الباب الخامس

فيما اخترناه من شعر ابن الرومي عليِّ بن العباس

قال ابن الرومي يُعاتب أبا القاسم التوزي الشطرنجي:

يا أخي أين عهدُ ذاك الإخاء
أين ما كان بينَنا من صفاء
كشفَت منك حاجَتي هنواتٍ
غُطيَت برهةً بحُسن اللقاءِ
تَركَتْني ولم أكن سيِّئ الظـ
ـن أُسيءُ الظنون بالأصدقاءِ
يا أخي هَبْك لم تهَبْ لي من سَعـ
ـيِكَ حظًّا كسائر البخلاءِ
أفلا كان منكَ ردٌّ جميلٌ
فيه للنفسِ راحةٌ من عناء
أجزاءُ الصَّديقِ إيطاؤه العشـ
ـوة حتى يظلَّ كالعَشواءِ
تاركًا سعيَه اتكالًا على سعـ
ـيك دونَ الصِّحاب والشُّفعاءِ
كالذي غرَّه السرابُ بما خُيِّـ
ـل حتى هراقَ ما في السِّقاءِ
يا أبا القاسم الذي كنتَ أرجو
ه لدَهري قطعتَ متْنَ الرجاءِ
لا أُجازيكَ من غروركَ إيا
ي غرورًا وُقيتَ سوءَ الجَزاءِ
بل أرى صدقَك الحديثَ وما ذا
كَ لبخلٍ عليكَ بالإغضاءِ
أنت عَيني وليس مِن حق عيني
غضُّ أجفانها على الأَقذاءِ
ليس من حلَّ بالمحلِّ الذي أنـ
ـتَ به من سماحةٍ ووَفاءِ
بذَلَ الوعد للأخلاء سمحًا
وأبى بعد ذاك بذْلَ العطاء
فغدا كالخلاف يُورق للعيـ
ـن ويأبى الإثمار كلَّ الإباءِ
يا أخي يا أخا الدماثة والرقَّـ
ـة والظُّرف والحجا والدَّهاءِ
أترى الضربة التي هي غيبٌ
خلف خمسين ضربةً في وَحاءِ
ثاقبُ الرأي ناقِدُ الفكر فيها
غير ذي فَترةٍ ولا إبطاءِ
ويُلاقيكَ سبعةٌ فيَظلُّو
نَ على ظهرِ آلةٍ حَدباءِ
تَهزِم الجمع أوحديًّا وتُلوي
بالصَّناديدِ أيَّما إلواءِ
وتحطُّ الرِّخاخ بعد الفرازيـ
ـن فتَزداد شدَّةَ استعلاءِ
ربَّما هالَني وحيَّر عقلي
أخذك اللاعبِين بالبأساءِ
ورضاهم هُناك بالنِّصف والربـ
ـع وأدنى رضاكَ في الإرباءِ
واحتراس الدُّهاة منك وإعصا
فك بالأَقوياء والضعفاءِ
عن تدابيرِك اللِّطاف اللَّواتي
هنَّ أَخفى من مُستسرِّ الهباءِ
بل مِن السرِّ في ضمير محبٍّ
أدَّبَتْه عقوبة الإفشاءِ
فأخال الذي تُدير على القو
م حروبًا دوائرَ الأَرحاءِ
وأظنُّ افتراسَك القرن فالقِر
ن منايا وشيكة الإرداءِ
وأرى أنَّ رقعة الأدَم الأحْـ
ـمر أرضًا علَّلتَها بدِماءِ
غلطَ الناس لستَ تلعَبُ بالشِّطـ
ـرنج لكن بأنفُسِ اللُّعباءِ
لك مكرٌ يدبُّ في القوم أخفى
من دبيب الغناء في الأَعضاءِ
أو دبيب الملال في مُستهامَيـ
ـن إلى غايةٍ من البَغضاءِ
أو مسير القضاء في ظُلَم الغيـ
ـب إلى من يُريده بالْتواءِ
تَقتُل الشاهَ حيث شئتَ من الرقْـ
ـعة طِبًّا بالقِتْلة النَّكراءِ
غير ما ناظرٍ بعَينيكَ في الدسـ
ـت ولا مُقبلٍ على الرُّسَلاءِ
بل تراها وأنت مُستدبِرُ الظهـ
ـر بقلبٍ مُصوَّرٍ من ذكاء
ما رأينا سواكَ قرنًا يُولي
وهو يُردي فوارسَ الهَيجاءِ
رُبَّ قومٍ رَأوك ريعوا فقالُوا
هل تكونُ العُيون في الأقفاءِ
تقرأ الدستَ ظاهرًا فتؤديـ
ـه جميعًا كأحفَظِ القُراءِ
وتُلقَّى الصَّواب فيما سِوى ذا
ك إذا جار جائر الآراءِ
فترى أن بُلغةً معها الرا
حة خيرٌ من ثروةٍ في شَقاءِ
وقديمًا رغبتَ عن كل مَصحُو
بٍ من المُترفين والأُمَراءِ
ورفضت التِّجارة الجمَّة الرِّبـ
ـح وما في مراسها من جِداءِ
وهَذى العاذِلُون من جِهة الرِّبـ
ـح فخلَّيتُهم وطولَ الهذاءِ
لم تَبِع طيبَ عيشةٍ بفضولٍ
دونَه خُبث عيشةٍ كدراءِ
تعَبُ النفسِ والمَهانة والذلَّـ
ـة والخوف واطِّراح الحياءِ
بل أطعتَ النُّهى ففزتَ بحظٍّ
قصَّرَتْ عنه فطنةُ الأغبياءِ
راحةِ النفس والصيانةِ والعفَّـ
ـة والأَمن في حياءٍ رَواءِ
عالِمًا بالذي أخذتَ وأعطيـ
ـت، حكيمًا في الأَخذ والإعطاء
قائلًا للمُشير بالكدح مهلًا
ما اجتهادُ اللبيب بعد اكتفاءِ؟
مرحبًا بالكَفاف يَأتي عفيًّا
وعلى المُتعَبات ذيل العَفاءِ
ضلَّةٌ لامرئٍ يُشمِّرُ في الجَمـ
ـعِ لعيشٍ مُشمِّرٍ للفَناءِ
دائبًا يَكنِز القناطير للوا
رث والعُمر دائبٌ في انقِضاءِ
حبَّذا كثرةُ القناطيرِ لو كا
نت لربِّ الكُنوز كنزَ بَقاءِ
يَغتدي يَرحم الأسيرُ أسيرًا
جاهلًا أنه مِن الأُسَراءِ
لا إلى الله يَذهب الحائر البا
ئر جهلًا ولا إلى السرَّاءِ
يَحسب الحظ كله في يديه
وهو منه على مدى الجَوزاء
ليس في آجلِ النَّعيم له حظٌّ
وما ذاقَ عاجلَ النَّعماءِ
ذلك الخائب الشقيُّ وإن كا
ن يُرى أنه مِن السُّعداء
حسب ذي إربة ورأيٍ جليٍّ
نظرت عينُه بلا غُلَواءِ
صحَّة الدين والجوارِح والعر
ض وإحراز مُسكة الحَوباءِ
تلك خيرٌ لعارف الخير مما
يجمع الناس من فُضول الثراءِ
ليس للمُكثر المُنغَّصِ عيشٌ
إنما عيشُ عائشٍ بالهناءِ
يا أبا القاسم الذي ليس يَخفى
عنه مكنون خطةٍ عَوصاءِ
أترى كل ما ذكرتُ جليًّا
وسواه من غامِض الأشياء
ثم يَخفى عليك أني صديقٌ
ربما عزَّ مثله بالغلاء
لا لعَمر الإله لكن تعاشيـ
ـتَ بصيرًا في ليلةٍ قمراءِ
ظالمًا لي مع الزَّمان الذي ابتذَّ
حقوق الكِرام للُّؤماءِ
ثَقُلت حاجتي عليك فأضحَتْ
وهي عبءٌ من فادحِ الأَعباءِ
فتوانَيتَ والتواني وَطيء الظَّـ
ـهر لكنَّه ذميم الوطاءِ
ظُلمَت حاجتي فلاذَت بحَقْوَيـ
ـك فأسلمتَها بكفِّ القَضاءِ
وقضاءُ الإله أحوَطُ للنا
س من الأمَّهاتِ والآباءِ
غير أنَّ اليقين أضحى مريضًا
مرضًا باطنًا شديدَ الخَفاءِ
لو يصحُّ اليَقين ما رغبَ الرا
غب إلا إلى مَليكِ السَّماءِ
وعسيرٌ بلوغُ هاتيكَ جدًّا
تلك عُليا مَراتبِ الأنبياءِ
وعزيزٌ عليَّ عَضيُكَ باللَّوم
ولكن أصبتَ صدري بدَاءِ
أنتَ أورَيتَ صدرَ خلِّكَ فاعذ
ره على النفثِ، إنه كالدَّواءِ
يا أبا بكرٍ المشارُ إليه
بانقطاع القَرين في الأُدباءِ
قد جَعلناك حاكمًا فاقضِ بالحـ
ـق وما زلتَ حاكم الظُّرَفاءِ
تأخذ الحقَّ للمُحق وتَنهى
عن ركوب العَداءِ أهلَ العَداءِ
ليس يؤتى الخَصمان من جنفٍ
فيك ولا مِن جهالةٍ وغَباءِ
هل ترى ما أتى أخوك أبو القا
سم في حاجَتي بعين ارتضاء؟
لي حقوقٌ عليه أصبحَ يَلويها
فطالِبْه لي بوَشكِ الأَداءِ
لستُ أعتدُّ لي عليه يدًا
بيضاءَ غير المودَّةِ البيضاءِ
تلك لو أنَّني أخٌ لو دَعاهُ
لمهمٍّ أجاب أُولى الدُّعاءِ
يَتقاضى صديقُه مثلما يبـ
ـذل من ذاتِ نفسه بالسواء
وأناديكَ عائذًا يا أبا القا
سم أفديكَ يا عزيزَ الفِداءِ
قد قَضينا لبانةٌ من عِتابٍ
وجميلٌ تَعاتُب الأَكْفاءِ
ومع العتبِ والعِتاب فإني
حاضرُ الصَّفحِ واسعَ الإعفاءِ
ولك الودُّ كالذي كان من خلـ
ـلك، والصَّدرُ غير ذي الشَّحناءِ
والذي أطلقَ اللسان فعاتبـ
ـتك عدِّيكَ أولَ الفُهَماءِ
لم أخَفْ منك غلطةً حين عاتبـ
ـتك تدعو العِتابَ باسم الهِجاءِ
وأنا المرء لا أسومُ عتابي
صاحبًا غيرَ صفوةِ الأصفياءِ
ذا الحجا منهم وذا الحلم
والعلم وجهلٌ ملامةُ الجُهَلاءِ
إن مَن لام جاهلًا لَطبيبٌ
يتعاطى علاجَ داءٍ عَياءِ

وقال أيضًا:

رُبَّ أكرومةٍ له لم تَخَلْها
قبلَه في الطباع والتركيبِ
غرَّبته الخلائق الزهرُ في النـ
ـاس وما أوحشَتْه في التغريبِ
يهب النائل الجزيل مُعيرًا
طرفه الأرضَ ناكتًا بالقَضيبِ
يتَّقي نظرةَ المُدلِّ بجَدْ
واه ويَعتدُّها مِن التثريبِ
مَن رآه رأى شواهدَ تُغني
عن سَماع الثَّناء والتجريبِ
ألمعيٌّ يرى بأول ظنٍّ
آخرَ الأمر من وراء المَغيبِ
لا يُروِّي ولا يُقلِّب كفًّا
وأكُفُّ الرجال في تَقليبِ
حازمُ الرأي ليس عن طول تَجر
يبٍ لبيبٌ وليس عن تَلبيبِ
أحسنَتْ وصفَه مساعيه حتى
أفحمَتْ كلَّ شاعرٍ وخَطيبِ
بل حذَوا حَذوَها فراحُوا يُزجـ
ـون من القولِ كلَّ معنًى غريبِ
يمَّمَته بنا المطايا فأفضَت
من فضاءٍ إلى فضاءٍ رحيبِ

وقال أيضًا يصف العنب الرازقي:

ورازقيٍّ مخطَّف الخصور
كأنه مخازن البلُّورِ
قد ضُمِّنت مِسكًا إلى الشُّطورِ
وفي الأعالي ماءُ وردٍ جُوري
لم يُبقِ منه وهَجُ الحَرورِ
إلا ضياءً في ظروفِ نُورِ

الحرور شدة الحر.

لو أنه يَبقى على الدهورِ
قرَّط آذان الحسان الحُورِ
بلا فريدٍ وبلا شُذورِ
له مذاق العسل المَشورِ
ونَكهة المِسك مع الكافُورِ
ورِقَّة الماء على الصُّدورِ
وبردُ مسِّ الخصر المَقرورِ
باكَرتْه والطيرُ في الوكورِ
وعُذر اللذات في البكورِ
في فتيةٍ من ولد المَنصورِ
أملأ للعين مِن البدورِ
حتى أتينا خيمة الناطُورِ
قبل ارتفاع الشمس للذُّرورِ
فانقضَّ كالطاوي من الصقورِ
بطاعة الراغبِ لا المَجبُورِ
والحُر عبدُ الحلَبِ المَشطُورِ

والحلَب الخمر.

حتى أتانا بضروعٍ خُورِ
مملوءةٍ من عسلٍ مَحصورِ

يعني بالدروع عناقيد العنب.

والطلُّ مثلُ اللُّؤلؤ المَنثورِ
من ناقعٍ فيها ومِن مَحدورِ
ثم جَلَسنا مجلس المَحبورِ
على حَفافَي جَدولٍ مَسجورِ
أبيضَ مثل المُهرَق المنشورِ
أو مثل متن المُنصُلِ المَشهورِ

المنصل السيف.

يَنسابُ مثل الحيَّة المذعورِ
بين سِماطي شجرٍ مَسطُورِ
ناهيكَ للعُنقود من ظُهورِ
فنِيلَت الأوطار في سُرورِ

يريد أن هذا الماء طَهور للعنقود يُزيل عنه غباره.

وكلُّ ما نَقضي من الأُمورِ
تعلةٌ مِن يومنا المَنظورِ
ومتعةٌ من مُتَعِ الغُرورِ

وقال أيضًا:

لم أَخضِبِ الشَّيب للغَواني
أبتغي عندهم وِدادا
لكنْ خِضابي على شبابي
لبستُ من بعده حِدادا

وقال أيضًا:

توددتُ حتى لم أَجِد مُتودَّدا
وأفنيتُ أقلامي عِتابًا مُردَّدا
كأَنِّيَ أستدني بك ابن حَنيةٍ
إذا النَّزا أدناه من الصَّدرِ أبعَدا

وقال أيضًا:

نظرَتْ فأقصَدَت الفؤاد بسَهمها
ثم انثنَتْ عني فكدتُ أَهيمُ
ويلاه إن نظرَت وإن هي أعرضَت
وقْعُ السهامِ ونَزعُهنَّ أليمُ

وقال الخوارزمي في نحو هذا:

وما أصبحْتُ إلا مثل ضرس
تأكَّل فهو موجود فَقيدُ
ففي تركي له داءٌ دَويٌّ
وفي قَلعي له ألم شديد

وقال أيضًا:

يا شبيهَ البَدر في الحُسـ
ـن وفي بُعْد المَنال
جُد فقد تَنفَجِر الصـ
ـخرةُ بالماء الزَّلال

وقال أيضًا:

لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حججٌ تضلُّ عن الهُدى وتجور
وُهْنٌ كآنية الزجاج تصادَمت
فهوت وكلٌّ كاسرٌ مكسور

وقال أيضًا:

وما تَعتريها آفةٌ بشريةٌ
من النوم إلا أنها تتخيَّر
كذلك أنفاس الرياض بسَحرةٍ
تَطيبُ وأنفاس الأنام تَغيَّر

يقول إنَّ النوم لا يُفسد رائحة نفَسها كسائر الناس بل يُحسِّنه؛ فهي كالروضة التي تُصبح أطيب ما كانت أنفاسًا.

وقال أيضًا:

طرفتُ عيون الغانياتِ وربما
أمَلْنَ إليَّ الطرف كلَّ مَميلِ
وما الشيبُ إلا شعرةٌ غير أنه
قليلُ قَذاة العين غير قليلِ

قال أنوشروان كنت أخشى أنني إذا شبتُ وكبرتُ تعافني النساء فإذا أنا أَعافهن.

وقال أيضًا:

وفلاةٍ قطعتُها بعَلاةٍ
كاللياح المُلمَّع الأزلامِ

العلاة يريد الناقة، واللياح ثَور البقر الوحشي.

باتَ في حُلة الظلام فريدًا
تحت أهوال رائجٍ مرزام

يريد تحت مطر شديد.

مُطرقًا يبحث الرَّويَّ عن الظمـ
ـآن من عانكٍ ركامٍ هَيامِ

يريد أن هذا الثور بات يفحص الأرض المبتلَّة عن الأرض الظمأى، والعانك الرمل المتراكم، والهَيام الذي ينهال.

عطَف الليل هَيْدَبَيهِ عليه
وتداعَت سماؤه بانهدامِ

هَيدَبيه: أي هيدب المطر وهو ما سال منه.

يَقَق اللون كالمَلاءة إلا
لمعًا في شواه مثلَ الوِشامِ

اللمع الألوان المختلفة، والشوى: أي الأطراف.

يَنتمي كلُّه إلى آل سامٍ
غير هاتيك، فهي مِن آل حامِ
تلك أو سُفعةٌ بخدَّيه تَهدي
جُدةً في سراتِه كالعِصامِ

السُّفعة لون مخلوط بسواد، والجدة خط على طول ظهر الثور، والعِصام الحبل.

هنةٌ قُوِّمت وعُوِّج منها
فتَراها كأنها خطُّ لامِ

هنَّة يُريد الجدة.

خطَّها في القرا وفي الذَّنَبِ الذا
ئل قسمَين أعدلُ القُسَّامِ

القرا الظهر.

ذو إهابٍ يُضاحِك البرقَ ما
ألاح، وطورًا يُضيء في الإظلامِ
ضُوعف الليل في الكثافة
والطول عليه بمُرجَحنٍّ رُكامِ

يريد بالمُرجَحن الركام المطر الشديد.

وخريقٌ تلفُّه في كنا
سٍ عُدْمُلِيٍّ بجانبَيه حَوامي

الخريق الريح الشديدة الهبوب، والعُدملي القديم.

دمَّنَته الأرواح قِدمًا
فريَّاه كريَّا حرائر الأَهضامِ
رقرقَته الشَّمالُ والرَّعدُ
والبَرقُ وفيقات وابلٍ سجَّامِ
حرجفٌ لو عَداه منها أذى الـ
ـقَرِّ كفاه دءوبها في المَوامي
وسوارٍ عليه أوكفت الـ
ـقطرَ أطارت كَراهُ بالإرزامِ

الإرزام هنا صوت الرعد.

دأبُه ذاك فحمةَ الليل حتى
طلَع الفجرُ ساطعًا كالضِّرامِ
أنقَذ الصبج شلوَه مِن شَفا الـ
ـموت فأَضحى يعلو رءوس الإكامِ
فرحًا بالنَّجاة تَرمي به الـ
ـمَيعة رمْي الوَليد بالمهزامِ

المهزام لعبة من لعب العرب.

بينما الشاةُ ناصلًا من هناتٍ
بات يَشقى بهنَّ ليلُ التَّمامِ

الشاة: أي الثور. يقول إن الثور تخلَّص مما أصابه في الليل من البرد والمطر.

قد صحَتْ شَمسُه وأقفَرَ إلا
من نعاجٍ خَواذلٍ ونَعامِ
يَصطلي جمرةَ النهار ويَلهو
بالرَّخامي وخِلفة العُلَّامِ

الرخامي نبت، والعلام كذلك.

إذ أتيحَت له ضوارٍ وطِمْلٌ
ما لها غير صيدِها مِن طعامِ

ضوارٍ: أي كلاب صيد، وطمل: أي صائد مُتلصِّص.

يَنتهِبنَ المدى إليه ويُضرمن
له الشدَّ أيما إضرامِ
ولديه لهنَّ إن فرَّ أو كر
عتاد المفرِّ والمِقدام
فترامَت به الأجاريُّ شأوًا
ثم ثابت حفيظةٌ من مُحامِ

فترامَت به الأجاري، يقول إنه جرى شأوًا ثم وقَف ليُحامي عن نفسه.

كرَّ فيها بمِذوديه مشيحًا
فسقاها كئوس مؤتٍ زُؤامِ

مذوديه: أي قرنَيه، ومشيحًا: أي مجدًّا.

فارعوَت من مُرنَّحٍ وصَريعٍ
ومولٍّ مُهتَّك النَّحر دامِ
فمَشى يَعسُف النَّجاء كما زلَّ
من المُنجنيق مِردى رِجامِ

يقول إنه بعد أن فتَك بالكلاب أسرع في الجري كأنه حجر قُذف من منجنيق.

أو كما انقضَّ كوكبٌ أو كما
طارت من البرق شِقةٌ في غمام
ذاك شبَّهَت ناقَتي حين راحَت
صخبًا رحلُها كتوم البغامِ
مَيلع الوَخد تَقذِف المَر
و وتَرمي اللُّغام بعد اللُّغامِ

مَيلع الوخد: أي سريعة السير، والمرو الحِجارة الصَّغيرة، واللُّغام الزبد الذي يَخرج مِن أفواه الإبل من شدَّة السَّير.

كم أجازَت إلى الأَمير عبيد الـ
ـله حامي الحِمى وراعي الذِّمامِ
عبدليٌّ مُهذَّبٌ طاهِريٌّ
مُصعبيٌّ يبذُّ كلَّ مُسامِ
فيه حدُّ الفتى وحِلمُ المُذكي
وحِجى الكَهل وارتياحِ الغُلامِ
ملِكٌ حلَّ مِن سماء المعالي
فوق شمسِ الضُّحى وبدر الظلامِ
ثاقب الفِكرِ ما تمهَّل في الرأ
ي شديد الإسداء والإلحام
فإذا بادَهَ الحوادثَ بالرأ
ي أصاب الصوابَ بالإلهامِ
صاحِب الحَربة التي تَنفث المـ
ـوت كنفثِ الأفعى ذعاف السمامِ
لم يَزل شامل المَنافِع
للأمة طرًّا مأمومها والإمام
يتَّقي جودُه صُلولَ القناطيرِ
كما يُتقى صلولُ اللِّحامِ

يقال: صلَّ اللحم إذا أنتَنَ. يُريد أنه لا يخزن الدراهم حتى تَنتن كما يَنتن اللحم من طول خزنه.

وكذا الماء طيبٌ ما استقَوه
آجنٌ آسنٌ على الإجمامِ

الإجمام عدم السقي والأخذ منه.

يَعذُب المَورِد الذي يُستقى مـ
ـنه ولا تَعذُب المياه الطَّوامي
أرخصَت كفُّه العطايا وأغلـ
ـت حمدَ سوامِها على السُّوامِ
ليس ينفكُّ من عطايا تباري
سائراتٍ خواطر الأفهام
حاصلاتٍ وهنَّ مِن عِظَم القـ
ـدر كبَعضِ المُنى أو الأحلامِ
وعطايا كوامنٍ في المواعيد
كُمونَ الثمار في الأكمامِ
فعطاياه دانياتٌ يدَ الدهر
توالى كأنَّها في نِظامِ
ساعياتٌ إلى رجالٍ قعودٍ
سارياتٌ إلى أُناسٍ نيامِ
أمسك السائلون عنه وكانُوا
قبله للمُلوك كالغُرَّامِ
ساهرٌ لا ينام عن حاجة السا
هر حتى يذوقَ طعمَ المنامِ
ويصونُ الوليَّ بالجاه والمال
كصَونِ الكميِّ نصل الحُسامِ
وحقيقٌ بذاك من أوَّلوه
كالنواصي والناس كالأقدامِ
إن من يَرتجي سواه لكالذ
اهب عن ربه إلى الأصنام

وقال أيضًا في رجل يجذب طرته من قفاه إلى وجهه:

يَجذِب من نُقرته طرةً
إلى مدًى تقصُر عن نَيلِه
فوجهُه يأخذ من رأسِه
أخْذ نهار الصَّيف من ليلِه

وقال آخر:

قد ترك الدهر صِفاتي صَفصفا
فصارَ رأسي جبهةً إلى القَفا
كأنه قد كان ربعًا فعَفا

وقال أيضًا:

رأيتُ الدهر يَرفع كل وغدٍ
ويُخفض كل ذي شِيَمٍ شريفَه
كمثل البحر يَغرق فيه حيٌّ
ولا ينفكُّ تطفو فيه جيفه
أو الميزان يَخفض كل وافٍ
ويرفع كل ذي زِنَةٍ خفيفه

وقال في مَليح رمَدت عيناه:

قالوا اشتكَت عينه فقلتُ لهم
من كثرة القتل مسَّها الوصبُ
حُمرتها من دماء من قتَلَت
والدم في النَّصل شاهدٌ عجبُ

وقال أيضًا في الهجاء:

خُذْها إليك مشيحةً سيارةً
تلقاك من بادٍ ومِن مُتحضِّر

المشيحة السيارة، يريد بها قصيدته، وتلقاك من بادٍ ومن متحضر: أي يُنشدك إياها البادي والحاضر.

تَغدو عليك بحاصبٍ وبتاربٍ
وعلى الرواة بلؤلؤٍ مُتخيَّرِ

الحاصب الريح التي تَرمي بالحصباء، والتارِب التي تَرمي بالتراب.

كالنَّار تَحرِق مَن تعرَّض لفحها
وتكون مرتفق امرئٍ مُتنوِّرِ

وقال أيضًا:

فلا تحسبنَّ الشرَّ يبقى فإنه
شهابُ حريقٍ واقدٌ ثم خامِدُ
ستألف فقدانَ الذي قد فقَدتَه
كإلْفِك وجدانَ الذي أنتَ واجدُ

وقال أيضًا:

لا تعجَبا إنَّ دمعًا فاضَ عن حرقٍ
ماءٌ أفاضَته نارٌ من مراجلِه
أراقَ دمعي هوى ظبيٍ أراقَ دَمِي
يا لِلقَتيل بكى من حبِّ قاتلِه

وقال أيضًا:

لله ما ضُمِّنَت حَفيرتُها
من حُسن مرأًى وطيبِ مُختبَرِ
أضحَت من الساكِني حَفائرِهم
سُكنى الغوالي مَداهن السُّرَرِ
لو عَلِمَ القبر مَن أُتيحَ له
لانخفَضَ القبرُ غيرَ مُحتَفَرِ

وقال أيضًا يهجو ابن بوران:

يا ابن بوران كيف أخطأكَ الجسـ
ـم فلم تعلُ جسمَ كل جَسيمِ
فلعَمري لما أتيتَ من الماءِ
ولكن مِن السقاء الهَزيم
شمل الناس عدلَ أُمِّك حتى
سار فيهم كسَيرِ جَورِ سَدُومِ
لو رآك الرِّجال شيئًا نفيسًا
كثرت فيك هَنبَثات الخُصومِ
كيف نَدعوهم لآبائهم ربي
وفيهم أمثالُ هذا الزَّنيمِ
كل فحلٍ أبوكَ عدلًا من الله
وعيسى بلا أبٍ كاليَتيمِ
تَطمِث الأرضُ مِن مَواطئ
بوران ولو بين زمزمٍ والحَطيمِ
أفحشُ القذفِ والهِجاء لبو
ران طهورٌ كالرَّجم للمَرجومِ
كيف لا تَسقُط السماء على الأر
ض وتُرمى من أجلِها بالرجومِ
كَثُرت موبقات بوران حتى
ضاق عنها عفوُ الغفورِ الرَّحيمِ
لو أطاعت كما عصَت لاستحـ
ـقَّت خلَّة الله دون إبراهيمِ
ليس لي مِن هجاء بوران إلا
نقل مَنثورِه إلى المنظومِ
ومعاني كلهن اتِّباعٌ
لا ابتداعٌ والعلم بالتعليمِ
هي تَفري لي الفرْيَ فأحذو
حذوها كالإمام والمأمومِ
ما أراني أُسيِّر الشِّعر فيها
سَيرَها في سهولها والحزومِ
هي أهدى من القَوافي وأسرى
في دجى الليل والفلا الديمومِ
ليس يُخلي منها مكانًا مكانٌ
هي شيءٌ خصوصه كالعمومِ
هي طيف الخيال يَطرُق أهل
الأرض من بين ظاعنٍ ومُقيمِ
هيَ بالليل كلُّ شخصٍ تراهُ
مائلًا في الظَّلامِ كالجُرثومِ
لا تملُّ البروك أو تقَع الطَّيـ
ـرُ على مَتنها كبعض الأَرومِ

الأروم: الأعلام التي تُبنى على الطرق.

ناقضَت مريمَ العفافَ فلما
قاومَتْها بالغيِّ والتأثيمِ
صمَدت في الزِّنا تُناسِل حوا
ء فحواءُ عِندها كالعَقيمِ

صمدت: أي أخذت.

ذات فرجٍ هو واستُها طائريٌّ
شائع الذَّرع ليس بالمَقسومِ
يسعُ السبعة الأقاليم طرًّا
وهو في إصبعَينِ من إقليمِ
كضمير الفؤاد يَلتهم الد
نيا وتَحويه دفتا حَيزُومِ
أيها الجالدو عُميرةَ طرًّا
لا عدمتهم ظلامةً من ظَلومِ
كيف ضعتم وفرجُ بوران موقـ
ـوفٌ على ابنِ السبيل والمَحرومِ

وقال أيضًا:

قاسيت منه ليلةً مذكورةً
لولا دفاع الله لم تتكشَّفِ
فكأنَّ ليلته عليَّ لطولها
باتت تمخَّضُ عن صباح الموقف

وقال أيضًا:

أصبحَتِ الدنيا تروق من نظر
بمنظرٍ فيه جلاءٌ للبَصرِ
والأرض في رَوضٍ كأفوافِ الحَبَر
تبرَّجَت بعد حياءٍ وخفَر
تبرُّجَ الأنثى تصدَّت للذَّكَر

وقال أيضًا:

صُنْه عن العنف إن مغمَزَه
من عُودك اللَّدنِ لا من الصَّخرِ
أمَا ترى العُود إن هتَفَت به
جاوزت تقويمَه إلى الكَسرِ

وفي كتاب كليلة ودمنة الخشبة المنصوبة في الشمس إذا أملتها قليلًا زاد ظلُّها، وإذا جاوزتَ بها الحد في إمالتكها نقص الظل.

وقال أيضًا:

اشرب على وردِ البنفسج
قبل تأنيبِ الحَسودِ
فكأنَّما أوراقه
آثار قرضٍ في الخدودِ

وقال أيضًا:

ساءَها أن رأت حبيبًا إليها
ضاحكَ الرأس عن مَفارقِ شِيبِ
فدعَتْه إلى الخضاب وقالت
إن دفنَ المَعيبِ غيرُ مَعيبِ

وقال أيضًا:

أتظنُّ أنك لو مُسِخْتَ
بلغتَ قُبحَكَ أو قُرابَه
بؤسٌ لمَن قد خاض ظلـ
ـك ثم لم يَسلُخ إهابَه

وقال أيضًا:

إذا خلةٌ خانَتْك بالغَيب عهدَها
فلا تجعلنَّ الحزنَ ضربةَ لازبِ
وهَبْ أنها الدنيا التي المرءُ مُوقنٌ
بفُرقتها والمرءُ في شأنِ لاعبِ

وقال أيضًا في السهام:

وكل ابن ريحٍ يَسبِق الطرف معجه
مروقٌ ومنزوعٌ لدى حومة الجذب

معجه: أي جريه وذهابه.

صنيعٌ مريشٌ قوَّم القين متنَه
فجاء كما سُلَّ النُّخاعُ من الصُّلبِ

صنيع: أي مُتقِن صنعة، ومريش: أي مجعول له ريش.

وقال أيضًا:

لا أنسَ لا أنسَ خبازًا مررتُ به
يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفِّه كرةً
وبين رؤيتها قوراء كالقَمرِ
إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ
في لجة الماء يُرمى فيه بالحَجرِ

وقال أيضًا:

وإذا امرؤٌ مدح امرأً لنَوالِه
وأطال فيه فقد أراد هجاءَه
لو لم يُقدِّر فيه بُعْد المُستقى
عند الورود لمَا أطال رشاءَه

الرشاء الحبل الذي فيه الدلو.

وقال أيضًا:

غلطَ الطبيبُ عليَّ غلطة مُوردٍ
عجزت مواردُه عن الإصدارِ
والناس يَلحُون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابةَ المِقدارِ

وقال أيضًا:

كأن بغداد، وقد أبصَرَت
طلعته نائحةٌ تَلتدِمْ
مُستقبَلٌ منه ومُستدبَرٌ
وجهُ بخيلٍ وقَفا مُنهزِمْ

وقال أيضًا:

يَستغفر الناس بأيديهمُ
وهنَّ يستغفرن بالأَرجُلِ
فيا له مِن عملٍ صالحٍ
يَرفعُه الله إلى أسفلِ

وقال أيضًا:

يملُّ كلَّ شرابٍ من يعاقره
وشارب الراح مَشغوفٌ بها عاني
كريقة المرء لا تنفكُّ من فمه
وما يمل لها طعمًا لإبانِ

يقول إن شارب الراح لا يملُّها أبدًا؛ فهي كالريق الذي هو دائمًا في فم الإنسان وما يمل طعمه أبدًا.

وقال أيضًا:

يا رُبَّ حسانةٍ منهن قد فعَلت
سوءًا، وقد تفعل الأسواءَ حُسانُ

حَسَّانة: أي حسناء.

تُشكي المحبَّ وتُلفى الدهرَ شاكيةً
كالقوس حسن الرَّمايا وهي مِرنانُ

وقال أيضًا يصف المباضعة:

كأنَّ صوت الأعجرِ المَتينِ
في حِرِ ذات الكَفَل الرَّزينِ
صوتُ يدِ العَجَّان في العجينِ
أو صوتُ رِجلَي عاملٍ في طين

وقال أيضًا:

ذهَب الذين تهزُّهم مُدَّاحهم
هزَّ الكُماة عواليَ المُرَّانِ
كانوا إذا امتُدحوا رأوا ما فيهم
فالأريحية منهمُ بمَكانِ
والمدحُ يَقرع قلب مَن هو أهلُه
قرعَ المَواعِظ قلبَ ذي إيمان
فدعِ اللئام فما ثواب مديحِهم
إلا ثوابُ عبادة الأوثانِ

وقال أيضًا:

لا تنفَسا عبرةً أَجودُ بها
فلستُ أبكي بها على الدِّمَنِ

لا تنفَسا: أي لا تلوما عليها.

لم يُخلقِ الدمعُ لامرئٍ عبثًا
الله أدرى بلَوعة الحَزَنِ

وقال أيضًا:

وغزالٍ ترى على وجنتَيهِ
قَطْر سهمَيه من دماء القلوبِ
لهفَ نفسي لتلك من وجناتٍ
وَردُها وَردُ شارقٍ مَهضوبِ

أي وَردٌ نبت في ضوء الشمس لا في الظلِّ، وسقاه المطر فهو أحسن ما يكون.

وقال أيضًا:

أنفق المال قبل إنفاقِكَ العُمـ
ـر ففي الدَّهر رَيبُه ومَنونُه
لا تظنَّن أن مالَكَ شيءٌ
كدمِ الجَوفِ خيرُه مَحقُونُه

يقول لا تظن أن المال كالدم الذي ليس له قيمة إلا إذا كان محفوظًا في الجسم فإن بُذل وخرج من الجسم كان لا شيء.

وقال أيضًا:

إذا بدا وجهُه لقومٍ
لاذَت بأجفانها العيونُ
كأنه عندهم غريمٌ
حلَّت عليهِم له ديونُ

وقال أيضًا:

هكذا عهدنا بآل زُريقٍ
يَشترون الثناء بالأثمان
ويصونون باللُّهى حُرَم الأعر
اض صَونَ السيوفِ بالأَجفانِ
مجدُهم كالجبال من بِنية الله
ومجدُ الأنامِ مثلُ المباني
كلُّ مدحٍ في غيرهم فمثابٌ
ما أُثيبت عبادة الأوثان

وقد استعمل بعضهم عبادة الوثن في معنًى فقال:

ولا تَعجبا أن يَملِك العبدُ ربَّه
فإن الدُّمى استُعبِدن من نَحتِ الدمى

وقال أيضًا:

رأيتُ سواد الرأس واللهوُ تحتَه
كلَيلٍ وحُلمٍ بات رائيه يَنعمُ
فلما اضمحلَّ الليلُ زال نعيمه
فلم يبقَ إلا عهدُه المُتوهِّمُ

وقال أيضًا:

فما يَرتاح للمدح
ولا يرتاعُ للشتمِ
كأنا إذ سألناه
وقَفنا سائلي رسمِ

وقال أيضًا:

وكِلا الشَّيب والكتاب جميعًا
واعظٌ زاجرٌ عن الآثامِ
غير أنَّ الكتاب يُكتَب بالأقـ
ـلام والشَّيبَ ليس بالأقلامِ
لم ترَ مثلَه كتابًا مُبينًا
لا بشكلٍ له ولا إعجامِ

وقال بعضهم:

ولي خطٌّ وللأيام خط
وبينهما مخالَفة المدادِ
فأكتبه سوادًا في بياض
وتَكتُبه بياضًا في سوادِ

وقال آخر:

قد سارَ بي هذا الزمان فأوجفا
ومحا مَشيبي من شبابي أحرُفا

وقال أيضًا:

عدوُّك من صديقِك مُستفادٌ
فلا تستكثرنَّ من الصِّحابِ
فإنَّ الداء أكثر ما تراه
يكون من الطَّعام أو الشَّرابِ

وقال أيضًا:

كأني أدَّري بنداه صيدًا
يُباعِدُه دُنوي واقترابي

أدَّري أختل.

فلا يكن الذي أمَّلتُ فيه
كرقراق السراب على الحِدابِ

وقال أيضًا:

سَيفي السيفُ من أُليح له ما
ت ومهما أصابَه مقصوبُ

أليح: أي أُلمع له، ومقصوب: أي مقطوع.

كلما قطَّ أو هوى في مقذٍّ
مضربٌ منه في العظام رسوبُ
أوهم العين أنه أخطأ المضـ
ـرب هذًّا، وقد مضى المضروبُ
إن مَن جاء يَمتري ضرَّة اللبـ
ـوة غَرثى لَلحائنُ المَجلوبُ

الحائن الهالك.

رامَ من ضَرعها شُخوبًا فكانت
من وتين الشقيِّ تلك الشُّخوبُ

وقال أيضًا فيمن يعيب شعره:

نظرَتْ في وجوه شعري وجوهٌ
أُوسعت قبل خلقِها تقبيحا
فغدَت وهي زارياتٌ عليه
والذي أنكَرَتْه منها أُتيحا
أبصَرَت في صقالها صورًا منـ
ـها قباحًا فأظهَرَت تَكليحا
والمرايا تُري الجميل جميلًا
وكذاكم تُري القَبيحَ قَبيحا

وقال أيضًا:

قومٌ يرون النصح في أموالهم
غشًّا فقد سخطوا على النُّصَّاح
زُرهم على ثقةٍ مزارَ محصلٍ
مالًا فلستَ كضَاربٍ بقِداح
يا ليتَ شِعري حين يُمدح مثلهم
ماذا تراه يُزاد بالتَّمداحِ
لكنَّهم كالمِسك طاب لعَينِه
ويزيد حين يُخاض بالمِجداحِ
يُعطون عفوًا كلما أعفيتَهم
ويُلح نائلهم على الإلحاحِ

أين هؤلاء من أبي خالد الذي يقول فيه الشاعر:

يُحبُّ المديح أبو خالد
ويفرق من صلة المادح
كبِكرٍ تُحبُّ لذيذَ النِّكاح
وتَفرق من صولة الناكِحِ
وعطاؤهم فوق العطاء لأنَّهم
يُعطون كسب مُناصلٍ ورماح
ومتى يُرون من الشحاح على اللُّهى
وهم على الأرواح غير شِحاحِ
من بأسهم يقع الردَّى وبحِلمهم
تتماسك الأرواح في الأَشباحِ
كالهُندَوانيَّاتِ حدَّ مضاربٍ
عند اختبارِهِمُ ولين صِفاحِ
لله أحمدٌ بنُ فضلٍ إنه
مأوى الطريد ومَورِد المُمتاح
الدهرُ يُفسد ما استَطاع وأحمدٌ
يَتتبع الإفساد بالإصلاحِ
ما زال يَقدح في الدجى بزنادِه
حتى رأى الإمساء كالإصباحِ
أما الندى فنَدى غريرٍ ناشئٍ
والرأي رأيُ محنَّكٍ جَحجاحِ
فكأنه للأريَحيَّة شاربٌ
وكأنه للألمعيَّة صاحي

وقال أيضًا:

خليليَّ ما بعد الشباب رزيةٌ
يجمُّ لها ماء الشئون ويُعتد
ولا تعجَبا للجلْد يَبكي فربما
تفطَّر عن عينٍ من الماء جلمدُ
تُضاحك شيبي في قذالي ولحيَتي
وأقبح ضحَّاكين شيبٌ وأدرَدُ
كفى حزنًا أنَّ الشباب معجلٌ
قصير الليالي والمَشيب مُخلَّدُ
إذا حلَّ جارى المرء شأو حياته
إلى أن يضمَّ المرء والشيب مَلحَدُ
أرى الدهر أجرى ليلَه ونهارَه
بعدلٍ فلا هذا ولا ذاك سرمدُ
وجارَ على ليل الشباب فضامه
نهار مشيبٍ سرمدٍ ليس يَنفَدُ
أقول، وقد شابَت شواتي وقُوِّست
قناتي وأضحَت كبدتي تتخدَّد

والشواة أعلى الرأس.

لِما تؤذنُ الدنيا به من صُروفها
يكون بكاء الطفل ساعةَ يُولد
وإلا فما يُبكيه منها وإنها
لأفسح مما كان فيه وأرغَدُ
إذا أبصر الدنيا استهلَّ كأنه
بما سوف يَلقى من أذاها يُهدَّدُ

من ألطف ما قيل في الأذى الذي يُصيب المرء في هذه الدنيا قول القائل:

يَشقى الفتى بخلاف كل مُعاندِ
يُؤذيه حتى بالقَذى في مائه
يَهوي إذا أصغى الإناء لشربه
ويَرُوغ عنه عند صبِّ إنائه

وقال أيضًا:

كَرُمتُم فجاش المُفحِمون بمَدحكم
إذا رجَزوا فيكم أثبتُم فقصَّدوا
كما زهَرَت جناتُ عدنٍ وأثمرَت
فأضحَت وعُجْمُ الطير فيها تُغرِّدُ

هذا المعنى أشبه بمعنى رأيته لبعض شعراء الفُرس يُخاطب محبوبته فيقول لها لا غرو، وقد حضرتِ عندي أن أجيش بالشِّعر؛ فإن من عادة البلبل أن يُغرِّد إذا طلع القمر والطير تصدح إذا بدى النهار.

وقال أيضًا:

يظلَّ نَداه ندى غارمٍ
ومهجتُه مهجة الغانمِ
وما يَستفيق ندى قاسمٍ
كأن يدَيهِ يدا عائمِ

وقال أيضًا:

فاعجب لبرٍّ تعلمتُ العقوق به
فما أحنُّ إلى أهلٍ ولا وطنِ
وامدح فتًى حظُّه من وَفرِ ثروته
كحظِّ ناظره من وجهه الحسنِ

وقال بعضهم:

كم والد يُحرم أولادَه
وخيره يَحظى به الأبعَدُ
كالعين لا تُبصِر ما حولها
ولحظها يُدرك ما يَبعُدُ

وقال أيضًا في مُغنِّية:

ظبية تَسكُن القلوب وتر
عاها وقُمريةٌ لها تغريدُ
تتغنَّى كأنها لا تُغنِّي
من سكون الأَوصال وهي تُجيدُ
مدَّ في شأو صوتها نفسٌ كا
فٍ كأنفاس عاشِقيها مديدُ
وأرقَّ الدلالُ والغنج منه
وبَراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموتُ طورًا ويحيا
مستلذٌّ بسيطه والنَّشيدُ
وترُ العزف في يدَيها مُضاهٍ
وترَ الزحف؛ فيه سهمٌ شديدُ
وإذا ما انتضتْه للشَّرب يومًا
أيقن القومُ أنها ستَصيدُ

وقال بعضهم في قينة تُصلح أوتار عودها:

جسَّتْه عالِمة بحالته
جسَّ الطبيب لمُدنف عرقا
مَعبدٌ في الغناء وابنُ سُريجٍ
وهي في الضرب زُلزلٌ وعقيدُ
عيبُها أنها إذا غنَّت الأحـ
ـرار ظلُّوا وهم لديها عبيدُ
ليت شِعري إذا أدام إليها
كرَّة الطرف مبدئٌ ومعيد
أهي شيءٌ لا تسأم العين منه
أم لها كل ساعةٍ تجديدُ

ومن أحسن ما قيل في راقص قول الآخر:

ترى الحرَكات منه بلا سكون
فتَحسَبها لخفَّتها سُكونا
كسَيرِ الشَّمسِ ليس بمُستقِرٍّ
وليس بمُمكِن أن يَستبينا

وقال أيضًا:

يُقتِّر عيسى على نفسه
وليس بباقٍ ولا خالدِ
فلو يَستطيع لتقتيره
تنفَّس من منخرٍ واحدِ

وقال أيضًا:

ورياضٍ تَخايَل الأرض فيها
خُيلاء الفتاة في الأبرادِ
ذات وَشيٍ تَناسجتْه سَوارٍ
لبقاتٌ بحَوكه وغَوادي
شكَرت نعمة الوليِّ على الوسـ
ـمي ثم العِهاد بعد العِهادِ
فهي تُثني على السَّماء ثناءً
طيِّب النَّشرِ شائعًا في البلادِ
من نسيمٍ كأنَّ مسراه في الأرو
اح مَسرى الأرواح في الأجسادِ

وقال بعضهم:

ويا نسَمات الرِّيح رفقًا بمُهجتي
ففي القلب نار كلما هجتِ تُنفَخُ

وقال أيضًا:

قد حدثَت في دَهرِنا أنفسٌ
تَستبرِد السُّخنة لا البارِدَه
كما تعافُ الطيِّب المُشتَهى
من الطعام المَعْدة الفاسِدَه

وقال أيضًا:

رُبَّ ليلٍ كأنه الدهرُ طولًا
قد تناهى فليسَ فيه مزيدُ
ذي نجومٍ كأنَّهن نجوم الشيـ
ـب ليست تزولُ لكن تَزيدُ

وقال أيضًا:

يا خَلاص الأَسيرِ يا صحَّة المد
نَفِ يا زورةً على غير وَعدِ
يا نَجاة الغريق يا فرحة الأو
بة يا قفلةً أتَت بعد كدِّ
يا حَيًا عم نفعُه بعد جدبٍ
يا هلال الإفطارِ يا بدرَ سعدِ
ارضَ عني فلستُ أُنكِر أني
لك عبدٌ أذلُّ من كل عبدِ

ومن هذا الأسلوب في الذم قول القائل:

يا كراء الدكان، يا يوم السبت على الصِّبيان، يا برد العجوز، يا درهمًا لا يجوز، يا حديث المغنيِّين، يا كسب المرابين، يا رمد العَين، يا غداة البَين، يا فراق المحبِّين، يا مقتل الحسين، يا ثِقَل الدَّين، يا منْع الماعُون، يا سنَة الطاعُون، يا بغيَّ العبيد، يا كلام المُعيد، يا أقبحَ من حتَّى، في مواضع شتَّى، يا فروةً في المصيف، يا تَنحنُح المُضيف إذا كُسر الرغيف، يا جشاء المَخمُور، يا وتد الدور، يا طمَع المَقمُور، يا حبسة اللسان، يا بَولَ الخِصيان، يا مؤاكِلَ العميان، يا شفاعة العُريان، يا دُخان النفط، يا صنان الإبط، يا كلمة لَيت، يا كيت وكيت.

وقال أيضًا:

معشرٌ فيهم نكولٌ إن نووا
فعل خيرٍ وعلى الشرِّ مُرُودُ
ليتهم كانوا قرودًا فحكوا
شِيَم الناس كما تَحكي القُرودُ

وقال أيضًا:

ومدامةٍ كحُشاشة النفسِ
لَطُفت عن الإدراك باللَّمسِ
لنَسيمِها في قلب شارِبها
رَوح الرجاء وراحة اليأسِ
وتمدُّ في أمل ابنِ نَشوتها
حتى يُؤمِّل مرجع الأَمسِ

وقال أيضًا:

كم قد ورَدْنا فلم تَكدُر موارِدُه
ولا بدا في لقاءٍ منه تحميض
كأنه الحقُّ يصفو كلما اعتلَجَت
فيه من البحث والفَحصِ المَخاويضِ

وقال أيضًا:

دهرٌ عَلا قَدرُ الوضيعِ به
وترى الشريف يَحُطُّه شرفُه
كالبَحر يرسب فيه لؤلؤه
سفلًا وتعلو فوقَه جِيَفُه

وقال أيضًا:

يمَّن الله طلعةَ المولودِ
وحَبا أهله بطول السعودِ
فهم الضامِنُون حين تَوالى
مُنسياتُ العهود حفظَ العُهودِ
سلَّه الله للخطوب من
الغيب كسلِّ المهنَّدِ المَغمودِ
فيه عُرْفٌ وفيه نُكْرٌ مُعدَّ
إنْ لأهل النُّهى وأهل المُرودِ
وكمين الحَريق في العود محفًى
وحَقينُ الرحيق في العُنقودِ
طلَعت منه غُرةٌ كَسَنا الفـ
ـجر وسيما كالمُخلص المَنقودِ
لا عَقِمتم يا آل وهبٍ فما الد
نيا لقومٍ أمثالكم بوَلُودِ
مُستمدٌّ من فعلكم كلُّ قولٍ
قيل فيكم فما له من نُفودِ
ومِن السَّيف ماؤه ومِن الطا
وُس ذي الوَشي وَشْي تلك البُرودِ
ماتَ أسلافكم فأنشَرتُموهم
فهم في القلوب لا في اللُّحودِ
أرقَدَ الساهِرين أن بني وهـ
ـبٍ عن النائبات غيرُ رُقودِ
واستهبَّ الرقودُ للشكرِ فالأُ
مة مِن ذي تهجُّد أو هُجودِ
حُرسَت دولة الكرام بني وهـ
ـبٍ غياث اللهيف والمَنجُودِ
دولةٌ عاد نَرجس الروض فيها
من عيونٍ ووردُه من خُدودِ
أصلَحَت كلَّ فاسدٍ متمادٍ
بجنود الدهاء لا بالجُنودِ
آلُ وهبٍ قومٌ لهم عفَّة الـ
ـمُغمِدِ أظفاره ونفعُ الصَّيُودِ
أرغبتهم عن القَنا قصباتٌ
مُغنياتٌ عن كل جيشٍ مَقودِ
لا تراها تَعيث عيث الذئاب الطُّـ
ـس لكن تصيد صيد الفُهودِ
ولأقلامهم صريرٌ مهيبٌ
يُزدرى عندَه زئيرُ الأُسودِ
والقراطيس خافِقاتٌ بأَيديهِم
كمَرهوب خافِقات البنودِ
وهم راكبو النَّمارِق أمضى
من كماةٍ على خَناذيذ قُودُ
من أُناسٍ قُعُودهم كقيام النا
س لكنَّهم قليلو القُعودِ
دينُهم أن يُمسَّ لينٌ بلينٍ
ويُصكَّ الجُلمود بالجلمودِ
ولهم تارةً عداة بروقٍ
ولهم تارةً وعيدُ رُعودِ
كم وعيدٍ لهم تبلَّج عن
صفحٍ ومنحٍ تبلُّجَ المَوعُودِ

وقال أيضًا يرثي ابنًا له مات:

وأولادُنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجِعَ البيِّنَ الفَقدِ
هل العين بعد السَّمع تكفي مكانه
أم السمعُ بعد العين يَهدي كما تَهدي

وقال أيضًا:

ثم قالت وأحسَّت عجبي
من سُراها حيث لا تَسري الأُسودُ
لا تعجَّبْ من سُرانا فالسُّرى
عادة الأقمار والناس هُجودُ

وقال أيضًا:

إلى أين بي عن صاعِدٍ وانتجاعه
وقد رادَه الرُّوَّاد قبلي فأحمَدُوا
أرقُّ من الماء الذي في حُسامه
طباعًا وأمضى مِن شباه وأنجَدُ
طويل التأني لا العَجول ولا الذي
إذا طرَقتْه نوبةٌ يتبلَّدُ
له سَورةٌ مُكتنةٌ في سَكينةٍ
كما اكتنَّ في الغِمد الجراز المُهنَّدُ
يغضُّ عن السؤال من طرف عينِه
لكيلا يرى الأحرارَ كيف تُعبَّدُ
جوادٌ ثَنى غرب الجياد بغَربه
وظلَّ يُجاري ظله وهو أوحَدُ
تراه عن الحربِ العوان بمعزلٍ
وآثارُه فيها وإن غاب شُهَّد
كما احتجَبَ المقدار والحكمُ حُكمُه
على الناس طرًّا ليس عنه معرَّدُ
فتًى هاجَر الدنيا وحرَّم ريقَها
وهل ريقُها إلا الرحيقُ المورَّدُ
ولو طَمِعت في عَطفِه ووصالِه
أبا حَتْه منها مرشفًا لا يُصرَّدُ

وقال أيضًا:

وعاطِ أخاك عاتقةً
بقار الدنِّ مُشتمِلَه
تراها حين تَبذُلها
كجَمرِ النار مُشتعلَه

وقال أيضًا:

مَن كان جمَّلَه لَبُوس ولايةٍ
وأعاره التعظيمَ والتبجيلا
فبذاتِ نفسك ما يكون جمالها
وبمائه كان الحُسامُ صَقيلا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤