّاك، يقول أي هواء وأي غيث تولَّيا هذه الحكمة حتى نمَت وزكت ووصلَت إلى ما هي عليه، جعلها كالأنبتة التي تنمو بالهواء والماء. وقوله: حللتِ الربوة، يريد أنها ارتفعت وعلَت، وربما أراد أنها لما انتقلَت من المعرَّة وهي في نظر المعرِّي حقيرة وضيعة إلى مكان آخر يليق بها فقد ارتفعَت. وقوله: لأنا آسف على ذلك، يقول أنه آسف على زمن قربِه منها أيام كان الوزير في المعرَّة قبل أن يرحل فتُفارق المعرِّي تلك الحكمة وتبعد عنه. وقوله: من الغراب الحجازي، يريد أنه أكثر أسفًا من غراب من أغربة الحجاز هجَر أرضه وسافر إلى بلاد الروم فصادَفَه الشتاء فنزل الثلج على عطفه فبيَّضه بعد حسنِ سَواده وزيِّه الأول، فأراد الإياب بهذه الحالة فكَرِه شمات الأعداء فكمَد فمات أسفًا على زيِّه الذي تغيَّر وحاله الذي تحوَّل. وقوله: فمشى في قيد، يُشير إلى مشي الغراب وحجلانه كأنه مقيد. وأما جزع الغراب من الشيب ذلك الجزع المؤدِّي إلى المَمات فلأنه لا يَشيب أبدًا في العادة؛ ومن أمثالهم: حتى يَشيب الغراب.
(٥٢) قوله: إبرام السَّلَم، يُقال: أبرم السلم إذ ظهَر برمه. وإبرام السأم الإضجار. والطاء من الحروف الشديدة وهي ثمانية يجمعها قولك: «أجدك قطبت.» والهاء حرف رخو والحروف المَهموسة عشرة يجمعها قولك: «فحثَّه شخص سكت.» وإنما قيل لها مهموسة لأنَّ مجراها اتسع فلم يكن لها صوت كغيرها من الحروف، والهَمس الصوت الخفي. والحروف المَجهورة ما عدا المهموسة، فقوله: حتى تُدغم الطاء في الهاء، يُريد حرس الله سيدنا دائمًا أبدًا لأن الطاء لا تُدغم في الهاء أبدًا.
(٥٣) قوله: التي هي كالفاعل، أي مرفوعة. وقوله: نظير الفعل، يريد أن الأفعال لا تَنخفِض أبدًا. وقوله: كيا في النداء؛ أي يا المحذوفة في قولك: زيد أقبل؛ إذ الأصل: يا زيد أقبل. وقوله: والمَحذوف من الابتداء، يُريد كلمة هي في قولك: الإبل الإبل، أي هي الإبل. ولازب مثل لازم.
(٥٤) الدَّد اللعب واللهو. وقوله: يَذكرني لغير الثناء، أي لا يَحمدني ويُثني عليَّ لنفسي وإنما للتوصُّل بذلك إلى أغراضه. وألفُ الوصل يؤتى بها للتوصُّل للنطق بالساكن إذا كانت في أول الكلمة وتُطرح إذا سبَقها حركة. وقوله: لزمَتِ المذكَّر، يريد أن تاء التأنيث تَثبُت في عدد المذكَّر لقوله: ثلاثة رجال. وقوله: كالهمزة تُبدل عينًا، هو أن بعض العرب يجعل الهمزة المفتوحة عينًا فيقول: أريد عن أقوم، أي أريد أن أقوم. وقالت شاعرة من العرب تُرقِّص ابنها، وهو قيس بن عاصم المنقري:
أَشبِه أخي أو أَشبِهَن أبا كا
أما أبي فلن تَنال ذاكا
تقصر عن تَنالَه يداكا
أي: أن تناله.
وقال ذو الرُّمة:
أعن ترسَّمتَ من خرقاء منزلةً
ماءُ الصبابة من عينَيكَ مَسجومُ
وحروف اللين ثلاثة: الألف والواو والياء، والألف أشدُّها لينًا لأنها لا تكون إلا ساكنة، فأما الواو والياء فإنما يكمل لينهما إذا كانتا ساكنتَين وكان قبل الواو ضمة وقبل الياء كسرة فإن انفتَح ما قبلهما ففيهما لين إلا أنه غير تام. والصامت الرصين من الحروف ما لم يكن فيه لين. وترخيمُ التصغير تُحذف فيه الزوائد فيقال في منصور: نصير، وتصغير مُستحلِس: حُلَيس. والكوفي المراد به حمزة بن حبيب لأنه كان معروفًا بمد الحروف. والمدني المراد به نافع القارئ لأن عثمان بن سعيد المعروف بورش روى عنه نقل حركة الهمزة في مثل أتى وأفلح إلى لام هل ودال قد، ثم يحذفها من الكلام ويفعل ذلك في مواضع كثيرة. والنبر الهمز.
(٥٥) الضرب الأول من الطويل مثل قوله:
أبا منذر أفنيتَ فاستبقِ بعضَنا
حنانيكَ بعضُ الشر أهونُ من بعضِ
وأصحاب العَروض يسمُّون آخر جزء من البيت ضربًا يجعلونه صحيحًا إذا كان لا سبيل عليه للزحاف ولا غيره من العِلَل. والمُنسرِح وزن من الشعر يُسمى منسرحًا لخفَّته، وهو من: سرحتُ أُنشئ فانسرح، ويقال: عطاء سرَح وسريح، أي سهلٌ لا نكد فيه. والمُنسرِح من الشعر مثل قوله:
ها أنا ذا آمُلُ الخلودَ وقد
أدرك سنِّي ومولدي حجرا
وعروض البيت هي آخر جزء من النصف الأول من البيت، وأول وزن هو الطويل وعروضه مَقبوضة وقبضها سقوط خامس الجزء وهو مفاعِلن ولا يزول قبضُها إلا في تصريع الضرب الأول. وثاني المديد مثل قول الشاعر:
إنما ذكرُك ما قد مضى
ضلَّة مثل حديث المنام
وهذا الوزن يُستعمل مقيَّدًا ولا بدَّ أن يكون قبلَه حرف لين. وقلم، من قولهم: قلمت الظفر. والفسيط قلامة الظُّفر. قال الشاعر:
كان ابن مُزنَتِها مائلًا
فسيط لدى الأُفقِ من خنصَرِ
والخبل سقوط حرفَين من سببين مُضطرَبين من جزء سباعي، ومثال ذلك قول النابغة:
فحَسِبوه فألفَوه كما حُسبَت
تسعًا وتسعين لم تَنقُص ولم تزدِ
والعصب في الوافر سكون الحَرف الخامس من الجزء السُّباعي، كقوله:
ألا هُبي بصحنِك فاصبحينا
فقوله: ألا هُبِّي، جزء معصوب. والمجزوء الذي ذهب منه جزء. ثالث الوافر معصوب الضرب عصبًا غير مفارق، وهو مثل قول القائل:
ومرقبة ممنَّعة سموتُ لها بأصحابي
فقوله: بأصحابي، جزء معصوب. وثالث الكامل مثل قوله:
ولقد غدوتُ على القنيص بسابح
مثل الوذيلة جرشعٌ لام
والإضمار سكون الحرف الثاني من مُتفاعلن أو ما حُذف منه. وقوله: لام، مُضمَر إضمارًا لازمًا.
(٥٦) المجموعات مرادٌ بها الأوتاد من الشعر، والوتد المجموع هو حرفان مُتحرِّكان بعدهما ساكن مثل قولك: رمى وسعى ونحو ذلك، فإذا كان الوتد في أول البيت لحقه الخرم وهو حذف الحرف الأول منه، وإذا كان في آخر البيت أو في آخر نصف البيت أو في آخر نصفِه الأول لحقَتْه العِلَل، فإذا كان مُتوسِّطًا لم تُدركه علة. والمروعات المخوفات. الدائرة الرابعة تَشمل على تسعة أجناس، وهي أكثر الدوائر أجناسًا ستة مستعملة وثلاثة مُهملة. وثريا سهيل هي امرأة من قريش ثم من بني أمية الأصغر بن عبد شمس، وهي من العبلات، تزوجها سُهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، وقال قوم بل المُتزوِّج بها سهيل بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان عمر بن أبي ربيعة يَذكرها في شعره فقال:
أيها المُنكح الثُّريا سُهيلًا
عمْرك الله كيف يلتقيان
هي شاميَّة إذا ما استقلَّت
وسُهيل إذا استقلَّ يمانِ
والثريا من النجوم تُلاقي القمر مرةً في السنة؛ ومن ذلك قول كُثير:
فدع عنك سُعدى إنما تُسعِف النوى
قران الثُّريا مرةً ثم تأفُلُ
والمِقَة المحبة. والشَّعيب مزادة تُعمل من أديمَين. وعراق المزادة أن يُثنى الجلد ثم يُخرز وذلك في أسفلها. وشامة المعيب يريد شامة تكون في الوجه فتَعيبه. والمعنى أنه فاق أهل الشام والعراق في الأدب. وأحسب كفى. والبردَين يُريد الغداة والعشي. وهند الطيب هي بلاد الهند التي ينبت فيها أنواع الطيب. وهند النَّسيب هي هند التي يتغزَّل فيها الشُّعراء وهي ربة الخمار. وقمار بلد بالهند منها العود القماري. وإخوان التَّجر: أي أصحاب التجارة، وهذا عائد على هذا الطيب. وخدينة الهَجر يُريد هند النسيب.
(٥٧) طوق من الليل: أي أسود. من المُرتبَع، يريد أنه ملوَّن كزهر الربيع. ومكفوف الذيل من كفَّة القميص. والأشاء صغار النخل. والغريض مُغنٍّ مشهور. والهديل فرخ الحمام الذي يَزعم بعض الناس أنه هلَك في عهد نوح فالحَمائم تبكيه إلى اليوم، قال نصيب:
فقلتُ أتبكي ذاتُ طوق تذكَّرت
هديلًا وقد أَودى وما كان تُبَّع
والشرطان من منازل القمر وهما يَطلُعان في نيسان الطلوع الذي يعتمده أرباب الأنواء وهما من الكواكب الشامية، وكذلك البطين. والرشاء من منازل القمر أيضًا وهو من الكواكب اليمانية. ولا همام: أي لا أهمُّ بذلك. وقوله: صمت وهو مسكور الجناح، يريد: إن كان سالِمًا من علَّة مطلوقًا صاح وناح وربما كُسرَ جَناحه فسكت ولم ينُح.
(٥٨) الحَجاج عظم الحاجب. والحجل الخلخال. وفي شعر أبي العلاء لتلميذ له يُوصيه بترتيب شعره كترتيب الزينة على العروس:
فرتِّب النظمَ ترتيب الحُليِّ على
شخص الجليِّ بلا طيشٍ ولا خرقِ
الحِجل للرِّجل، والتاج المَنيف لما
فوق الحَجاج، وعِقد الدر للعنقِ
والبِلَّة، من قولهم: بُلَّ المريض إذا برئ. والشَّكير ما صَغُر من الشعر والريش، وهو هنا ما كان حول ناصية الفرس من صِغار الشَّعر ويَستدلُّون بلينِه على عتق الفرس. والمحضير الفرس الشديد الحضَر. وحرش الدنيا خشونته. والنِّجار الأصل. والسلام في رسم المصحف الكريم كالرحمن. والقين الحدَّاد. والحوال، جمع حالية: أي لابسة الحلي. واللط القلادة من حبِّ الحنظل. والثط الذي لا شعر في وجهه. والسناد من عيوب الشعر، ومنه قول الحطيئة:
إلى الرُّوم والأحبوش حتى تناولا
بأيديهما مالَ المَرازبة الغلفِ
وبالطوف نالا خيرَ ما نالَه الفتى
وما المرء إلا بالتقلُّب والطَّوفِ
فقوله: الطوف مع القلف سناد؛ لأنَّ الواو فيها لين واللام في القلف ليست كذلك. والتضمين أن يتمَّ البيت ولا يتم المعنى؛ كقول بشر بن أبي حازم:
فسعدًا فسائلْهمُ والرَّباب
وسائلْ هوازن عنها إذا ما
لقيناهُمُ كيف نُعليهمُ
بواتر يَبرين بيضًا وهاما
والنثرة من منازل القمر وهي أربعة أنجُم من نجومِ الأسد. والغرقد نوع من الشجر ومنه بقيع الغرقد بالمدينة. والمعنى أن الغرقد لا يتَّصل بالفرقد من النجوم، كما أن العثرة لا سبيل لها على النثرة التي هي من منازل القمر، وكلاهما مثل. يريد: كما أن ذلك لا يَحصل فكذلك لا يحصل العيب في شعر الوزير ولا يكون فيه. وعصا بصير يُراد بها العصا التي يتوكَّأ عليها الأعمى. وقصير هو قصير بن سعد اللخمي صاحب جذيمة، وحديثه مع الزباء مشهور، وكان لجُذيمة فرس يقال لها العصا فلما أحيط به تعرَّض له قصير بالعصا لعله يصل إلى أن يركبها فينجو عليها فلما يَئس منه نجا على ظهرها فنظر إليها جذيمة وهي تَجري بقصير فقال: يا ضلَّ ما تَجري به العصا. والمعنى أن المُقتفي أثره من الخلق لينال ما نال من الكمال مثله في ذلك مثل الأعمى لا يَهتدي للسَّير ولا يُدرك الغرض ولا يأمن الوقوع في الأخطار.
(٥٩) حركة البناء هي التي تَثبُت على حال واحدة من ضم أو فتح أو كسر مثل ضمَّة حيث وفتحة كيف وكسرة هؤلاء. وقوله: فلا عدم، يقول إنه غني غير معدم. وقوله: تخبأ الدرة، يريد أنه لا يستحق الثناء غيرُ الوزير. وقوله: ويُجاد باليمين، يقول أنا أحلف على ذلك، وإنما يُحلف على الشيء الثَّمين، قال تعالى: إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ. والقضة الحصى الصغار. والوصاة النَّخلة التي تنبت من النواة. والخضرة: أي الشجرة المخضرَّة، وهو ناظرٌ في هذا إلى قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. والغربيب العِنَب الأسود. والحنفاء جمع حنيف، وقيل إنما قيل للمُسلم حنيف لمُخالفته الأديان التي كانت قبل. والمعنى أن الوزير نظر في كلام المتقدِّمين والفلاسفة الأوَّلين فولَّد منه حكمة للمسلمين وعرفانًا فكأنه استخرَج الفضة من الحصى، ثم أراد أن يُبيِّن ذلك يعني أن الشيء قد يُخرج منه شيئًا آخر لا يشبهه فضرب المثل بالشجرة الخضرة التي يتولَّد منها النار.
(٦٠) السود الشرف. وقوله: كالميت، يريد أنها تَثني الحسود وهو كالمغمى عليه من شرب المعتَّقة في قرب صحوه ورجوعه على نفسه باللوم. والفدن القصر، ويقال القنطَرة. ويريد بقوله: أين مشبهوا الناقة بالفدن، عنترة وذلك في معلقته:
فوقفتُ فيها ناقتي وكأنها
فدنٌ لأقضيَ حاجة المُتلوِّمِ
والردن الخز، وقال الأعشى:
فأفنَيتها وتعالَلْتُها
على صحصَح كرِداء الردن
وقوله: وجب الرحيل عن الرَّبع المُحيل، أي وجَب ترك تلك الأَوصاف القديمة المهجورة. والمناصف الخدم. والخافض الذي في عيش محمود ويُريد به الحضري. والسَّهب الفلاة. والرَّهب الناقة المهزولة. والطليح المعيية. والحشية ما حُشي من الفُرش. والأحناء خشب الرحل واحدها حنو. وعصيم الهناء: أي بقيَّتُه. والهناء ما يُطلى به البعير الأجرب. والقود الطوال الأعناق من الإبل. والبُرى، جمع برة: اسم يقع على السوار والخلخال والدملج، ويقال للحلقة التي تُجعل في أنف البعير إذا كانت من صفر أو نحوه من جواهر الأرض برة. وذات الأرسان يريد النوق. والمعنى أنه من شدة شوقه إلى هذه النوق يصوغ خلاخيل البِيض الحسان بُرى لها. والشنف البغض. ودر النحور يريد عقد الغادة. والدر اللبن. والبكي القليل. والركي البئر. والمراد أن عيون هذه النوق غائرة. ويَعني بالبدور حسان النساء. والحول جمع حائل وهي الناقة التي لم تُحمَل، والحيال محمود في الناقة التي تراد للسَّفَر. وأهلة المُحول أخفى من غيرها لأن الأفق يغبرُّ إذا مُحل الناس. والسِّي أرض من بلاد العرب تُوصف بكثرة النَّعام. ومعنى هذا كله أن هذا الواصف لفرط بلاغته وذكائه وحسن وصفه إذا وصف الفلاة أو الناقة يودُّ السامع لهذا الوصف ولو كان في أرفع درجات الشرف والرفاهية أن يستبدل مقامه ويكون من سكان تلك الفلاة وأصحاب هذه الناقة ويبغض من أجلها البيض الحسان، حتى إنه ليصوغ بُرى تلك النوق من خلاخِلِها ويستعيض عن عقود الخرائد وعيون الكعاب بقطرات الضروع وعيون النياق الغائرة. والعرب تُشبِّه النوق بالنعام، ومنه قول زهير:
كأن الرَّحل منها فوق صَعل
من الظلمان جؤجؤه هواءُ
أصكٌّ مُصلم الأذنين أجنى
له بالسِّي تنُّومٌ وآءُ
(٦١) النعت الوصف. والأوابد الوحوش، سُميت بذلك لطول أعمارها. ويشير بقوله: شبَّه الأوابد بالتقييد، إلى قول امرئ القيس:
وقد اغتدى والطيرُ في وكناتها
بمُنجرِد قَيدِ الأَوابد هيكَل
وحافر الفرس يُشبَّه بالقعب، قال الشاعر:
لها حافر مثل قَعبِ الوَليد
يتَّخذُ الفأر فيه مَغارا
وقال امرؤ القيس:
لها حافر مثل قعب الوليـ
ـد رُكِّب فيه وظيفٌ عَجِر
والقعب قدح صغير. والوليد الصبي. والهَجين التي ولدَته برذونة من جواد عربي. والمَنسوب الذي له نَسَب. والبازي طائر معروف. واليعسوب ضرب من الجُعلان، ويقال لذكر الجراد ولذَكر النحل اليعسوب، وسُمي البياض الذي في وجه الفرس إذا استَطال ورق وقارب للأنف يَعسوبًا. والحرس برهة من الدهر. والجرس الصوت. والقالع دائرة في ملبَد الفرس وهي مَكروهة. والفرق في الخيل إشراف أحد الوركَين على الأخرى وهو مكروه. والجبهة اسم للخيل. والمعض، من قولهم: معضتُ الرجل وأمعضُه إذا ذكرتَه بما يُغضبه. والنطيح له موضعان: أحدهما أن تميل غرته في إحدى شقَّي وجهه وذلك غير مستحب، والآخر أن تكون مع دائرة اللطاة دائرة أخرى، فيَكرهون للفرس أن تَميل الدائرة في وجهِه. ويَطيح أي يَهلك. والمهقوع الذي به دائرة الهَقعة وهي في عرض الزور يُتشاءم منها. والمغرب الذي يَبْيضُّ وجهه ورأسه وكانوا يتطيَّرون به. والأرجَل الذي في إحدى رجلَيه بياض فإن كان مع ذلك بياض غرة لم يَكرهوه، قال المرقش:
أسيلٌ نبيلٌ ليس فيه معابة
كُمَيت كلَون الصرف أرجَلُ أقرَح
والخيفانة الفرس الطويلة القوائم المُخطَّفة البطن. والدباءة القَرعة وهي واحدة الدباء ويُشبَّه بها الفرس الأنثى ولا يُوصَف بذلك الذَّكَر لأن الإناث تُوصَف بدقة المقاديم، ولذلك شبَّهوا الفرس بالدباءة والسلاءة وهي الشوكة، قال علقمة:
سلاءة كعَصا النهديِّ غُلَّ بها
ذو فيئة مِن نوى قُران مَعجوم
وكان بعضُهم يَعيب قول ابن مقبل:
كان دباءة شُدَّ الحزامِ بها
من شخص أهوج في التقريبِ والحَضَرِ
لأنه شبَّه فرسًا ذكرًا بالدباءة. والمباءة المَنزِل لأن أهله يَئوبون إليه أي يرجعون. ويُشير بقوله: الدباءة لراعي المباءة، إلى قول امرئ القيس:
واركب للرَّوع خيفانة
كَسى وجهها سعف مُنتشِر
إذا أقبَلَت قلت دبَّاءَة
من الخضرِ مغموسة في الغُدُر
والأُثفيَّة واحدة الأثافي التي يوضع عليها القِدر. ويُشير بذلك إلى قول امرئ القيس:
وإن أدبَرَت قلتَ أثفية
مُلملِمة ليس فيها أَشَر
والعُذَر جمع عُذرة وهي الخصلة من الشعر. وقرون العروس ذَوائبها، ويُشير بهذا أيضًا إلى قوله:
لها عُذَر كقرون النساء
رُكِّبن في يوم ريحٍ وصِر
والمحذَّف المُهيَّأ المُتقَن. والتروس جمع ترس. والمراد بهذا قول امرئ القيس:
لها جبهة كسراة المِجن
حذَّفه الصانع المُقتَدِر
والهجمة ما بين الستين إلى المائة من الإبل. والسعدي منسوب إلى سعد بن زيد مناة. والعسجدية الإبل التي تَحمل الذهب، واللطيم التي تحمل المسك. والقسيب صوت الماء الجاري. والروي الحرف الذي تُبنى عليه القصيدة، فيُقال لامية ودالية. والأليل صوت الماء. والصَّليل صوت الحديد. والوذيلة المرآة، والغريبة المرأة المُغترِبة، وذلك أن المرأة الغريبة لا تزال تتعهَّد مرآتها وتَجلوها لأنَّها تتَّكل عليها إذ ليس لها من يُعلِّمها مَحاسنها ومَساويها. وقوله: حكَتِ الزينة والريبة، أي أن تلك المرآة تصف الأمور على ما هي عليه إن كانت حسنةً فحسنة وإن كانت قبيحة فقبيحة. ومعنى هذه الجملة جميعها أن هذا الواصِف وهو الوزير إذا نعت الخيل أدَّى نعته هذا لأن يَغبط الهجين المنسوب إذ إن أصالة المنسوب لم تُكسبه من المَحاسِن ما اكتسبه الهجين الموصوف من نعت هذا الواصف؛ بحيث صار أرفع من كرام الخيل قدرًا وغبط به البازي الذي هو من أشرف الطير اليَعسوب؛ وذلك لِما ناله هذا من الفخر والشرف بالاشتراك اللفظي لشيء في الفرس وهو الغرَّة، فكأن وصفه أكسب وعم جميع أجزاء الخيل وسرى منها لكلِّ ما يَقرُب منها أو يَلتحق ولو بمشاركة جزء منها في الاسم. وأن امرأ القيس باء بالخيبة في قوله: وقد اغتدى والطير في وكناتها … البيت. وقوله: لها حافر مثل قعب الوليد البيت الآخر، وذلك بالنسبة إلى وصف الوزير ونعته لها. وأنه على تعدُّد الأزمنة كان القالع مَبغوضًا والنطيح والمهقوع كذلك، وأما بعد وصفه الخيل شملها البركات فصارت مخاوفها مآمن ومشائمها ميامين. وقد تخيَّل المعريُّ أن لسان حال خيفانة امرئ القيس يقول له الدبَّاءة لراعي المباءة والأثفية للقدر لعدم استحسانها لهذا الوصف، ونقمَت عليه أيضًا وصفه عذرها بقُرون العروس. ثم قال وأنى لامرئ القيس أشعار كإبل السعديِّ التي يقول فيها:
إذا اصطكَّت بضيقٍ حجرتاها
تلاقى العَسجديةُ واللَّطيم
يعني أنى لامرئ القيس أشعار تحمل من المعاني النفيسة ما تَحمل هذه النوق وهي في شعر السَّعدي موصوفة بأنها تحمل الطيب والذهب. ثم وصَف شعر الوزير بالجودة فذهب إلى أنه أرق سيلانًا من القسيب وهو جَرْيُ الماء، وأن لذَّة الشباب في تشبيبه، وأنه جمع من النضارة ما يُحاكي ماء الصِّبا ومن الشدة ما يفوق وقع السيوف، وأن المصراع كالمرآة المجلوة تُنظَر فيه صور الأشعار على حقائقها، يَعني أنه إذا ذُكر شيء من شعر أي شاعر معه تبين للسامع حسن أو قبح ذلك الشعر كما تُستعرض الصور للمرائي فيتبيَّن لصاحب كل صورة ما فيها من الحسن والسماجة.
(٦٢) الزرياب ماء الذهب. والشيام التراب. وسعد الأخبية منزلة من منازل القَمر. يقول إنه وصف خيمة في كلامه فودَّ المسك أن يكون ترابًا لها دونَ التراب.
(٦٣) الأجمال جمع جمل. والطلاء خيط يُشدُّ به الحمل والجوي. والأَحمال جمع حمَل. والقَلْت كلُّ نقرة في الجسد شُبِّهت بقَلت الصخرة وهي نقرة يَجتمع فيها الماء، والمراد هنا ما بين التَّرقوة والعنق. والأخرات جمع خَرت وهو الثُّقب في الأذن. وابن قريب هو الأصمعي. وأبلَّ المريض إذا بَرأ من مرضه. والمعنى أن الوزير قد أبدع في اختصار الشيء الكثير في كلام يسير فكأنه أجرى الفرات في مثل الأخرات؛ وذلك أن الوزير اختصر كتاب إصلاح المنطق لابن السكِّيت، وحذف منه الشواهد وجعله مجردًا.
(٦٤) وإخوة الصديق، يريد إخوة سيدنا يوسف عليه السلام. والشِّعر الأول يريد شعر الجاهلية. ولما قال إنَّ إسقاط الوزير لشواهد إصلاح المنطق كان كالقاضي يُسقط شهادة من لا يراهم أهلًا للشهادة، ضرب على ذلك مثلًا بقفا نبك، فقال إن هذه القصيدة قد تضمنت من الكلام والأوصاف ما تسقط به شهادة الشاهد العدل فكيف وهي أنثى بَغية وجعلها كذلك لأنها تتضمَّن كثيرًا من الغزل والفحش.
(٦٥) وأبو يوسف هو يعقوب بن السكِّيت صاحب كتاب إصلاح المَنطِق. فالمَعري لما ذكر أن شواهد إصلاح المنطق في عدة إخوة الصديق وهو يوسف عليه السلام، ناسب أن يذكر ابن السكيت هنا بكنيته وهي أبو يوسف ليُورِّي في الكلام. ورجز الضب هو قول العرب على لسان الضب:
أصبَحَ قَلبي صَردا
لا يَشتهي أن يَرِدا
إلا عرادًا عَردا
وصِليانًا بَردا
والعراد من الحمض. والصِّليان نبت تأكله الإبل. وهذا من زعمات العرب فيما يروونه وينسبونه إلى البهائم. فالمعري يقول إن أبا يوسف لم يكتفِ في إيراد الشواهد في كتابه من كلام العرب فقط، بل تمادى إلى أن أتى بالكلام المنسوب إلى الضبِّ شاهدًا أيضًا. ثم قال أبو العلاء: وإن معدًّا وهو معد بن عدنان شيخ العرب وصاحب فصاحتها مُغضَب من ذلك أي من استِشهاد يعقوب على فصاحته ولغته بكلام أحناش الأرض، وهي صغار دوابِّها. والقرض من قرض الشِّعر قرضًا إذا قاله. وقوله: وما رُؤبة عنده في نفير، يريد أن رؤبة بن العجاج الراجز المشهور الذي يَستشهِد بكلامه في اللغة ليس بشيء يُذكر في جنب معدِّ بن عدنان فكيف يَستشهد بكلام الضب على كلامه.
(٦٦) الحروف المُذلَقة هي الراء واللام والنون والفاء والباء والميم، وثلاثة مُطبَقة وهي الصاد والضاد والطاء. والظاء مِن حُروف الإطباق ولكن يَعقوب لم يُؤلِّف عليها في هذا الباب. وأربعة من الحروف الشَّديدة وهي الجيم والدال والكاف والتاء. والواحد الذي من المزيدة هو السين. والنَّفيثان الذال والثاء لأنهما من حروف النفث وهي ثلاثة. وآخر مُتعالٍ أي القاف لأنها من حروف الاستعلاء. وفاظ مات. واحفاظَت الجيفة إذا انتفخَت. والسُّكَيت آخر فرس يَجيء في الحلبة. وحار رجع. وسمَق علا. والتِّبر الذهب اليابس. والحت الرمل الخشن. والمُتَّدن اللين. والترقيش التزيين. والآل الشخص. ولا أرمَّ أي ولا سكَت. يقول إن الكتاب ساكتٌ ناطِق.
(٦٧) والبسل معنى الحرام. والخميس الرمح. لميسان مُثنَّى لميس من أعلام النساء؛ وذلك كقول الآخر: وهل يُجمَعُ السيفان ويحَكَ في غِمد. وشرعك: أي حسبك. وقوله: يا أم الفتيات حسبك من الهنود. يقول إنَّ المرأة إذا كان لها أكثر من فتاة فحسبُها أن تسمي إحداهنَّ بهند وتُسمي ما بقي منهن بأسماء أخرى، وكذلك الرجل إذا كان له أكثر من غلام فحسبه أن يُسمي أحدهم بسعد والباقين بأسماء غيره، فإن لم يفعل ذلك بل جعل يُكرِّر اسم سعد في أبنائه ثَقُل ذلك ووقَع الاشتباه في النداء ولم يكن حسَنًا، وضرب هذا مثلًا على أن ذِكر الكلمة مرَّتَين، وهو ما وقع في كتاب يَعقوب ليس بحسَن.
(٦٨) الضريب ما يسقط من السماء من ثلج. والسباء الأسر. والآجال جمع أجل وهو القَطيع من الظباء. ونقابًا أي مفاجأة. ومخلَّفيه أي الذين خلاهم خلفه. والجِذى جمع جذوة. والخوار الضعيف. والدعر الذي يُدخن. والمعنى إذا سقط الثلج هرَب أنواع الحيوانات على اختلاف أجناسِها فالتجئوا إلى الإنسِ فاستكنُّوا تحت عروشهم من الضَّريب، فشبَّه أبو العلاء اجتماع الناس على اختلافهم بين عالِم وجاهل يوم ورود كتاب الوزير بذلك. وقوله: أحسبُه رأى نور السُّؤدد، يقول كأن موسى هذا رأى نور الوزير فترَك أهله وقصَده كما قصَد موسى عليه السلام النار لما رآها.
(٦٩) انتجَع ذهب لطلبِ الكلأ.
(٧٠) البقيع المكان الواسع. والرِّيم الظَّبي الأبيض. والصَّريم الليل. والجاب حمار الوحش. والمُنجاب المُنكشِف. والأعفر ظبي يَعلو بياضَه حمرة. وجربة من أسماء السماء. والمعنى: يقول ليس الزُّهيري تحت ظلِّ نعمة الوزير كالظَّبي تحت ظلِّ الليل، بل هو كالحوت تحت البحر؛ وذلك لأنَّ ظلَّ الليل قد يَنكشِف عن الظبي؛ وذلك إذا طلَع النهار فهو غير دائم عليه، أما البحر فماؤه على الحوت لا يَنفصِل عنه مطلقًا ولا يُفارقه برهة.
(٧١) العهود الأمطار. والنجاد جمع نجد وهو ما علا من الأرض. والوهود جمع وهد وهو ما انخفَض من الأرض. ويُقال: بلد طسم أي دارس. وكأثر الوسم: أي لا يُنبِت شيئًا لأنَّ الوسم إذا وقَع في الجلد لم يُنبِت وبرًا ولا غيره. والقراع، من قولهم: قارَعَه بالميسم إذا وَسَمه، والقراع المقارعة في الحرب أيضًا، والمراد هنا المَعنَيان. ويا بؤس بني سدوس، مَثل مولَّد. وحازب: أي قريب. وعازب: أي بعيد. والحربَث نبت. والأظلُّ باطن الخف. واللبيد الجوالق الصغار. والهبيد حب الحنظل. والمرار نبت شديد المرارة إذا رعته الإبل أمرت ألبانها. وطيب حر: أي خالص. يقول إنه نشأ في المعرة وهي ثغر قريب من العدو مُهدد في كل آنٍ خالٍ من الفضلاء والعلماء فلم يحصل من الأدب على طائل، ولما كان محصوله في الأدب قليلًا كانت بضاعته قليلة وصناعتُه فيه ليست بالجيدة، وضرب على ذلك مثلًا بأن الإبل التي لا تجد من النبت والرعي إلا المرار يكون لبنُها مرًّا والتي ترعى الأراك يكون لبنها خالصًا؛ يريد أن كل إناء بالذي فيه يَنضح وأن إناءه لم يكن فيه شيئًا جيدًا من الأدب والعلم حتى يجود به.
(٧٢) النشب المال. والليلة المرعية التي تَرعى نجومها. واللقوح الناقة التي تُنتَج، والربعية التي تُنتَج في أول الربيع، وتقول العرب: اللقوح الربعية مال وطعام. يقول إنَّ له من النَّشَب قليلًا من الصبر وقليلًا من المال؛ فهو يُعاني من الصبر ما يُعانيه ساهِر الليلة وراعي النجوم، وأنَّ ليلة كهذه تُحسب بسنة، وأما الوفر فهو وإن قلَّ كاللقوح الربعية بالنِّسبة إليه يستعين به على تقويم أودِّه. ويُريغ يطلب. والضوء النور كالضوء. والتكفير: أي التكفير عن الذنوب. والتَّعفير تمريغ الوجه بالتراب. والحوب الإثم. وقوله: كسياء بن يعرب، يريد: إني كتبت لك أتقرَّب بك إلى أبيك كتقرب سياء بعبادة الشمس إلى خالق النُّور ومصرِّف الأمور.
(٧٣) شقائق النعمان الربَّعية التي تَنبت في الربيع، والنعمان بن المنذر كان يُعجبه هذا الضرب من النبت ويَحمي منابتَه فينسبه إليه. ومدائحه اليربوعية مرادٌ به ما مدح به النابعة النعمان، والنابغة من بني يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذُبيان، والبلد المضاف إلى هذا الاسم يريد معرَّة النعمان. يقول إن أهل معرة النعمان رجلان: إما سائل من الوزير عطاءه ومنحه مُلحٌّ في ذلك، وإما قائل في مدح الوزير من القول ما لا يُستملَح ولا يُستحسَن، فهم بذلك ثقلاء لا يلام الوزير إذا أبغض الشقائق ومدائح النابغة بل وبني المنذر جميعًا لمجرَّد إضافة بلد هؤلاء الناس وهي المعرة إلى النعمان.
(٧٤) والخميس: الضامر البطن من الجوع. والهَتر الخَرِف. واليربوع نوع من الفار. والهَجرس ولد الثعلب. ويَجرس: أي يُصوِّت. وجرد: أي منجرد من النبت. يُريد أن المعري كان مستترًا فلما ظهر فضلُ الوزير وهو كالصُّبح الذي إذا أشرق تحرَّك كلُّ حيوان وكل إنسان بطبعه وإلى ما يناسبه من العمل تحرَّكَ المعري قسرًا إلى مدحه ومُكاتَبتِه، ثم قال: وليس ذلك بعجيب؛ فقد يولع الثعلب الصغير بأن يُصوِّت أمام الأسد.
(والرسالة الأولى هي رسالة المنيح التي كان كتَبها للوزير قبل هذه الرسالة.)
(٧٥) الخزائم جمع خزامة وهي ما يُجعَل في أنف البعير ويُجعَل فيه طرف الزمام فيُقاد به. يريد أنه مدبِّر الأمور يُصرِّفها كيف شاء.
(٧٦) القسم العازم: أي القاطِع. وذات طوق: أي حمامة. والوسمي المطَر. وأرنَّت صوتت. والشجو الهم والحزن. وذؤابة الشيء أعلاه. والقيل يريد الصوت. والهديل فرخ حمام مات أول الزمن، ويُقال إن كل حمام بكى إنما يَبكي عليه.
(٧٧) الضبُّ يأكل أولاده؛ وذلك أن الضبَّة تَحرس بيضها من كل حيوان كالورل ونحوه، حتى إذا استخرجتها من قيضها ظنَّت أنها شيء يُريد أن يَأكُل أولادها فأقبلَت عليها تَقتُلها وتأكلُها فلم ينجُ منها إلا الشريد، هكذا تَزعُم العرب. وواغل: أي داخل. والعود هو المُسن من الإبل، ومعروف أن الإبل تَشتاق إلى أوطانها كما قال:
لو ترك الشوق لنا قلوبًا
إذًا لآثَرنا بهنَّ النِّيبا
إن الغريب يُسعِد الغريبا
وذي الشجن إلى شجنه، أي ذي الحاجة إلى حاجته. ومناجاته محادثته. والشوارف جمع الشارف وهي الناقة المسنة. والسِّقاب جمع سَقب وهو ولد الناقة. والهوائف العطاش.
(٧٨) المرادس الذي يلقي حجرًا في البئر لينظر هل فيها ماء أم لا. والخلب الطين. والجفر البئر. ويُريد بذلك أن غير جارِه من يفعل ذلك أما جارُه فهو واثق من الماء والري مُتحصِّل عليه بلا عناء وعمل. واستافها أشمَّها. والسفر الصباح. والصادية العطشانة.
(٧٩) قوله: شائم البروق، كانت العرب إذا شامَت لمح البرق في جهة ثم عدوا مائة بارقة مُتوالية استدلوا بذلك على نزول المطر في تلك الجهة فرحَلوا إليها من غير أن يُرسلوا رائدًا. والخلد القلب. ويَستسِرُّ يختفي. والبازل الجمل الذي بزل أي انشق نابه، والعرب تقول: فلان يقود الجمل، أي أنه مَشهور، ومنه قول القلاخ:
أنا القلاخُ بن جناب بن جلا
أبو خَناثير أقودُ الجمَلا
أي: أنا ظاهر لا أخفى على أحد. وقوله: من طوى المنازل، يريد من قطع منزلتين أو أكثر في مرحلة وكان من يفعل ذلك يُشهر عند العرب، وقد طوى حذيفة بن بدر عشر مراحل في مرحلة، وطوى حمران مولى عثمان رضي الله عنه ما بين مكة والمدينة في يوم وليلة. ومن ذي علق: أي من ذي حُب. والنَّهلة الشربة. والطلق اسم سير الإبل إذا كان بينها وبين المنهَل ليلتان.
(٨٠) لا تسنح له الظباء: أي لا تمرُّ به الظباء السوانح التي يُتشاءم منها. وورَد نطاة: أي حِمى خيبر؛ فإن الورد اسم الحمى، ونطاة اسم خيبر. ودائرة اللطاة هي دائرة في وسط جبهة الفرس، والدائرة الشافعة لها التي يُشير إليها المعري هي مما يُتشاءم منه ويُفزع له. والجارية الفتاة الصغيرة. والسارية الإبل. ومثل هذه الفتاة مرفوع عنها مثل هذه المِهَن الشاقة من سوق النوق ونحوِه. والآبق الهارب. والإبالة الحزمة. والمُخفِق الصائد الذي يَرجع ولا يَصيد فيرمي حبالته. وقوله: كالأشقر، هذا مَثل قاله لَقيط بن زُرارة يوم شِعب جبلة. سيدي أبو فلان هو الحُسين بن عنبسة الذي كتَب أبو العلاء هذه الرسالة يشفع فيه.
(٨١) كلم جرح. وُقذ ضُرب حتى كاد يهلك. جناة الرائد ما يجنبه كالكلاء. وقوله: حصاة الذائد، الذائد الذي يذود الإبل عن حوضه أي يطردها ويرميها بالحصى لئلا تشرب منه، ويريد بذلك: لولاك لكان مأكولًا مطروحًا. وسُقي بكدر: أي بماء غير صافٍ. وتُرك على مثل ليلة الصَّدَر، يعني في محلٍّ قفر لا شيء عنده؛ وذلك أن العرب كانت ترد المنهل جماعات وزرافات ثم تَصدُر عنه مرة واحدة فيبقى خاليًا لا أنيس به. وصفر الإناء خلوُه. وممرُّ الفتاء ذهاب أهله وخلوُّ الدار منهم. ويُجذُّ يُقطع من أصله. والصِّليانة واحدة الصِّليان وهو نبت تحبُّه حمر الوحش، فإذا أراد الحمار أكله وأخذ بطرف الصليانة نزعها من أصلها، فلذلك تقول العرب لمن اجتُث أصله: جُذ جذ الصِّليانة. والصربة صمغ يَخرج من بعض العضاه من الشجر، فإذا نزعه الإنسان من شجرته لم يبقَ له أثر بها. والمُخلَّف من الإبل بعد البازل، فإذا سقط ناب المخلَّف لا يَنبُت له بعد ذلك. ويَلتمع يختلس، والمراد هنا يشرب. والشفافة البقية، ومنه قول الأعرابية تصف زوجها: إذا أكلَ لف، وإذا شَرب اشتفَّ، أي لم يُبقِ شيئًا. والسعن البديع: جلد يُوضع فيه العسل. وقوله: تلك عُرى انعقدت، يقول إنما تمَّ له ما تم من الخلاص من الأذى والحصول على الخير بعناية سيدنا ورعايته له. وقوله: فآنِسْه بين سمع البيد وبصرها، يقول صاحب هذا الرجل ومُزيل الوحشة عنه بين سمع الأرض وبصرها. ومَراشح العين لجآذِرها: أي في الغربة. شراب بأنقاع: أي همام مِقدام مجرِّب موقد ناره باليفاع: أي شهير طائر الصيت، ويَعني بذلك الأمير الذي يُخاطبه أبو العلاء بهذه الرسالة والذي هذا الرجل المَشفوع فيه نازل عنده. وقوله: تؤنسه دائرة لا تفزع، يريد تحيط به وتؤنسه دائرة من الأعوان والأنصار لا تَفزع عند لقاء الأعداء. وقوله: سواء عليه، يَعني أن هذا الأمير كريم على كل حال.
(٨٢) لأسرته: أي لعشَيرته. وقرا الثعبان: أي ظهر الثعبان. والباري الحصير المنسوج. والصناع الحاذق صنعته. يُريد طريقًا واضحًا، وقال الراجز:
يا حبَّذا القَمراء والليلُ الساج
وطُرُق مثل مُلاء النَّسَّاج
والرِّيع المكان المرتفع، قال تعالى: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وقوله: لِزُغب كأولاد القطا، يُريد أطفال هذا الرجل وبنيه. والمعنى أن الحسين بن عنبسة الذي كتَب أبو العلاء هذه الرسالة يشفع فيه كان مُتغيبًا عند الأمير عن أهله وأطفاله وكان يُرسل في كل ثلاث كتابًا لأبي العلاء يَذكر فيه مِنَن الأمير عليه، فأبو العلاء يرجو أن يُكمِل نعمته على هذا الرجل بإرساله إلى بلده عند أهله وأطفاله كما بيَّن ذلك في آخر الرسالة.
(٨٣) السمرة شجرة من شجَر العَضاه معلومة. والقاصِبة النافِخة في قصب المَزمار للترنم بصوته. والضاربة هي ضاربة العود. والفناة واحِدة الفَنى وهو شجر معلوم، ومنه قول زهير:
كأنَّ فُتات العِهن في كل مَنزِل
نزلنَ به حبُّ الفَنى لم يُحطَّمِ
وضمين الوجذ: أي ما في الوجذ من الماء، والوجذ نقرة صغيرة في الجبل تُمسك الماء. والتغمير الريُّ. يريد: أعجز عن شكرك عجز هذه النُّقرة الصغيرة عن إرواء النوق المَطرودة. وصرعي: أي جانبي. وأبقع أذهب. وحياك من خلا فوه، مثل معناه المشغول لا يُشغل. وعريبًا: أي أحدًا. يقول: كنت عاجزًا عن شُكرك أولًا فما عسى أن أصنَع الآن أو أقول وقد ضاعفت عليَّ المنن بإكرامك هذا الرجل. ثم قال ملتفتًا كأنه يُخاطب أحدًا: حياك من خلا فوه، يقول: لا تُكلمني فإني مشغول بمدح الأستاذ والثناء عليه أي كلام آخر.
(٨٤) الامتراء مسحُ الضرع حتى يُدرَّ اللبن. والاختفاء إظهار الشيء المخفي. وقوله: وإتمام الصنيعة، يقول: أنت أكرمته فأَتمِم صنعيك بأن تُرسله إلى أولاده لسربٍ هو سِرب القطا. ومخلفاته فراخه؛ وذلك أن القطاه تَترُك أفراخها في الصحراء وتذهب عند طلوع الفجر في طلب الماء فتَرِده ضحوةَ يومها فتَحمل الماء إلى أفراخها فتَنهلها. والشَّهلاء الحاجة.
(٨٥) وعلا كعبًا كعب، يُريد: ما بقي في الدنيا شريف ومَشروف.
(٨٦) المُسحِلة الغزيرة المطر.
(٨٧) الأريضة الطيبة الصالِحة للزراعة. والأمواه الغريضة، أي مياه المطر الحديثة العهد بالنزول من السماء. والأنعام هي الإبل. وأجدب أمحلت أرضه. والبارق اليمان، أي البرق الذي يلمع من جهة اليمَن. وهَولُه: أي خوفه. ومُرتقب مُنتظِر. ومُمان: أي مطاول. يريد: إني أتشوَّف لأخباره تشوُّف الراعي الذي أجدبَت أرضه أعوامًا من قلَّة المطر لبرق مُتتابع كثير المطر دائم الإيماض. وقوله: هَولُه، يُريد أنه من كثرته تُخشى صواعقُه، وفي معناه يقول القائل:
وحديثُها كالرَّعد يَسمعه
راعي سنين تتابَعت جَدبا
فأصاخَ يَرجو أن يكون حيًا
ويقول مِن فرحٍ هيا ربَّا
(٨٨) الوحشية الغزالة. ورادَت خرَجت تَطلُب المرعى. وخالفها: أي أتى حين غابت. والسِّرحان الذئب. والطَّلا ولدها. وراد خرج يطلب المرعى. والأميل المنعقد. يقول: أسفي لفقده كأسف غزالة خرجت لطلب المرعى وخلَّفت ولدها فأكله الذئب فهي تدور حول الرمل تتلهَّف على ولدها.
(٨٩) وقوله: المقسم بالملح لبني خالدة، يُشير إلى أبيات في مثل. والنبت الناجم: أي الطالع.
(٩٠) والسيف الساحل. والفَرِق الخائف. والسيف الددان: أي الكهام الذي لا يَقطع شيئًا. والورقاء الذئبة، ويُضرَب بها المثل في الغدر لأنها إذا رأت دمًا بذئبها أكلته، وقال الأعرابي:
فلا تكوني يا ابنةَ الأشمِّ
ورقاء دمَّى ذئبها المُدمي
وأبو جهل هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي، ولعلَّ هذا سبق ظن من المعري، وإلا فإنَّ أبا جهل حضر بدرًا ولم يَعتذِر وإنما الذي اعتذَر هو أبو لهب.
(٩١) والعامة عيدان مشدودة يُعبر عليها النهر. والحرث هو الحرث بن عباد، والنعامة فرسُه، وفيها يقول:
قرِّبا مربط النعامة مني
لَقِحَت حربُ وائلٍ عن حِيال
وحبيس: أي موقوف عليك.
(٩٢) والنمير الماء العذب. والإزماع الفراق.
(٩٣) والوسم الكي. يُريد تثبت في الإلحاح كثبوت الوسم على الجسم. وقوله: أما الشرح، يريد شرح السيرافي على كتاب سيبويه. وقوله: إنما رجوت أن يتَّفق أناس، يريد كنت آمل أن يتَّفق لنا أناس يَبيعونه لنا بثمن بخس. وقوله: فأما أنا فلا أقول أبدًا، يريد أنه ليس من الضروري اللازم أن يكون عندنا هذا الكتاب. ومعنى هذا كله أن أبا العلاء طلب من أبي طاهر المُخاطَب بهذه الرسالة أن ينسخ له نسخة من شرح السيرافي ولم يشترط عليه أن يكون بخطٍّ واحد، بل اشترط مجرد الضبط والتحرِّي في النقل، ومثَّل لذلك بأن الثوب الملفَّق من خرق متنوعة إن قام بستر الجسد أغنى عن السرق وهو الحرير.
(٩٤) حَلِم: أي فسد. والأديم الجلد. يُريدون بذلك فساد الأمر. يقول: قد ذكرت أن الناس فسدوا وأنا أقول إنهم كانوا كذلك منذ كانوا، فلا يظن أحد أنهم فسدوا. وقال أبو العلاء في اللزوميات:
وقد عَلِمنا بأنا في عَواقبنا
إلى الزَّوال ففيمَ الضغن والحسد
والجِيد ينعم أو يَشقى ويُدركه
ريبُ المنون فلا عقد ولا مسَدُ
ونحن في عالم صيغَت أوائله
على الفَّساد ففي قولنا فسَدُوا
وقوله: وهو من الملامة في أحصن لامة. اللامة الدِّرع. يقول: إن تعذَّر نسخ هذا الكتاب فهوِّن عليك ولا تُكلِّف نفسك لذلك التكاليف؛ فإن هذا الكتاب ليس هو الكتاب المَكنون الذي لا يمسُّه إلا المطهرون.
(٩٥) الحجاة النفاخة التي على الماء. وقوله: كرحيق إذا عتق جاد، من قول الآخر:
تَزيد على السنين ضيًّا وحسنًا
كما رقَّت على العِتق الشمول
الأثر يريد الحديث الشريف، والمعنى أنه كلما علا السند كان أشرف. ويُريد بباكية هديل الحمامة. وقوله: نامية إلى جديل، جديل فحلٌ من الإبل مُنجب مشهور. ويريد حنين النوق، قالت الخنساء:
وما عَجول على بوٍّ تحنُّ له
لها حنينان إعلانٌ وإسرارُ
(٩٦) طائر بشارة، يريد الطير التي تُعلَّق كُتُب الفتوح على أجنَحَتِها وتُرسَل إلى الملوك للبشارة. والسرارة بطن الواد. وفوجئ رُؤي بَغتة. ونقع: أي أُروي من العطش. وقوله عتائر اللطيمة: اللطيمة الإبل، وعتائرها أوعية الطيب التي علَيها. والمقاطر المجامر. والأطيمة النار. يعني أنه فاحت رائحته كما تفوح رائحة المسك إذا وُضع في مجامر النار. والحرج الغابات. والقرح الألم. والأمة الجارية. والحدج مركب للنساء، ومنه قول الزرقاء:
شرُّ يومَيها وأغواه لها
رَكِبَت عنز بحِدج جمَلا
وهذا مَثل، يقولون: كالأَمة تفخر بحِدج ربَّتها. والمُعزِّبة التي عزبت إبلها. والنعم الإبل والغنم.
(٩٧) يقال: حلم الأديم إذا فسَد الأمر، قال القائل:
وإنك والكِتاب إلى عليٍّ
كدابغةٍ وقد حَلِم الأديمُ
والرديم الثوب المرفوع. والغروب الدلاء. يريد أن الدلو إذا كانت ملأى كان نَزعُها من البئر بطيئًا لثِقلها. والعشار النوق الحوامل. وزجره: أي ساقه؛ وذلك أن الناقة إذا كانت عشراء وعَظُمت بطنها حبلًا يَزجرها الراعي فلا تَنزجِر لثِقلها. والرِّسل اللبن الخالص. والسماء اللبن المخلوط. والاسترفاد الطلب. والأفد الأمد. المعنى: كأن المعرِّي كتب للأمير الذي كتب له هذه الرسالة كتابًا من قبل يسأله فيه أن يتدارك بمعونته رجلًا من أصحابه نُسب له بعض الشيء، ثم تأخر جواب الأمير على كتاب المعري برهة فأبو العلاء يقول: قد علمت أن تأخير الجواب إنما كان لإنهاء هذه الفتنة عن آخرها ورد الغلط والوهم الذي وقَع بسببِها ما كتبتُ للأمير في هذا الشأن إلا بعدما اتَّسع الخرق على الراقع فلزم لتلافي ذلك مدة من الزمن وهذا هو السبب في تأخُّر جواب الأمير عني، ثم ضرب لذلك مثلًا بأن الدِّلاء أملؤها أبْطؤها نزعًا. وقوله: لم أكتب في أمر أبي فلان إلا مُتشكِّرًا، يريد: إني تشكرت قبل السؤال لعلمي بأنه سيُنجز لا محالة؛ إذ هو لا يماطل سائله. وقوله: أرخ يديك واسترخ، مَثل يُضرب لحصول الشيء بسهولة.
وقوله: فأما تداركه ما جرى من الوهم، يقول: أما تدارك الأمير هذه الفتنة وما جرَّت من الوهم فغير مُستغرَب؛ فإن الأمر إذا تولاه رجاله صلح. ومتالع جبل عظيم. والغرز الركاب. يقول: ما استند أبو فلان منك إلا إلى جبل عظيم يُستند إليه. واليرمع حجر رخو، ومنه المثل: كفَّا مُطلقةٍ تفُت اليرمع. واليلمع السراب. وأُم الربيق كُنية الداهية. والأريق تصغير أورق، والأورق الجمل الذي لونُه الورقة، وهذا مَثل يُضرَب لمن وقَع في شدة.
(٩٨) وقوله: يريك بشر، مثل لمن ظاهره يدلُّ على باطنه. وقوله: كفى بضيائها هاديًا، مثل يريد أن النار التي تُوقد ليلًا تدلُّ على صاحِبها. والسَّعدان نبت من أجود المراعي. والمَحار الصدف. والعَدان ساحل البحر.
(٩٩) وقوله: وأما الفصل في ترتيب الخطاب، هو أن الأمير المكتوبة له هذه الرسالة سأل المعري بأن يَنقُصه من عبارات التعظيم والتفخيم التي يَذكرها في كُتبه، فالمعري يقول: كيف أنقصك من ذلك وأنت تَذكُرني في كُتبك بألفاظ التفخيم والتبجيل التي ترتفع عن قدري. قوله: كمن قام ليتلقى الغمام، كان النبي إذا نزَل المطَر خرج وتلقَّاه وتمسَّح به وفرح. وقوله: فما بال العلاوة بين الفودَين، إشارة لمثل أصله قول سيدنا معاوية للبيد بن ربيعة وكان عطاؤه ألفَين وخمسمائة فأراد أن يُنقص من عطائه خمسمائة وهي العلاوة، فقال له: هذان الفودان، فما العلاوة؟ فقال له: عما قليل يَبقى لك الفَودان والعلاوة، فرقَّ له وأعطاه عطاءَه تمامًا ولم يأخذ عطاءً بعد ذلك لأنه اخترمَتْه المنية. والبَكْي اللبن. والفِطر الحلب. وأَوذَم أوجبه. وعاقر الرمل الذي لا يَنبُت. وحفير الميت هو القبر. والوَذيلة المرآة. والزلفة المرآة أيضًا. والمُضِر المرأة التي لها ضرَّة. وراع: أي رجع. وفاء رجع أيضًا. واللفاء القليل. والمعنى: يقول هو عظَّمني فقابلته بالتعظيم، وأبيت أن أكون كالقبر الذي يأخذ ولا يُعطي، وأحببت أن أكون كالمرآة التي تقابل كل وجه بمثل ما يُقابلها، ثم قال: والفضل لك في البدء بالمعروف كفضل الصورة الأصلية على مثالها في المرآة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤