الباب السابع

فيما اخترناه من شِعر ابن الحُسين أبي الطيب المتنبي

قال أبو الطيب:

صحبَ الناس قبلَنا ذا الزمانا
وعناهم في شأنه ما عَنانا
وتولَّوا بغُصةٍ كلُّهم مِنـ
ـهُ وإن سَرَّ بعضَهم أحيانا
ربما تُحسِنُ الصَّنيعَ لياليـ
ـه، ولكن تُكدِّر الإحسانا
وكأنَّا لم يرضَ فينا برَيبِ الدَّ
هر حتَّى أعانه مَن أعانا
كلما أنبتَ الزمانُ قناةً
ركَّب المرءُ في القناة سِنانا
ومرادُ النفوسِ أصغَرُ من أن
نتعادى فيه وأن نَتَفانى
غير أنَّ الفتى يُلاقي المنايا
كالحاتٍ ولا يُلاقي الهَوانا
ولو انَّ الحياة تبقى لحيٍّ
لعددنا أضلنا الشُّجعانا
وإذا لم يَكُن مِن الموت بدٌّ
فمن العجز أن تكون جَبانا
كل ما لم يَكُن مِن الصعب في الأنْـ
ـفُسِ سهلٌ فيها إذا هو كانا

يقول الأمر الشديد إنما يصعب على النفس قبل وقوعِه فإذا وقَع سَهُل.

وقال أيضًا:

إلامَ طماعيَةُ العاذل
ولا رأيَ في الحب للعاقِلِ
يُراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطِّباع على الناقِلِ
وإني لأعشَقُ مِن عشقكم
نُحولي وكلَّ امرئٍ ناحِلِ
ولو زُلتُم ثم لم أَبكِكِم
بكيتُ على حبِّيَ الزائلِ
أيُنكِر خدِّي دموعي وقد
جرَت منه في مَسلكٍ سائلِ؟
أأولُ دمعٍ جرى فوقه
وأولُ حزنٍ على راحلِ؟
وهبتُ السلوَّ لمَن لامَني
وبتُّ من الشوق في شاغِلِ
كأنَّ الجفون على مُقلتي
ثيابٌ شُقِقنَ على ثاكلِ

وقال أيضًا:

أتُراها لكثرة العُشاقِ
تحسب الدمع خِلقةً في المآقي
حُلْتِ دون المَزارِ فاليوم لو زُر
تِ لحالَ النحول دون العَناقِ

وقال أيضًا:

لو كفَر العالِمُون نعمتَه
لمَا عَدَت نفسُه سَجاياها
كالشَّمس لا تَبتغي بما صنَعَت
منفعةً عِندَهُمُ ولا جاها

وقال أيضًا:

كدَعواكِ كلٌّ يدَّعي صحة العَقل
ومَن ذا الذي يَدري بما فيه من جَهلِ
تقولين ما في الناس مثلَكَ عاشقٌ
جِدي مثل مَن أحببتُه تَجِدي مثلي

وقال أيضًا يمدح كافورًا:

فجاءَت بنا إنسان عين زمانِه
وخلَّت سوادًا خلفها ومآقيا
فتًى ما سرَينا في ظُهور جدودنا
إلى عَصرِه إلا نُرجِّي التلاقيا

وقال أيضًا:

شاميةٌ طالَما خلوت بها
تُبصر في ناظِري محياها

يقول إنه قريبٌ منها بحيث ترى وجهَها في ناظره.

فقبَّلَت ناظري تُغالطني
وإنما قبَّلَت به فاها

معنى البيت أن الناظر وهو مَوضِع البصر من العين كالمرآة إذا قابله شيء أدَّى صورته؛ أي أوهمتني أنها قبَّلت عيني وإنما قبَّلت فاها الذي رأتْه في ناظري.

وقال أيضًا:

إلفُ هذا الهواء أوقع في الأنـ
ـفُسِ أن الحِمام مرُّ المَذاق
والأسى قبل فُرقة الرُّوح عجزٌ
والأسى لا يكون بعد الفِراقِ

يقول لا يَحسُن أن يحزن الإنسان للموت؛ لأنه قد علم أن الحزنَ على فراق الرُّوح قبل فراقه من العجز، وعلم أيضًا أن الحزن على المفارقة لا يكون إلا بعد الموت، وذلك لا يكون.

وقال أيضًا:

كم ثراءٍ فرَّجتُ بالرمح عنه
كان من بخلِ أهلِه في وثاق
والغِنى في يد اللئيم قبيحٌ
قدرَ قُبحِ الكريم في الإملاقِ

قالوا إن البخيل ينفق في يوم واحد قدرَ ما ينفقه الكريم طول حياته، وذلك اليوم هو يوم موته.

وقال أيضًا يذكر شِعب بوان:

مغاني الشِّعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الرَّبيع مِن الزمان

يقول إن مغاني الشعب تفوق سائرَ الأمكنة طيبًا كما يفوق الربيع سائر الأزمنة.

ولكنَّ الفتى العربي فيها
غريبُ الوَجه واليد واللسان
ملاعبُ جِنةٍ لو سار فيها
سليمانٌ لسارَ بتَرجُمان

قال بعضهم: الكلام بالتَّرجُمان كالأكل بالأسنان المصنوعة. وقال آخر: الفَرق بين الترجمة والأصل كالفرق بين ظاهر الثوب وباطنه. وقال غيره: إذا كان التَّرجُمان ماهرًا كان الأصل والترجمة كالحسناء وخيالها في المرآة. وقال بعضهم: إن الترجمة المحكمة هي التي إن نظرتَ إليها وإلى أصلِها لم تدرِ أيهما مُترجَم عن الآخر، فتكون على حدِّ قول القائل:

رَقَّ الزجاج وراقَتِ الخمر
وتشابَها فتشاكل الأمرُ
طَبَتْ فرسانُنا والخيلُ حتى
خشيتُ وإن كرُمن من الحِران
غدَونا تَنفُض الأغصان فيه
على أعرافها مثل الجُمانِ
فسرتُ وقد حجبْنَ الشَّمس عني
وجئن من الضِّياء بما كَفاني
وألقى الشرقُ منها في ثيابي
دنانيرًا تفرُّ من البَنانِ

الشرق: الشمس.

لها ثمرٌ تُشير إليك منها
بأشربةٍ وقفنَ بلا أواني
وأمواهٍ يصلُّ بها حصاها
صليل الحَلْي في أيدي الغَواني

وقال أيضًا:

أَفاضلُ الناس أغراضٌ لذا الزمن
يَخلو من الهمِّ أخلاهُم من الفِطَنِ
وإنما نحن في جِيلٍ سَواسيةٍ
شرٌّ على الحرِّ من سقمٍ على بدَنِ

يقول نحن في قرن من الناس قد تساوَوا في الشر دون الخير.

وقال أيضًا:

لا يَسلَم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يُراقَ على جوانبه الدمُ
والظُّلم مِن شِيَم النفوس فإن تَجِد
ذا عفَّةٍ فلعلَّةٍ لا يَظلِمُ
ومن البَليَّة عذل من لا يَرعوي
عن جهلِه، وخطاب مَن لا يفهَمُ
والذلُّ يُظهِر في الذليل مودةً
وأودُّ منه لمن يودُّ الأرقمُ
ومن العداوة ما ينالُكَ نفعه
ومن الصداقة ما يضرُّ ويُؤلِمُ

وقال أيضًا:

وعذلتُ أهل العشق حتى ذقتُه
فعجبتُ كيف يَموت مَن لا يَعشقُ
وعذرتُهم وعرفتُ ذنبي أنني
عيَّرتهم فلقيتُ فيه ما لقُوا

وقال أيضًا:

فإنَّ الناس والدنيا طريقٌ
إلى مَن ما له في الناس ثانِ
له علَّمتُ نفسي القولَ فيهم
كتعليم الطِّراد بلا سِنانِ

يقول علَّمت النفس القول في الناس بالشِّعر في مدائحهم كما يُتعلم الطِّعان أولًا بغير سنان ليَصير المُتعلِّم ماهرًا بالطعان بالسنان، كذلك تعلمتُ الشعر ومدح الناس لأتدرَّج إلى مدحه وخدمته.

وقال أيضًا:

لا يُعجبِنَّ مضيمًا حُسنُ بزَّتِه
وهل يروقُ دفينًا جَودة الكفَنِ

وقال أيضًا:

يُدفِّن بعضُنا بعضًا ويمشي
أواخِرُنا على هام الأَوالي
وكم عينٍ مقبَّلة النَّواحي
كَحِيلٍ بالجَنادل والرِّمالِ
ومُغضٍ كان لا يُغضي لخَطبٍ
وبالٍ كان يُفكِرُ في الهُزالِ

وقال أيضًا:

حتَّام نحن نُساري النجمَ في الظُّلَم
وما سُراه على خفٍّ ولا قدَمِ
ولا يُحسُّ بأجفانٍ يحسُّ بها
فقد الرقادِ غريبٌ باتَ لم يَنَمِ
تُسوِّد الشمسُ منا بِيض أوجهِنا
ولا تُسوِّد بِيض العذر واللَّمَمِ

العذر جمع عذار.

وكان حالُهما في الحكم واحدةً
لو احتكَمنا من الدنيا إلى حَكَمِ
ونتركُ الماء لا ينفكُّ من سفرٍ
ما سار في الغيم منه سار في الأدم

الأدم جمع الأديم.

لا أُبغضُ العيس لكنِّي وقيتُ بها
قلبي من الحزن أو جِسمي من السقَمِ

يقول إن إتعابي العيس في السفر ليس من بُغض.

طَردتُ من مصر أيديها بأرجها
حتى مرقنَ بنا من جَوش والعلَمِ
في غلمةٍ أخطَرُوا أرواحَهم ورضُوا
بما لقين رضا الأيسار بالزَّلَمِ

يقول سرتُ من مصر في غلمة حملوا أرواحهم على الخطر لبُعد المسافة وصعوبة الطريق، ورضُوا بما يستقبلون من هلاك وغيره كما يرضى المُقامر بما يَخرج له من القداح.

ناشوا الرِّماحَ وكانت غير ناطقةٍ
فعلَّموها صياحَ الطير في البُهُمِ

يقول تناولوا الرماح فصاحَت في أيديهم صياح الطير، يُريد صرير الرماح في الأبطال.

وقال أيضًا:

توهَّم القومُ أن العجز قرَّبنا
وفي التقرُّب ما يدعو إلى التُّهَمِ
ولم تزل قلَّة الإنصاف قاطعةً
بين الرجال ولو كانوا ذَوي رَحِمِ

وقال أيضًا:

إذا غامرتَ في شرفٍ مَرُومِ
فلا تَقنع بما دون النجومِ
فطعمُ الموت في أمرٍ حقيرٍ
كطعم الموت في أمرٍ عَظيمِ

وقال أيضًا:

واحتمالُ الأذى ورؤية جانِيـ
ـه غذاءٌ تضوى به الأجسامُ
ذَلَّ مَن يَغبط الذليل بعيشٍ
رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحِمامُ
كلُّ حِلمٍ أتى بغير اقتدارٍ
حجةٌ لاجئٌ إليها اللئامُ
من يهُن يَسهُل الهوانُ عليه
ما لجُرحٍ بميتٍ إيلامُ

وقال أيضًا:

قائدو كل شطبةٍ وحصانٍ
قد براها الإسراجُ والإلجامُ
يتعثرن في الرءوس كما مر
بتاآتٍ نطقِه التَّمتامُ

وقال أيضًا:

أخذتُ بمدحه فرأيت لهوًا
مقالي للأُحيمق يا حليمُ
ولما أن هجوتُ رأيتُ عيًّا
مقالي لابن آوى يا لئيم
فهل مِن عاذرٍ في ذا وفي ذا
فمدفوعٌ إلى السُّقم السقيمُ

وقال أيضًا:

فلما صار ودُّ الناس خِبًّا
جَزَيتُ على ابتسامٍ بابتسام
وصرتُ أشكُّ فيمن أصطفيه
لعِلمي أنه بعضُ الأنامِ

وقال أيضًا يصف جيشًا:

وذي لجبٍ لا ذو الجَناح أمامه
بناجٍ ولا الوحش المثار بسالمِ
تمرُّ عليه الشمس وهي ضعيفةٌ
تُطالعه من بين ريشِ القَشاعِمِ
إذا ضَوءُها لاقى من الطَّير فرجةً
تدوَّر فوق البيض مثل الدَّراهمِ
ويَخفى عليك البرقُ والرعدُ فوقَه
من اللُّمع في حافاته والهماهِمِ

يقول لكثرة أسلحة هذا الجيش وبريقها يَخفى البرق عليك فلا تعرفه، ولكثرة ما فيه من الأصوات يخفى عليك الرعد.

وقال بعضهم:

ومصقولة دون النِّبال قَواضبُ
كما لاحَ ومض البرق من خلَلِ الوَبلِ

وقال أيضًا:

سقاكِ وحيَّانا بكِ اللهُ إنما
على العِيس نورٌ والخدور كمائمُه

وقال أيضًا لما بنى سيف الدولة قلعةَ الحدث الحمراء وأوقع بالروم:

بناها فأَعلى والقَنا يَقرع القنا
وموج المنايا حَولها مُتلاطِم
وكان بها مثل الجُنون فأصبَحَت
ومِن جُثَث القتلى عليها تمائم

وكان سيف الدولة من أكثر الملوك حبًّا في الجهاد، وله الغزوات الكثيرة في أرض الروم، وكان جمَع ما وقع عليه من غبار الوقائع وأوصى بأن تُصنع منه لَبِنة يوضع عليها رأسه في القبر.

وقال أيضًا:

أحقُّ عافٍ بدمعك الهممُ
أحدثُ شيءٍ عهدًا بها القِدَمُ
كفاني الذمُّ أنني رجلٌ
أكرم مالٍ ملكتُه الكرمُ
يجني الغنى للئام لو عَقِلوا
ما ليس يَجني عليهم العدمُ
هم لأَموالِهم وليس لهم
والعارُ يَبقى والجرحُ يَلتئِمُ
مَن طلَبَ المجدَ فليَكُن كعلـ
ـيٍّ يهبُ الألف وهو يَبتسِمُ
ويَطعنُ الخيل كل نافذةٍ
ليس لها مِن وحائها ألم

يقول إن المطعون لا يحسُّ بألم الطعنة لأنها تقتلُه من قبل أن يصل إليه الألم.

ويعرف الأمر قبل موقعِه
فما له بعد فعله ندمُ
لولاك لم أَترُكِ البُحيرةَ والغـ
ـور دفيءٌ وماؤها شَبِمُ

البحيرة هي بحيرة طبرية، يقول لولاك لم أترك البحيرة وماؤها بارد في الحر والغور بلدُك دفيء، فلولاك ما جئتُ لغور لأنه حار.

والمَوج مثل الفحول مزبدةً
تَهدِر فيها وما بها قطَمُ

القطم شهوة الضراب.

كأنَّها في نهارها قمرٌ
حفَّ به مِن جنانها ظُلَمُ

شبَّه الماء في صفائه، وقد أحاط به سواد الجِنان وخُضرتها بقمر أحاط به ظلم.

تغنَّتِ الطير في جوانبها
وجادَتِ الروض حولها الدِّيَمُ
فهي كماويةٍ مُطوِّقةٍ
جُرِّد عنها غشاؤها الأدَمُ

الماوية المرآة. شبَّه ما حولها من الجنان مع صفاء الماء بالمرآة المطوَّقة إذا أُخرجت من غلافها.

وقال أيضًا:

سرى النوم عني في سُراي إلى الذي
صنائعه تَسري إلى كل نائمِ
كريمٌ نفضتُ الناس لما بلغتُه
كأنَّهمُ ما جفَّ مِن زاد قادمِ

وقال بعضهم:

طويت إليك الباخلين كأنَّني
سرَيتُ إلى شمسِ الضُّحى في الغياهِبِ
وكاد سُروري لا يفي بندامتي
على تركه في عمريَ المُتقادِمِ

وقال أيضًا أثناء مرئية له في أُم سيف الدولة:

وأبرزتِ الخدور مخبآتٍ
يَضعن النقسَ أمكنةَ الغَوالي
أتتهنَّ المصيبة غافِلاتٍ
فدمع الحزن في دَمعِ الدَّلالِ

وقال أيضًا:

ودهرٌ ناسُه ناسٌ صغارٌ
وإن كانتْ لهم جثثٌ ضخامُ
وما أنا منهمُ بالعيش فيهم
ولكن معدنُ الذهبِ الرَّغامُ

وقال أيضًا:

تلذُّ له المروة وهي تُؤذِي
ومن يعشَق يلذُّ له الغرامُ
أقامت في الرِّقاب له أيادٍ
هي الأطواقُ والناس الحَمامُ

وقال أيضًا:

ومن أعتاضُ عنكَ إذا افترقنا
وكل الناس زورٌ ما خلاكا
وما أنا غير سهمٍ في هواءٍ
يعودُ ولم يَجِد فيه امتِساكا

يقول أنا في الخروج من عندك وقلَّة اللبث في أهلي كالسهم الذي يُرمى في الهواء فيذهب ثم يَنقلِب.

وقال أيضًا:

ومَن لم يَعشقِ الدنيا قديمًا
ولكن لا سبيلَ إلى الوصالِ
نصيبُك في حياتك من حبيبٍ
نصيبُك في منامك من خيالِ
رَماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غِشاءٍ من نِبالِ
فصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسَّرت النِّصالُ على النِّصالِ
وهانَ فما أبا لي بالرزايا
لأني ما انتفعتُ بأن أُبالي

وقال أيضًا:

رأيتُكَ في الذين أرى ملوكًا
كأنَّكَ مستقيمٌ في مُحالِ

المعنى أنت تفضلهم فضل المستقيم على المعوج.

فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم
فإن المِسكَ بعضُ دم الغزالِ

وقال أيضًا:

زوِّدينا من حسن وجهك ما
دام فحُسن الوجوه حالٌ تحُولُ
وصِلينا نصلْك في هذه الدنيا
فإن المقامَ فيها قليلُ
من رآها بعينِها شاقَه القُطَّان
فيها كما تشوقُ الحُمولُ

يقول من عرف الدنيا حق معرفتها تيقن أن أهلها راحلون لا محالة فلم يجد بين القاطن والراحل فرقًا، فهذا يشوقه وهذا يشوقه لأن الرحيل قد شملهما.

وقال أيضًا:

وكم عين قِرْنٍ حدَّقَت لنزاله
فلم تُغضِ إلا والسِّنان لها كُحلُ
إذا قيل رفقًا قال للحِلمِ موضعٌ
وحِلم الفتى في غير موضعِه جَهلُ

وقال أيضًا:

صِلة الهَجر لي وهجرُ الوصالِ
نَكَّساني في السُّقم نكسَ الهلالِ

يقول كنتُ صحيح الجسم كامل الخُلق فنَكَّسَني وصلُ الهَجر وهجر الوصال إلى أن أعادَني إلى السقم كما يُعاد الهلال إلى المحاق بعد تمامِه.

قِف على الدمنتَين بالدو مِن ريا
كخالٍ في وجنةٍ جنبِ خالِ

الدو الأرض الواسعة، وريا اسم امرأة، والمراد من دمن ريا فحُذف للعلم به، ومن ألطف ما قيل في الخال في الوجه الحسن أنه نقطة نُقِطت من قلم التصوير:

بطلولٍ كأنَّهن نجومٌ
في عراصٍ كأنهنَّ ليالي
ونُؤيٍّ كأنهن عليهنَّ خِدامٌ
خرسٌ بسوقٍ خِدالِ

الخدام الخلاخيل، والخِدال السمان.

وقال بعضهم:

معاهد أنسٍ عُطِّلت فكأنها
ظواهر ألفاظ تعمَّدها النسخُ

وقال آخر:

وأثافٍ كأنهن رذايا
وأسارى لا يَنظُرون فكاكا
وشجيج طمَّ الزمان نواصيـ
ـه كما شعَّث الوليدُ السواكا

وقال أيضًا يصف كلب صيد:

له إذا أدبرَ لحظُ المُقبلِ
كأنما يَنظُر من سجَنجلِ

يقول إذا أدبر يرى كما يرى المُقبل قدامه، وذلك لسرعة نظره والتفاتِه، وشبَّه صفاء حدقته بالمرآة.

يعدو إذا أحزنَ عدْو المُسهِلِ
إذا تَلى جاء المدى، وقد تُلي
يُقعي جلوسَ البدويِّ المُصطلي
بأربعٍ مجدولةٍ لم تُجدَلِ
فُتْلِ الأيادي ربذات الأرجُلِ
آثارها أمثالُها في الجندَلِ

ربذات: أي خفيفات. يقول لقوة وطئه على الحجارة أثَّرت فيها كأمثال مواطئ رجلَيه.

يكاد في الوثب من التفتُّلِ
يجمع بين متنه والكَلكَلِ

التفتل الانفتال. يقول يكاد من سرعة وثبِه على الصيد يجمع بين صدرِه وعجزه في حالة واحدة.

وبين أعلاهُ وبينَ الأسفَلِ
شبيهُ وَسميِّ الحِضار بالوَلي

الوَسمي أول المطر، والولي ما يَليه، والحضار الاسم من الحضر، يُقال: أحضر الفرس، ضرب هذا مثلًا لأول عدْوِه وآخره، يعني لا يتغيَّر لضبارته وصلابته وأنه لا يَفتر ولا يعيا.

كأنه مُضبرٌ من جروَلِ
موثقٌ على رماحٍ ذُبَّلِ

الجرول الحجر، وشبَّه قوائمه بالرماح.

ذي ذنَبٍ أجردَ غيرِ أعزَلِ
يخطُّ في الأرض حساب الجُمَّلِ

الأعزل الذي لا يكون ذنَبه على استواء فقاره، وذلك عيب في الخيل والكلاب، ومنه قول امرئ القيس:

بضاف فويق الأرض ليس بأعزل

يقول إن آثار ذنَبه في الأرض كآثار الكاتب إذا خطَّ حساب الجمَّل؛ لأنه يَحكي حروفًا غير حروف الكتابة يُعلِّم بها العشور والمئين والألوف، وهو خطٌّ قبطي.

كأنه من جسمه بمَعزِلِ
لو كان يُبلي السوط تحريكٌ بلي

يقول إنه يُكثر تحريك ذنبه ثم لا يبليه ذلك، كما أن السوط يَكثُر تحريكه ولا يبليه التحريك.

يفترُّ عن مذروبةٍ كالأنصُلِ
لا تعرف العهد بصَقلِ الصَّيقَلِ

يقول إن هذا الكلب يفترُّ عن أنياب كالنصال.

كأنه من عِلمه بالمقتل
علَّم بُقراط فصاد الأَكحَلِ

الأكحل عِرق في الجسم.

وقال أيضًا:

والطعنُ شزرٌ والأرض واجفةٌ
كأنما في فؤادها وهلُ
قد صبَغت خدَّها الدماء كما
يَصبغ خدَّ الخريدة الخجَلُ

وقال أيضًا:

وضربٌ يعمُّهمُ جائرٌ
له فيهم قسمة العادلِ
وطعنٌ يُجمِّع شُذَّانهم
كما اجتمعَت درة الحافلِ

وقال أيضًا:

لبسْنَ الوَشْي لا مُتجمِّلاتٍ
ولكن كي يَصُنَّ به الجَمالا
وضفَّرن الغدائر لا لحُسنٍ
ولكن خفنَ في الشَّعر الضَّلالا

وقال أيضًا:

بذا قضَتِ الأيام ما بين أهلها
مصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ
وكلٌّ يرى طُرقَ الشجاعة والندى
ولكنَّ طبع النفس للنفس قائدُ

وقال أيضًا:

وما الدهر إلا مِن رواة قلائدي
إذا قلتُ شعرًا أصبح الدهر منشدا
أجزني إذا أُنشدتَ شعرًا فإنما
بشعري أتاكَ المادِحون مردَّدا

هذا كقول الآخر:

إذا أنشَد حماد
فقد أحسَن بشَّار
ودع كلَّ صوتٍ بعد صوتي فإنني
أنا الصائح المحكي والآخر الصَّدى

وقال أيضًا في النوق:

كلُّ هَوجاء للدياميم فيها
أثر النار في سليط الذبالِ
مِن بنات الجديل تَمشي بنا في الـ
ـبيد مشي الأيام في الآجالِ

الهوجاء الناقة التي فيها هوج.

وقال أيضًا:

لولا المشقَّة ساد الناس كلهم
الجود يُفقر والإقدامُ قتَّالُ
وإنما يَبلغ الإنسان طاقته
ما كل ماشيةٍ بالرَّحلِ شملالُ

الشملال الناقة القوية السريعة.

إنا لفِي زمنٍ تركُ القبيح به
من أكثرِ الناسِ إحسانٌ وإجمالُ

وقال أيضًا:

والعشقُ كالمعشوق يَعذُب قُربه
للمُبتلَى وينالُ من حوبائه

يريد أن العشق طيب القرب يُستعذب كقرب الحبيب وإن كان ينال من نفس العاشق، أي يُهلكها.

لو قلتَ للدَّنِف الحزين فديتُه
مما به لأغَرْتَه بفدائه

يُريد أنك لو قلتَ للدنف ليت ما بك من برح الصبابة والهوى بي لغار من ذلك ووجه غيرته الشح على محبوبِه والخوف أن يحلَّ أحد محله فهو على ما فيه لا يسمح لأحد أن يَفديَه مما به من المشقَّة.

وقال أيضًا:

إذا أنتَ أكرمتَ الكريم ملكتَه
وإن أنتَ أكرمتَ اللئيم تمرَّدا

ومليح قول القائل في هذا الغرض:

إذا وُضع الإحسان في الحبِّ لم يُفِد
سوى جَحده والحر يَجزي به شُكرا
كغَيثٍ سَقى أفعى فجاءت بسُمِّها
وصاحب أصدافًا فأثمرَت الدرَّا

يشير إلى ما يذكره الناس من أن سمَّ الحيَّات واللؤلؤ أصلهما مطر ينزل في نيسان فتتلقاه الحيات فيصير فيها سمًّا وتتلقَّاه الأصداف فيصير لؤلؤًا.

ووضعُ الندى في موضع السيف بالعُلى
مضرٌّ كوضع السيف في موضع النَّدى

وقال أيضًا:

عَمْرَكَ الله هل رأيتَ بدورًا
طلعَت في براقعٍ وعُقودِ
رامياتٍ بأسهمٍ ريشَها الهُد
ب تشقُّ القلوب قبل الجُلودِ

وقال أيضًا:

أنتما ما اتفقتُما الجسمُ والرو
ح فلا احتجتُما إلى العُوادِ
وإذا كان في الأنابيب خُلْفٌ
وقَع الطيش في صدور الصِّعادِ

هذان البيتان من قصيدة قالها في كافور، وقد كان وقَع بينه وبين ابن سيده خلف ثم اصطَلحا، ويُعجبني في باب الصلح قول الآخر:

لكَم داخلٍ بين الخصيمَين مُصلح
كما انغلَّ بين الجفنِ والجفن مِروَدُ

وقال أيضًا:

كم زورةٍ لك في الأعرابِ خافيةٍ
أدهى، وقد رقَدوا من زورة الذيبِ

يخاطب نفسه ويُذكِّرها شجاعته:

أزورهم وسواد الليل يَشفَع لي
وأنثني وبياض الصبحِ يُغري بي

وقال أيضًا:

وشعرٍ مدحتُ به الكركدنَّ
بين القريض وبين الرُّقى

يعني بالكركدن كافورًا الخَصي، وشبَّهه بالكركدن لعِظم خَلقه وقلة مغناه وسوء خُلقه.

وقد ذكر الجاحظ في سوء خُلُق الخِصيان عبارة غريبة، قال: إنهم لحِرمانهم أبغَضُوا الفحول بأشد من تباغُض الأعداء فيما بينهم، حتى ليس بين الحاسد الباغي وبين أصحاب النِّعم المُتظاهِرة، ولا بين الماشي المعنَّى وبين راكب الهملاج الفارِه، ولا بين ملوك صارُوا سوقة، وبين سوقة صاروا ملوكًا، ولا بين بني الأعمام مع وقوع التنافُس أو وقوع الحرب، ولا بين الجيران المتشاكسين في الصناعات من التنفير والبغضاء، بقدر ما يَلتحِف عليه الخِصيان للفحول.

فما كان ذلك مدحًا له
ولكنَّه كان هَجوَ الورى

وقال أيضًا:

ما مقامي بأرض نحلةَ إلا
كمُقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أُمةٍ تدارَكها الله
غريبٌ كصالحٍ في ثَمُودِ

وقال أيضًا:

أرى كلنا يَبغي الحياة بسَعيِه
حريصًا عليها مُستهامًا بها صبَّا
فحبُّ الجبان النفس أوردَه التُّقى
وحبُّ الشُّجاع النفس أورده الحربا
ويَختلِف الرزقان والفعلُ واحدٌ
إلى أن يُرى إحسان هذا لذا ذَنبا

وقال أيضًا:

طلبتَهمُ على الأمواه حتى
تخوَّف أن تُفتِّشه السحابُ
يهزُّ الجيشُ حولك جانبَيه
كما نفضَت جناحَيها العُقابُ
وكيف يتمُّ بأسُك في أُناسٍ
تُصيبهم فيؤلمك المصابُ
ترفَّق أيها المولى عليهم
فإن الرِّفق بالجاني عتابُ
وما جهلتْ أياديك البوادي
ولكن ربما خفيَ الصَّواب
وكم ذنبٍ مولِّده دلالٌ
وكم بُعدٍ مولِّده اقترابُ
وجرمٍ جرَّه سفهاءُ قومٍ
وحلَّ بغير جارمِه العِقابُ

وقال أيضًا يرثي أخت سيف الدولة:

طوى الجزيرة حتى جاءَني خبرٌ
فزعتُ فيه بآمالي إلى الكَذبِ
حتى إذا لم يدَع لي صدقُه أملًا
شرقتُ بالدَّمع حتى كاد يَشرق بي

وقال أيضًا:

تمنٍّ يلذُّ المُستهام بمثلِه
وإن كان لا يُغني فتيلًا ولا يُجدي
وغيظٌ على الأيام كالنارِ في الحشا
ولكنه غيظُ الأسير على القدِّ

وقال أيضًا:

ولا تحسبنَّ المجد زِقَّا وقينةً
فما المجد إلا السيف والفتكة البِكْرُ
وتركُك في الدنيا دويًّا كأنما
تَداوَلُ سمع المرء أنمله العشرُ

يقول اترك في الدنيا جلبة وصياحًا عظيمًا وذلك أن الرجل إذا سدَّ أذنه سمعَ ضجيجًا.

وقال أيضًا:

إذا الفضل لم يَرفعْك عن شكر ناقصٍ
على هبةٍ فالفضل فيمَن له الشكرُ

يريد: إذا كان الفضل لا يَرفعُك عن شكر ناقص مع إحسان منه إليك فإن الفضل لمن شكرته لا لك لأنك محتاج إليه. فالمعنى أنه يُحرِّض على ترك الانبساط إلى اللئيم الناقص حتى لا يُشكر فيكون له الفضل، وهذا من قول الحكيم: من لم يَرفع نفسه عن قدر الجاهل يَرفع قدرَ الجاهل عليه.

ومن يُنفق الساعات في جمع ماله
مخافةَ فقرٍ فالذي فعل الفقرُ

وقال أيضًا:

ما أوجُه الحَضَر المُستحسَنات به
كأوجُه البدويات الرعابيبِ
حُسنُ الحَضارة مجلوبٌ بتطريةٍ
وفي البداوة حُسنٌ غير مجلوبِ
أفدي ظباءَ فلاةٍ ما عرفْنَ بها
مضغ الكلام ولا صبغَ الحَواجيبِ
ولا برزْنَ مِن الحمَّام مائلةً
أوراكُهُنَّ صقيلات العراقيبِ
ومِن هَوى كلِّ من ليست مموَّهةً
تركتُ لون مشيبي غيرَ مَخضوبِ
ومِن هَوى الصدق في قولي وعادَتِه
رغبتُ عن شَعرٍ في الوجه مَكذوبِ

وقال أيضًا:

لا بدَّ للإنسان من ضجعةٍ
لا تَقلب المَضجع عن جنبه
يَنسى بها ما كان من عُجْبه
وما أذاقَ الموتُ من كَربه

يقول إذا نزل في القبر نسي الإعجاب وما ذاق من كرب الموت.

نحن بنو الموتى فما بالُنا
نعافُ ما لا بدَّ من شربه
تبخَلُ أيدينا بأرواحِنا
على زمانٍ هي مِن كَسبه
فهذه الأرواحُ من جوه
وهذه الأجسام من تُربِه
لو فكَّر العاشِق في مُنتهى
حُسن الذي يَسبيه لم يَسبِهِ

يقول إن العاشق للشيء المستهام به لو تفكَّر في منتهى حسن المعشوق وأنه يَصير إلى زوال لم يعشقه ولم يَملِك العشقُ قلبه، وهذا يطَّرد في كل شيء، لو فكَّر الحريص الذي يعدو ويقتل نفسه ويُعادي على جمع المال أن آخرَه إلى زوال، أو أنه يموت عنه لمَا حرص على جمعه.

لم يُرَ قرن الشمس في شرقِه
فشكَّت الأنفس في غربِه

يريد أنه لا بد من الفَناء، وهذا مثل يُريد أن الشمس من رآها طالعة عرفها غاربة كذلك الحوادث منتهاها إلى الزوال لأن الحدوث سبب الزوال.

يموت راعي الضأن في جهلِه
موتة جالينوس في طبِّه
وربما زاد على عُمره
وزاد في الأمنُ على سِربه
وغاية المُفرط في سلمه
كغاية المفرط في حَربِه

وقال أيضًا:

ومطالبٍ فيها الهلاك أتيتها
ثبَت الجنان كأنني لم آتها
ومقانبٍ بمقانبٍ غادرتها
أقوات وحشٍ كنَّ من أقواتها

المقانب الجماعات من الخيل. يقول تركت الجيش العظيم قوتًا للوحش بعدما كانت الوحوش قوتًا لها.

أقبلتُها غُرر الجياد كأنما
أيدي بني عمران في جبهاتها

وقال أيضًا يرثي:

سالمُ أهل الوداد بعدَهم
يسلم للحزن لا لتخليد

يريد الذي يبقى بعد الأحبة يبقى للحزن لا للتخليد.

فما تُرجِّي النفوس من زمنٍ
أحمد حالَيه غير محمود

يقول لا رجاء عند زمان أحمد حاليه البقاء وهو غير محمود لأن معجله بلاء ومؤجله فناء.

وقال أيضًا:

كأن الهام في الهيجا عيونٌ
وقد طُبعت سيوفك من رقاد
وقد صُغت الأسنة من همومٍ
فما يَخطرنَ إلا في فؤاد

وقال أيضًا:

أذمُّ إلى هذا الزمان أُهيله
فأَعلَمُهم فدْمٌ وأحزمهم وغدُ
ومِن نكد الدنيا على الحُرِّ أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بُدُّ

وقال أيضًا:

فلا تَغرُرْكَ ألسنةٌ موالٍ
تُقلِّبهن أفئدةٌ أعادي
وكن كالمَوت لا يرثي لباكٍ
بكى منه ويُروى وهو صادِ

يقول كن كالموت يُروى بما يشرب وهو مع ذلك عطشان لحِرصه على الإهلاك.

وقال أيضًا يصف الأسد:

وردٌ إذا وردَ البُحيرة شاربًا
ورد الفرات زئيرَه والنيلا
متخضِّبٌ بدم الفوارس لابسٌ
في غيله من لبدتَيه غيلا
ما قُوبِلَت عيناه إلا ظُنَّتا
تحت الدجى نارَ الفريق حُلولا
في وحدة الرُّهبان إلا أنه
لا يعرف التَّحريم والتحليلا
يطأ البرى مُترفِّقًا من تيهِه
فكأنَّه آسٍ يجُس عليلا

البرى التراب.

ويرُد غُفْرته إلى يافُوخه
حتى تصير لرأسه إكليلا

الغُفرة الشعر اجتمع على قفاه.

قَصَرت مخافتُه الخطى فكأنما
ركب الكميُّ جواده مَشكولا

ذو الحافر إذا رأى الأسد وقف وبال.

وقال أيضًا:

هو الشُّجاع يَعُدُّ البخلَ من جبنٍ
وهو الجواد يعُد الجبنَ من بخلِ
يعود من كل فتحٍ غير مفتخرٍ
وقد أغذُّ إليه غير مُحتفِلِ

وقال أيضًا:

لا يُدرك المجدَ إلا سيدٌ فطنٌ
لِما يشقُّ على السادات فعَّالُ
كفاتكٍ ودخولُ الكاف منقصةٌ
كالشمس قلتُ وما للشَّمس أمثالُ

يقول لا يدرك المجد إلا رجل صفته هذه، ثم شبَّهه بفاتك، ثم استدرك ذلك بقوله: ودخول الكاف منقصة، إذا قلت هو كفلان فقد جعلت له مثلًا، وإنما ذلك مجاز وتوسُّع كالشيء المُستحسَن يُشبَّه بالشمس على الظاهر وليس لها مثل.

وقال أيضًا:

أبى خُلُق الدنيا حبيبًا تُديمه
فما طَلبي منها حبيبًا تردُّه
وأسرع مفعولٍ فعلتُ تغيرًا
تكلُّف شيءٍ في طباعِك ضدَّه

وقال أيضًا:

وكلام الوشاة ليس على الأ
حباب سلطانُه على الأضداد
إنما تَنجَح المقالة في المرء
إذا صادَفَت هوًى في الفؤادِ

وقال أيضًا:

لم يَترُك الدهر من قلبي ولا كَبِدي
شيئًا تُتيِّمُه عينٌ ولا جِيدُ
يا ساقييَّ أخمرٌ في كئوسِكما
أم في كئوسِكما همٌّ وتسهيدُ
أصخرةٌ أنا، ما لي لا تُغيرني
هذي المدام ولا هَذي الأغاريدُ
إذا أردت كُمَيْت الخمر صافيةً
وجدتُها وحبيب النفس مفقود
ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبها
أني بما أنا باكٍ منه مَحسودُ

وقال أيضًا:

وكم من جِبالٍ جُبت تشهَد أنني الـ
ـجبال وبحرٍ شاهدٍ أنني البحرُ
وخرقٍ مكان العيس منه مكانِنا
من العيس فيه واسطُ الكور والظَّهرُ

يقول أنا في وسط ظهور الإبل والإبل في وسط ظَهر الخرق.

يَخدن بنا في جَوزِه وكأننا
على كرة أو أرضه معنا سفرُ

يقول كأنَّنا على كرة ولا ينتهي لنا سير لأن الكرة ليس لها طرف يُنتهى إليه أو كأن أرض الخرق تسير معنا حيث كانت لا تنقطع، وإذا أسرع الإنسان في السير رأى الأرض كأنها تسير معه.

وقال يمدح ابن العميد لما وفد عليه:

من مبلغ الأعراب أني بعدها
شاهدت رسطاليس والإسكندرا
ولقيت كل الفاضِلين كأنما
ردَّ الإله نفوسهم والأَعصُرا
نُسِقوا لنا نسق الحساب مقدَّمًا
وأتى فذلك إذ أتيت مؤخرا

يقول جُمع لنا الفضلاء في الزمان ومضوا متتابعين متقدمين عليك في الوجود، فلما أتيت بعدهم كان فيك من الفضل ما كان فيهم، مثل الحساب يُذكر تفاصيله أولًا ثم تُجمل تلك التفاصيل فيُكتب في آخر الحساب فذاك كذا وكذا فيُجمع في الجملة ما ذُكر في التفصيل، كذلك أنت جُمع فيك ما تفرَّق فيهم من الفضائل والعلم والحكمة.

يا ليت باكيةً شجاني دَمعُها
نظَرَت إليك كما نظرتُ فتَعذُرا

يقول ليت التي أحزنَني دمعها لمَّا فارقتها بالمسير إليك رأت كما رأيتُ منك فكانت تعذرني على فراقها وركوب الأهوال إليك.

وترى الفضيلة لا تَرُد فضيلةً
الشمس تُشرِق والسحاب كَنهوَرا

وقال أيضًا:

وما أنا وحدي قلت ذا الشعرَ كله
ولكن لشِعري فيك من نفسِه شعرُ
أزالَت بك الأيام عَتبي كأنما
بنوها لها ذنبٌ وأنت لها عذرُ

وقال أيضًا:

أدرنَ عيونًا حائراتٍ كأنها
مركبةٌ أحداقها فوق زئبقِ

هذا أحسن ما قيل في العيون الحائرة من الفزع، ومن أحسن ما رأيتُه في صفة العيون السود قول ابن هانئ:

قُمنَ في مأتم على العُشاق
ولبسنَ السواد في الأحداقِ

ومن لطيف ما قيل في العيون النُّعس قول القائل:

أُتنكِر بأس أحداق العذارى
أمَا تدري بعربدَة السُّكارى

وقال آخر:

بين السيوف وعينَيه مُشاكلة
من أجلِها قيل للأغماد أجفانُ
عشية يَعدونا عن النظَر البكا
وعن لذة التوديع خوفُ التفرُّقِ

وقال أيضًا:

وجدتُ المدامة غلابةً
تُهيِّج للقلب أشواقَه
تسيء من المرء تأديبه
ولكن تُحسِّن أخلاقَه
وأنفس ما للفتى لبُّه
وذو اللب يكره إنفاقه

وقال أيضًا في فرسه:

كأنما الطخرور باغي آبقِ
يأكل من نبتٍ قصير لاصقِ
كقَشركَ الحِبر من المهارقِ

الطخرور اسم فرسه. يريد أن فرسه لقلة المرعى لا يَثبُت في مكان فكأنه يطلب آبقًا وهو يأكل من نبات لاصق بالأرض، فكأنه يقشر خطًّا عن صحيفة.

وقال أيضًا:

ودعاك حُسَّدُك الرئيسَ وأمسكوا
ودعاك خالقك الرئيسَ الأكبرا
خلفَت صفاتك في العيون كلامه
كالخطِّ يملأ مسمعَي من أبصرا

يقول سمَّاك الأعداء الرئيس وأمسكوا، وسماك الله الرئيس الأكبر، فعلمنا ذلك لما قامت صفاتك الشريفة مقام كلام الله، وهي التي خصك الله بها في الدلالة على أنك أفضل الناس، فصار كأنه دعاك الرئيس الأكبر قولًا من حيث دعاك فعلًا كالخط؛ فإن مَن كاتَبَ كمَن شافَهَ وخاطَبَ، ومَن أعلم خطًّا فإنه أسمع وأفهم، ومن قرأ الخط امتلأ أذناه بمعناه كأنما سمعه، والمعنى أن الإنسان إذا رأى ما خصك الله من جلال الفضل علم أن الله دعاك الرئيس الأكبر.

وقال أيضًا:

كن حيث شئت تَسِر إليك ركابنا
فالأرض واحدةٌ وأنت الأوحد
يَفنى الكلام ولا يحيط بوصفكم
أيحيط ما يَفنى بما لا ينفد

وقال أيضًا:

وربما يَشهد الطعام معي
من لا يُساوي الخبز الذي أكله
ويُظهِر الجهل بي وأعرفه
والدر درٌّ برغم من جهلَه

وقال أيضًا:

ورُبَّتَما شفَيتُ غليل صدري
بسيرٍ أو قناةٍ أو حُسامِ
وضاقَت خُطةٌ فخلصتُ منها
خلاصَ الخمر من نسج الفدامِ

الفدام سِداد الزجاج.

وقال أيضًا:

قد استقصَيتَ في سلَبِ الأعادي
فرُد لهم مِن السلَّب الهجوعا
رضُوا بك كالرِّضا بالشيب قسرًا
وقد وخَطَ النواصيَ والفُروعا

وقال أيضًا:

إذا ما الكأسُ أرعشَتِ اليدَينِ
صحوتُ فلم تحُل بيني وبيني
هجرتُ الخمر كالذهب المصفى
فخمري ماءُ مزنٍ كاللُّجَين

وقال أيضًا:

وهجانٍ على هجانٍ تُآتيك
عديد الحبوب في الأقوازِ

يقول رُبَّ رجال كرام قصدتْك على إبل كرام عدد حبوب الرمل.

صفَّها السير في العراء فكانت
فوق مثل الملاء مثل الطرازِ

العراء الأرض الواسعة.

وقال أيضًا:

وهل رَدَّ عنه باللقان وقوفُه
صدورَ العوالي والمطهَّمة القبا
قضى بعدما التفَّ الرماحان ساعةً
كما يتلقَّى الهدب في الرقدة الهُدبا

وقال أيضًا:

وقد فارق الناسَ الأحبةُ قبلَنا
وأعيا دواءُ الموتِ كلَّ طبيبِ
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلُها
مُنعنا بها من جيئةٍ وذُهوبِ

الجيئة مصدر جاء يجيء، وكذلك الذهوب.

تملَّكها الآتي تملُّك سالبٍ
وفارقها الماضي فراقَ سَليبِ
ولا فضل فيها للشَّجاعة والنَّدى
وصبر الفتى لولا لقاءُ شَعوبِ

شعوب من أسماء المنية. يقول لولا الموت لمَا كان للشجاعة والصبر ونحوهما فضل؛ وذلك لو أن الناس أَمِنوا الموت لمَا كان للشجاع فضل على الجبان؛ لأنه قد أيقن بالخلود، وكذلك كل الأشياء، فلولا الموت لمَا كان لهذا كله فضل على غيره، واستوى الشجاع والجبان والصابر والجازع.

وقال أيضًا:

أغارُ مِن الزُّجاجة وهي تجري
على شَفة الأمير أبي الحُسَينِ
كأنَّ بَياضَها والراحُ فيها
بياضُ مُحدِقٌ بسواد عَينِ

وقال أيضًا:

كذا الدنيا على مَن كان قبلي
صروفٌ لم يُدِمنَ عليه حالا
أشدُّ الغم عندي في سرورٍ
تيقَّن عنه صاحبه انتقالا

وقال أيضًا:

سلكتُ صروف الدهر حتى لقيتُه
على ظهر عزمٍ مُؤيِداتٍ قوائمُه

المؤيدات القويات.

وكنتُ إذا يممتُ أرضًا بعيدةً
سرَيتُ، وكنت السرَّ والليلُ كاتمُه

وقال أيضًا:

بِمَ التعلُّل لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكَنُ
أريد مِن زمني ذا أن يُبلِّغني
ما ليس يَبلغه في نفسه الزمنُ

وقال أيضًا:

الحبُّ ما منع الكلام الألسُنا
وألذُّ شكوى عاشقٍ ما أعلنا
ليت الحبيبُ الهاجري هجرَ الكَرى
من غير جُرمٍ واصِلي صلةَ الضَّنا

وقال أيضًا:

كلُّ يومٍ لك احتمالٌ جديدٌ
ومسيرٌ للمجد فيه مقامُ
وإذا كانت النفوس كبارًا
تَعِبَت في مرادها الأجسامُ

وقال أيضًا:

جاز حدود اجتهاده فأتى
غير اجتهادٍ لأُمِّهِ الهبَلُ
أبلَغُ ما يُطلَب النجاح به
الطبع وعند التعمُّق الزَّلل

وقال أيضًا:

حِسانُ التثنِّي ينقش الوشي مثله
إذا مِسْنَ في أجسامهنَّ النَّواعمِ

يقول: لنعومة أجسادهن ورقَّتهن يُؤثِّر الوشي فيها مثله إذا تبختَرن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤